مشاهدة النسخة كاملة : خاتم النبيين (18)


حكاية ناي ♔
12-19-2022, 12:07 PM
غزوة أُحُد


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
إخواني الأكارم، ذكرنا في الحلقة الماضية الأحداث التي حدثت بين غزوة بدر وأُحُد، وهي كثيرة، فقد ذكرنا خمسة عشر حدثًا، ذكرناها باختصار، والآن في حلقتنا هذه نبدأ بعرض لغزوة أُحُد، فقد حدثت تلك الغزوة في منتصف نهار يوم السبت للنصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، وكان سببها أن قريشًا لما رجعوا من غزوة بدر، وأصيبوا بتلك المصيبة العظيمة في قتل صناديدهم، فقد تشاوروا بعد ذلك في استحداث حرب شاملة ضد المسلمين ليأخذوا بثأرهم، وكان من أشدهم إصرارًا على ذلك عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان، وكذلك عبدالله بن أبي ربيعة.

فأول إجراءاتهم أنهم قالوا لأصحاب العِير التي نجا بها أبو سفيان: إنَّ محمدًا قد وتركم- أي: قتل أشرافكم- فأعينونا بهذا المال في تلك العِير ليكون زادًا لهذه الحرب، فأجابوهم لذلك ووافقوا عليه، وكانت ألف بَعير وخمسين ألف دينار، وتجهَّزت قريش وساروا في القبائل يدعونهم لمشاركتهم بنفوسهم وأموالهم في هذه الحرب، فاجتمع لهم ثلاثة آلاف مقاتل، وسبعمائة دارع، ومئة فرس، وثلاثة آلاف بعير، وخرجوا ببعض نسائهم معهم ليضربوا الدفوف، وكُنَّ خمس عشرة امرأة، وكن يُحرِّضْنَ الرجال على القتال، وكانت القيادة العامة عند أبي سفيان، وقيادة الفرسان عند خالد بن الوليد بمساعدة عكرمة بن أبي جهل، وكان اللواء بيد بني عبدالدار، فلما تجهَّزت قريش وخرجت، بعث العباس بن عبدالمطلب- وكان بمكة- برسالة عاجلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره بما اتفقت عليه قريش، وبخروجها وتفاصيل تلك الحرب، وأرسلها مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أنه في ثلاثة أيام يسلم تلك الرسالة للنبي عليه الصلاة والسلام، فأتى ذلك الرجل، وأدرك الرسول عليه الصلاة والسلام في مسجد قباء، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأبي بن كعب، فقرأها عليه، فأمره بالكتمان، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مسرعًا إلى المدينة، وأخذ يستشير أصحابه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم حينها بحراسة المدينة في مداخلها ومطالعها، وأما قريش فقد ساروا من مكة حتى أقبلوا على المدينة، واقتربوا منها حتى نزلوا قريبًا من جبل أُحُد، وكانت مساحة المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم هي مساحة المسجد الآن مع توسيعاته تقريبًا، فلما وصل جيش المشركين عسكروا قريبًا من الجبل، وكان وصولهم ليلة الخميس في اليوم الخامس من شهر شوال- أي: قبل المعركة بعشرة أيام- وحينها بعث النبي صلى الله عليه وسلم عينين له يأتيانه بأخبار القوم، وهما أنس ومؤنس ابنا فضالة، فأتياه بأخبارهم، وبعث أيضًا الحباب بن المنذر، فدخل فيهم خفية، فعرف عددهم، وجاء بأخبارهم، ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الغزوة، فاختلفوا على رأيين؛ فطائفة منهم ترى القتال داخل المدينة فتحرس المدينة وتتحصن بها، وإذا دخلها العدو قاتلوه، وطائفة أخرى ترى أن يخرجوا إلى العدو خارج المدينة ويقاتلوه، ولعل الثاني هو رأي الأكثرية؛ وهو الخروج من المدينة، فاستجاب لهم النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بيته ولبس لَأْمَةَ الحربِ، فكأنهم شعروا أنهم أكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي، فأرادوا التراجع عن رأيهم بالخروج؛ لأنه كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة؛ لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ((ما كانَ لنبيٍّ إذا لبسَ لَأْمَتَه أن يضعَها حتى يقاتل))، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية، فجعل لواء الأوس مع أسيد بن حضير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولما وصل مكانًا بين المدينة وأُحُد في المساء صلى فيه المغرب والعشاء، وباتوا هناك، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلًا يحرسون المعسكر، ثم استيقظوا قبيل الفجر وساروا إلى أُحُد، وصلوا الفجر في طريقهم، وفي هذا الصباح الباكر رجع عبدالله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين بثلث الجيش مخذلًا لهم، وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة، وكانوا قبل ذلك ألفًا، فلما وصلوا إلى أُحُد جعل النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلًا على جبل الرُّماة، وجعل عبدالله بن جبير أميرًا عليهم، وقال لهم: ((لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظَهَرْنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظَهَرُوا علينا فلا تعينونا))؛ رواه البخاري.

