مشاهدة النسخة كاملة : السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (5)


حكاية ناي ♔
01-22-2024, 04:09 PM
1- مدخل:

نجحتِ الجاهليةُ المعاصرة في أن تجعلَ لها رَنينًا خاصًّا تؤثِّر به على الأسماع، وبَريقًا جذَّابًا تخطف به الأبصار، وقوةً غاشمة تُرهِب المخالفين، وديمقراطية تضَع مِن خلالها سلطانَ التعقيدات ضدَّ النضال والتحرُّر من ربقة الصنم وعبودية الوثَن؛ إذ لا مكانَ للنضال والتحرُّر في الضمير الوثَني، مع وجودِ الجذور الاجتماعيَّة لهذا الضعْف والتشرذم والضياع للعبيد.



ومع افتراضٍ ضمني لوجودِ دراسة إستراتيجيَّة وتنظيمات ثوريَّة للتحرُّر مِن عبودية الصَّنم، إلا أنَّ المرء لا يستطيع أن يَتنبأ بنجاحِ مِثل تلك المحاولة، وبأنَّه سوف يُفلِح تمامًا في اقتلاعِ قواعد ورواسبِ الجاهليَّة؛ إذ إنَّ السندَ التاريخي يؤكِّد حقيقتين:

الأولي: تعذُّرُ وصعوبةُ التخلص مِن طبقية الجاهليَّة وقيودها ورواسبها، ما لم تكُن هذه الثورة دِينيَّةً خالصة صائِبة، وهذا هو المنعطَف الأخير الذي تسير فيه الشعوبُ المستضعفة.

الثانية: أنَّ القوة تبدو في ظاهرِها مع الجاهلية، وهذا مِن أهم أسباب تخاذُل النخبة الفاعلة في وقتها الراهن.



لذلك فإنَّ الجاهلية عَمِلتْ على تعدُّد الآلهة - والتي بطبيعةِ الحال - لا تَمنح الإنسانَ كرامته اللائقة به، إنَّما تستعبِده بشهواته فتحيله حيوانًا، فيستذل، ويفقِد مِن كرامته بقدْر خضوعه للطاغوت، وينقلب الناسُ إلى سادةٍ وعبيد، والسادَة والعبيد جميعُهم في غير الوضعِ اللائق بالإنسان[1]، وهذا تقسيمٌ مخالِف لأصولِ الإسلام وقواعِده.

نقول ذلك؛ لأنَّ للجاهليةَ قانونًا عامًّا ينضوي تحتَ لِوائه كافَّة النُّظُم الظالِمة؛ إذ هي منظومةٌ متَّسقة تَرَى الناس مِن خلالها مغلوبةً على أمرها، ومقهورةً ومضطهدة.

ولم تكُن مكة - باعتبارِها الشرعي - بعيدةً عن هذا القانون العام - والذي نذَهب إليه كحقيقةٍ قدرية أنَّها هي التي أنشأتْه بالجزيرة بحُكم مكانتها الدينيَّة المرهوبة؛ ولأنَّها كانت قوميَّة عِرقيَّة تقدس الوثنيَّة كشكلٍ مِن أشكال التديُّن، والتي كانتْ في زعْمهم هي ملة إبراهيم.



2- قضايا الجاهلية:

للجاهليةِ قضايا متشعِّبة أصلها واحِد وفُروعها شتَّى، ولكنَّها جميعًا تنطلِق مِن بوتقةٍ واحِدة وَفقَ منظومة عالميَّة تجمعها في قضية أساسية جامِعة هي قضيةُ ارتباط الحُكم الجاهلي للعالَم بظهورِ جميعِ الفواحِش والمعاصي والمنكَرات، كالتبرُّج والاختلاط والغِناء، وتلك هي أخطرُ قضايا الجاهلية مُطلقًا، وهذا الثالوثُ هو أخبثُ عناصرها، وارتباط الحُكم الجاهلي بهذا الثالوث الملوّث، إنَّما هو ارتباطُ هدف ذاتي؛ لأنَّ بينهما رباطًا وثيقًا انبثق مِن كيفية الحُكم، ولعلَّ السرَّ الحقيقي وراءَ انتشار تلك الموبقات يكمُن خلفَ ذلك الحُكم الجاهلي.

