حكاية ناي ♔
01-22-2024, 04:08 PM
ثالثًا: أدلَّة تتجلَّى من خِلال الواقع:
"الإنسان مكوَّن - كما يخبرنا العليم الخبير - من قبضةٍ من طين الأرْض ونفخةٍ من رُوح الله، فإذا كفر الإنسان وألْحد فقد أغلق النَّافذة التي يستمدُّ منها النُّور، ولم يبقَ له إلا عتامة الطين وغلاظة الحس؛ أي: لم يبق له إلا الماديات والمحسوسات، إليها يتطلع وفيها ينفق الجهد وإليها يعود، وعندئذ تجذبه ثقلة الأرض فلا يستطيع أن يتوازن إزاءها؛ لأن الذي يمنحه التوازن إزاءها هو انطلاقة الروح التي تصل قلبه بالله، وتجعله يؤمن باليوم الآخر ويعمل حسابه فى جميع أفعاله وأقواله فلا يسفل ولا يتدنى، فإذا فقدها فقَدَ توازنه وأصبح أسفل سافلين؛ كما يخبر الله عنْه في كتابِه الكريم"[1].
وتبعًا لهذه الازدواجية تختلِف القيم والمعايير، ويكون لكلّ من الإسلام والجاهليَّة معالم.
مثال: العفاف والفجور كلّ منهما يدل على معلم من معالم التجارب الإنسانية، فالعفاف هو ذرْوة الفضائل في معالم التَّجربة الإسلاميَّة.
والفجور أهمّ معالم التَّجربة الجاهليَّة مطلقًا، فكان المعْلم الأوَّل وهو "العفاف" والدعوة إليه دليلاً على صِدْق النبوَّة عند هرقل[2]، وفي قول أبي سفيان - رضي الله عنه -: "أمرَنَا بالصَّلاة والصّدق والعفاف"[3]، تستشعر القيمة العليا لتلك الحقيقة.
وكان الأمر بالعفاف في نص البيعة على الإسلام: ((بايعوني على ألاَّ تُشْرِكوا بالله ولا تزْنوا))[4]، وكان أوَّل أعمال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في المدينة بعد بناء المسجد هو إقامة حدِّ الزِّنا على يهوديَّين بمقتضى حكم التوراة، وكذلك كان أوَّل أوامر للنَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في مكَّة بعد فتحِها قوله: ((لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان))[5].
وأمَّا معْلم الجاهليَّة - الفجور - فهو: الوجه المخالف للعفاف؛ لأنَّ أهمَّ معالم الجاهلية "العرْي والعهْر والزنا"؛ ولذلك كان الهدف الأسمى لأيّ جاهليَّة هو العمل على انتِشار الفوضى بين الرّجال والنساء، وتلك هي علاقة الشيطان بالجاهليَّة.
ولذلك قال ابنُ عبَّاس - رضِي الله عنْهما -: "لَم يكفُر مَن مضى إلاَّ من قبل النّساء – أي: بسببهنَّ - ولا كفر مَن بقي إلاَّ من قِبَل النّساء".
وقال أيضًا: "الشيطان من الرجُل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاث: في بصرها وقلبها وعجزها"[6].
يقول فضيلة الشَّيخ محمَّد المنجد - حفظه الله -: "فالقضيَّة كلها تدور على الإغْراء والإغواء بالمرأة"[7].
إنَّ نقطة تحوّل المجتمع من مجتمع أخلاقي إلى مجتمع جاهلي مع الاحتفاظ بتلك العبادة والتَّقاليد الإسلامية، وبقائه على قول: "لا إله إلا الله" - هي انتشار الفوضى الجنسيَّة؛ ولذلك جاء التَّحذير الصَّريح في الحديث الصَّحيح: ((اتَّقوا الدنيا واتَّقوا النساء؛ فإن أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[8]؛ وذلك لأنَّ الجاهلية تحارب "وجود أي قيمة أخلاقية"[9].
وهذا يفسّر لنا سرَّ انتشار الانحراف؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على رجال أمَّتي من نسائها))[10].
قال العلامة صدّيق حسن خان - رحِمه الله - في كتابِه "حسن الأسوة": "ووجه كونهنَّ فتنة لأنَّ الطباع تميل إليهنَّ كثيرًا، وتقع في الحرام لأجلهنَّ، وتسعى للقِتال والعداوة بسببهنَّ، وأقلّ ذلك أن ترغِّبه في الدنيا وإفسادها أضرّ"[11].
وقال الحافظ ابن حجر - رحِمه الله -: "ومع أنَّها ناقصة العقل والدّين فإنَّها تحمِل الرجال على تَعاطي ما في تَعاطيه نقصُ العقل والدين، كشغْلهم عن طلب أُمور الدين وحمْلِهم على التَّهالُك على طلَب أمور الدنيا".
ومن أسباب كوْن المرأة فتنة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((المرْأة عورة))، كلُّها عورة لم يستثْنِ وجهًا ولا كفَّين أمام الرّجال، ((فإذا خرجتِ استشرفها الشَّيطان)).
قال المباركفوري - رحِمه الله -: "أي: زيَّنها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغْوِيها ويغوي بها، فيجعلها هدفًا منصوبًا ملفتًا لينظر إليها الرّجال، فهي وسيلته لإغواء الناس".
يقول رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية))[12].
يقول الأستاذ المودودي - رحمه الله - في كتابة "الحجاب" تحت عنوان "فتنة الطيب": "والطيب رسول من نفس شريرة إلى نفس شريرة أخرى - يريد: إذا كان العطر من المرأة في الطريق - وهو ألطف وسائل المخابرة والمراسلة ممَّا تتهاون به النظم الأخلاقية العامَّة - يريد: غير الإسلامية - ولكن الحياء الإسلامي يبلغ من رقَّة الإحساس ألا يهْمل حتَّى هذا العامل اللَّطيف من عوامل الإغراء، فلا يسمح للمرأة المسلمة أن تمرَّ بالطُّرق أو تغشى المجالس متعطِّرة؛ لأنَّها وإن استتر جمالُها وزينتها ينتشر عطرها في الجوّ ويحرك العواطف"[13].
فهذا الانحراف الجنسي هو الخطر الأكبر على رجال الإسلام خاصة؛ لأن الرجال هم طاقة الدعوة[14].
وكذلك بين الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّ الزّنا جريمة الكيان الإنساني كلِّه؛ فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والقدم تزني وزناها المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه))[15].
"وبمعنى هذا الحديث يتأكَّد لنا أنَّ الانحراف الجنسي يستهلك ويهدم الشخصية الإنسانية، ومن هنا كان حدّ الزّنا هو الرجْم بمعناه المباشر، وهو إنْهاء وجود هذا الكيان المنحرف، وخطر الجنس باق أيضًا باعتبار أنَّه يتحوَّل إلى طاقة للتحرّك بأيّ قضيَّة باطلة يعتنقها الإنسان المنحرف، ومن هنا كانت الغريزة الجنسيَّة هي الطاقة الأساسيَّة للحركة الجاهليَّة"[16].
والذي يؤكد هذه الحقيقة هو دفْع النساء المشركات للرجال المشركين لقتال المسلمين في غزوة أحد بقولهنَّ:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ
هذا التَّصريح الجنسي هو حقيقة الجاهلية، التي تجعل المكافأة لأي عمل هو الجنس؛ ولذلك جاء المقياس الصحيح للوضع الاجتماعي الأمثل في سيرة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكأن السيرة هي الحماية من هذا الضغط الجنسي الجاهلي وتلك الفوضى الأخلاقية والدعوة لثقافة الجسد العاري، ففهم السيرة وفق النمط الصحيح من خلال رجال السيرة "أصحاب الرسول" يعلمنا كيفية الحماية من الانحراف، والدليل على أنَّ الجاهلية تركز على الجنس كقضيَّة أساسيَّة هو:
1- تفريغ الشباب عقائديًّا، فلا توجد في حياته قضيَّة مثالية يعيش لها؛ بمعنى: فقد القدوة المُثلى مع وجود قدوات أخرى تعمل في نفس المقتدي بالهوى والأماني، فتوافق شهواته ورغباته.
2- إشغاله بقضية الحبّ الجاهلي؛ لتصبح هذه المحبوبة هي القضية الكبرى له، يعيش من أجلها ويتعذَّب من أجلها ويبكي من أجلها، مع تصوّر أنَّ الحبَّ هو القيمة الأعلى للجنس، مع أنَّ "الجنس والحبّ لم يكونا أبدًا توءمين"[17].
