حكاية ناي ♔
12-19-2022, 12:08 PM
بعض الحِكَم والأحكام في أُحُد مع استكمال بعض أحداثها
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النبي المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
سبق معنا في الحلقة الماضية شيء من أحداث غزوة أُحُد، فذكرنا كرامات لبعض الصحابة رضي الله عنهم الذين استشهدوا في تلك الغزوة، وذكرنا أيضًا بعض الأحكام للشهيد؛ من حيث التغسيل والتكفين والدفن، وذكرنا أيضًا كيف كان انصراف الصحابة رضي الله عنهم من غزوة أُحُد إلى المدينة، ثم تعرضنا بعد ذلك لغزوة حمراء الأسد وأسبابها ونتائجها، وغير ذلك.
وفي حلقتنا هذه نتدارس شيئًا من الحكم والأحكام من غزوة أُحُد، مع بيان شيء من الأحداث المباشرة لها، فقد نزل من القرآن قرابة ستين آية من سورة آل عمران، فيها تفصيل وبيان لأحداث وأحكام وحكم تلك الغزوة العظيمة غزوة أُحُد، وهي تمزج بين العتاب الرقيق والدرس النافع وتطهير المؤمنين من اليأس والقنوط، وذلك كقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، وكقوله تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ [آل عمران: 140]، وكقول الله عز وجل: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141] إلى غير ذلك من الآيات التي يتربَّى عليها المؤمنون، ويستلهمون منها الدروس والعِبر.
وقد اشتملت تلك الغزوة على كثير من الأحكام الفقهية والحكم الوعظية، فمن ذلك ما يلي:
أولًا:من الحكم والأحكام أن السُّنَّة في الشهيد ألَّا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه ولا يُكفَّن بغير ثيابه؛ بل يدفن بدمائه؛ حيث فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بشهداء أُحُد.
ثانيًا: من الأحكام أن السُّنَّة في الشهداء أن يُدفنوا في مصارعهم ولا يُنقَلوا إلى مكان آخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دفن شهداء أُحُد في مكانهم، وأمر بمن تم نقلهم أن يرجعوا إلى مكانهم.
ثالثًا: من الأحكام جواز دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد عند الحاجة والضرورة.
رابعًا: من الحكم في تلك الغزوة تعريفهم سوء عاقبة المعصية، وأن ما أصابهم في أُحُد هو بسبب تلك المعصية، فلما حصل ذلك وفهموا الدرس واستلهموه كانوا رضي الله عنهم حذرين من تكرار تلك المعصية، فللمعصية شؤم وضرر قد يعمُّ وقد يخصُّ.
خامسًا: من الحكم اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى وسُنَّته أن الرسل وأتباعهم ينتصرون أحيانًا، ويُدال عليهم أحيانًا أخرى؛ لكن تكون العاقبة لهم، فلو انتصروا دائمًا لم يتميز الصادق من غيره، ولو أُديل عليهم دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت السُّنَّة الإلهية الجمع بين الأمرين ابتلاء واختبارًا للفريقين.
سادسًا: من الحكم أن الله عز وجل يقدر على عباده الابتلاءات؛ كما حصل في غزوة أُحُد ليبلغوا درجات لهم في الجنة لا تبلغها أعمالهم، فتكون تلك الابتلاءات رفعةً في درجاتهم في الجنان.
والأحكامُ والحِكَمُ من تلك الغزوة كثيرةٌ جدًّا، وقد أسهب في ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "زاد المعاد" فليُراجع؛ ففيه كلام نفيس، وكان بعد غزوة أُحُد بعوث وسرايا أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم وبعثَها للدعوة إلى الله عز وجل، ولرصد تحركات المشركين ونحو ذلك، فهي أحداث عظيمة حصلت بين أُحُد والخندق، وسبب تلك الأحداث أنه بعد المصيبة التي حصلت في غزوة أُحُد كانت هيبة المسلمين قد ضعفت، فظهر عدد من المنافقين واليهود وبدأوا بنقض العهود، وبعض القبائل المشركة قامت بمكائد للمسلمين؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف تجاه ذلك التصرف الحكيم المؤيد من رب العالمين الذي بيده كل شيء جل جلاله؛ ولذلك أرسل السرايا وبعثَ البعوث؛ ليُعيد لتلك الأمة قوَّتها وشجاعتها، وفعلًا عاد لهم ذلك، فقد حدثت أحداث عدة بعد غزوة أُحُد، ولعلي أقتصر على حدثينِ منهما:
الحدث الأول: سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى بني أسد، وكان سببها أن بعض بني أسد قد عزموا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخبر دعا أبا سلمة، فقال له: ((اخرج في هذه السرية، فقد استعملتُكَ عليها))، وبعث معه مئة وخمسين رجلًا، وقال له: ((سِرْ حتى تأتي بني أسد فأغِرْ عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم))، وأوصاه ومن معه بتقوى الله عز وجل، فخرج أبو سلمة رضي الله عنه بهم في محرم من السنة الرابعة للهجرة حتى انتهى إلى ماء فأغار عليهم فجأةً، فذعروا وخافوا وهربوا وتركوا مواشيهم فأخذها أبو سلمة، ومكث على مائهم وعسكر فيه، ثم تبعهم يطلبهم، فساروا خارج ديارهم، فرجع أبو سلمة رضي الله عنه غانمًا تلك المواشي، وأسر بعض مماليكهم، وأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهم سالمون منتصرون بحمد الله تعالى، ولما رجع أبو سلمة إلى المدينة اشتعل عليه جرحُه الذي جرحه في غزوة أُحُد وأقام عليه شهرًا يعالجه، وكان ذلك الجرح سببًا لوفاته رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلُفْه في عقبه في الغابرين، وافسَحْ له في قبره، ونوِّرْ له فيه))؛ رواه مسلم.