ولذلك نجِد الصحابيَّ الجليل عثمانَ بن عفَّان - رضي الله عنه - والذي يُمثِّل لنا في مرحلة الفتنة المعنَى الفِعلي لقيمة السلطة الشرعيَّة - قد فَهِم تلك القضية بإيمانٍ عميق حين قال كلمته الخالدة: "إنَّ اللهَ يَزَعُ بالسُّلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن"، وهي كلمةٌ تدلُّ على فِقهه لتلك القضية.



ولا نكون مبالِغين إذا قلنا: إنَّ تلك القضيةَ كانت في حسِّ القرون الفاضِلة تمثِّل قوام الدِّين والدنيا، وعليها مدارُ الاستقرار والأمان والهدوء، أمَّا في العصور التي زعَم فيها أهلُها التحضُّرَ والتمدُّنَ، فقد ظُنَّ أنها قضيةٌ مهمَلَة مهمَّشة، وليستْ من شأنِ العوام، إنَّما هي مِن خصائص النُّخبة الفاعِلة، والواقِع أنها ليستْ كذلك؛ لأنَّها هي لُبُّ حياة المسلمين، ورغمَ كونها كذلك إلاَّ أنَّنا غفَلْنا عنها أو ابتعدنا عنها بطريقةٍ أو بأخرى.



إنَّنا قد نسأل سؤالاً ساذجًا يتبادر إلى ذِهن أيِّ إنسان مراهقًا كان أو شيخًا، جاهلاً كان أو عالِمًا، ألاَ وهو: مِن أين اكتسبتْ هذه الفتاةُ المتبرِّجة - المسلمة أو المتأسلِمة - هذه الجرأةَ لتسيرَ في شوارعِ المسلمين وهي كاسيةٌ عاريةٌ ترتدي (بنطالاً وباضي) يُظهر مُفصِّلاً كلَّ جزء مِن أجزاء جسدها؟! مِن أين اكتسبتْ هذه الجرأة؟! هل لأنَّها فقدتْ حياءها؟!

الإجابة: لا؛ لأنَّه يصعُب جدًّا أن نقول: إنَّ غالبية فتياتِ الأمة بلا حياء؛ لأنهنَّ متبرِّجات، القضيةُ أعمقُ مِن ذلك بكثيرٍ، وهي ارتباطُ هذا العُرِّي بالحُكم الجاهلي ذاته تَبعًا لاختلافِ العصرِ ونمط حياةِ كلِّ دولة.



إنَّ الحكومة المصريَّة حين أصدرتْ قرارًا بمنع التدخين في الأماكنِ العامَّة - كالمترو - وفرضتْ على المدخِّن دفعَ غرامة مالية فوريَّة، هنالك ما استطاع (رجل) أن يُخرِج سيجارة مِن جيبه ويلوي عنقَ القانون شاهرًا سيفَ العصيان، قِس على ذلك بقيةَ القرارات والقوانين، وهنا يصلح قولُ عثمان - رضي الله عنه - للتطبيق، فإذا ما أصدرتِ الدول الإسلاميَّة قرارًا (خياليًّا) بمنْع المتبرِّجات من دخول الجامِعة - مع ملاحظةِ أنَّ العكس هو الذي يحدُث - وشيَّدت جامعاتٍ خاصةً للفتيات - كما في أمريكا الآن التي يتبعها المسلِمون حذوَ القُذَّة بالقُذة - وجامعات خاصَّة للشباب، ما رأينا المجاهرةَ بالمعصية بلا خجلٍ مع نِسيان قول الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33] ، والتي يريد بها عهدَ الإباحة وسقوط الأخلاق وانحلالِ ربْط الآداب[2]؛ ولذلك كان فضيلةُ الشيخ/ عبدالحميد كشك - رحمه الله رحمةً واسعة - يقول: كانتِ الجاهلية الأولى أخفَّ ضررًا مِن الجاهلية الحديثة[3].