3- التصور الإسلامي الصَّحيح ومن خلال نتاجه الفكري الضَّخم يعدّ معضلة هائلة للسلْطة الجاهلية، حيث لا توجد لها قوة فكرية مقابلة، اللهُمَّ إلا نظريات مهترئة يعلم أهل السلْطة هزالها وسطحيَّتها، وعدم مقاومتها ولو هنيهة إذا قارن العقل البشري بيْنها وبين الفكر الإسلامي، بل وإذا نقدها فقط بمنطق الفطرة وبداهة الحق والاعتدال، ولكنَّهم مع ذلك ينشرون هذه الأفكار ويُحيون الغابر منها معتمدين على الضَّوضاء الإعلاميَّة، وكثرة التكرار لتصيد مَن تصيد من ناحية، وبتغييب الإنسان في الفقر والمجاعات من ناحية أخرى؛ حتَّى لا يقوى عقله على النقد، وإن نقد استنفدت طاقته في المعاش، فيبقى نقدًا فاقدًا للحركة والبناء الفكري والاجتماعي، ولكن كل ذلك لا يصل بالجاهليَّة إلى عمق القلوب كما يصل الإسلام إلى عمقها، والإسلام يصل بفكره إلى القلوب عن طريق العقل، ولكن الجاهلية لا تقوى على ذلك، فتلجأ إلى الدخول إلى القلوب عن طريق غير عقله - وهو الجنس - حيث يعد الانحراف الجنسي عنصرًا أساسيًّا في الحفاظ على الحكم الجاهلي من ناحيتين:
الأولى: عدم قدرة الإنسان الواقع في منهج الانحلال وفلسفة الحب الجاهلي على القيام برسالة الإسلام؛ لأنَّ الجنس يشمل كيان الإنسان كله بخلاف الغرائز والميول الأخرى، فإذا كان غير إسلامي كان كيان الإنسان كله غير قادر على القيام لله وللإسلام، وقد جعله الله سبيلاً سيئًا؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]؛ أي: إنه ليس عملاً فقط؛ ولكنَّه قد يكون منهجًا وسبيلاً وطريقة حياتية.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في التَّعليق على هذه الآية: "جعل الله - سبحانه وتعالى - سبيل الزّنا شرَّ سبيل؛ فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل، ومستقرّ أرواحهم في البرزخ في تنّور من نار تأتيهم فيها من تحتهم، فإذا أتاهم اللهب ضجّوا وارتفعوا ثمَّ يعودون إلى موضعهم، فهُم هكذا إلى يوم القِيامة كما رآهم النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في منامه، ورُؤى الأنبياء وحي لا شكَّ فيها"[18].
ويقول الشَّيخ محمود مهدي الإستانبولي - رحمه الله -: "وقد شدد الإسلام حرصًا على كيان الأسرة عقوبة الزاني المحصن، وهي شريعة التوراة كما هي شريعة الإسلام، فما بال أعداء الإسلام يتَّهمونه بالقسوة في هذه العقوبة ولا يتهمون غيره؟! مع أنَّه جعل لها شروطًا دقيقة لا يتَّسع المقام لذكرها لتكون رادعة".
وقد سئل الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي عن حكمة رجْم الزَّاني المحصن ومثله الزَّانية، فأجاب في كتابه "وحي القلم": "لأنَّه هدم بيت؛ فيجب أن يقتل بحجارته؛ لأنَّه لا داعي إلى هذا الزِّنا ولا مبرِّر، فالرَّجل والمرأة اختار كلٌّ منهما الآخر بملء حرّيَّته"[19].
يقول الإمام ابن القيم - رحِمه الله -: "والزِّنا يجمع خلال الشَّرّ كلَّها من قلَّة الدّين وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلَّة الغيرة، فالغدْر والكذِب، والخيانة وقلَّة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأنَفة للجرم، وذهاب الغيرة من القلب - من شعبِه وموجباته.
ومنها الوحشة التي يضعها الله - سبحانه وتعالى - في قلب الزاني، ومنها ضيق الصدر وحرجه، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذَّة والسُّرور، وانشِراح الصدر وطيب العَيش لرأى أنَّ الذي فاته من اللذَّة أضعاف ما حصل له، مع ربح العافية والفوْز بثواب الله وكرمِه، ومنها أنه يعرض نفسه لفوات الاستِمْتاع بالحور العين في المساكن الطيِّبة في جنَّات عدن"[20].
وقد أخبرنا الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن زنا العَين والسَّمع واليد والرِّجل والنفس، وهذا دليل على شمول هذه الحالة لكيان الإنسان.
الثانية: أنَّ ممارسة الحب الجاهلي تكون من خلال منهج اجتماعي وسياسي يسمونه "الحرية"، ويتشرَّب قلب الإنسان نظرية الحريَّة هذه لا عن طريق العقل؛ ولكنَّها تكون مغموسة ومندسَّة في حلاوة الانحراف ولذاذة الحبّ المحرَّم، وكلَّما مارس الانحراف مارس معه ضرورة "الحريَّة"، فتتحوَّل هذه الحريَّة في قلبه إلى عقيدة اجتماعيَّة، عنها ينافحُ منافحتَه عن عمره الجميل وصباه الباكر وغير الباكر، ولك أن تلاحظ اهتِمام بعض الحكَّام بإيصال الكهرباء في نصف القرْن الغابر إلى كلّ بقعة تقع تَحت حكْمِه ليصلَ بالتلْفاز إليْها، ولك أن تلاحظ الجاهليّين في ترْكيا وهم يحرصون على رفْض الحجاب في الجامعات حتَّى تنفض المستقيمات عن الجامعات، وتظلّ النّخبة الفاعلة في المجتمع من المؤمنات بالنَّظرية الجاهليَّة "الحرية"، وقرأت لبعضهم وقد اختار أن يتحدَّث عن استشهاديَّة فلسطينيَّة متبرِّجة، فاختار المتبرِّجة وحكى حوارها مع حبيبها في الهاتف قبل أن تفجر نفسها، وكأنَّه كان حاضرًا معهما وإن كانا متباعدين.
واليوم يخصصون مدنًا بأكملها لغير المختمرات، حيث يوجد النوابغ والنُّخبة الجادّين المنحلّين من الالتزام الإسلامي، ولك أن تندهش من إصْرار أمريكا على الدّفاع عن حقوق الشواذّ في بلاد الإسلام، بل وانزِعاج الغرْب من حالة زنا كان سيطبَّق عليْها حكم الرجْم في ماليزيا، وقام العالم على قدَم وساق لمنعها.
وإذا أردت أن تعرف خطورة الأمر فتأمَّل الأعداد الكبيرة المتظاهرة في تركيا رفضًا للحِجاب في الجامعات؛ حفاظًا على علْمانية الدولة؛ أي: حفاظًا على نمط حياة كلّ فرد منهم وعشقه لمرحلة سابقة من حياته، تشرَّب فيها الإيمان بالحرية العلْمانيَّة، وتزداد معرفتك إذا تنبَّهتَ أنَّ هؤلاء المتظاهِرين والمتظاهرات مسلمون ومسلِمات.
"واعترافنا بالحب كحقيقة إنسانيَّة واقعة إنَّما هو اعتراف مجرَّد من أي مدلول له في الواقع الجاهلي، وهذا التحفظ في غاية الأهمية؛ إذ إنَّ الحب في الواقع الجاهلي ما هو إلا ظاهرة من ظواهر الانحراف الجاهلي؛ وذلك لأنَّ الحب الجاهلي (ما هو إلاَّ محاولة لملء فراغ الإنسان الجاهلي وإثبات ذاته)؛ لأنَّ الجاهلية (في حقيقتها) واقع فراغ فكري ووجداني، وخطورة إثبات الذَّات من واقع الفراغ على علاقة الإنسان بالدَّعوة تأتي باعتِبارها استهلاكًا للخصائص الطبيعيَّة في الإنسان، والَّتي تحقّق فيه إمكانيَّات تحمل تكاليف الرِّسالة، وهي إمكانيَّات قائمة في كل إنسان، حيث إنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان مهيأً بتلك الخصائص لأن يكون صاحب رسالة، ودلائل هذه الإمكانيات هي: القدرة على الحياة بقضية الرسالة وتصور الوجود من خلال تلك القضية، والقدرة على مواجهة أي واقع مخالف لهذا التصور[21].
وعندما يحب الإنسان الجاهلي من الفراغ فإنَّه بهذا الحب ينطلق نحو مَن أحبَّها بخصائص الرسالة الكامنة فيه؛ لأنه يعيش بلا قضية، فتتحوَّل تلك التي أحبها إلى قضيته التي يحيا بها، ويتصوَّر الحياة من خلاها، ويسعى إلى الارتباط بها محطمًا في سبيل ذلك أي عقبة، وآثار الحب في الواقع الجاهلي هي الدليل على هذه الظاهرة، فعندما يمارس الجاهلي حبًّا فإنه يحب إلى حدّ العبوديَّة، وعندما يفشل في حبه فإمَّا أن يصاب بالجنون بعد طغيان إحساسه بمن أحبها على عقله وواقعه، أو يصاب بالانطِواء كصورة من صور الكفر بمبدأ "العلاقة" بعد فشله في علاقته بمن أحبها، أو ينتحِر كصورة من صور الرفض لحياته التي كان لا يتصوَّرها إلاَّ من خلال علاقته التي فشلت، وهذه هي الآثار الأساسية للحب في الواقع الجاهلي، وبذلك يكون الخطر الحقيقي على الإنسان عندما يمارس حبًّا جاهليًّا هو عجزه تمامًا عن أن يكون صاحب رسالة.
واعترافنا بالحبّ كحقيقة إنسانية واقعة، وتجريد هذا الاعتراف من أي مدلول له في الواقع الجاهلي يقتضي أن نناقش حالة خطيرة في حياة الدعاة، وهي دخول الإنسان في واقع الدعوة وهو يحمل في قلبه حبًّا قد بدأه في الجاهلية، ولم يتمكَّن من التخلص منه بعد دخوله واقع الدعوة، وهذه الحالة لها ثلاث نتائج مؤكَّدة:
أوَّلاً: إما أن تكون هذه المشاعر أساسًا للدعوة من الطرف المسلم في العلاقة إلى الطرف الآخر للالتزام.