ثم قالت زوجته أم سلمة بعد وفاته: من لي بخير من أبي سلمة من المسلمين؟ ثم قالت ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم المصاب أن يقوله وهو: ((إنَّا للهِ وإنَّا اليه راجعونَ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها))، فلما قالتها بيقين تزوَّجَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
الحدث الثاني: بئر معونة أو سرية القُرَّاء، وكانت في صفر من السنة الرابعة للهجرة، فقد روى البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن رِعْلًا وذِكْوانَ وعُصَيَّة بني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا فأمدَّهم بسبعين من الأنصار يقال لهم القُرَّاء، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم قالوا: ابعث لنا رجالًا يُعلِّموننا القرآن والسُّنَّة، فوصل هؤلاء السبعون إلى بئر معونة، فنزلوا فيها، وكانوا في جوار رجلٍ منهم، وبعثوا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حرام بن ملحان رضي الله عنه، ليسلمه إلى سيدهم عامر بن الطفيل، فلم ينظر عامر بن الطفيل إلى الكتاب؛ بل أمر بقتل حرام بن ملحان، فقال حرام بعدما قُتِل: فُزْتُ وربِّ الكعبة، ثم لم يكتفِ عامر بذلك الغدر؛ بل استنفر بني عامر في قتال الباقين من الصحابة القُرَّاء، فأبى ذلك بنو عامر وقالوا: لا نخفر جوار أبي براء لهم، وكان أبو براء عامر بن مالك قد أجار هؤلاء القُرَّاء، فاستنفر عامر ابن طفيل قبائل بني سليم وهم رِعْل وذكْوان وعُصَيَّة، فأجابوا إلى ذلك وغدروا، فقاتلوهم حتى قتلوهم.
وبعد هذا بوقت ليس بالطويل مرَّ على مكان الوقعة اثنانِ من الصحابة، وهما: عمرو بن أمية الضمري، والمنذر بن عقبة الأنصاري، وهما يسرحان بالماشية، فرأيا طيورًا في ذلك الموقع، فقال بعضهم لبعض: إن لهذه الطيور لشأنًا، فنظرا فإذا هؤلاء أصحابهم من القُرَّاء بدمائهم مقتولين، فقال المنذر لعمرو: ما ترى في هذا الشأن، فقال عمرو: أرى أن نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبره الخبر، أما المنذر فقال: إنه سيقاتل القوم الذين قتلوا هؤلاء الصحابة، فقاتلهم رضي الله عنه حتى قُتِل، وأما عمرو بن أمية فرجع إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فحزن لذلك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةُ حزنًا شديدًا.
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على تلك القبائل، وأخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((إنَّ إخوانَكم قد قُتِلُوا، وإنهم قالوا: اللهم بلِّغ عنا نبيَّك أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا))؛ رواه مسلم.
وأما عامر بن مالك الذي أجار هؤلاء القُرَّاء وهو سيد من أسياد بني عامر الذي أعطى الجوار لهؤلاء القُرَّاء، فإنه لما بلغه مقتلهم شقَّ عليه ذلك أشدَّ المشقَّة حتى مات من شدة الهمِّ والمشقَّة، وأما عمرو بن أمية في رجوعه إلى المدينة ففي طريقه وجد رجلين من بني عامر قتلة هؤلاء القُرَّاء، فنزل معهما في ظل شجرة، وكان الرجلان معهما عقد وجوار من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما؛ ولكن لم يعلم به عمرو، فلما علم أنهما من بني عامر ورآهما قد ناما قام بقتلهما أخذًا بالثأر من قتل القُرَّاء، فلما قدم إلى المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقتله لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بئسَ ما صنعْتَ؛ لقد كان لهما مني أمانٌ وجوارٍ، لأدِينَّهما))، فبعث بدِيَتِهما لقومهما.