وأخذ الراية مصعب بن عمير وبدأ القتال، وكان النصر للمسلمين، فبدأ المسلمون يقذفون رؤوس المشركين قطفًا بالسيوف قتلًا وفتكًا، وهذا نصر مبين للمسلمين؛ ولكن المصيبة بعد ذلك أطلَّتْ برأسِها على المسلمين، فحيث هُزم المشركون وولَّوا مدبرين، قال نفر ممن كانوا على جبل الرُّماة: الغنيمةَ الغنيمةَ، فناداهم أميرهم عبدالله بن جبير مُذكِّرًا لهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبرحوا))، فأبوا ذلك، ونزلوا عن الجبل ظنًّا منهم رضي الله عنهم أن المعركة قد انتهت وأنه أيضًا تحقَّق النصر للمسلمين، ولم يثبت على جبل الرُّماة إلا عشرة تقريبًا، وقد كان المشركون قد جاءوا ثلاث مرات ليقتلوا المسلمين عن طريق جبل الرُّماة فيفاجئون بهؤلاء الرُّماة يمطرونهم بالسهام والنبال، فيرجعون خاسرين؛ ولكنهم في هذه الأثناء وبعد نزول أكثر الرُّماة عن الجبل، رجع المشركون بقيادة خالد بن الوليد حيث لم يكن مسلمًا آنذاك، فصعدوا الجبل وقتلوا هؤلاء العشرة الباقين، وبدأوا يُطلقون السهام على المسلمين حتى أصابوا كثيرًا منهم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه بعض السهام، وكُسِرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ وجهُه عليه الصلاة والسلام.

وحينما أصيب المسلمون بذلك انقسموا ثلاث فرق: فرقة فرَّت وتولَّت عن الميدان، وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]، وفئة ثانية قعدت في أرض المعركة دون قتال، وفئة ثالثة استمروا على القتال، وفي هذه المرحلة أشرف أبو سفيان على المعركة، فقال: أفي القوم محمد? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُجِيبوه))، ثم قال: أفي القوم أبو قحافة? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجيبوه))، ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب? ثم قال أبو سفيان: إن هؤلاء قد قُتِلوا ولو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه حتى قال: كذبت يا عدوَّ الله، وقد أبقى الله عليك ما يخزيك، وحينها دخل نفس أبي سفيان الخور والجبن والخوف.

وكان من مواقف غزوة أحد أنه كان مع جيش المسلمين شيخان كبيران، وهما ثابت بن وقش واليمان والد حذيفة بن اليمان، فقد أذِنَ لهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقيا في المدينة؛ لكبرهما، فقال أحدهما للآخر بعد أن انصرف الجيش إلى أُحُد: أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما وخرجا، ولم يعلم بهما المسلمون، أما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقد قتله المسلمون خطأً حيث لم يعرفوه، وناداهم حذيفة قائلًا: إنه أبي، إنه أبي، فقالوا: ما عرفناه وقد قتلوه، فقال حذيفة رضي الله عنه: يغفر الله لكم، وتصدَّق حذيفة بديته على المسلمين.