وأمَّا قول الحقِّ - جل شأنه -: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فيدلُّ على أنَّ تيسير فِعل التبرُّج له ارتباطٌ بالحُكم الجاهلي، لذلك فإنَّ التركيز الشديد مِن الجاهلية مُنصبٌّ على المرأة المسلمة التي بزيِّها الشرعي تُعلِن الحربَ والتحدي على حُكم الجاهليَّة؛ ولأنَّ غيرها مِن الملل الأخرى قدِ انتهى من أمرهنَّ شياطينُ الإنس منذُ عصور مضَتْ.



إنَّ الله - جلَّ وعلا - لَمَّا ذكَر في كتابه الحكيم أمرَ الجاهلية تلك القضية الشائِكة، ذكرَها في أربعةِ مواضع مِن كتابه الكريم، هي:

الأول: قوله تعالى: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154]، يُريد بها تهجينَ فِعل المثبِّطين عن نصرةِ الحق[4].

الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33].

الثالث: قوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50].

الرابع: قوله تعالى: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [الفتح: 26]، يُريد بحميةِ الجاهلية نزعتَها في عدمِ الإذعان للحقِّ، فأنزل الله سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين؛ أي: طُمأنينتَه وهدوءَه؛ لتبيّن الحق واتباعه.



يقول الأستاذ/ محمد فريد وجدي: هكذا يميِّز الله عهدَ الجاهلية بجميعِ سيِّئاته وشُروره، ويَدعو الناس إلى التخلُّص مِن آثاره، ودعوته هذه مستمرَّة في جميعِ الأجيال، وموجهة إلى العالَم كافَّة؛ لأنَّه الدِّين العام، ومَن يستقرئ أحوالَ الأمم اليوم يجِد أنها جميعًا في حاجةٍ ماسة إلى الاستفادة مِن هذه الدعوة، فإنَّ آثار الجاهلية لا تَزال موجودةً حتى في أبعدِ الأمم شأوًا في المدنيَّة الماديَّة[5].

فهذه قضايا أربعٌ ركَّز عليها القرآن تركيزًا شديدًا؛ لأهميَّتِها وارتباط بعضها ببعض، فتبرُّج النساء له عَلاقة وثيقة بحُكم الجاهلية الذي يرَى الزِّنا تَقدُّمًا والفجور حضارةً، فارتباط الحكم بالتبرُّج في سورة المائدة والأحزاب له عَلاقة ومناسبة، وحميَّة الجاهلية وظنّ الجاهلية لهما عَلاقة ومناسبة.

فهاتانِ الآيتان - مِن سورة المائدة والأحزاب - بينهما عَلاقة يؤكِّدها الواقعُ وعلى مدارِ التاريخ كله، فإذا تأملتَ واقعَ الجاهليات القديم وجدتَ فسادَ الحُكم يقابله فسادُ المرأة؛ ولذلك فهُم اليوم يُكثرون الحديثَ عن المرأة.

يقول د/ عمر عبدالكافي: الذين يتحدَّثون عن حريَّة المرأة يتحدَّثون زُورًا وبهتانًا عن حريةِ المرأة، هُم يتحدَّثون حقيقةً عن حرية الوصول إلى المرأة[6].

وإذا تأملتَ واقعَ الجاهلياتِ المعاصِر في البلاد الكافِرة وجدتَ نفس الصورة تمامًا، وهذا ما فعَله الغرب الآن ببعضِ فتيات المسلمين، وأوضحُ الأمثلة على ذلك انشغالُ فتياتنا بما يُسمَّى بموضة العام، ولنا في واقعِنا المعاصر آثارٌ لتلك العلاقة بيْن الحُكم الجاهلي والتبرُّج، مع أنَّ الحضارة- أي: حضارة - لا عَلاقة لها بالعُري.



مثال قرآني واضح:

قال تعالى على لسانِ سليمان - عليه السلام -: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ﴾ [النمل: 44]، ففي هذه الآية إشارةٌ دَلاليَّة على أنَّه مِن الحضارة والرُّقي أنَّ ساق المرأة غيرُ مكشوفة، أمَّا البربرية والهمجيَّة والتخلُّف ففيها العُري أصلٌ، وهذه مَلِكة سبأ التي لها مِن الحضارة والتقدُّم والرقي ما جعَل القرآن يُفرِد لها سورة كاملة.