إخواني الكرام، لعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبر، ونستكمل بإذن الله عز وجل في الحلقة القادمة تلك الأحداث التاريخية، فمن الدروس فيما سبق ذكره:
الدرس الأول: أن ما حصل في غزوة أُحُد من جراح وقرح وتعب ومصائب هو من الكفَّارات التي يُكفِّر الله بها ذنوب العبد، فالمشروع للعبد إذا حصل له ما يكره من مصائب الدنيا أن يعلم أنها مقدرة ومكتوبة ولحكمة عظيمة، ويُشرع له حيالها الصبر والتسليم والرضا والحمد، فإذا فعل ذلك هانت عليه مصيبته، وذلك بخلاف الذي جزع ولم يصبر؛ فإن الشيطان يستولي عليه، ووصيتي لك أخي الكريم أن تعلم أنه لا يوجد شر محض بحمد الله فيما يصيب المؤمن من البلاء، فانظر في كل ما يصيبك إلى الوجه الإيجابي فيه، ولو كان يسيرًا، فادخل من خلاله لسلامة صدرك وانشراحه، فالمرض مثلًا وإن كان شرًّا ففيه وجه إيجابي وهو التكفير للسيئات ورفع الدرجات مع سؤال الله تعالى العافية، فعِش التفاؤل وحسن الظن في كل ما يصيبك مبتدأ بالنقطة الإيجابية فيه، وإذا حصل لك خلاف ما تريد فتفاءل بقولك: لعله خير لي من حيث لا أشعر، وهكذا فإنك بذلك تشرح صدرك وتطمئن نفسك، وأيضًا ترسل لنفسك وسائل ورسائل إيجابية تعزيزية، أما لو عشت السلبية لضاقت عليك الأرض بما رحبت.
الدرس الثاني: شرع الإسلام للمصاب بأي مصيبة كانت كلامًا يقوله، فيشرح الله تعالى له صدره، ويخلف عليه بخير، وهو قوله عند المصيبة: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلُف لي خيرًا منها))، وهذا ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم له أُمَّ سلمة رضي الله عنها عندما قُتِل زوجُها قالت: ومَن خيرٌ من أبي سلمة، فتقول أم سلمة رضي الله عنها: فلما قلتُها بيقينٍ أخلف الله عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أخي الكريم، اجعل بدل تأسُّفك وتفكيرك عند حصول المصائب تلك العباراتِ النيرةَ والكلماتِ الطيبةَ على لسانك، فهي دعاء وتوسُّل وخشوع، والله عز وجل قريب مجيب.
الدرس الثالث: الحذر من المعصية؛ فإن لها شؤمًا قد يعم وقد يخص؛ كما حصل في غزوة أُحُد، فالمعصية شرٌّ لا خير فيه، فلماذا يفعل العاقل ما يعتقد أنه شر محض، وهو يعلم أن الله عز وجل يراه ويسمعه، وهو الذي خلقه ورزقه، وبيده تدبير أمره؟! فلنتَّقِ اللهَ تعالى جميعًا، لعلنا نفلح ونسعد دنيا وأُخْرى.
الدرس الرابع: إن أهل الحق أحيانًا قد يهزمون ويُدال عليهم، وذلك ابتلاء لهم أو خلل لديهم أو ابتلاء لأهل الباطل بسُّنَّة الإمهال؛ لكن العاقبة تكون للمتقين، ولكن من ابتلاء أهل الحق في هزيمتهم أن ينظر هل يستكينون وينكصون على أعقابهم أو يُصحِّحون المسار والخلل، ويرجعون وينيبون، هو موضع ابتلاء لهم، فعلى أهل الحق العمل على نصرته في كل وقت وحين، ويقول القائل: إن إيقادك لشمعة في الظلام هو أفضل من أن تلعن الظلام ألف مرة، فالعمل على نصرة الحق بما أعطاك الله ومكَّنك منه، هو الواجب عليك، وكلٌّ أعلم بمقدرته ومقدوره، وهذا مستفاد من واقع الصحابة رضي الله عنهم عندما رجعوا من غزوة أُحُد بجراحهم وتعبهم، استعدوا للذهاب إلى حمراء الأسد مباشرة، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
الدرس الخامس: عندما قال حرام بن ملحان رضي الله عنه: فُزْتُ وربِّ الكعبة بعدما قُتِل، هو فوز حقيقي في مقاييس الآخرة مع أنه قُتِل؛ وذلك لأنه بلَّغ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بمهمته التي كلَّفه بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومقاييس الآخرة هي المقاييس الحقيقية للفوز؛ لأنها هي الباقية، أرأيت من أنفق ماله في مجالات الخير فهو أربح ممن أمسك هذا المال مع أن هذا الممسك قد يكون أكثر فيما بقي ممن أنفق ماله، أرأيت أيضًا من قام ليله راكعًا وساجدًا هو أكثر فوزًا وربحًا من هذا النائم مع أن هذا النوم ربما كان أكثر راحةً للجسم، أرأيت من أتعب نفسه في خدمة إخوانه المسلمين وقضاء حوائجهم هو أكثر ربحًا وفوزًا ممن ليس كذلك، مع أن الأخير هو أكثر راحةً جسميةً بينما الأول هو أكثر راحةً نفسيةً وربحًا وفوزًا في الأجور والحسنات، أرأيت من تعب في وَصْلِ رَحِمِه وبِرِّه بوالديه، فهو أكثر فوزًا وربحًا ممن قطع وعقَّ مع أن الأخير هو أكثر راحةً جسميةً، وهكذا المقاييس المعتبرة هي مقاييس الآخرة؛ لأنها هي الباقية وليست مقاييس الدنيا؛ لأنها هي الفانية.
فمن تصدَّق بماله فقد قدمه لنفسه، ومن أمسكه فقد جعله لغيره؛ ولهذا قال حرام بن ملحان رضي الله عنه: فُزْتُ وربِّ الكعبة، مع أنه قُتِل.
الدرس السادس: إن الغدر والخداع والمكر ونقض العهود هو من صفات أهل الجاهلية والأعداء بخلاف أهل الملة والدين فهم موفون بالعهود، لا يعرفون للغدر طريقًا، ومأخذ هذا من السيرة عندما غدرت قبائل بني سليم في قتل القُرَّاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمرهم عامر بن الطفيل فغدروا في الجوار والذمة بينما في الجانب الآخر الذي أمر به الإسلام وهو الوفاء بالعهد، ويظهر هذا جليًّا من خلال موقف عمرو بن أمية رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه قتل رجلينِ من رجال عامر بن الطفيل أخذًا بالثأر من قتل القُرَّاء من الصحابة، وهو لم يعلم أنهما في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاتبَه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، ودفع دية الرجلينِ؛ لأنهما كانا في جوار وذمة، فقارِنْ بين هذا وذاك.
الدرس السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بلغَه قتلُ القُرَّاء اتجه إلى ربِّه عز وجل بالدعاء على تلك القبائل التي غدرت وقتلت هؤلاء القُرَّاء، وهكذا المسلم عندما يحزُبُه أمر، فإنه يتجه إلى ربِّه تبارك وتعالى يدعوه ويرجوه؛ لأن جميع الأمور هي بيد العزيز الحكيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم في صلاته بعدما يرفع من ركوعه، وكان الدعاء في هذا الموطن مع أن السجود أقرب الأحوال؛ لأنه أراد أن يُؤمِّن المصلُّون على دعائه، وهذا لا يحصل في السجود؛ قال ذلك ابن حجر رحمه الله.
فالدعاء مخرج عظيم في تحصيل الأمور وشرح الصدور واطمئنان النفوس؛ فلنفزع إليه عند أي مصيبة، فله أثر عجيب في الحاضر والمستقبل.
إخواني الكرام، ما أجمل الاطلاع والقراءة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته! مقتبسين الدروس والعِبر؛ لتكون نبراسًا لنا في أفعالنا وأقوالنا؛ فسنستفيد منها الأحكام والحكم وخصال الخير ونفائس الصفات، فكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على برنامج ولو يومًا في الأسبوع في ذلك المجال! وإنني أقترح عليك أخي الكريم أن تعقد العزم على تنفيذ ذلك مع أسرتك المباركة الكريمة، كما أقترح عليك أن تختار أحد هذه الكتب الثلاثة؛ فهي من أجمل ما كتب في السيرة، الكتاب الأول: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون من تأليف موسى العازمي، والكتاب الثاني: الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، والكتاب الثالث: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، فاحرص على اقتناء أحدها، واجعله منهجًا لك ولأسرتك قراءة وتعلمًا وتعليمًا واستخراجًا للدروس والعبر، وكافيك في هذا أربع خصال عظيمة: تحفكم الملائكة، وتغشاكم الرحمة، وتنزل عليكم السكينة، ويذكركم الله فيمن عنده، وهذه الصفات هي خير من الدنيا وما فيها مع أنه طريق من طرق طلب العلم، ومَن سَلَك طريقًا يطلب فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، فاعقد العزم أخي الكريم مستشيرًا أولادك في هذا المجال حتى يحصل بإذن الله عز وجل ما يمكن أن تصحح معه المفاهيم الاجتماعية والإيمانية والتربوية، وتعيش هذه الأسرة عيشة هنية مقتبسة ذلك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكِرام.
أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الصلاح والإصلاح في النية والذرية، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النبي المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
سبق معنا في الحلقة الماضية شيء من أحداث غزوة أُحُد، فذكرنا كرامات لبعض الصحابة رضي الله عنهم الذين استشهدوا في تلك الغزوة، وذكرنا أيضًا بعض الأحكام للشهيد؛ من حيث التغسيل والتكفين والدفن، وذكرنا أيضًا كيف كان انصراف الصحابة رضي الله عنهم من غزوة أُحُد إلى المدينة، ثم تعرضنا بعد ذلك لغزوة حمراء الأسد وأسبابها ونتائجها، وغير ذلك.
وفي حلقتنا هذه نتدارس شيئًا من الحكم والأحكام من غزوة أُحُد، مع بيان شيء من الأحداث المباشرة لها، فقد نزل من القرآن قرابة ستين آية من سورة آل عمران، فيها تفصيل وبيان لأحداث وأحكام وحكم تلك الغزوة العظيمة غزوة أُحُد، وهي تمزج بين العتاب الرقيق والدرس النافع وتطهير المؤمنين من اليأس والقنوط، وذلك كقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، وكقوله تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ [آل عمران: 140]، وكقول الله عز وجل: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141] إلى غير ذلك من الآيات التي يتربَّى عليها المؤمنون، ويستلهمون منها الدروس والعِبر.
وقد اشتملت تلك الغزوة على كثير من الأحكام الفقهية والحكم الوعظية، فمن ذلك ما يلي:
أولًا:من الحكم والأحكام أن السُّنَّة في الشهيد ألَّا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه ولا يُكفَّن بغير ثيابه؛ بل يدفن بدمائه؛ حيث فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بشهداء أُحُد.
ثانيًا: من الأحكام أن السُّنَّة في الشهداء أن يُدفنوا في مصارعهم ولا يُنقَلوا إلى مكان آخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دفن شهداء أُحُد في مكانهم، وأمر بمن تم نقلهم أن يرجعوا إلى مكانهم.
ثالثًا: من الأحكام جواز دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد عند الحاجة والضرورة.
رابعًا: من الحكم في تلك الغزوة تعريفهم سوء عاقبة المعصية، وأن ما أصابهم في أُحُد هو بسبب تلك المعصية، فلما حصل ذلك وفهموا الدرس واستلهموه كانوا رضي الله عنهم حذرين من تكرار تلك المعصية، فللمعصية شؤم وضرر قد يعمُّ وقد يخصُّ.
خامسًا: من الحكم اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى وسُنَّته أن الرسل وأتباعهم ينتصرون أحيانًا، ويُدال عليهم أحيانًا أخرى؛ لكن تكون العاقبة لهم، فلو انتصروا دائمًا لم يتميز الصادق من غيره، ولو أُديل عليهم دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت السُّنَّة الإلهية الجمع بين الأمرين ابتلاء واختبارًا للفريقين.
سادسًا: من الحكم أن الله عز وجل يقدر على عباده الابتلاءات؛ كما حصل في غزوة أُحُد ليبلغوا درجات لهم في الجنة لا تبلغها أعمالهم، فتكون تلك الابتلاءات رفعةً في درجاتهم في الجنان.
والأحكامُ والحِكَمُ من تلك الغزوة كثيرةٌ جدًّا، وقد أسهب في ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "زاد المعاد" فليُراجع؛ ففيه كلام نفيس، وكان بعد غزوة أُحُد بعوث وسرايا أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم وبعثَها للدعوة إلى الله عز وجل، ولرصد تحركات المشركين ونحو ذلك، فهي أحداث عظيمة حصلت بين أُحُد والخندق، وسبب تلك الأحداث أنه بعد المصيبة التي حصلت في غزوة أُحُد كانت هيبة المسلمين قد ضعفت، فظهر عدد من المنافقين واليهود وبدأوا بنقض العهود، وبعض القبائل المشركة قامت بمكائد للمسلمين؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف تجاه ذلك التصرف الحكيم المؤيد من رب العالمين الذي بيده كل شيء جل جلاله؛ ولذلك أرسل السرايا وبعثَ البعوث؛ ليُعيد لتلك الأمة قوَّتها وشجاعتها، وفعلًا عاد لهم ذلك، فقد حدثت أحداث عدة بعد غزوة أُحُد، ولعلي أقتصر على حدثينِ منهما:
الحدث الأول: سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى بني أسد، وكان سببها أن بعض بني أسد قد عزموا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخبر دعا أبا سلمة، فقال له: ((اخرج في هذه السرية، فقد استعملتُكَ عليها))، وبعث معه مئة وخمسين رجلًا، وقال له: ((سِرْ حتى تأتي بني أسد فأغِرْ عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم))، وأوصاه ومن معه بتقوى الله عز وجل، فخرج أبو سلمة رضي الله عنه بهم في محرم من السنة الرابعة للهجرة حتى انتهى إلى ماء فأغار عليهم فجأةً، فذعروا وخافوا وهربوا وتركوا مواشيهم فأخذها أبو سلمة، ومكث على مائهم وعسكر فيه، ثم تبعهم يطلبهم، فساروا خارج ديارهم، فرجع أبو سلمة رضي الله عنه غانمًا تلك المواشي، وأسر بعض مماليكهم، وأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهم سالمون منتصرون بحمد الله تعالى، ولما رجع أبو سلمة إلى المدينة اشتعل عليه جرحُه الذي جرحه في غزوة أُحُد وأقام عليه شهرًا يعالجه، وكان ذلك الجرح سببًا لوفاته رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلُفْه في عقبه في الغابرين، وافسَحْ له في قبره، ونوِّرْ له فيه))؛ رواه مسلم.
ثم قالت زوجته أم سلمة بعد وفاته: من لي بخير من أبي سلمة من المسلمين؟ ثم قالت ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم المصاب أن يقوله وهو: ((إنَّا للهِ وإنَّا اليه راجعونَ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها))، فلما قالتها بيقين تزوَّجَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
الحدث الثاني: بئر معونة أو سرية القُرَّاء، وكانت في صفر من السنة الرابعة للهجرة، فقد روى البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن رِعْلًا وذِكْوانَ وعُصَيَّة بني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا فأمدَّهم بسبعين من الأنصار يقال لهم القُرَّاء، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم قالوا: ابعث لنا رجالًا يُعلِّموننا القرآن والسُّنَّة، فوصل هؤلاء السبعون إلى بئر معونة، فنزلوا فيها، وكانوا في جوار رجلٍ منهم، وبعثوا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حرام بن ملحان رضي الله عنه، ليسلمه إلى سيدهم عامر بن الطفيل، فلم ينظر عامر بن الطفيل إلى الكتاب؛ بل أمر بقتل حرام بن ملحان، فقال حرام بعدما قُتِل: فُزْتُ وربِّ الكعبة، ثم لم يكتفِ عامر بذلك الغدر؛ بل استنفر بني عامر في قتال الباقين من الصحابة القُرَّاء، فأبى ذلك بنو عامر وقالوا: لا نخفر جوار أبي براء لهم، وكان أبو براء عامر بن مالك قد أجار هؤلاء القُرَّاء، فاستنفر عامر ابن طفيل قبائل بني سليم وهم رِعْل وذكْوان وعُصَيَّة، فأجابوا إلى ذلك وغدروا، فقاتلوهم حتى قتلوهم.
وبعد هذا بوقت ليس بالطويل مرَّ على مكان الوقعة اثنانِ من الصحابة، وهما: عمرو بن أمية الضمري، والمنذر بن عقبة الأنصاري، وهما يسرحان بالماشية، فرأيا طيورًا في ذلك الموقع، فقال بعضهم لبعض: إن لهذه الطيور لشأنًا، فنظرا فإذا هؤلاء أصحابهم من القُرَّاء بدمائهم مقتولين، فقال المنذر لعمرو: ما ترى في هذا الشأن، فقال عمرو: أرى أن نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبره الخبر، أما المنذر فقال: إنه سيقاتل القوم الذين قتلوا هؤلاء الصحابة، فقاتلهم رضي الله عنه حتى قُتِل، وأما عمرو بن أمية فرجع إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فحزن لذلك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةُ حزنًا شديدًا.
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على تلك القبائل، وأخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((إنَّ إخوانَكم قد قُتِلُوا، وإنهم قالوا: اللهم بلِّغ عنا نبيَّك أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا))؛ رواه مسلم.
وأما عامر بن مالك الذي أجار هؤلاء القُرَّاء وهو سيد من أسياد بني عامر الذي أعطى الجوار لهؤلاء القُرَّاء، فإنه لما بلغه مقتلهم شقَّ عليه ذلك أشدَّ المشقَّة حتى مات من شدة الهمِّ والمشقَّة، وأما عمرو بن أمية في رجوعه إلى المدينة ففي طريقه وجد رجلين من بني عامر قتلة هؤلاء القُرَّاء، فنزل معهما في ظل شجرة، وكان الرجلان معهما عقد وجوار من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما؛ ولكن لم يعلم به عمرو، فلما علم أنهما من بني عامر ورآهما قد ناما قام بقتلهما أخذًا بالثأر من قتل القُرَّاء، فلما قدم إلى المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقتله لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بئسَ ما صنعْتَ؛ لقد كان لهما مني أمانٌ وجوارٍ، لأدِينَّهما))، فبعث بدِيَتِهما لقومهما.