ثانيًا: وإمَّا أن تكون هذه المشاعر فتنةً للطرف المسلم في العلاقة عن دعوته ودينِه.
ثالثًا: وإمَّا أن تنتهي هذه العلاقة.
وهذا يعني أنَّ التفكير في إنهاء العلاقة إنَّما يكون بعد محاولة تحقيق النَّتيجة الأولى وهي الدعوة، وحذرًا من الوقوع في النتيجة الثانية وهي الفتنة، ونتفق ابتداءً على أنَّ الإيمان الصحيح يحمي صاحبه من الفتنة، ولكن يجب أن نتفق كذلك على أنَّ الأمر يتطلب معالجة وجدانية مباشرة، ذلك أن الإيمان الصحيح يحقق غلبة الالتزام من حيث السلوك، ولكن المشاعر تظل باقية"[22].
"إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير .... تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيدًا عن ذلك الظل الوارف الندي، ومن ثم تجد الشَّقاء والقلق والحيرة والاضطراب، وتحس الخواء والجوع والحرمان"[23].
"فالبشريَّة اليوم تقف على حافة الهاوية بسبب إفلاسها في عالم القيم، التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانيَّة في ظلالها نموًّا سليمًا وتترقى ترقِّيًا صحيحًا"[24].
فالجاهلية تسير في طريقها الشاق الذي اختارته لطمس الحق وانتشار الظلام؛ لذلك عملت على جعل الجنس يبلغ أعظم تأثير له في الكيان الإنساني، فاتَّجهت بهذا العمل إلى التعويض أو البديل فارتكزتْ كل جاهلية على ظاهرة التعويض أو البديل، فكان الجنس هو طرف التَّعويض عن الدين والانشغال التَّامّ عن القيام بحقيقة هذا الدين وحقيقة العبوديَّة؛ ليشغل الجنس موضع التأثير العميق في النفس الإنسانية.
"فكما كانت العبادة هي العلَّة الغائية للوجود الإنساني، كان الجنس هو العلة السببية لهذا الوجود؛ بمعنى: أنَّ العبادة غاية والجنس سبب، وكما كان الخروج عن الصورة الصحيحة للعبادة خروجًا عن (الغاية الأساسية) للإنسان، كان أيضًا الخروج عن (الصورة) الصَّحيحة للجنس هو خروج عن (الفطرة) الإنسانيَّة[25].
ولذلك "كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يؤكّد هذا التوافق، فكان يصلي في فراش عائشة، وكان يقول: ((حبِّب إليَّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
وبذلك يثبت التجانس بين العبادة والجنس؛ ولذلك كانت العبادة والجنس هما المعيارين الأساسيين في تكوين الشخصية الإنسانية؛ ولكن "الجاهلية" عندما أرادت إلغاء جانب العبادة في تكوين الشخصية الإنسانية كان لا بدَّ لها أن تستبدل العبادة بالشَّهوة والفاحشة، لينشأ التضادّ الذي يذهب بالعبادة، فكانت الخطوة الأولى هي ما جاء في قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
ومن هنا نشأ التضادّ بين العبادة والجنس عندما يكون انحرافًا وفاحشة، وكان ذلك تفسير قول الله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، وبذلك يضيع المعنى الإنساني للمعاشرة الزوجية الصحيحة حيث يتحوَّل الإنسان بالفاحشة إلى الدرك الحيواني؛ كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فتبقى فئة تقذرُها نفس الله يتسافدون تسافُد الحمُر)).
فكلٌّ من العبادة والجنس استيعاب كامل لكيان الإنسان؛ فمن حيث العبادة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا قام للصلاة كما عند الإمام مسلم من حديث عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة قال: ((وجَّهتُ وجْهي للَّذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريكَ له وبذلك أُمِرْت وأنا أوَّل المسلمين، اللَّهُمَّ أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفْسي واعترفتُ بذنبي، فاغفِرْ لي ذنوبي جميعًا إنَّه لا يغفِر الذُّنوب إلا أنت، واهْدني لأحسنِ الأخلاق لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيِّئَها لا يصرف عنِّي سيِّئها إلاَّ أنت، لبَّيك وسعديْك والخير كلّه في يديْك والشَّرّ ليس إليك، أنا بك وإليْك تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك))، وإذا ركع قال: ((اللهمَّ لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي))، وإذا رفع قال: ((اللهمَّ ربَّنا لك الحمد ملْء السَّماوات وملء الأرض وملْء ما بيْنهما، وملء ما شِئْتَ من شيء بعد))، وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدتُ وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجْهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسنُ الخالقين))، ثمَّ يكون من آخر ما يقول بين التشهُّد والتَّسليم: ((اللهمَّ اغفِر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت))[26].
فيتبيَّن أنَّ حقيقة العبادة استيعاب للكيان الإنساني بصورة كاملة.
فإذا جئنا إلى الجنس فإنَّنا نستدلّ على هذا الاستيعاب بالحكم الشَّرعي المترتّب على الزّنا وهو الرجم، حيث يشمل هذا الحكم الكيان الإنساني كلَّه، وحتى لو ستر الله العبد فلم يقم عليه الحدَّ، إنَّ الدليل على استيعاب الفعل لكيان الإنسان هو أن يرفع عنه الإيمان حتَّى يصير مثل الظلة؛ لأنَّه لا مكان للإيمان في كيان الإنسان وقت الوقوع في الفاحشة، ويرد إليه الإيمان كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((والتوبة معروضة بعد))[27].
ويتضمَّن معنى الاستيعاب معنى العمق؛ حيث يمثل كل من العبادة والجنس أبعد عمق في كيان الإنسان، وأعمق بُعد هو الاطمئنان؛ لأنَّ الاطمئنان هو المستقرّ، والاطمِئْنان مقدمة العبادة؛ {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
والاطمئنان أثر العبادة؛ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22].
والاطمئنان مقدمة للمعاشرة الزوجية وأثر لها؛ {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وبذلك يتم تفسير العلاقة بين العبادة والجنس كحقيقة ثنائيَّة في النفس البشرية، وهنا تدخلت الدراسة الجاهلية للنفس البشريَّة فدمَّرت خطّ العبادة الصحيحة، واستبدلت به الجنس تفسيرًا للسلوك الإنساني[28]؛ ولذلك فإنَّ "أي واقع اجتماعي تتسلَّل إليه الفوضى الجنسيَّة لن يكون له بقاء صحيح ....... فالانحراف الجنسي بداية حقيقيَّة لتحوّل الأمة إلى الفساد"[29].
يقول فضيلة الشيخ عبدالحميد كشك - رحمه الله -: "ولا شكَّ أنَّ ضرر عقوبة الزنا لا توزن بالضَّرر الواقع على (الزاني وإنَّما توزن بالضَّرر الواقع على) المجتمع، من إفشاء الزّنا ورواج المنكر وإشاعة الفحش والفجور[30].
إنَّ عقوبة الزّنا إذا كان يضارُّ بها المجرم نفسه، فإنَّ في تنفيذها حفظ النفوس وصيانة الأعراض، وحماية الأسر التي هي اللَّبِنات الأولى في بناء المجتمع، وبصلاحِها يصلح وبفسادها يفسد.
إنَّ الأمم بأخلاقها الفاضلة وبآدابها العالية ونظافتها من الرجْس والتلوّث، وطهارتها من التدلي والتسفُّل"[31].
ومن ثم أصبح الضغط الجاهلي للجنس هو السَّائد؛ لأنَّه من مظاهر الجاهليَّة التي "تفترس الإيمان في كل قلب وتنهش الفطرة في كل جسد"[32].
هذا المظهر أدَّى إلى انتشار سلبية المجتمع؛ ولذلك كانت "السلبيَّة في مواجهة الانحراف تعتبر بذاتها دعوة إلى الانحراف"[33].
فالذي نراه من ضعف غيرة الرجال[34] يؤدّي إليه السلبيَّة الكاملة في مواجهة هذا الانحراف، وتلك من أهم صفات أهل الجاهليَّة، ولكنهم لا يأْبَهون ولا يهتمّون كثيرًا بانحراف زوجاتِهم وبناتهم، فيصبح المجتمع ذا صبغة منحرفة، "والمجتمع المنحرف لا يقبل بطبيعته وجود أي قيمة أخلاقيَّة فيه، فيكون الرَّفض الجاهلي للأخلاق"[35].
ولنا في قصَّة لوط - عليْه السَّلام - المثل في ذلك، فإنَّ قوم لوط مجتمع منحرف جاهلي، ولوط - عليه السلام - وبناته مجتمع عفيف إسلامي، فكان الفصْل بيْنهما هو النتيجة الحتمية؛ إذْ لا تعايُش بينهم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 82]، {فمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56][36].
يقول الشَّيخ/ محمد قطب عن المرأة المعاصرة: "أمَّا كوْنها ألعوبةً في يد الشَّيطان يلهب بها الشَّهوات ويحرق كيانَها الذَّاتيَّ في بوتقتِها، فتخرج هي الخاسرة في النهاية رغْم كل "مكاسبها" - فأمر واضح لأصحاب العقول، وإن جادلَ فيه الغارقون والغارقاتُ في مستنقع الشَّهوات"[37].
ويقول الأستاذ/ محمَّد الغزالي: "ونحن نعرِف أنَّ المرأة في أوربَّا وأمريكا اشتغلتْ بالمصانع والحقول والشَّركات والجامعات، لكن حصاد اللّقاء البعيد عن معرفة الله واتّباع شرائعِه كان مرًّا"[38].
