حكاية ناي ♔
01-22-2024, 04:19 PM
النبي صلى الله عليه وسلم يعقد مجلساً آخر لاستشارة الناس:
لما نجا أبو سفيان بالقافلة، تيقن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد له من ملاقاة العدو، إذ هذا وعد الله الذي لا يخلف وعده، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 7]. ولذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقد مجلساً يستشير فيه الناس ويستجلي فيه مدى استعدادهم لملاقاة العدو.
قال ابن إسحاق: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امضِ لما أراك الله، فنحن معك. والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد[1] لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشيروا علي أيها الناس"، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليه نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" [2].
وفي رواية: ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت[3].
قال ابن كثير - رحمه الله -: هكذا رواه ابن إسحاق - رحمه الله -، وله شواهد من وجوه كثيرة [4] [5].
أما رواية البخاري فمن طريق ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به. أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك وبين يديك، وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله[6].
مجادلة بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 5-6].
قال ابن جرير: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف، في قوله: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ﴾، فقال بعضهم: شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله. ثم روى عن عكرمة نحو هذا، ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم، فقسمها على العدل والتسوية، فكأن هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشداً، وهدى ونصراً، وفتحاً، كما قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216] الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم.
وقال آخرون: يسألونك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له[7].
قال ابن كثير: ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه أنها صادرة من الشام.
وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر، فنجا وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد، ولما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم.
والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير؛ لأنه كسب بلا قتال[8]، كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7].
قوله: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 6]، قال محمد بن إسحاق: أي كراهية للقاء المشركين، وإنكاراً لمسير قريش حين ذكروا له، وقال السدي: يجادلونك في الحق بعدما تبين، أي بعدما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به. قال ابن جرير: وقال آخرون: عني بذلك المشركون، قال ابن كثير: قال ابن زيد: هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام وهم ينظرون، قال: وليس هذا من صفة الآخرين، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر، ثم قال ابن جرير: ولا معنى لما قاله، لأن الذي قبل قوله: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ﴾ خبر عن أهل الإيمان، والذي يتلوه خبر عنهم، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين، وهذا الذي نصره ابن جرير، وهو الحق الذي يدل عليه سياق الكلام، والله أعلم[9].اهـ
إجماع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ملاقاة العدو:
لا شك أن ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد المشاورة وإقناع المجادلين بضرورة اللقاء هو الرأي الصائب الذي لا يسع القائد المحنك أن يتخذ سواه، وذلك لأمور:
1- أن الله - عز وجل- وعدهم إحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير، فلما فاتت العير لم يبق إلا النفير.
٢- أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم والحالة هذه يعتبر في الأعراف العربية، والخطط العسكرية انهزاماً، وبالتالي سيعد وصول الجيش المكي إلى بدر، وعودته سالماً نصراً كبيراً للمشركين.
٣- أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم لو عاد إلى المدينة سيتخذ منه فيما بعد قاعدة للانهزام في مثل هذه الظروف، مع أن الذي تشير إليه الآيات ووقائع الغزوة جميعاً أن الله تعالى أراد بهذه الغزوة أن تكون عبرة للمعتبرين، فلا يعتمدون على كثرة عددهم وعتادهم، وأن القاعدة التي يجب اتخاذها والعمل بها هي معرفة أن النصر من عند الله، وإنما يجب من الأسباب ما أمكن.
٤- أن عودة النبي صلى الله عليه وسلم والحال هذه سيفرح المتربصين من اليهود والمنافقين في المدينة، وربما كان ذلك سبباً لاجترائهم عليهم بالقول أو الفعل، وقد يتخذ اليهود من هذا وسيلة لتشكيك بعض المسلمين فيما يعتقدون.
قال الشيخ محمد الغزالي: "والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خير من الإحجام، ومن ثم قرر أن يمضي، فإن الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو[10]".اهـ.
المفاجآت تمحيص للرجال:
قال الغزالي: إن المرء قد تفجؤه أحداث عابرة وهو ماض في طريقه يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حاد الانتباه مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدق في الحكم على الناس وأدل على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها، ويتقدمون إليها، واثقين مستعدين، والمسلمون الذين خرجوا لأمرٍ يسير ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون - على عجل - تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم، فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها للمؤمن[11].
الوفاء هدي الأنبياء، والغدر سجية الجبناء:
جاء في سؤالات هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سفيان: هل يغدر؟ قال: لا[12].
روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان قال: منعني أن أشهد بدراً أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" [13].
لما نجا أبو سفيان بالقافلة، تيقن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد له من ملاقاة العدو، إذ هذا وعد الله الذي لا يخلف وعده، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 7]. ولذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقد مجلساً يستشير فيه الناس ويستجلي فيه مدى استعدادهم لملاقاة العدو.
قال ابن إسحاق: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امضِ لما أراك الله، فنحن معك. والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد[1] لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشيروا علي أيها الناس"، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليه نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" [2].
وفي رواية: ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت[3].
قال ابن كثير - رحمه الله -: هكذا رواه ابن إسحاق - رحمه الله -، وله شواهد من وجوه كثيرة [4] [5].
أما رواية البخاري فمن طريق ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به. أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك وبين يديك، وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله[6].
مجادلة بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 5-6].
قال ابن جرير: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف، في قوله: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ﴾، فقال بعضهم: شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله. ثم روى عن عكرمة نحو هذا، ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم، فقسمها على العدل والتسوية، فكأن هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشداً، وهدى ونصراً، وفتحاً، كما قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216] الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم.
وقال آخرون: يسألونك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له[7].
قال ابن كثير: ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه أنها صادرة من الشام.
وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر، فنجا وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد، ولما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم.
والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير؛ لأنه كسب بلا قتال[8]، كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7].
قوله: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 6]، قال محمد بن إسحاق: أي كراهية للقاء المشركين، وإنكاراً لمسير قريش حين ذكروا له، وقال السدي: يجادلونك في الحق بعدما تبين، أي بعدما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به. قال ابن جرير: وقال آخرون: عني بذلك المشركون، قال ابن كثير: قال ابن زيد: هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام وهم ينظرون، قال: وليس هذا من صفة الآخرين، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر، ثم قال ابن جرير: ولا معنى لما قاله، لأن الذي قبل قوله: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ﴾ خبر عن أهل الإيمان، والذي يتلوه خبر عنهم، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين، وهذا الذي نصره ابن جرير، وهو الحق الذي يدل عليه سياق الكلام، والله أعلم[9].اهـ
إجماع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ملاقاة العدو:
لا شك أن ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد المشاورة وإقناع المجادلين بضرورة اللقاء هو الرأي الصائب الذي لا يسع القائد المحنك أن يتخذ سواه، وذلك لأمور:
1- أن الله - عز وجل- وعدهم إحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير، فلما فاتت العير لم يبق إلا النفير.
٢- أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم والحالة هذه يعتبر في الأعراف العربية، والخطط العسكرية انهزاماً، وبالتالي سيعد وصول الجيش المكي إلى بدر، وعودته سالماً نصراً كبيراً للمشركين.
٣- أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم لو عاد إلى المدينة سيتخذ منه فيما بعد قاعدة للانهزام في مثل هذه الظروف، مع أن الذي تشير إليه الآيات ووقائع الغزوة جميعاً أن الله تعالى أراد بهذه الغزوة أن تكون عبرة للمعتبرين، فلا يعتمدون على كثرة عددهم وعتادهم، وأن القاعدة التي يجب اتخاذها والعمل بها هي معرفة أن النصر من عند الله، وإنما يجب من الأسباب ما أمكن.
٤- أن عودة النبي صلى الله عليه وسلم والحال هذه سيفرح المتربصين من اليهود والمنافقين في المدينة، وربما كان ذلك سبباً لاجترائهم عليهم بالقول أو الفعل، وقد يتخذ اليهود من هذا وسيلة لتشكيك بعض المسلمين فيما يعتقدون.
قال الشيخ محمد الغزالي: "والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خير من الإحجام، ومن ثم قرر أن يمضي، فإن الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو[10]".اهـ.
المفاجآت تمحيص للرجال:
قال الغزالي: إن المرء قد تفجؤه أحداث عابرة وهو ماض في طريقه يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حاد الانتباه مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدق في الحكم على الناس وأدل على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها، ويتقدمون إليها، واثقين مستعدين، والمسلمون الذين خرجوا لأمرٍ يسير ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون - على عجل - تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم، فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها للمؤمن[11].
الوفاء هدي الأنبياء، والغدر سجية الجبناء:
جاء في سؤالات هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سفيان: هل يغدر؟ قال: لا[12].
روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان قال: منعني أن أشهد بدراً أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" [13].