وفي تلك الغزوة غزوة أُحُد قُتِل مصعب بن عمير، وهو حامل اللواء، فقد ضربه ابن قمئة في يده اليمنى فقطعها، فحمل مصعب الراية بيده الأخرى وهو يقول ويقرأ: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]، ثم قتله ابن قمئة، فرفع الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال المشركون عندما نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحًا وآذوه، قالوا ما قالوا في ذلك؛ لأنهم سروا بهذه الأذية للنبي عليه الصلاة والسلام، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال: ((اشتدَّ غضبُ اللهِ على قوم دَمَّوا وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهشَمُوا عليه البَيْضة، وكسروا رَباعِيَتَه))؛ أخرجه البخاري.

وفي تلك الغزوة دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ من الصحابة، فقُتل بعضهم، ونزلت الملائكة تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحفظه بأمر الله عز وجل، فقد روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بِيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، زاد مسلم: يعني جبريل وميكائيل، ولم تقاتل الملائكة إلا في بدر، أما في أُحُد فهي نزلت تدافع وتحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله، وكان ابن قمئة عندما قتل مصعب بن عمير- وكان مصعب يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم- رجع إلى قومه وقال: قتلتُ محمدًا، وصرخ بها الشيطان، فلما سمِعَه المسلمون عظُم ذلك في نفوسهم، وضعف بعضهم، وقوي المشركون، ووقف جمْعٌ من الصحابة يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نادى النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((إليَّ عبادَ الله، إليَّ عبادَ الله)) فقويت نفوسهم عندما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يُناديهم، وممن استمات في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو طلحة؛ حيث بدأت المصيبة والضعف في المسلمين يوم أُحُد، فكان أبو طلحة مترس على النبي صلى الله عليه وسلم بترس معه يحميه من المشركين، وكان أبو طلحة راميًا شجاعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف ينظر إلى القوم فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول الله، نحري دون نحرك، لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم؛ رواه البخاري ومسلم.

وحين اشتد الخوف على المسلمين لطف الله عز وجل بهم، وأنزل عليهم النعاس أمَنةً؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ [آل عمران: 154] الآية، وأخذ المسلمون يداوون جَرْحاهم، ويداوون جراح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((اشتدَّ غضبُ اللهِ على مَن دَمَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ومن بين النصر والهزيمة سجَّل المسلمون وسطروا ألوانًا من الشجاعة، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفًا فقال: ((من يأخُذُه بحقِّه))، فقال أبو دُجانة: أنا آخذُه بحقِّه يا رسول الله، فأخذه وفلق به هامات المشركين، وحمزة أبلى بلاءً حسنًا حتى إنه كان يقطف رؤوس المشركين قطفًا، وكان سعد بن أبي وقاص ينثر له النبي صلى الله عليه وسلم كِنانته وسهامه ويقول: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي))، وكذلك حنظلة بن أبي عامر، خرج إلى أُحُد وأبلى بلاءً حسنًا، فلما قُتِل قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنَّ صاحبَكم تُغسِّله الملائكةُ))، فاسألوا صاحبته عن ذلك، فقالت: إنه خرج وهو جُنُب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلذلك غسَّلَتْه الملائكة)).

إخواني وأخواتي الكرام، هذه بعض المواقف والأحوال من غزوة أُحُد، ولنختم حلقتنا تلك بذكر بعض الدروس والعبر في تلك الغزوة، وهي ما يلي:
الدرس الأول: أهمية الاستشارة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج قريش جمَعَ صحابته رضي الله عنهم، وعقد معهم مجلس شورى، مع أنه عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، فيا أخي الكريم، إن إقدامك على ما تريد بعد استشارة غيرك يفتح لك آفاقًا فيه، ويجعلك بإذن الله تعالى بعيدًا عن الندم والأسف، ولعل الاستشارة هي من صفات الناجحين؛ حيث جمعوا عقول الآخرين وأخذوا خلاصتها، فأنت لست عالمًا بكل شيء ولا مدركًا لكل شيء؛ ولكن شاور في كل أمر أهلَه؛ ولكن أيضًا لا تضع شؤونك بضاعةً مزجاةً لكل الناس، فالاستشارة لها ميزان، متى زادت انقلبت إلى حيرة؛ ولكن خذها بقدرها المعقول.