إنَّنا ندرس فترةَ الجاهلية بما فيها تلك الفترة مِن فترات حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَبل البعثة؛ لبيانِ كيف عاش النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - طاهرًا مُطهرًا في بيئة تعجُّ بالمنكرات لم تؤثِّر فيه - صلَّى الله عليه وسلَّم، ولبيان أنَّ أهمَّ خصائصِ هذه الفترة أمانتُه وصِدقُه - عليه الصلاة والسلام - "وعلو منصبه، ومكانته العظيمة عندَ الله؛ إذ آتاه الله جميعَ صفات الكمال والجلال، وهو رجلٌ أمِّيٌّ لم يمارسِ العلم ولم يطالعِ الكتب، ولم يسافرْ قطُّ في طلبِ علم، ولم يزلْ بين أظهُر الجهَّال مِن الأعراب يتيمًا، ضعيفًا، مستضعفًا، فمِن أين حصل له محاسنُ الأخلاق والآداب، ومعرفةُ مصالِح الفقه مثلاً فقط دون غيرِه مِن العلوم فضلاً عن معرفةِ الله تعالى وملائكته، وكُتبه، وغير ذلك مِن خواصِّ النبوة؟ لولا صريحُ الوحي"[7].



إنَّنا نتعلَّم ذلك وندرُسه لا لنردَّ به على المشكِّكين المنحرفين الضالِّين، بل ندرسه لنزدادَ حبًّا له - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتمسكًا بهديه، والسَّير على طريقِه وتتبُّع خُطواته؛ ولذلك فإنَّه يجب علينا معرفةُ أحوال الجاهلية، والتوسُّع في إيضاح ذلك لندركَ قيمة الإسلام وما جاءَ به مِن الهَدي العظيم، ونُدرك عظمةَ نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقِيمة رِسالته التي بعثه الله بها لنعيَ معني قوله - تعالى -: ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 1]، ونحن بالطبْع لن نُحيطَ علمًا بهذه الظلماتِ التي ذُكرتْ في الآية على سبيلِ - الإجمال - إلاَّ مِن خلال دِراسة السيرة النَّبويَّة، ولن نُدرك هذا النورَ الذي جِيء به بصِيغة - الإفراد - إلاَّ مِن خلالِ دراسة حقيقيَّة متأنية لواقِع الجاهلية.



فالسرُّ في جمع الظلمات: أنَّ الباطل متعدِّد، وله شُعَب متفرِّقة كثيرة، والسرُّ في إفراد النور: أنَّ للحقِّ طريقًا واحدًا هو ما جاءتْ به الرسل، كما قال الحقُّ - جلَّ وعلا -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].



وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾ [يوسف: 108]، جعَل سبيلَ الحق واحدًا، والجاهلية طُرقًا متفرقة.

يقول صاحب الظِّلال - رحمه الله -: "والجاهلية كلُّها ظلمات، ظلمة الشُّبهات والخرافات والأساطير والتصورات، وظلمة الشهوات والنَّزعات والاندفاعات في التِّيه، وظُلمة الحيرة والقلق والانقطاع عنِ الهُدى، والوحشة مِن الجناب الآمِن المأنوس، وظُلمة اضطرابِ القِيم وتخلخُل الأحكام والقِيَم والموازين[8]؛ ولذلك بعَث الله الرسلَ بالنور لدفْع هذه الظلمات، وبثِّ الأمن والأمانِ في القلوب، فإنَّ الظلمة تُرهِب البشر وتُخيفهم.



إنَّ التغير الجذري الذي يجِب أن يَحدُث وتنشده الأمَّة هو وجوبُ معرفة المسلمين كيفيَّة الاستفادة مِن حياة نبيِّهم، وتلك مشكلة انفِصال الأمَّة عن نبيِّها، وهذه هي المعضلة الكُبرى التي يَحياها المسلمون؛ إذ ليس مِن السهل القيامُ بالتغيُّر الجذري دفعةً واحدة، وإنْ كان الأمر ليس عسيرًا، لكن لا بدَّ مِن بذل الجهد لنرَى واقعَ حياة المسلمين يُحاكي نمطَ الجيل الأوَّل للنهوضِ مِن الكبوة الضخمة التي تَحياها الأمَّة، ومِن ثَمَّ التخلُّص مِن رواسب الجاهلية، وقِيمها، بل ومِن أسْرها الذي استذلَّ الجميع - إلا مَن رحِم ربك - فَقيَّد الأمَّة وشلَّ حركتها بأشكالٍ متنوِّعة مِن الأسْر.