وتقول الكاتبة اللادى كوك: "إنَّ الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر الاختلاط تكون كثْرة أولاد الزِّنا، ولا يَخفى ما في هذا من البلاء العظيم على المرأة.
فيا أيُّها الآباء: لا يغرَّنَّكم بعض دريهمات تكسبها بناتُكم باشتغالهنَّ في المعامل ونحوها ومصيرهنَّ إلى ما ذكرنا، فعلِّموهنَّ الابتعاد عن الرجال، إذ دلَّنا الإحصاء على أنَّ البلاء الناتج عن الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر الاختلاط بين الرجال والنّساء، ألم ترَوْا أنَّ أكثر أولاد الزِّنا أمهاتُهنَّ من المشتغلات في المعامل ومن الخادمات في البيوت، ومن أكثر السيِّدات المعرَّضات للأنظار.
ولولا الأطبَّاء الذين يُعْطون الأدْوية للإسقاط لرأيْنا أضعاف ما نرى الآن، ولقد أدَّت بنا الحال إلى حدٍّ من الدَّناءة لم يكن تصوُّره في الإمكان حتَّى أصبح رجال مقاطعات في بلادنا لا يقبلون البنت ما لم تكن مجرَّبة؛ أعني: عندها أولاد من الزنا، فينتفع بشغلهم؛ وهذا غاية الهبوط في المدينة، فكم قاست هذه المرأة من مرارة الحياة حتَّى قدرت على كفالتهم! والذي اتَّخذته زوجًا لها لا ينظر لهؤلاء الأطفال ولا يتعداهم بشيء يكون، ويلاه من هذه الحالة التعيسة! ترى مَن كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والفصال ومرارته"[39].
ويقول ول ديورانت: "كان علماء اللاهوت قديمًا يتجادلون في مسألة لَمس يد الفتاة أيكون ذنبًا؟ أمَّا الآن فلنا أن ندهش ونقول: أليْس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبِّلها؟! لقد فقد النَّاس الإيمان وأخذوا يتَّجهون نحو الفِرار من الحذر القديم إلى التَّجربة الطَّائشة"[40].
"إنَّ العرْيَ فطرةٌ حيوانية ولا يَميل الإنسان إليه إلاَّ وهو يرتكِس إلى مرتبة أدْنى من مرتبة الإنسان، وإنَّ رُؤية العري جمالاً هو انتِكاس في الذَّوق البشري قطعًا"[41].
وماذا تصنع الجاهليَّة الحاضرة بالنَّاس إلاَّ تعرِّيهم من اللباس، وتعرّيهم من التقوى والحياء؟! ثمَّ تدعو هذا رقيًّا وحضارة وتجديدًا، ثمَّ تعيِّر الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات بأنهنَّ رجعيَّات تقليديَّات ريفيَّات"[42].
ونقل ابن الجوزي - رحمه الله - بسند صحيح إلى حسن بن صالح قال: سمعت أنَّ الشَّيطان قال للمرأة: أنت نِصْفُ جُندي، وأنت سهْمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سرِّي، وأنت رسولي في حاجتي"[43].
ولذلك قلنا: إنَّ الفوضى الجنسيَّة من العلامات التي تفرّق بين كون المجتمع مجتمعًا إسلاميًّا وآخر جاهليًّا، ولذلك تركز الجاهلية تركيزًا شديدًا على وضْع المرأة باعتبارها أداة ووسيلة لها، حتَّى إنَّ تشابُه الجاهليَّة القديمة والمعاصرة والتي ستوجد في آخر الزَّمان تعود بنفس الكيفية.
فعَن أبي هُريْرة - رضِي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((لا تقومُ السَّاعة حتى تضطرب أليات نساء دوْس على ذي الخلصة))، وذو الخلصة طاغية دوس الذي كانوا يعبدونه في الجاهلية[44] فهذه إشارة إلى عودة الصنميَّة.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "والمراد من الحديث: أنَّ أليات النساء يضطرِبْن من الطواف حول ذي الخلصة؛ أي: يكفرون ويرجعون إلى عبادة الأصنام وتعظيمها"[45].
فهذا الوصف النبوي الدقيق يؤكّد تشابُه الجاهليَّة وعودتها عودة المثليَّة بكلِّ ما فيها، وأنَّها ستكون كما كانت.
هذه المثليَّة وهذا التشابُه الذي بيَّنه رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يوضِّح لنا مدى ترْكيز الجاهليَّة على المرأة، وتأمَّل ذلك الاختِلاط بين الطَّلبة والطَّالبات وقصص الحب الواهية التي تشغل عليهم كيانهم، حتَّى يتخلَّل هذا العشق المحرم الفكر والمشاعر والوجدان، فلا شيءَ غير التَّفكير في لقاء أو مكالمة أو ما شابه ذلك.
هذا التدهْور والانحِطاط في عالم القِيم تظنُّ من خلاله أنَّ المجتمع لا رصيد له من القيم والفضائل؛ ولذلك كانت الجاهلية نظامًا واحدًا؛ دليلُ ذلك ما رواه البخاري - رحمه الله -: "فلمَّا بعِث محمَّد بالحق هدم نكاح الجاهلية"، فتأمَّل كيف عاد نكاح الجاهليَّة لواقع الأمَّة المسلمة: "الزَّواج العرفي - المتعة - الوهبي - زواج التيك أواي".
ومن الأحاديث الدالة على عودة الجاهلية قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى تلحق قبائل من أمَّتي بالمشركين وحتَّى يعبدوا الأوثان))[46].
وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله))[47].
وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن عيسى - عليه السَّلام -: ((فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصَّليب ويقتل الخنزير))[48]؛ لذلك كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا وجد تصاليب نقضها؛ تقول أمُّنا عائشة - رضِي الله عنْها -: "ما وجد رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تصاليب إلا نقضها"[49].
وقوله - عليه الصلاة والسَّلام - لعدي بن حاتم حين دخل عليه وفي عنُقه صليب: ((يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن))[50].
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا منعتِ العراق درهَمَها وقفيزها [مكيال أهل العراق]، ومنعت الشأم مُدْيَها [مكيال أهل الشأم] ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتُم من حيث بدأتم، وعدتُم من حيث بدأتم، وعدتُم من حيث بدأتم)) شهِد على ذلك لحم أبي هُريرة ودمه"[51].
ويشهد لهذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ))؛ لأنَّ غربة الإسلام متعلِّقة بأكثريَّة أهل الجاهليَّة، وتسلّط أهل الكفر؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((تقوم السَّاعة والرُّوم أكثر النَّاس عددًا))[52].
فأحاديث عودة الجاهلية والتحذير في الوقوع بشيء منها والتلبس بها - كثيرة؛ ولذلك فإنَّ أكثر من يتبع الدجَّال النساء واليهود؛ لدعوته بدعوى الجاهلية، وهذان الصنفان أحْرص الناس على عودة الجاهلية.
"إنَّ الجِنْس جزء جوهري من كيان المرء، هبة بواسطتها تنال الحياة أعمق وأدقّ خبرة جسميَّة في الحياة وأوْفاها استغراقًا"[53]، ولكن الجاهلية جعلت الجنس في ذاته هدفًا من أهداف الحياة؛ لأنَّ "الجنس منفذ غير عقلي إلى كيان الإنسان"[54].
فأخطر ما في الجاهلية التركيز على الجنس وعودة البغاء؛ لأنَّ "وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولتِه"[55]، "فالميل الجنسي يجب أن يكون نظيفًا بريئًا موجَّهًا إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة"[56].
"فالزنا أخطر مرض من أمراض المجتمعات، إذا ابتليت به أمة ضاعت كرامتها وانحلّت عراها، ودبَّ الضَّعف والخور في أبنائها"[57].
"ويجب أن يستمدَّ النَّاس في الأرض قِيَمَهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السَّماء غير مقيَّدة بملابسات أرضية، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله"[58].
فيجب لنا التَّفرقة بين دعوى الإسلام ودعْوى الجاهليَّة، والنَّظر في سُنَن كليْهِما، فنعرف الفرق بينهما حتى لا نقع في شيء منها وبالتَّالي لا ندعو لها.
فلا بدَّ من أن يُوجد في ضمير المسلم عزلة شعوريَّة وجدانيَّة بين الإسلام والجاهليَّة؛ أي: انفصال عن البيئة الجاهلية.
يقول صاحب الظلال - رحمه الله -: "حتَّى الكثير ممَّا نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًّا، هو كذلك من صنع الجاهلية؛ لذلك لا يستقيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتَّضح تصوّر الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخْمٌ من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أوَّل مرَّة.
ويجب أن نتجرَّد من كلّ مؤثّرات الجاهليَّة التي نعيش فيها ونستمدّ منها.
لا بدَّ أن نرجع إلى النَّبع الخالِص الَّذي استمدَّ منه أولئك الرّجال"[59]، مع "تعرية الجاهليَّة من ردائِها الزَّائف وإظهارها على حقيقتِها"[60].
وأن يعرف المسلِم ذلك حتَّى لا يقع في شيء من أمور الجاهليَّة، وإليك بعضَ أحوال الجاهليَّة وأمورها وخصالها، والحالة التي كان عليها العالم قبل أن يأتينا ذلك النور الهادي، مع مقارنة بالواقع الأليم.
"الإنسان مكوَّن - كما يخبرنا العليم الخبير - من قبضةٍ من طين الأرْض ونفخةٍ من رُوح الله، فإذا كفر الإنسان وألْحد فقد أغلق النَّافذة التي يستمدُّ منها النُّور، ولم يبقَ له إلا عتامة الطين وغلاظة الحس؛ أي: لم يبق له إلا الماديات والمحسوسات، إليها يتطلع وفيها ينفق الجهد وإليها يعود، وعندئذ تجذبه ثقلة الأرض فلا يستطيع أن يتوازن إزاءها؛ لأن الذي يمنحه التوازن إزاءها هو انطلاقة الروح التي تصل قلبه بالله، وتجعله يؤمن باليوم الآخر ويعمل حسابه فى جميع أفعاله وأقواله فلا يسفل ولا يتدنى، فإذا فقدها فقَدَ توازنه وأصبح أسفل سافلين؛ كما يخبر الله عنْه في كتابِه الكريم"[1].
وتبعًا لهذه الازدواجية تختلِف القيم والمعايير، ويكون لكلّ من الإسلام والجاهليَّة معالم.
مثال: العفاف والفجور كلّ منهما يدل على معلم من معالم التجارب الإنسانية، فالعفاف هو ذرْوة الفضائل في معالم التَّجربة الإسلاميَّة.
والفجور أهمّ معالم التَّجربة الجاهليَّة مطلقًا، فكان المعْلم الأوَّل وهو "العفاف" والدعوة إليه دليلاً على صِدْق النبوَّة عند هرقل[2]، وفي قول أبي سفيان - رضي الله عنه -: "أمرَنَا بالصَّلاة والصّدق والعفاف"[3]، تستشعر القيمة العليا لتلك الحقيقة.
وكان الأمر بالعفاف في نص البيعة على الإسلام: ((بايعوني على ألاَّ تُشْرِكوا بالله ولا تزْنوا))[4]، وكان أوَّل أعمال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في المدينة بعد بناء المسجد هو إقامة حدِّ الزِّنا على يهوديَّين بمقتضى حكم التوراة، وكذلك كان أوَّل أوامر للنَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في مكَّة بعد فتحِها قوله: ((لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان))[5].
وأمَّا معْلم الجاهليَّة - الفجور - فهو: الوجه المخالف للعفاف؛ لأنَّ أهمَّ معالم الجاهلية "العرْي والعهْر والزنا"؛ ولذلك كان الهدف الأسمى لأيّ جاهليَّة هو العمل على انتِشار الفوضى بين الرّجال والنساء، وتلك هي علاقة الشيطان بالجاهليَّة.
ولذلك قال ابنُ عبَّاس - رضِي الله عنْهما -: "لَم يكفُر مَن مضى إلاَّ من قبل النّساء – أي: بسببهنَّ - ولا كفر مَن بقي إلاَّ من قِبَل النّساء".
وقال أيضًا: "الشيطان من الرجُل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاث: في بصرها وقلبها وعجزها"[6].
يقول فضيلة الشَّيخ محمَّد المنجد - حفظه الله -: "فالقضيَّة كلها تدور على الإغْراء والإغواء بالمرأة"[7].
إنَّ نقطة تحوّل المجتمع من مجتمع أخلاقي إلى مجتمع جاهلي مع الاحتفاظ بتلك العبادة والتَّقاليد الإسلامية، وبقائه على قول: "لا إله إلا الله" - هي انتشار الفوضى الجنسيَّة؛ ولذلك جاء التَّحذير الصَّريح في الحديث الصَّحيح: ((اتَّقوا الدنيا واتَّقوا النساء؛ فإن أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[8]؛ وذلك لأنَّ الجاهلية تحارب "وجود أي قيمة أخلاقية"[9].
وهذا يفسّر لنا سرَّ انتشار الانحراف؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على رجال أمَّتي من نسائها))[10].
قال العلامة صدّيق حسن خان - رحِمه الله - في كتابِه "حسن الأسوة": "ووجه كونهنَّ فتنة لأنَّ الطباع تميل إليهنَّ كثيرًا، وتقع في الحرام لأجلهنَّ، وتسعى للقِتال والعداوة بسببهنَّ، وأقلّ ذلك أن ترغِّبه في الدنيا وإفسادها أضرّ"[11].
وقال الحافظ ابن حجر - رحِمه الله -: "ومع أنَّها ناقصة العقل والدّين فإنَّها تحمِل الرجال على تَعاطي ما في تَعاطيه نقصُ العقل والدين، كشغْلهم عن طلب أُمور الدين وحمْلِهم على التَّهالُك على طلَب أمور الدنيا".
ومن أسباب كوْن المرأة فتنة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((المرْأة عورة))، كلُّها عورة لم يستثْنِ وجهًا ولا كفَّين أمام الرّجال، ((فإذا خرجتِ استشرفها الشَّيطان)).
قال المباركفوري - رحِمه الله -: "أي: زيَّنها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغْوِيها ويغوي بها، فيجعلها هدفًا منصوبًا ملفتًا لينظر إليها الرّجال، فهي وسيلته لإغواء الناس".
يقول رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية))[12].
يقول الأستاذ المودودي - رحمه الله - في كتابة "الحجاب" تحت عنوان "فتنة الطيب": "والطيب رسول من نفس شريرة إلى نفس شريرة أخرى - يريد: إذا كان العطر من المرأة في الطريق - وهو ألطف وسائل المخابرة والمراسلة ممَّا تتهاون به النظم الأخلاقية العامَّة - يريد: غير الإسلامية - ولكن الحياء الإسلامي يبلغ من رقَّة الإحساس ألا يهْمل حتَّى هذا العامل اللَّطيف من عوامل الإغراء، فلا يسمح للمرأة المسلمة أن تمرَّ بالطُّرق أو تغشى المجالس متعطِّرة؛ لأنَّها وإن استتر جمالُها وزينتها ينتشر عطرها في الجوّ ويحرك العواطف"[13].
فهذا الانحراف الجنسي هو الخطر الأكبر على رجال الإسلام خاصة؛ لأن الرجال هم طاقة الدعوة[14].
وكذلك بين الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّ الزّنا جريمة الكيان الإنساني كلِّه؛ فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والقدم تزني وزناها المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه))[15].
"وبمعنى هذا الحديث يتأكَّد لنا أنَّ الانحراف الجنسي يستهلك ويهدم الشخصية الإنسانية، ومن هنا كان حدّ الزّنا هو الرجْم بمعناه المباشر، وهو إنْهاء وجود هذا الكيان المنحرف، وخطر الجنس باق أيضًا باعتبار أنَّه يتحوَّل إلى طاقة للتحرّك بأيّ قضيَّة باطلة يعتنقها الإنسان المنحرف، ومن هنا كانت الغريزة الجنسيَّة هي الطاقة الأساسيَّة للحركة الجاهليَّة"[16].
والذي يؤكد هذه الحقيقة هو دفْع النساء المشركات للرجال المشركين لقتال المسلمين في غزوة أحد بقولهنَّ:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ
هذا التَّصريح الجنسي هو حقيقة الجاهلية، التي تجعل المكافأة لأي عمل هو الجنس؛ ولذلك جاء المقياس الصحيح للوضع الاجتماعي الأمثل في سيرة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكأن السيرة هي الحماية من هذا الضغط الجنسي الجاهلي وتلك الفوضى الأخلاقية والدعوة لثقافة الجسد العاري، ففهم السيرة وفق النمط الصحيح من خلال رجال السيرة "أصحاب الرسول" يعلمنا كيفية الحماية من الانحراف، والدليل على أنَّ الجاهلية تركز على الجنس كقضيَّة أساسيَّة هو:
1- تفريغ الشباب عقائديًّا، فلا توجد في حياته قضيَّة مثالية يعيش لها؛ بمعنى: فقد القدوة المُثلى مع وجود قدوات أخرى تعمل في نفس المقتدي بالهوى والأماني، فتوافق شهواته ورغباته.
2- إشغاله بقضية الحبّ الجاهلي؛ لتصبح هذه المحبوبة هي القضية الكبرى له، يعيش من أجلها ويتعذَّب من أجلها ويبكي من أجلها، مع تصوّر أنَّ الحبَّ هو القيمة الأعلى للجنس، مع أنَّ "الجنس والحبّ لم يكونا أبدًا توءمين"[17].
3- التصور الإسلامي الصَّحيح ومن خلال نتاجه الفكري الضَّخم يعدّ معضلة هائلة للسلْطة الجاهلية، حيث لا توجد لها قوة فكرية مقابلة، اللهُمَّ إلا نظريات مهترئة يعلم أهل السلْطة هزالها وسطحيَّتها، وعدم مقاومتها ولو هنيهة إذا قارن العقل البشري بيْنها وبين الفكر الإسلامي، بل وإذا نقدها فقط بمنطق الفطرة وبداهة الحق والاعتدال، ولكنَّهم مع ذلك ينشرون هذه الأفكار ويُحيون الغابر منها معتمدين على الضَّوضاء الإعلاميَّة، وكثرة التكرار لتصيد مَن تصيد من ناحية، وبتغييب الإنسان في الفقر والمجاعات من ناحية أخرى؛ حتَّى لا يقوى عقله على النقد، وإن نقد استنفدت طاقته في المعاش، فيبقى نقدًا فاقدًا للحركة والبناء الفكري والاجتماعي، ولكن كل ذلك لا يصل بالجاهليَّة إلى عمق القلوب كما يصل الإسلام إلى عمقها، والإسلام يصل بفكره إلى القلوب عن طريق العقل، ولكن الجاهلية لا تقوى على ذلك، فتلجأ إلى الدخول إلى القلوب عن طريق غير عقله - وهو الجنس - حيث يعد الانحراف الجنسي عنصرًا أساسيًّا في الحفاظ على الحكم الجاهلي من ناحيتين:
الأولى: عدم قدرة الإنسان الواقع في منهج الانحلال وفلسفة الحب الجاهلي على القيام برسالة الإسلام؛ لأنَّ الجنس يشمل كيان الإنسان كله بخلاف الغرائز والميول الأخرى، فإذا كان غير إسلامي كان كيان الإنسان كله غير قادر على القيام لله وللإسلام، وقد جعله الله سبيلاً سيئًا؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]؛ أي: إنه ليس عملاً فقط؛ ولكنَّه قد يكون منهجًا وسبيلاً وطريقة حياتية.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في التَّعليق على هذه الآية: "جعل الله - سبحانه وتعالى - سبيل الزّنا شرَّ سبيل؛ فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل، ومستقرّ أرواحهم في البرزخ في تنّور من نار تأتيهم فيها من تحتهم، فإذا أتاهم اللهب ضجّوا وارتفعوا ثمَّ يعودون إلى موضعهم، فهُم هكذا إلى يوم القِيامة كما رآهم النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في منامه، ورُؤى الأنبياء وحي لا شكَّ فيها"[18].
ويقول الشَّيخ محمود مهدي الإستانبولي - رحمه الله -: "وقد شدد الإسلام حرصًا على كيان الأسرة عقوبة الزاني المحصن، وهي شريعة التوراة كما هي شريعة الإسلام، فما بال أعداء الإسلام يتَّهمونه بالقسوة في هذه العقوبة ولا يتهمون غيره؟! مع أنَّه جعل لها شروطًا دقيقة لا يتَّسع المقام لذكرها لتكون رادعة".
وقد سئل الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي عن حكمة رجْم الزَّاني المحصن ومثله الزَّانية، فأجاب في كتابه "وحي القلم": "لأنَّه هدم بيت؛ فيجب أن يقتل بحجارته؛ لأنَّه لا داعي إلى هذا الزِّنا ولا مبرِّر، فالرَّجل والمرأة اختار كلٌّ منهما الآخر بملء حرّيَّته"[19].
يقول الإمام ابن القيم - رحِمه الله -: "والزِّنا يجمع خلال الشَّرّ كلَّها من قلَّة الدّين وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلَّة الغيرة، فالغدْر والكذِب، والخيانة وقلَّة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأنَفة للجرم، وذهاب الغيرة من القلب - من شعبِه وموجباته.
ومنها الوحشة التي يضعها الله - سبحانه وتعالى - في قلب الزاني، ومنها ضيق الصدر وحرجه، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذَّة والسُّرور، وانشِراح الصدر وطيب العَيش لرأى أنَّ الذي فاته من اللذَّة أضعاف ما حصل له، مع ربح العافية والفوْز بثواب الله وكرمِه، ومنها أنه يعرض نفسه لفوات الاستِمْتاع بالحور العين في المساكن الطيِّبة في جنَّات عدن"[20].
وقد أخبرنا الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن زنا العَين والسَّمع واليد والرِّجل والنفس، وهذا دليل على شمول هذه الحالة لكيان الإنسان.
الثانية: أنَّ ممارسة الحب الجاهلي تكون من خلال منهج اجتماعي وسياسي يسمونه "الحرية"، ويتشرَّب قلب الإنسان نظرية الحريَّة هذه لا عن طريق العقل؛ ولكنَّها تكون مغموسة ومندسَّة في حلاوة الانحراف ولذاذة الحبّ المحرَّم، وكلَّما مارس الانحراف مارس معه ضرورة "الحريَّة"، فتتحوَّل هذه الحريَّة في قلبه إلى عقيدة اجتماعيَّة، عنها ينافحُ منافحتَه عن عمره الجميل وصباه الباكر وغير الباكر، ولك أن تلاحظ اهتِمام بعض الحكَّام بإيصال الكهرباء في نصف القرْن الغابر إلى كلّ بقعة تقع تَحت حكْمِه ليصلَ بالتلْفاز إليْها، ولك أن تلاحظ الجاهليّين في ترْكيا وهم يحرصون على رفْض الحجاب في الجامعات حتَّى تنفض المستقيمات عن الجامعات، وتظلّ النّخبة الفاعلة في المجتمع من المؤمنات بالنَّظرية الجاهليَّة "الحرية"، وقرأت لبعضهم وقد اختار أن يتحدَّث عن استشهاديَّة فلسطينيَّة متبرِّجة، فاختار المتبرِّجة وحكى حوارها مع حبيبها في الهاتف قبل أن تفجر نفسها، وكأنَّه كان حاضرًا معهما وإن كانا متباعدين.
واليوم يخصصون مدنًا بأكملها لغير المختمرات، حيث يوجد النوابغ والنُّخبة الجادّين المنحلّين من الالتزام الإسلامي، ولك أن تندهش من إصْرار أمريكا على الدّفاع عن حقوق الشواذّ في بلاد الإسلام، بل وانزِعاج الغرْب من حالة زنا كان سيطبَّق عليْها حكم الرجْم في ماليزيا، وقام العالم على قدَم وساق لمنعها.
وإذا أردت أن تعرف خطورة الأمر فتأمَّل الأعداد الكبيرة المتظاهرة في تركيا رفضًا للحِجاب في الجامعات؛ حفاظًا على علْمانية الدولة؛ أي: حفاظًا على نمط حياة كلّ فرد منهم وعشقه لمرحلة سابقة من حياته، تشرَّب فيها الإيمان بالحرية العلْمانيَّة، وتزداد معرفتك إذا تنبَّهتَ أنَّ هؤلاء المتظاهِرين والمتظاهرات مسلمون ومسلِمات.
"واعترافنا بالحب كحقيقة إنسانيَّة واقعة إنَّما هو اعتراف مجرَّد من أي مدلول له في الواقع الجاهلي، وهذا التحفظ في غاية الأهمية؛ إذ إنَّ الحب في الواقع الجاهلي ما هو إلا ظاهرة من ظواهر الانحراف الجاهلي؛ وذلك لأنَّ الحب الجاهلي (ما هو إلاَّ محاولة لملء فراغ الإنسان الجاهلي وإثبات ذاته)؛ لأنَّ الجاهلية (في حقيقتها) واقع فراغ فكري ووجداني، وخطورة إثبات الذَّات من واقع الفراغ على علاقة الإنسان بالدَّعوة تأتي باعتِبارها استهلاكًا للخصائص الطبيعيَّة في الإنسان، والَّتي تحقّق فيه إمكانيَّات تحمل تكاليف الرِّسالة، وهي إمكانيَّات قائمة في كل إنسان، حيث إنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان مهيأً بتلك الخصائص لأن يكون صاحب رسالة، ودلائل هذه الإمكانيات هي: القدرة على الحياة بقضية الرسالة وتصور الوجود من خلال تلك القضية، والقدرة على مواجهة أي واقع مخالف لهذا التصور[21].
وعندما يحب الإنسان الجاهلي من الفراغ فإنَّه بهذا الحب ينطلق نحو مَن أحبَّها بخصائص الرسالة الكامنة فيه؛ لأنه يعيش بلا قضية، فتتحوَّل تلك التي أحبها إلى قضيته التي يحيا بها، ويتصوَّر الحياة من خلاها، ويسعى إلى الارتباط بها محطمًا في سبيل ذلك أي عقبة، وآثار الحب في الواقع الجاهلي هي الدليل على هذه الظاهرة، فعندما يمارس الجاهلي حبًّا فإنه يحب إلى حدّ العبوديَّة، وعندما يفشل في حبه فإمَّا أن يصاب بالجنون بعد طغيان إحساسه بمن أحبها على عقله وواقعه، أو يصاب بالانطِواء كصورة من صور الكفر بمبدأ "العلاقة" بعد فشله في علاقته بمن أحبها، أو ينتحِر كصورة من صور الرفض لحياته التي كان لا يتصوَّرها إلاَّ من خلال علاقته التي فشلت، وهذه هي الآثار الأساسية للحب في الواقع الجاهلي، وبذلك يكون الخطر الحقيقي على الإنسان عندما يمارس حبًّا جاهليًّا هو عجزه تمامًا عن أن يكون صاحب رسالة.
واعترافنا بالحبّ كحقيقة إنسانية واقعة، وتجريد هذا الاعتراف من أي مدلول له في الواقع الجاهلي يقتضي أن نناقش حالة خطيرة في حياة الدعاة، وهي دخول الإنسان في واقع الدعوة وهو يحمل في قلبه حبًّا قد بدأه في الجاهلية، ولم يتمكَّن من التخلص منه بعد دخوله واقع الدعوة، وهذه الحالة لها ثلاث نتائج مؤكَّدة:
أوَّلاً: إما أن تكون هذه المشاعر أساسًا للدعوة من الطرف المسلم في العلاقة إلى الطرف الآخر للالتزام.
ثانيًا: وإمَّا أن تكون هذه المشاعر فتنةً للطرف المسلم في العلاقة عن دعوته ودينِه.
ثالثًا: وإمَّا أن تنتهي هذه العلاقة.
وهذا يعني أنَّ التفكير في إنهاء العلاقة إنَّما يكون بعد محاولة تحقيق النَّتيجة الأولى وهي الدعوة، وحذرًا من الوقوع في النتيجة الثانية وهي الفتنة، ونتفق ابتداءً على أنَّ الإيمان الصحيح يحمي صاحبه من الفتنة، ولكن يجب أن نتفق كذلك على أنَّ الأمر يتطلب معالجة وجدانية مباشرة، ذلك أن الإيمان الصحيح يحقق غلبة الالتزام من حيث السلوك، ولكن المشاعر تظل باقية"[22].
"إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير .... تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيدًا عن ذلك الظل الوارف الندي، ومن ثم تجد الشَّقاء والقلق والحيرة والاضطراب، وتحس الخواء والجوع والحرمان"[23].
"فالبشريَّة اليوم تقف على حافة الهاوية بسبب إفلاسها في عالم القيم، التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانيَّة في ظلالها نموًّا سليمًا وتترقى ترقِّيًا صحيحًا"[24].
فالجاهلية تسير في طريقها الشاق الذي اختارته لطمس الحق وانتشار الظلام؛ لذلك عملت على جعل الجنس يبلغ أعظم تأثير له في الكيان الإنساني، فاتَّجهت بهذا العمل إلى التعويض أو البديل فارتكزتْ كل جاهلية على ظاهرة التعويض أو البديل، فكان الجنس هو طرف التَّعويض عن الدين والانشغال التَّامّ عن القيام بحقيقة هذا الدين وحقيقة العبوديَّة؛ ليشغل الجنس موضع التأثير العميق في النفس الإنسانية.
"فكما كانت العبادة هي العلَّة الغائية للوجود الإنساني، كان الجنس هو العلة السببية لهذا الوجود؛ بمعنى: أنَّ العبادة غاية والجنس سبب، وكما كان الخروج عن الصورة الصحيحة للعبادة خروجًا عن (الغاية الأساسية) للإنسان، كان أيضًا الخروج عن (الصورة) الصَّحيحة للجنس هو خروج عن (الفطرة) الإنسانيَّة[25].
ولذلك "كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يؤكّد هذا التوافق، فكان يصلي في فراش عائشة، وكان يقول: ((حبِّب إليَّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
وبذلك يثبت التجانس بين العبادة والجنس؛ ولذلك كانت العبادة والجنس هما المعيارين الأساسيين في تكوين الشخصية الإنسانية؛ ولكن "الجاهلية" عندما أرادت إلغاء جانب العبادة في تكوين الشخصية الإنسانية كان لا بدَّ لها أن تستبدل العبادة بالشَّهوة والفاحشة، لينشأ التضادّ الذي يذهب بالعبادة، فكانت الخطوة الأولى هي ما جاء في قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
ومن هنا نشأ التضادّ بين العبادة والجنس عندما يكون انحرافًا وفاحشة، وكان ذلك تفسير قول الله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، وبذلك يضيع المعنى الإنساني للمعاشرة الزوجية الصحيحة حيث يتحوَّل الإنسان بالفاحشة إلى الدرك الحيواني؛ كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فتبقى فئة تقذرُها نفس الله يتسافدون تسافُد الحمُر)).
فكلٌّ من العبادة والجنس استيعاب كامل لكيان الإنسان؛ فمن حيث العبادة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا قام للصلاة كما عند الإمام مسلم من حديث عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة قال: ((وجَّهتُ وجْهي للَّذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريكَ له وبذلك أُمِرْت وأنا أوَّل المسلمين، اللَّهُمَّ أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفْسي واعترفتُ بذنبي، فاغفِرْ لي ذنوبي جميعًا إنَّه لا يغفِر الذُّنوب إلا أنت، واهْدني لأحسنِ الأخلاق لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيِّئَها لا يصرف عنِّي سيِّئها إلاَّ أنت، لبَّيك وسعديْك والخير كلّه في يديْك والشَّرّ ليس إليك، أنا بك وإليْك تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك))، وإذا ركع قال: ((اللهمَّ لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي))، وإذا رفع قال: ((اللهمَّ ربَّنا لك الحمد ملْء السَّماوات وملء الأرض وملْء ما بيْنهما، وملء ما شِئْتَ من شيء بعد))، وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدتُ وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجْهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسنُ الخالقين))، ثمَّ يكون من آخر ما يقول بين التشهُّد والتَّسليم: ((اللهمَّ اغفِر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت))[26].
فيتبيَّن أنَّ حقيقة العبادة استيعاب للكيان الإنساني بصورة كاملة.
فإذا جئنا إلى الجنس فإنَّنا نستدلّ على هذا الاستيعاب بالحكم الشَّرعي المترتّب على الزّنا وهو الرجم، حيث يشمل هذا الحكم الكيان الإنساني كلَّه، وحتى لو ستر الله العبد فلم يقم عليه الحدَّ، إنَّ الدليل على استيعاب الفعل لكيان الإنسان هو أن يرفع عنه الإيمان حتَّى يصير مثل الظلة؛ لأنَّه لا مكان للإيمان في كيان الإنسان وقت الوقوع في الفاحشة، ويرد إليه الإيمان كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((والتوبة معروضة بعد))[27].
ويتضمَّن معنى الاستيعاب معنى العمق؛ حيث يمثل كل من العبادة والجنس أبعد عمق في كيان الإنسان، وأعمق بُعد هو الاطمئنان؛ لأنَّ الاطمئنان هو المستقرّ، والاطمِئْنان مقدمة العبادة؛ {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
والاطمئنان أثر العبادة؛ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22].
والاطمئنان مقدمة للمعاشرة الزوجية وأثر لها؛ {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وبذلك يتم تفسير العلاقة بين العبادة والجنس كحقيقة ثنائيَّة في النفس البشرية، وهنا تدخلت الدراسة الجاهلية للنفس البشريَّة فدمَّرت خطّ العبادة الصحيحة، واستبدلت به الجنس تفسيرًا للسلوك الإنساني[28]؛ ولذلك فإنَّ "أي واقع اجتماعي تتسلَّل إليه الفوضى الجنسيَّة لن يكون له بقاء صحيح ....... فالانحراف الجنسي بداية حقيقيَّة لتحوّل الأمة إلى الفساد"[29].
يقول فضيلة الشيخ عبدالحميد كشك - رحمه الله -: "ولا شكَّ أنَّ ضرر عقوبة الزنا لا توزن بالضَّرر الواقع على (الزاني وإنَّما توزن بالضَّرر الواقع على) المجتمع، من إفشاء الزّنا ورواج المنكر وإشاعة الفحش والفجور[30].
إنَّ عقوبة الزّنا إذا كان يضارُّ بها المجرم نفسه، فإنَّ في تنفيذها حفظ النفوس وصيانة الأعراض، وحماية الأسر التي هي اللَّبِنات الأولى في بناء المجتمع، وبصلاحِها يصلح وبفسادها يفسد.
إنَّ الأمم بأخلاقها الفاضلة وبآدابها العالية ونظافتها من الرجْس والتلوّث، وطهارتها من التدلي والتسفُّل"[31].
ومن ثم أصبح الضغط الجاهلي للجنس هو السَّائد؛ لأنَّه من مظاهر الجاهليَّة التي "تفترس الإيمان في كل قلب وتنهش الفطرة في كل جسد"[32].
هذا المظهر أدَّى إلى انتشار سلبية المجتمع؛ ولذلك كانت "السلبيَّة في مواجهة الانحراف تعتبر بذاتها دعوة إلى الانحراف"[33].
فالذي نراه من ضعف غيرة الرجال[34] يؤدّي إليه السلبيَّة الكاملة في مواجهة هذا الانحراف، وتلك من أهم صفات أهل الجاهليَّة، ولكنهم لا يأْبَهون ولا يهتمّون كثيرًا بانحراف زوجاتِهم وبناتهم، فيصبح المجتمع ذا صبغة منحرفة، "والمجتمع المنحرف لا يقبل بطبيعته وجود أي قيمة أخلاقيَّة فيه، فيكون الرَّفض الجاهلي للأخلاق"[35].
ولنا في قصَّة لوط - عليْه السَّلام - المثل في ذلك، فإنَّ قوم لوط مجتمع منحرف جاهلي، ولوط - عليه السلام - وبناته مجتمع عفيف إسلامي، فكان الفصْل بيْنهما هو النتيجة الحتمية؛ إذْ لا تعايُش بينهم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 82]، {فمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56][36].
يقول الشَّيخ/ محمد قطب عن المرأة المعاصرة: "أمَّا كوْنها ألعوبةً في يد الشَّيطان يلهب بها الشَّهوات ويحرق كيانَها الذَّاتيَّ في بوتقتِها، فتخرج هي الخاسرة في النهاية رغْم كل "مكاسبها" - فأمر واضح لأصحاب العقول، وإن جادلَ فيه الغارقون والغارقاتُ في مستنقع الشَّهوات"[37].
ويقول الأستاذ/ محمَّد الغزالي: "ونحن نعرِف أنَّ المرأة في أوربَّا وأمريكا اشتغلتْ بالمصانع والحقول والشَّركات والجامعات، لكن حصاد اللّقاء البعيد عن معرفة الله واتّباع شرائعِه كان مرًّا"[38].
وتقول الكاتبة اللادى كوك: "إنَّ الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر الاختلاط تكون كثْرة أولاد الزِّنا، ولا يَخفى ما في هذا من البلاء العظيم على المرأة.
فيا أيُّها الآباء: لا يغرَّنَّكم بعض دريهمات تكسبها بناتُكم باشتغالهنَّ في المعامل ونحوها ومصيرهنَّ إلى ما ذكرنا، فعلِّموهنَّ الابتعاد عن الرجال، إذ دلَّنا الإحصاء على أنَّ البلاء الناتج عن الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر الاختلاط بين الرجال والنّساء، ألم ترَوْا أنَّ أكثر أولاد الزِّنا أمهاتُهنَّ من المشتغلات في المعامل ومن الخادمات في البيوت، ومن أكثر السيِّدات المعرَّضات للأنظار.
ولولا الأطبَّاء الذين يُعْطون الأدْوية للإسقاط لرأيْنا أضعاف ما نرى الآن، ولقد أدَّت بنا الحال إلى حدٍّ من الدَّناءة لم يكن تصوُّره في الإمكان حتَّى أصبح رجال مقاطعات في بلادنا لا يقبلون البنت ما لم تكن مجرَّبة؛ أعني: عندها أولاد من الزنا، فينتفع بشغلهم؛ وهذا غاية الهبوط في المدينة، فكم قاست هذه المرأة من مرارة الحياة حتَّى قدرت على كفالتهم! والذي اتَّخذته زوجًا لها لا ينظر لهؤلاء الأطفال ولا يتعداهم بشيء يكون، ويلاه من هذه الحالة التعيسة! ترى مَن كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والفصال ومرارته"[39].
ويقول ول ديورانت: "كان علماء اللاهوت قديمًا يتجادلون في مسألة لَمس يد الفتاة أيكون ذنبًا؟ أمَّا الآن فلنا أن ندهش ونقول: أليْس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبِّلها؟! لقد فقد النَّاس الإيمان وأخذوا يتَّجهون نحو الفِرار من الحذر القديم إلى التَّجربة الطَّائشة"[40].
"إنَّ العرْيَ فطرةٌ حيوانية ولا يَميل الإنسان إليه إلاَّ وهو يرتكِس إلى مرتبة أدْنى من مرتبة الإنسان، وإنَّ رُؤية العري جمالاً هو انتِكاس في الذَّوق البشري قطعًا"[41].
وماذا تصنع الجاهليَّة الحاضرة بالنَّاس إلاَّ تعرِّيهم من اللباس، وتعرّيهم من التقوى والحياء؟! ثمَّ تدعو هذا رقيًّا وحضارة وتجديدًا، ثمَّ تعيِّر الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات بأنهنَّ رجعيَّات تقليديَّات ريفيَّات"[42].
ونقل ابن الجوزي - رحمه الله - بسند صحيح إلى حسن بن صالح قال: سمعت أنَّ الشَّيطان قال للمرأة: أنت نِصْفُ جُندي، وأنت سهْمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سرِّي، وأنت رسولي في حاجتي"[43].
ولذلك قلنا: إنَّ الفوضى الجنسيَّة من العلامات التي تفرّق بين كون المجتمع مجتمعًا إسلاميًّا وآخر جاهليًّا، ولذلك تركز الجاهلية تركيزًا شديدًا على وضْع المرأة باعتبارها أداة ووسيلة لها، حتَّى إنَّ تشابُه الجاهليَّة القديمة والمعاصرة والتي ستوجد في آخر الزَّمان تعود بنفس الكيفية.
فعَن أبي هُريْرة - رضِي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((لا تقومُ السَّاعة حتى تضطرب أليات نساء دوْس على ذي الخلصة))، وذو الخلصة طاغية دوس الذي كانوا يعبدونه في الجاهلية[44] فهذه إشارة إلى عودة الصنميَّة.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "والمراد من الحديث: أنَّ أليات النساء يضطرِبْن من الطواف حول ذي الخلصة؛ أي: يكفرون ويرجعون إلى عبادة الأصنام وتعظيمها"[45].
فهذا الوصف النبوي الدقيق يؤكّد تشابُه الجاهليَّة وعودتها عودة المثليَّة بكلِّ ما فيها، وأنَّها ستكون كما كانت.
هذه المثليَّة وهذا التشابُه الذي بيَّنه رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يوضِّح لنا مدى ترْكيز الجاهليَّة على المرأة، وتأمَّل ذلك الاختِلاط بين الطَّلبة والطَّالبات وقصص الحب الواهية التي تشغل عليهم كيانهم، حتَّى يتخلَّل هذا العشق المحرم الفكر والمشاعر والوجدان، فلا شيءَ غير التَّفكير في لقاء أو مكالمة أو ما شابه ذلك.
هذا التدهْور والانحِطاط في عالم القِيم تظنُّ من خلاله أنَّ المجتمع لا رصيد له من القيم والفضائل؛ ولذلك كانت الجاهلية نظامًا واحدًا؛ دليلُ ذلك ما رواه البخاري - رحمه الله -: "فلمَّا بعِث محمَّد بالحق هدم نكاح الجاهلية"، فتأمَّل كيف عاد نكاح الجاهليَّة لواقع الأمَّة المسلمة: "الزَّواج العرفي - المتعة - الوهبي - زواج التيك أواي".
ومن الأحاديث الدالة على عودة الجاهلية قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى تلحق قبائل من أمَّتي بالمشركين وحتَّى يعبدوا الأوثان))[46].
وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله))[47].
وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن عيسى - عليه السَّلام -: ((فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصَّليب ويقتل الخنزير))[48]؛ لذلك كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا وجد تصاليب نقضها؛ تقول أمُّنا عائشة - رضِي الله عنْها -: "ما وجد رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تصاليب إلا نقضها"[49].
وقوله - عليه الصلاة والسَّلام - لعدي بن حاتم حين دخل عليه وفي عنُقه صليب: ((يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن))[50].
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا منعتِ العراق درهَمَها وقفيزها [مكيال أهل العراق]، ومنعت الشأم مُدْيَها [مكيال أهل الشأم] ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتُم من حيث بدأتم، وعدتُم من حيث بدأتم، وعدتُم من حيث بدأتم)) شهِد على ذلك لحم أبي هُريرة ودمه"[51].
ويشهد لهذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ))؛ لأنَّ غربة الإسلام متعلِّقة بأكثريَّة أهل الجاهليَّة، وتسلّط أهل الكفر؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((تقوم السَّاعة والرُّوم أكثر النَّاس عددًا))[52].
فأحاديث عودة الجاهلية والتحذير في الوقوع بشيء منها والتلبس بها - كثيرة؛ ولذلك فإنَّ أكثر من يتبع الدجَّال النساء واليهود؛ لدعوته بدعوى الجاهلية، وهذان الصنفان أحْرص الناس على عودة الجاهلية.
"إنَّ الجِنْس جزء جوهري من كيان المرء، هبة بواسطتها تنال الحياة أعمق وأدقّ خبرة جسميَّة في الحياة وأوْفاها استغراقًا"[53]، ولكن الجاهلية جعلت الجنس في ذاته هدفًا من أهداف الحياة؛ لأنَّ "الجنس منفذ غير عقلي إلى كيان الإنسان"[54].
فأخطر ما في الجاهلية التركيز على الجنس وعودة البغاء؛ لأنَّ "وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولتِه"[55]، "فالميل الجنسي يجب أن يكون نظيفًا بريئًا موجَّهًا إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة"[56].
"فالزنا أخطر مرض من أمراض المجتمعات، إذا ابتليت به أمة ضاعت كرامتها وانحلّت عراها، ودبَّ الضَّعف والخور في أبنائها"[57].
"ويجب أن يستمدَّ النَّاس في الأرض قِيَمَهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السَّماء غير مقيَّدة بملابسات أرضية، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله"[58].
فيجب لنا التَّفرقة بين دعوى الإسلام ودعْوى الجاهليَّة، والنَّظر في سُنَن كليْهِما، فنعرف الفرق بينهما حتى لا نقع في شيء منها وبالتَّالي لا ندعو لها.
فلا بدَّ من أن يُوجد في ضمير المسلم عزلة شعوريَّة وجدانيَّة بين الإسلام والجاهليَّة؛ أي: انفصال عن البيئة الجاهلية.
يقول صاحب الظلال - رحمه الله -: "حتَّى الكثير ممَّا نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًّا، هو كذلك من صنع الجاهلية؛ لذلك لا يستقيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتَّضح تصوّر الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخْمٌ من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أوَّل مرَّة.
ويجب أن نتجرَّد من كلّ مؤثّرات الجاهليَّة التي نعيش فيها ونستمدّ منها.
لا بدَّ أن نرجع إلى النَّبع الخالِص الَّذي استمدَّ منه أولئك الرّجال"[59]، مع "تعرية الجاهليَّة من ردائِها الزَّائف وإظهارها على حقيقتِها"[60].
وأن يعرف المسلِم ذلك حتَّى لا يقع في شيء من أمور الجاهليَّة، وإليك بعضَ أحوال الجاهليَّة وأمورها وخصالها، والحالة التي كان عليها العالم قبل أن يأتينا ذلك النور الهادي، مع مقارنة بالواقع الأليم.