الدرس الثاني: في هذه الغزوة مظهر عظيم من مظاهر اللطف الرباني بعباده؛ حيث اشتد الخوف على المسلمين في أحد مراحل الغزوة، فلطف الله عز وجل بهم بنُعاس يريحهم ويذهب معه خوفهم، وتطمئن معه نفوسهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ﴾ [الأنفال: 11]، فالله تعالى سمَّى نفسه اللطيف، ووصف نفسه بأنه لطيف بعباده عندما تشتدُّ الأزمة، فاستعن بالله عز وجل، واطلب منه اللطف والمعونة، واعلم أن الإجابة قريبة؛ ولكن مشكلة البعض أنه في مشاكله وأزماته ربما أنه اهتمَّ بالأسباب الحسية أكثر من الأسباب المعنوية من الدعاء والالتجاء واستشعار قرب الله تعالى إليه ولطفه به؛ لأنه عبده وخلق من خلقه، فكم هو جميل أننا نجعل جانبًا كبيرًا في حل مشاكلنا في توجهنا إلى الله عز وجل ودعائنا إياه وانتظارنا ذلك، فنحن حينما نفعل ذلك فنحن في عبادة عظيمة؛ فالمريض والفقير والمدين والسجين والأيم ومن تلاطمت به أمواج البأساء وغيرهم- نسأل الله تعالى أن يرفع ما حلَّ بهم- أين هم من التوجُّه إلى الله عز وجل ليلطف بهم، فربما انكشفت مشاكلهم بسبب ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، صرفَ اللهُ عنا وعنهم شرَّ ما قضى.

الدرس الثالث: هو درس عظيم حصل بقدر الله تعالى الكوني، وعلينا أن نستلهم الدروس مما يقع سواء كان لنا أو علينا، ففي تلك الغزوة كان النصر للمسلمين؛ بل تم قتل عدد من المشركين وكادت الهزيمة أن تحيط بالكفار؛ بل قد أحاطت بهم إلى حد كبير، وفي تلك الأثناء وفي ثنايا تلك الهزيمة للمشركين فإذا بالرُّماة الذين أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في مكانهم ولا يغادروه مهما كانت الحال إذا بهم ينزلون عن الجبل ظنًّا منهم رضي الله عنهم أن المعركة قد انتهت وأن العدوَّ قد هُزِم وأن المسلمين قد انتصروا، وهذه معصية ولو كانت باجتهاد، وقد ناداهم أميرهم فلم يسمعوا قوله، فماذا كانت نتيجة تلك المعصية? لقد تعدَّدت آثارها السلبية وخسائرها البشرية وسلبياتها النفسية؛ مما جعل الأمر ينعكس من نصر للمسلمين إلى هزيمة عليهم، إن الآمِر وهو النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي عندما أمرهم ألا ينزلوا مهما كانت الظروف؛ ولكنهم رضي الله عنهم اجتهدوا فنزلوا ولا اجتهاد مع النص، فحصل بنزولهم ذلك تلك الآثار التي شملت النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، وشجعت أيضًا المشركين وساهمت في تقوية عزيمتهم؛ لأنه بنزول الصحابة عن الجبل صعد عليه المشركون فقتلوا مَن تبقَّى من الخمسين رجلًا؛ حيث بقي منهم عشرة، ثم بدأ المشركون ينبلون المسلمين ويرمونهم، وقد نزل بذلك قوله تعالى: ﴿ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 152] حتى حصل ما لم يكن بالحسبان، ومما حصل من الأضرار ما يلي:
أولًا: انفلت زمام المسلمين وحصلت نسبة من الفوضى عندما رأوا المشركين على الجبل.

ثانيًا: من الخسائر في خلال تلك المعصية في تلك الفوضى والانكشاف ظهر حمزة رضي الله عنه لوحشي الذي جاء ليقتل حمزة خاصة، وكان على غفلة من حمزة، فقتل وحشي حمزة رضي الله عنه، وهو أسد الله وأسد رسوله.

ثالثًا: من الأضرار قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الراية، فأخذها عليٌّ بعد مصعب.

رابعًا: من الخسائر أن ابن قمئة لما قتل مصعب بن عمير كان مصعب يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ للمشركين وقال: قتلتُ محمدًا، فلما سمِعَه المسلمون فترتْ نفوسُهم، ولاذ بعضُهم بالفرار.