ولذلك "فإنَّ رسالة الإسلام لم تصلْ إلى البشرية وتُصلح أحوالها وتُرشدها إلى النور، بمقالاتٍ في صحيفة، أو كلماتٍ في الإذاعة، أو محاضرات إعلاميَّة، وإنَّما بتقديم نموذجٍ واقعي لفضائلِ الإسلام وقِيَمه ومُثُله ومبادئه وأخلاقياته، نموذج رآه الناس رأيَ العين فتأثَّروا به، فصلحتْ أحوالهم بمقدارِ ما تأثَّروا به.



والطريقُ هو الطريق، والرِّسالة هي الرِّسالة، والجهد المطلوبُ هو الجهدُ المطلوب، فلا منقِذَ اليوم للبشريةِ مِن ظَلامها الكريه الذي تعيش فيه إلا الإسلام، إلاَّ ذلك النور الربَّاني الذي فيه هذه الخاصية؛ خاصية إخراج النَّاس مِن الظلمات إلى النورِ حين يتَّبعون تعاليمه[9]، فما أشبهَ أيامَنا تلك بما كان يَحياه الناسُ قبل بعثةِ النبي الخاتم - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع وجودِ الفارق المعلوم.



يقول الأستاذ/ العقاد: كان عالَمًا متداعيًا قد شارَف النهاية، خلاصة ما يقال فيه: إنَّه عالَم فقَدَ العقيدة، كما فقَدَ النظام؛ أي: إنه فقدَ أسباب الطُّمأنينة في الباطِن والظاهِر: طمأنينة الباطن التي تنشأ مِن الركون إلى قوَّةٍ في الغيب تبسُط العدْل، وتَحمي الضعيف، وتَجزي الظالم، وتختار الأصلحَ الأكْمل من جميعِ الأمور، وطُمأنينة الظاهِر التي تنشأ من الركونِ إلى دولةٍ تَقضي بالشريعة، وتفصِل بيْن البغاة والأبرياء، وتحرُس الطريق، وتُخيف العائثين بالفساد.



بيزنطة قد خرجتْ مِن الدِّين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعدَ ذلك عَلَمًا عليها، وتضاءلت سطوتها في البَر والبحر حتى طمِع فيها مَن كان يحتمي بجوارها، وفارس قد سخِر فيها المجوس مِن دِين المجوس، وكمنتْ حولَ عرشها كوامنُ الغيلة وبواعث الفِتن ونوازع الشهوات، والحبشة ضائعة بيْن الأوثان المستعارة مِن الحضارة تارةً ومِن الهمجية تارةً، وبين التوحيد الذي هو ضرْب مِن عبادة الأوثان، ثم هي بعدَ هذا التشويهِ في الدِّين ليست بذات رِسالة في الدُّنيا ولا بذات طورٍ مِن أطوار التاريخ، فليس لها عملٌ باق في سجِّل الأعمال الباقيات، عالَم يتطلَّع إلى حالٍ غير حاله، عالَم يتهيَّأ للتبديل أو للهدْم، ثم للبناء[10].



وبناءً على ذلك نُريد أن نؤكِّد على أنَّنا لن نفهمَ السيرة النَّبويَّة فَهمًا دقيقًا إلا إذا درسْنا فترة الجاهليَّة دراسةً وافية متأنية؛ ولذلك كان سببُ حديثنا ها هنا عن الجاهلية أمرين:

الأول: هو ما نراه ونُشاهده من انحصارِ معنَى عظمة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندَ الناسِ، ووضعه في قوالبَ جامِدةٍ لا تحرِّك المشاعر ولا يَنتبه لها الوجدان.

الثاني: هذا الجهلُ الواضح بمدَى الجهد الذي بذَله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليغيِّر عالَمًا بلَغ الاستخفاف مداه بالدِّين، ونُزعتْ منه الرحمة، عالَمًا يغشاه الانحطاط، ويحكُمه الفساد، ويُحيطُ به الشرُّ مِن جميع جوانبه.

صمتي شموخي
01-22-2024, 04:12 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته