حكاية ناي ♔
01-22-2024, 04:07 PM
لمطلب الثالث: الأدلَّة على وجوب معرِفة أحوال الجاهلية:
توطئة:
الأساس الجاهلي لا يتغير ولا يتبدَّل وإن تغير المكان والزَّمان، فها هي الصورة تنقل عبر الزَّمان قبل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والآن، فتجد مَن يتَّخذون الآلهة من دون الله ليكونوا لهم عزًّا، ومَن يتَّخذون الأولياء من دون الله، ويقولون: ما نعبدهم إلاَّ ليقرِّبونا إلى الله زلفى؛ أي: يشفعوا لنا ويقرِّبونا عنده منزلة.
وكذلك فإنَّ الجاهليِّين يَحلِفون بآبائهم وأمَّهاتهم وأولِيائهم، وكانوا يحلِفون باللاَّت والعزى، وكانوا إذا نشدوا قالوا: أنشدك الله والرَّحِم.
ومن المسلمين الآن مَن يحلف بالنَّبيِّ والوليِّ.
وكانت إذا وقعت مصيبة، يخمش النساء وجوهَهنَّ وينشرن شعورهنَّ، ويشقُقن جيوبَهن، ويدعون ويلاً، ويقَعْن في ضرْب الخدود، والدعاء بدعوى الجاهلية، وتكون منهن الصالقة والحالقة والشاقَّة ... وكانت بعض نساء الجاهلية إذا قال لها رجُل كلمةً قبيحةً وهي في طريقها في غيبةِ نفرِها، ولْولَت وقالت: لو كان ها هُنا أحدٌ من أنفارِنا، وتقول: لقد قال لي كلِمة تملأ الفم، تستعظِم ذلك، وكان في بعض نسائِهم من الحياء ما يجعَلُها إذا سمعت ذِكْر الزنا تضَع يدها على رأسِها حياء، وكانت المرأة متبرِّجة كاشفة عن جيْبِها"، هذا هو تبرُّج الجاهلية الأولى.
أمَّا عن مطابقة الجاهليَّة المعاصرة للجاهلية القديمة فلا ينكره أحد من كافَّة الوجوه، "فحياة الجاهلية حياة شرّ، فقد قتل أهل الجاهلية النَّفس التي حرَّم الله، ودعوا مع الله آلهةً أخرى، وأتوا الفواحش، وكانوا يقطعون الأرحام، ويسيئون الجوار، ويأكل القويُّ منهم الضعيف، وكان بعضهم ينتزي على أرض بعض، وكان أحدُهم يصحب قومًا فيقتلُهم ويأخذ أموالَهم، وكان فيهم الحلاَّف المهين، الهمَّاز المشَّاء بالنميمة، المنَّاع للخير المعتدي الأثيم، العتلّ الزَّنيم.
ومن أخلاقهم أنَّ من سبَّ الرّجال سُبَّ أبوه وأمه، وكان أحدهم يسبُّ أخاه فيعيره بأمِّه، وكان عندهم جفاء في الفعل والقول حتَّى إنَّهم ليتَّهمون الجارية بالسَّرقة بدون بيّنة إذا فقدوا شيئًا، فيعذِّبونها ويفتِّشونها حتَّى يفتشوا قُبُلَها وهي بريئة"[1].
أوَّلاً: الأدلَّة من القرآن:
1- قال الله: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55].
"إنَّ استبانة سبيل المجرمين ضروريَّة لاستِبانة سبيل المؤمنين، وذلك كالخطِّ الفاصل يُرسَم عند مفرق الطَّريق؛ لأنَّ استبانة سبيل المجرمين هدفٌ من أهداف التَّفصيل الربَّاني للآيات"[2].
2- وقال تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأنفال: 37].
3- وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26].
4- وقال تعالى: ﴿ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الزخرف: 21 - 25].
ثانيًا:- الأدلَّة من السنَّة:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنَّة جاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه))[3].
يقول الدكتور/ مروان شاهين أستاذ الحديث بجامعة الأزهر:
"قد يكون المراد بسنَّة الجاهلية الإبقاء على أخلاق الجاهلية، وسيرتها، وإشاعة ذلك وتنفيذه مما هدمه الإسلام، وذلك مثل العودة إلى تبرج المرأة وإبداء زينتها، والبروز من الخجل للرجال ونحو ذلك، وقد وسم الله ذلك بأنَّه من فعل الجاهلية؛ فقال سبحانه: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].
إنَّ الله قد أذهب جهل الجاهلية وظلامها، وأنعم عليْنا أن أخرجنا من ظلماتها وهدانا من ضلالها، والتَّعبير عن ذلك يكون بالاعتصام بالكتاب والسنَّة، كما ورد الخطاب بذلك من الله تعالى بعد الآية السابقة مباشرة: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].
2- وقد يقال: إنَّ المراد هو العودة إلى ما كانت عليه الجاهلية من عقائد فاسدة مثل: الطيرة، والكهانة، والتشاؤم، وغيرها، مع أنَّ الإسلام الحنيف قد نهى عن ذلك كله، وهذا موجود منه كثير في زمننا هذا، فلا يزال الناس يأْتون العراف والكاهن ويذهبون إلى الدجَّالين يسألونَهم أحيانًا عن أمور الغيب، وذلك يمثل عودة خطيرة إلى الجاهليَّة يجب أن يتبرَّأ منها المسلمون.
3- وقد يقال أيضًا: إنَّ المراد الاحتِكام إلى مناهج الجاهليَّة وترْك الحكْم بما أنزل الله تعالى، واتباع شرع غير شرْعِه، والالتزام بهدي غير هدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولعلَّ ما يشهد لهذا الرأي قوله سبحانه: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد آيتين عظيمتين كل منهما تطلب من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَحتكِم إلى ما أنزل الله تعالى، ولا يعدلوا عنْه إلى غيره، مهما كان، وحذَّر الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذلك تحذيرًا شديدًا؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48]، وبعدها مباشرة قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].
4- ومن الممكن أن يُراد من سنَّة الجاهلية مجموع ما ذكرنا، بل لعلَّ ذلك هو الأولى؛ فإنَّ سنَّة الجاهلية اسم جنس يشمل كلَّ ما كان عليه أهل الجاهليَّة من فساد في الأخْلاق، أو العادات أو العبادات، أو العقائد أو العقائد الاجتماعيَّة، ونحو ذلك مما أبْطله الإسلام، وجاءت التشريعات مغايرة له في كتاب ربِّنا وسنَّة نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومما يدل لذلك ويؤكده: أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أبطل كثيرًا من أمر الجاهليَّة في العقائد والمعاملات والأخلاق وغير ذلك، بل أهْدر أمر الجاهلية كلّه.
فما بال أمَّتِه تعود مرة ثانية إلى الأخذ بالثأر، وأكل الربا معرِضة بذلك عن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أليس الذي يصنع ذلك هو الذي يبتغي في الإسلام سنَّة الجاهلية، بل إن أهل الجاهلية قد يكونون أعذر منه؛ لأنَّه لم يكن بين أيديهم منهجٌ يَحتكمون إليْه، أمَّا بعد أن أسبغ الله تعالى عليْنا نعمة الإسلام الكبرى، فلِماذا العودة إلى سنَّة الجاهليَّة البغيضة؟!
إنَّ هذه الآيات الشريفة والأحاديث المطهَّرة تثبت أنَّ سنَّة الجاهلية تعني ترْك هدى الإسلام في أيّ مجال وتحت أي مسمى، وهذا لا يجوز أبدًا بحال من أمَّة تدرك قيمة نعمة الإسلام السابغة"[4].
وعند مسلم[5] من حديث أبي هريرة: ((ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليْه وزرُها)) ... الحديث.
والضَّلال من خصال الجاهليَّة، فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سنة)) مضافة إلى الجاهلية دليل على أنَّ للجاهلية منهجًا واحدًا وطريقة ثابتة، فإذا عرفنا هذه السنَّة عن طريق الخبَر وأحوال أهل الجاهلية السابقين عرفناها في عصرِنا؛ لأنَّ السنَّة هي الطريقة الثابتة؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحِمه الله -: "قوله ((سنة جاهلية)) يندرج فيها كلّ جاهلية مطلقة أو مقيدة؛ أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنيَّة أو غيرهما من كلّ مخالفة لما جاء به المرسلون"[6].
فكلّ خصلة من خصال الخير قد أبقى عليْها الإسلام، إن اقترنت بصفةٍ من صفات الجاهليَّة فهي من فعال الجاهلية[7]، فتعلُّم مسائل الجاهلية باب من أبواب التوحيد غفل عنه الكثير؛ لأنَّ الله حذَّر من مخالفة الرسُل؛ لأنَّ تلك المخالفة من أمور الجاهليَّة، فكلّ من خالف الرسُل يوصف بهذه الصفة.
قال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92].
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
بل إنَّ الرَّغَب عن السنَّة وتركها من فعال الجاهليَّة، كما بيَّن ذلك نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((فمَن رغِب عن سنَّتي فليس منِّي))[8].
فقوله: ((ليس مني)) هذا التبرُّؤ منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - دليلٌ على ما ذكرنا، فكثْرة الصفات الجاهليَّة في أمَّة الإسلام كانت السَّبب المباشر في إبعاد النَّاس عن حوْض النبي يوم القيامة: ((ألا ليُذادنَّ رجال يوم القيامة عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أُناديهم: ألا هلمَّ فيقال: إنهم بدلوا بعدك))[9]، وعند البخاري[10] - رحمه الله-: ((إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارِهم القهقرى، قال: فلا أراه يخلص منهُم إلاَّ مثل همل الغنم)).
قال ابن مسعود - رضي الله عنْه -: "ليس عامٌ إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم"[11].
فهدم الإسلام إنما جاء من مخالفة الرسُل، وكل أمر يخالف ما جاء به رسل الله فهو أمر في ميزان الجاهليَّة؛ كما في الصحيح: ((مَن فارق الجماعة شبرًا فمات فميتتُه جاهليَّة))[12].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا لأصحابِه: ((أبِدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم؟!))[13].
قال أبو العبَّاس - رحمه الله -: "كلّ ما خرج عن دعْوى الإسلام والقرآن من نسَب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة، فهو من عزاء الجاهليَّة، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، وقال الأنصاري: يا لَلأنصار، فغضب النبي لذلك غضبًا شديدًا"[14].
فكُلُّ ما خالف فيه الرَّسولُ ما كان عليه أهل الجاهلية فهو جاهلية وإن وُجِد في المجتمع المسلم؛ فالضِّدُّ يظهر حسنه الضدُّ، وبضدِّها تتبيَّن الأشياء.
يقول شيخ الإسلام/ محمد بن عبدالوهاب - رحِمه الله رحمة واسعةً، وطيَّب ربي ثراه -: "فأهم ما فيها – أي: الجاهلية - وأشدها خطرًا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنِ انضاف إلى ذلك استِحْسان ما عليه أهل الجاهلية تمَّت الخسارة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 52][15].
ولقد أحصى - رحِمه الله - مائةً وعشرين مسألة خالف فيها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أهل الجاهلية[16]، ومن هذه المسائل ما هو موجود في أمة الإسلام، بل هناك مسائل فاق فيها المسلِمون أهل الجاهلية قديمًا، كاتخاذ القبور مساجد، واتخاذ السرُج على القبور، واتِّخاذ الأعياد الَّتي لم يأْذَن بها الله، والذَّبح لغير الله، والفخْر بالأحْساب والطَّعن في الأنساب والنِّياحة، ومودَّة أهل الكفر وموالاة أهل الشِّرك، والكهانة والسِّحر، بل وصرف العبادة لغير الله، ويوجد بين المسلمين من يجعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكَّل عليهم من دون الله، وما منزلة الأولياء عند العوامّ وجهلة المتصوفة عنَّا ببعيد، وكلها مسائل موجودة في واقع الأمة وجميعها مسائل جاهليَّة.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يوشك أن يهدم الإسلام حجرًا حجرًا من جهل عادات الجاهلية"[17].
وفي الحديث قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومن ادَّعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنَّم))، فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلَّى وصام؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله))[18].
وعند مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حدَّثه قال: ((أربعٌ في أمَّتي من أمْرِ الجاهليَّة لا يتركونَهنَّ: الفخر في الأحْساب، والطَّعن في الأنساب، والاستِسْقاء بالنُّجوم، والنَّاحبة - أو قال: النَّائحة - إذا لم تتُبْ قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليْها سرْبال من قطران ودرع من جرب))[19].
وعن أبي هُريرة - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أربعٌ في أمَّتي من أمر الجاهليَّة لن يدعهنَّ النَّاس: النياحة، والطَّعن في الأحساب، والعدْوى، أجرب بعير فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأوَّل؟ والأنواء: مطرنا بنوء كذا وكذا))[20].
قوله: ((من أمر الجاهلية)) أي: حال كونهن من أمور الجاهليَّة وخصالها[21]، وفي رواية: ((ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام: شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب))[22].
وفي رواية: ((ثلاثة من الكفر)) .... فذكر الحديث[23].
وعند مسلم: ((ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت))[24].
قال الإمام النَّووي - رحِمه الله -: "وفيه أقوال، أصحُّها: أنَّ معناه: هما من أعمال الكفَّار وأخلاق الجاهلية.
والثاني: أنَّه يؤدّي إلى الكفْر"[25].
وعن ابن مسعود: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان ينهى عن النَّعي؛ ((إيَّاكم والنعي فإنه من عمل الجاهلية))[26]، وعن ابن مسعود - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليْس منَّا مَن ضرَب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعْوى الجاهليَّة))[27].
وعن الحسن بن عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنَّه تزوَّج امرأة، فدخل عليه القوم فقالوا: بالرّفاء والبنين، فقال: "لا تفعلوا ذلك؛ فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن ذلك"[28].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قاتل تحت راية عمِّية يغضب لعصبة أو يدْعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقُتِل، فقتلة جاهلية))[29].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء))[30].
فيجب معرفة السنة من البدعة، ومعرفة الخير من الشَّرّ للتَّفرقة بينهما؛ لعدَم الوقوع في الشر، كما فعل حذيفة - رضي الله عنه - فكان يسأل عن الشر مخافةَ الوقوع فيه.
وقد صحَّ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - قولُه: "لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسِبها هدى، ولا في هدى تركَه حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر، وذلك أنَّ السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كلّه وتبيَّن للنَّاس، فعلى الناس الاتباع"[31].
بل تأمَّل معي هذا الحديث الذي قال فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يذهب اللَّيل والنَّهار حتَّى تعبد اللات والعزى))، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظنُّ حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنَّ ذلك تامّ، قال: ((إنَّه سيكون من ذلك ما شاء الله))[32].
توطئة:
الأساس الجاهلي لا يتغير ولا يتبدَّل وإن تغير المكان والزَّمان، فها هي الصورة تنقل عبر الزَّمان قبل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والآن، فتجد مَن يتَّخذون الآلهة من دون الله ليكونوا لهم عزًّا، ومَن يتَّخذون الأولياء من دون الله، ويقولون: ما نعبدهم إلاَّ ليقرِّبونا إلى الله زلفى؛ أي: يشفعوا لنا ويقرِّبونا عنده منزلة.
وكذلك فإنَّ الجاهليِّين يَحلِفون بآبائهم وأمَّهاتهم وأولِيائهم، وكانوا يحلِفون باللاَّت والعزى، وكانوا إذا نشدوا قالوا: أنشدك الله والرَّحِم.
ومن المسلمين الآن مَن يحلف بالنَّبيِّ والوليِّ.
وكانت إذا وقعت مصيبة، يخمش النساء وجوهَهنَّ وينشرن شعورهنَّ، ويشقُقن جيوبَهن، ويدعون ويلاً، ويقَعْن في ضرْب الخدود، والدعاء بدعوى الجاهلية، وتكون منهن الصالقة والحالقة والشاقَّة ... وكانت بعض نساء الجاهلية إذا قال لها رجُل كلمةً قبيحةً وهي في طريقها في غيبةِ نفرِها، ولْولَت وقالت: لو كان ها هُنا أحدٌ من أنفارِنا، وتقول: لقد قال لي كلِمة تملأ الفم، تستعظِم ذلك، وكان في بعض نسائِهم من الحياء ما يجعَلُها إذا سمعت ذِكْر الزنا تضَع يدها على رأسِها حياء، وكانت المرأة متبرِّجة كاشفة عن جيْبِها"، هذا هو تبرُّج الجاهلية الأولى.
أمَّا عن مطابقة الجاهليَّة المعاصرة للجاهلية القديمة فلا ينكره أحد من كافَّة الوجوه، "فحياة الجاهلية حياة شرّ، فقد قتل أهل الجاهلية النَّفس التي حرَّم الله، ودعوا مع الله آلهةً أخرى، وأتوا الفواحش، وكانوا يقطعون الأرحام، ويسيئون الجوار، ويأكل القويُّ منهم الضعيف، وكان بعضهم ينتزي على أرض بعض، وكان أحدُهم يصحب قومًا فيقتلُهم ويأخذ أموالَهم، وكان فيهم الحلاَّف المهين، الهمَّاز المشَّاء بالنميمة، المنَّاع للخير المعتدي الأثيم، العتلّ الزَّنيم.
ومن أخلاقهم أنَّ من سبَّ الرّجال سُبَّ أبوه وأمه، وكان أحدهم يسبُّ أخاه فيعيره بأمِّه، وكان عندهم جفاء في الفعل والقول حتَّى إنَّهم ليتَّهمون الجارية بالسَّرقة بدون بيّنة إذا فقدوا شيئًا، فيعذِّبونها ويفتِّشونها حتَّى يفتشوا قُبُلَها وهي بريئة"[1].
أوَّلاً: الأدلَّة من القرآن:
1- قال الله: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55].
"إنَّ استبانة سبيل المجرمين ضروريَّة لاستِبانة سبيل المؤمنين، وذلك كالخطِّ الفاصل يُرسَم عند مفرق الطَّريق؛ لأنَّ استبانة سبيل المجرمين هدفٌ من أهداف التَّفصيل الربَّاني للآيات"[2].
2- وقال تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأنفال: 37].
3- وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26].
4- وقال تعالى: ﴿ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الزخرف: 21 - 25].
ثانيًا:- الأدلَّة من السنَّة:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنَّة جاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه))[3].
يقول الدكتور/ مروان شاهين أستاذ الحديث بجامعة الأزهر:
"قد يكون المراد بسنَّة الجاهلية الإبقاء على أخلاق الجاهلية، وسيرتها، وإشاعة ذلك وتنفيذه مما هدمه الإسلام، وذلك مثل العودة إلى تبرج المرأة وإبداء زينتها، والبروز من الخجل للرجال ونحو ذلك، وقد وسم الله ذلك بأنَّه من فعل الجاهلية؛ فقال سبحانه: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].
إنَّ الله قد أذهب جهل الجاهلية وظلامها، وأنعم عليْنا أن أخرجنا من ظلماتها وهدانا من ضلالها، والتَّعبير عن ذلك يكون بالاعتصام بالكتاب والسنَّة، كما ورد الخطاب بذلك من الله تعالى بعد الآية السابقة مباشرة: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].
2- وقد يقال: إنَّ المراد هو العودة إلى ما كانت عليه الجاهلية من عقائد فاسدة مثل: الطيرة، والكهانة، والتشاؤم، وغيرها، مع أنَّ الإسلام الحنيف قد نهى عن ذلك كله، وهذا موجود منه كثير في زمننا هذا، فلا يزال الناس يأْتون العراف والكاهن ويذهبون إلى الدجَّالين يسألونَهم أحيانًا عن أمور الغيب، وذلك يمثل عودة خطيرة إلى الجاهليَّة يجب أن يتبرَّأ منها المسلمون.
3- وقد يقال أيضًا: إنَّ المراد الاحتِكام إلى مناهج الجاهليَّة وترْك الحكْم بما أنزل الله تعالى، واتباع شرع غير شرْعِه، والالتزام بهدي غير هدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولعلَّ ما يشهد لهذا الرأي قوله سبحانه: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد آيتين عظيمتين كل منهما تطلب من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَحتكِم إلى ما أنزل الله تعالى، ولا يعدلوا عنْه إلى غيره، مهما كان، وحذَّر الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذلك تحذيرًا شديدًا؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48]، وبعدها مباشرة قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].
4- ومن الممكن أن يُراد من سنَّة الجاهلية مجموع ما ذكرنا، بل لعلَّ ذلك هو الأولى؛ فإنَّ سنَّة الجاهلية اسم جنس يشمل كلَّ ما كان عليه أهل الجاهليَّة من فساد في الأخْلاق، أو العادات أو العبادات، أو العقائد أو العقائد الاجتماعيَّة، ونحو ذلك مما أبْطله الإسلام، وجاءت التشريعات مغايرة له في كتاب ربِّنا وسنَّة نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومما يدل لذلك ويؤكده: أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أبطل كثيرًا من أمر الجاهليَّة في العقائد والمعاملات والأخلاق وغير ذلك، بل أهْدر أمر الجاهلية كلّه.
فما بال أمَّتِه تعود مرة ثانية إلى الأخذ بالثأر، وأكل الربا معرِضة بذلك عن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أليس الذي يصنع ذلك هو الذي يبتغي في الإسلام سنَّة الجاهلية، بل إن أهل الجاهلية قد يكونون أعذر منه؛ لأنَّه لم يكن بين أيديهم منهجٌ يَحتكمون إليْه، أمَّا بعد أن أسبغ الله تعالى عليْنا نعمة الإسلام الكبرى، فلِماذا العودة إلى سنَّة الجاهليَّة البغيضة؟!
إنَّ هذه الآيات الشريفة والأحاديث المطهَّرة تثبت أنَّ سنَّة الجاهلية تعني ترْك هدى الإسلام في أيّ مجال وتحت أي مسمى، وهذا لا يجوز أبدًا بحال من أمَّة تدرك قيمة نعمة الإسلام السابغة"[4].
وعند مسلم[5] من حديث أبي هريرة: ((ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليْه وزرُها)) ... الحديث.
والضَّلال من خصال الجاهليَّة، فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سنة)) مضافة إلى الجاهلية دليل على أنَّ للجاهلية منهجًا واحدًا وطريقة ثابتة، فإذا عرفنا هذه السنَّة عن طريق الخبَر وأحوال أهل الجاهلية السابقين عرفناها في عصرِنا؛ لأنَّ السنَّة هي الطريقة الثابتة؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحِمه الله -: "قوله ((سنة جاهلية)) يندرج فيها كلّ جاهلية مطلقة أو مقيدة؛ أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنيَّة أو غيرهما من كلّ مخالفة لما جاء به المرسلون"[6].
فكلّ خصلة من خصال الخير قد أبقى عليْها الإسلام، إن اقترنت بصفةٍ من صفات الجاهليَّة فهي من فعال الجاهلية[7]، فتعلُّم مسائل الجاهلية باب من أبواب التوحيد غفل عنه الكثير؛ لأنَّ الله حذَّر من مخالفة الرسُل؛ لأنَّ تلك المخالفة من أمور الجاهليَّة، فكلّ من خالف الرسُل يوصف بهذه الصفة.
قال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92].
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
بل إنَّ الرَّغَب عن السنَّة وتركها من فعال الجاهليَّة، كما بيَّن ذلك نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((فمَن رغِب عن سنَّتي فليس منِّي))[8].
فقوله: ((ليس مني)) هذا التبرُّؤ منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - دليلٌ على ما ذكرنا، فكثْرة الصفات الجاهليَّة في أمَّة الإسلام كانت السَّبب المباشر في إبعاد النَّاس عن حوْض النبي يوم القيامة: ((ألا ليُذادنَّ رجال يوم القيامة عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أُناديهم: ألا هلمَّ فيقال: إنهم بدلوا بعدك))[9]، وعند البخاري[10] - رحمه الله-: ((إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارِهم القهقرى، قال: فلا أراه يخلص منهُم إلاَّ مثل همل الغنم)).
قال ابن مسعود - رضي الله عنْه -: "ليس عامٌ إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم"[11].
فهدم الإسلام إنما جاء من مخالفة الرسُل، وكل أمر يخالف ما جاء به رسل الله فهو أمر في ميزان الجاهليَّة؛ كما في الصحيح: ((مَن فارق الجماعة شبرًا فمات فميتتُه جاهليَّة))[12].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا لأصحابِه: ((أبِدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم؟!))[13].
قال أبو العبَّاس - رحمه الله -: "كلّ ما خرج عن دعْوى الإسلام والقرآن من نسَب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة، فهو من عزاء الجاهليَّة، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، وقال الأنصاري: يا لَلأنصار، فغضب النبي لذلك غضبًا شديدًا"[14].
فكُلُّ ما خالف فيه الرَّسولُ ما كان عليه أهل الجاهلية فهو جاهلية وإن وُجِد في المجتمع المسلم؛ فالضِّدُّ يظهر حسنه الضدُّ، وبضدِّها تتبيَّن الأشياء.
يقول شيخ الإسلام/ محمد بن عبدالوهاب - رحِمه الله رحمة واسعةً، وطيَّب ربي ثراه -: "فأهم ما فيها – أي: الجاهلية - وأشدها خطرًا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنِ انضاف إلى ذلك استِحْسان ما عليه أهل الجاهلية تمَّت الخسارة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 52][15].
ولقد أحصى - رحِمه الله - مائةً وعشرين مسألة خالف فيها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أهل الجاهلية[16]، ومن هذه المسائل ما هو موجود في أمة الإسلام، بل هناك مسائل فاق فيها المسلِمون أهل الجاهلية قديمًا، كاتخاذ القبور مساجد، واتخاذ السرُج على القبور، واتِّخاذ الأعياد الَّتي لم يأْذَن بها الله، والذَّبح لغير الله، والفخْر بالأحْساب والطَّعن في الأنساب والنِّياحة، ومودَّة أهل الكفر وموالاة أهل الشِّرك، والكهانة والسِّحر، بل وصرف العبادة لغير الله، ويوجد بين المسلمين من يجعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكَّل عليهم من دون الله، وما منزلة الأولياء عند العوامّ وجهلة المتصوفة عنَّا ببعيد، وكلها مسائل موجودة في واقع الأمة وجميعها مسائل جاهليَّة.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يوشك أن يهدم الإسلام حجرًا حجرًا من جهل عادات الجاهلية"[17].
وفي الحديث قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومن ادَّعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنَّم))، فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلَّى وصام؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله))[18].
وعند مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حدَّثه قال: ((أربعٌ في أمَّتي من أمْرِ الجاهليَّة لا يتركونَهنَّ: الفخر في الأحْساب، والطَّعن في الأنساب، والاستِسْقاء بالنُّجوم، والنَّاحبة - أو قال: النَّائحة - إذا لم تتُبْ قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليْها سرْبال من قطران ودرع من جرب))[19].
وعن أبي هُريرة - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أربعٌ في أمَّتي من أمر الجاهليَّة لن يدعهنَّ النَّاس: النياحة، والطَّعن في الأحساب، والعدْوى، أجرب بعير فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأوَّل؟ والأنواء: مطرنا بنوء كذا وكذا))[20].
قوله: ((من أمر الجاهلية)) أي: حال كونهن من أمور الجاهليَّة وخصالها[21]، وفي رواية: ((ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام: شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب))[22].
وفي رواية: ((ثلاثة من الكفر)) .... فذكر الحديث[23].
وعند مسلم: ((ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت))[24].
قال الإمام النَّووي - رحِمه الله -: "وفيه أقوال، أصحُّها: أنَّ معناه: هما من أعمال الكفَّار وأخلاق الجاهلية.
والثاني: أنَّه يؤدّي إلى الكفْر"[25].
وعن ابن مسعود: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان ينهى عن النَّعي؛ ((إيَّاكم والنعي فإنه من عمل الجاهلية))[26]، وعن ابن مسعود - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليْس منَّا مَن ضرَب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعْوى الجاهليَّة))[27].
وعن الحسن بن عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنَّه تزوَّج امرأة، فدخل عليه القوم فقالوا: بالرّفاء والبنين، فقال: "لا تفعلوا ذلك؛ فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن ذلك"[28].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قاتل تحت راية عمِّية يغضب لعصبة أو يدْعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقُتِل، فقتلة جاهلية))[29].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء))[30].
فيجب معرفة السنة من البدعة، ومعرفة الخير من الشَّرّ للتَّفرقة بينهما؛ لعدَم الوقوع في الشر، كما فعل حذيفة - رضي الله عنه - فكان يسأل عن الشر مخافةَ الوقوع فيه.
وقد صحَّ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - قولُه: "لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسِبها هدى، ولا في هدى تركَه حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر، وذلك أنَّ السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كلّه وتبيَّن للنَّاس، فعلى الناس الاتباع"[31].
بل تأمَّل معي هذا الحديث الذي قال فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يذهب اللَّيل والنَّهار حتَّى تعبد اللات والعزى))، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظنُّ حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنَّ ذلك تامّ، قال: ((إنَّه سيكون من ذلك ما شاء الله))[32].