خامسًا: من الخسائر من تلك المعصية مقتل السبعة من الأنصار الذين كانوا يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سادسًا: من الخسائر، أصيبت شفة النبي صلى الله عليه وسلم السُّفلى من حجارة عتبة بن أبي وقاص.

سابعا: من الخسائر، كُسِرت رَباعِية النبي صلى الله عليه وسلم.

ثامنًا: شج النبي صلى الله عليه وسلم في جبهته.

تاسعًا: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف على منكبه، فشكى منها شهرًا كاملًا.

عاشرًا: من الخسائر ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على وجنتيه، وهما خداه، فدخلت حلقات المغْفَر في وجنته صلى الله عليه وسلم.

حادي عشر: سقوط النبي صلى الله عليه وسلم في الحفرة التي حفرها له أبو عامر الفاسق.

ثاني عشر: من الخسائر خروج الدماء من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالث عشر: قتل الرُّماة الذين بقَوا على الجبل.

هذه الآثار هي من آثار تلك المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم علمًا أن تلك المخالفة جاءت باجتهاد وظن أن المسلمين قد انتصروا، فكيف بمن يعمل المعصية عن عمد، ويعلم أنها معصية، فإن لفعله هذا آثارًا عظيمة في نفسه وفي غيره، نجملها فيما يلي:
أولًا: من أضرار المعصية عمومًا أنها مخالفة لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أنه قد يحرم الرزق بسببها.

ثالثًا: أن المعصية تجر اختها.

رابعًا: ضعف الأمن؛ حيث يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

خامسًا: من أضرار المعصية البقعة تشهد عليه بفعل تلك المعصية.

سادسًا: أن الجوارح تشهد عليه كذلك.

سابعًا: من أضرار المعصية أن الشيطان يكثر ولوجه إلى قلبه إذا استمرأ المعصية.

ثامنًا: من أضرار المعصية أنه قد يراه أحد فيقتدي به؛ فيكون عليه مثل وِزْره.

تاسعًا: من أضرار المعصية أنه قد يختم له بها، وهذه مصيبة عظيمة.

عاشرًا: من أضرار المعصية أنه قد يراه الآخرون، فلا ينهونه عنها، فيتحملون سيئة عدم النهي عن المنكر.

حادي عشر: من أضرار المعصية أنها تنزع الحياء من نفس العاصي.

ثاني عشر: من أضرار المعصية أنها قد تحرم العاصي بعض الطاعات.

إن تلك الآثار هي من آثار المعاصي عمومًا، فيا أخي الكريم، احذر فعل المعصية، وإذا سوَّل لك الشيطان ففعلتها فاحذر استدامتها؛ ولكن تُبْ منها، فلكل مرة من فعلها الشؤم والنقص عليك وعلى غيرك، ومن المعاصي الظاهرة التي تحتاج إلى تغيير ما يلي:
أولًا: إسبال الثياب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أسْفَل من الكعبينِ من الإزارِ ففي النارِ))؛ رواه البخاري.

ثانيًا: الغِيبة والنميمة وسائر آفات اللسان، فهي تحرق الحسنات، وتنقلها إلى غيرك.

ثالثًا: أكل الحرام بالربا والرشوة أو غيرهما، وكل جسم نبت من سُحْت، فالنارُ أولى به، وأن هذا المال الحرام غرمه على ظهرك وغنمه لغيرك، فاحذر ذلك.

رابعًا: آفة التدخين والمخدِّرات والمسكرات.

خامسًا: عقوق الوالدين والقطيعة للرحم.

سادسًا: النظر والسماع للحرام.

سابعًا: التهاون بالصلاة وتأخيرها وجمعها من غير عذر.

ثامنًا: الرياء والنفاق في الأقوال والأعمال.
إن تلك المعاصي وما يماثلها هي أسباب التأخُّر والضعف، فعلينا معالجتها ما دمنا قادرين على ذلك قبل أن ننتقل إلى زمان ومكان لا يمكن فيه التغيير وهو يوم القيامة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بعفوه ومغفرته ورحمته، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

احساس
12-19-2022, 12:09 PM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته

حكاية ناي ♔
12-21-2022, 09:16 AM
اسعدني حضوركم