إخواني الكرام، لعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبر، ونستكمل بإذن الله عز وجل في الحلقة القادمة تلك الأحداث التاريخية، فمن الدروس فيما سبق ذكره:
الدرس الأول: أن ما حصل في غزوة أُحُد من جراح وقرح وتعب ومصائب هو من الكفَّارات التي يُكفِّر الله بها ذنوب العبد، فالمشروع للعبد إذا حصل له ما يكره من مصائب الدنيا أن يعلم أنها مقدرة ومكتوبة ولحكمة عظيمة، ويُشرع له حيالها الصبر والتسليم والرضا والحمد، فإذا فعل ذلك هانت عليه مصيبته، وذلك بخلاف الذي جزع ولم يصبر؛ فإن الشيطان يستولي عليه، ووصيتي لك أخي الكريم أن تعلم أنه لا يوجد شر محض بحمد الله فيما يصيب المؤمن من البلاء، فانظر في كل ما يصيبك إلى الوجه الإيجابي فيه، ولو كان يسيرًا، فادخل من خلاله لسلامة صدرك وانشراحه، فالمرض مثلًا وإن كان شرًّا ففيه وجه إيجابي وهو التكفير للسيئات ورفع الدرجات مع سؤال الله تعالى العافية، فعِش التفاؤل وحسن الظن في كل ما يصيبك مبتدأ بالنقطة الإيجابية فيه، وإذا حصل لك خلاف ما تريد فتفاءل بقولك: لعله خير لي من حيث لا أشعر، وهكذا فإنك بذلك تشرح صدرك وتطمئن نفسك، وأيضًا ترسل لنفسك وسائل ورسائل إيجابية تعزيزية، أما لو عشت السلبية لضاقت عليك الأرض بما رحبت.
الدرس الثاني: شرع الإسلام للمصاب بأي مصيبة كانت كلامًا يقوله، فيشرح الله تعالى له صدره، ويخلف عليه بخير، وهو قوله عند المصيبة: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلُف لي خيرًا منها))، وهذا ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم له أُمَّ سلمة رضي الله عنها عندما قُتِل زوجُها قالت: ومَن خيرٌ من أبي سلمة، فتقول أم سلمة رضي الله عنها: فلما قلتُها بيقينٍ أخلف الله عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أخي الكريم، اجعل بدل تأسُّفك وتفكيرك عند حصول المصائب تلك العباراتِ النيرةَ والكلماتِ الطيبةَ على لسانك، فهي دعاء وتوسُّل وخشوع، والله عز وجل قريب مجيب.
الدرس الثالث: الحذر من المعصية؛ فإن لها شؤمًا قد يعم وقد يخص؛ كما حصل في غزوة أُحُد، فالمعصية شرٌّ لا خير فيه، فلماذا يفعل العاقل ما يعتقد أنه شر محض، وهو يعلم أن الله عز وجل يراه ويسمعه، وهو الذي خلقه ورزقه، وبيده تدبير أمره؟! فلنتَّقِ اللهَ تعالى جميعًا، لعلنا نفلح ونسعد دنيا وأُخْرى.
الدرس الرابع: إن أهل الحق أحيانًا قد يهزمون ويُدال عليهم، وذلك ابتلاء لهم أو خلل لديهم أو ابتلاء لأهل الباطل بسُّنَّة الإمهال؛ لكن العاقبة تكون للمتقين، ولكن من ابتلاء أهل الحق في هزيمتهم أن ينظر هل يستكينون وينكصون على أعقابهم أو يُصحِّحون المسار والخلل، ويرجعون وينيبون، هو موضع ابتلاء لهم، فعلى أهل الحق العمل على نصرته في كل وقت وحين، ويقول القائل: إن إيقادك لشمعة في الظلام هو أفضل من أن تلعن الظلام ألف مرة، فالعمل على نصرة الحق بما أعطاك الله ومكَّنك منه، هو الواجب عليك، وكلٌّ أعلم بمقدرته ومقدوره، وهذا مستفاد من واقع الصحابة رضي الله عنهم عندما رجعوا من غزوة أُحُد بجراحهم وتعبهم، استعدوا للذهاب إلى حمراء الأسد مباشرة، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
الدرس الخامس: عندما قال حرام بن ملحان رضي الله عنه: فُزْتُ وربِّ الكعبة بعدما قُتِل، هو فوز حقيقي في مقاييس الآخرة مع أنه قُتِل؛ وذلك لأنه بلَّغ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بمهمته التي كلَّفه بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومقاييس الآخرة هي المقاييس الحقيقية للفوز؛ لأنها هي الباقية، أرأيت من أنفق ماله في مجالات الخير فهو أربح ممن أمسك هذا المال مع أن هذا الممسك قد يكون أكثر فيما بقي ممن أنفق ماله، أرأيت أيضًا من قام ليله راكعًا وساجدًا هو أكثر فوزًا وربحًا من هذا النائم مع أن هذا النوم ربما كان أكثر راحةً للجسم، أرأيت من أتعب نفسه في خدمة إخوانه المسلمين وقضاء حوائجهم هو أكثر ربحًا وفوزًا ممن ليس كذلك، مع أن الأخير هو أكثر راحةً جسميةً بينما الأول هو أكثر راحةً نفسيةً وربحًا وفوزًا في الأجور والحسنات، أرأيت من تعب في وَصْلِ رَحِمِه وبِرِّه بوالديه، فهو أكثر فوزًا وربحًا ممن قطع وعقَّ مع أن الأخير هو أكثر راحةً جسميةً، وهكذا المقاييس المعتبرة هي مقاييس الآخرة؛ لأنها هي الباقية وليست مقاييس الدنيا؛ لأنها هي الفانية.
فمن تصدَّق بماله فقد قدمه لنفسه، ومن أمسكه فقد جعله لغيره؛ ولهذا قال حرام بن ملحان رضي الله عنه: فُزْتُ وربِّ الكعبة، مع أنه قُتِل.
الدرس السادس: إن الغدر والخداع والمكر ونقض العهود هو من صفات أهل الجاهلية والأعداء بخلاف أهل الملة والدين فهم موفون بالعهود، لا يعرفون للغدر طريقًا، ومأخذ هذا من السيرة عندما غدرت قبائل بني سليم في قتل القُرَّاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمرهم عامر بن الطفيل فغدروا في الجوار والذمة بينما في الجانب الآخر الذي أمر به الإسلام وهو الوفاء بالعهد، ويظهر هذا جليًّا من خلال موقف عمرو بن أمية رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه قتل رجلينِ من رجال عامر بن الطفيل أخذًا بالثأر من قتل القُرَّاء من الصحابة، وهو لم يعلم أنهما في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاتبَه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، ودفع دية الرجلينِ؛ لأنهما كانا في جوار وذمة، فقارِنْ بين هذا وذاك.
الدرس السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بلغَه قتلُ القُرَّاء اتجه إلى ربِّه عز وجل بالدعاء على تلك القبائل التي غدرت وقتلت هؤلاء القُرَّاء، وهكذا المسلم عندما يحزُبُه أمر، فإنه يتجه إلى ربِّه تبارك وتعالى يدعوه ويرجوه؛ لأن جميع الأمور هي بيد العزيز الحكيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم في صلاته بعدما يرفع من ركوعه، وكان الدعاء في هذا الموطن مع أن السجود أقرب الأحوال؛ لأنه أراد أن يُؤمِّن المصلُّون على دعائه، وهذا لا يحصل في السجود؛ قال ذلك ابن حجر رحمه الله.
فالدعاء مخرج عظيم في تحصيل الأمور وشرح الصدور واطمئنان النفوس؛ فلنفزع إليه عند أي مصيبة، فله أثر عجيب في الحاضر والمستقبل.
إخواني الكرام، ما أجمل الاطلاع والقراءة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته! مقتبسين الدروس والعِبر؛ لتكون نبراسًا لنا في أفعالنا وأقوالنا؛ فسنستفيد منها الأحكام والحكم وخصال الخير ونفائس الصفات، فكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على برنامج ولو يومًا في الأسبوع في ذلك المجال! وإنني أقترح عليك أخي الكريم أن تعقد العزم على تنفيذ ذلك مع أسرتك المباركة الكريمة، كما أقترح عليك أن تختار أحد هذه الكتب الثلاثة؛ فهي من أجمل ما كتب في السيرة، الكتاب الأول: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون من تأليف موسى العازمي، والكتاب الثاني: الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، والكتاب الثالث: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، فاحرص على اقتناء أحدها، واجعله منهجًا لك ولأسرتك قراءة وتعلمًا وتعليمًا واستخراجًا للدروس والعبر، وكافيك في هذا أربع خصال عظيمة: تحفكم الملائكة، وتغشاكم الرحمة، وتنزل عليكم السكينة، ويذكركم الله فيمن عنده، وهذه الصفات هي خير من الدنيا وما فيها مع أنه طريق من طرق طلب العلم، ومَن سَلَك طريقًا يطلب فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، فاعقد العزم أخي الكريم مستشيرًا أولادك في هذا المجال حتى يحصل بإذن الله عز وجل ما يمكن أن تصحح معه المفاهيم الاجتماعية والإيمانية والتربوية، وتعيش هذه الأسرة عيشة هنية مقتبسة ذلك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكِرام.
أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الصلاح والإصلاح في النية والذرية، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.