مشاهدة النسخة كاملة : تكامل المعجزات في شخص خاتم الرسالات صلى الله عليه وسلم


حكاية ناي ♔
01-26-2024, 01:31 PM
عبر عدة دراسات عميقة تناوَلنا فيها الإعجاز البشري لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، التزمتُ فيها منهجًا علميًّا صارمًا وشاقًّا؛ حيث أثبتُّ فيه أقوال العلماء والأدباء والمفكرين من المسلمين وغيرهم، ومن العرب وغيرهم في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتصل به من سلوك بشري، أعلنوا خلالها صراحة وكتابةً بحسب لغاتهم كلمة "معجزة" في كل المواقف التي استلفتَتْهم، ومذكورة في ثنايا تلك الدراسات، ولم أكتفِ بهذا، بل أوردت أقوال غيرهم من العلماء الذين استوقفتْهم نفسُ المواقف النبوية بانبهار أقل من وصفها بـ "المعجزة"، ولكن بألفاظ مغايرة، قد تُماثلها أو تقترب منها، وكان المقصد من وراء كل هذا، هو التأكيد على الاستحقاق البشري للنبي صلى الله عليه وسلم، ممن يَدينون بدينه ويتَّبعونه، وممن هم على غير مِلَّته، ويَدرسونه ويُتابعونه.

وقد تناوَلت هذه الدراسات معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في أخلاقه على الإجمال، ثم تعرَّضت لكل مفردة على حِدَة، فكان الصدق معجزته، والوفاء معجزته، والرحمة معجزته، والثبات معجزته صلى الله عليه وسلم، ثم عرَّجت الدراسات على مَن لهم صلة مباشرة به صلى الله عليه وسلم، فكان الصحابة معجزته، والأُميَّة معجزته صلى الله عليه وسلم، ثم انتهت الدراسات بانتشار الإسلام معجزته صلى الله عليه وسلم، وآخرها معجزة الصعود والانقطاع.

إلا أن هناك أقوال لم تَرِد في تلك الدراسات، وكان من الأمانة العلمية إيرادها، والحق الأصيل للقارئ في الإلمام بها، والوقوف عليها، ومنها:
بحث الكاتب توفيق الحكيم عن مكمن المعجزة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ليجده في تلك المبارزة غير المتكافئة، فها هو العالم القديم بدياناته ومعتقداته وإمبراطورياته وشعوبه في جانب، وهذا الرجل الذي يؤمن وحْده بعقيدته في جانب وحده، ليس معه من السلاح ما يستطيع أن يدفع الضُّرَّ عن نفسه، لا أن يُجاهر بدعوته، ويطالب الناس أن يَهجُروا عقيدتهم ويؤمنوا بما أتى به وهو الحق...، ستكون مبارزة ولا شك حامية الوطيس بين سَدَنة الفكر القديم الذي لن يتنازل عما آمَن به مئات السنين، فيَقتلع جذوره تلك؛ ليُغرَس مكانها غرسٌ جديد[1]: "إذًا هناك مبارزة بين فرد أعزل، وبين عصر بأسْره يُزَمْجِر غضبًا: عصر زاخر بأسلحته ورجاله، وعقائده وفقهائه وعلمائه ومشاهيره، وتقاليده وماضيه، ومجده وتاريخه..، هذه المبارزة الهائلة العجيبة، من يستطيع أن يُقدِم عليها غير نبي؟!

على أن المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي، ورمي القفاز، وارتفاع ذلك الصوت الضعيف على شاطئ ذلك البحر الطامي العجاج: (أن اتْرُك أيها العالم دينَك القديم واتْبعني!)، ذلك الصوت الذي لا جوابَ عليه إلا سخرية طويلة وقَهقهة عريضة، وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وإبراء الأعمى، وإنما المعجزة حقيقةً أن يخرج مثل هذا الرجل الوحيد الأعزل من هذه المعركة المخيفة ظافرًا منتصرًا، فإذا هذا العالم العتيد كله يَجثو عند قدَميه مُنكِّس الأسلحة، وقد انقلبت سخريته خشوعًا طويلاً، وقَهقته صلاةً عميقة!).

وفي نص طويل يُسهب شاعر فرنسا "لامارتين" في استقصاء مواطن العظمة، ومكامن المعجزة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستعرضًا المراحل التاريخية لمسيرة تبليغ الرسالة الخاتمة، ووضْع المقارنات لاستخلاص النتائج التي تأتي في جانب منها مُتفقة مع ما ذهب إليه الحكيم في مقولته، فيقول: (لم يحدث من قبل أن عُهِد لإنسان - طوعًا أو كرهًا - بمثل هذه المهمة السامية، فقد كانت المهمة فوق طاقة البشر، بها يقضي على الضلالات التي وقفت حائلاً بين الإنسان والخالق، وبها يصل الله بالإنسان، ويَصِل الإنسان بالله، وبه يعيد لفكرة الألوهية رشادها وقُدسيتها وسط فوضى آلهة الأوثان الشوهاء التي كان القوم يعبدونها وقتئذٍ، لم يحدث من قبلُ أن قام إنسان بعمل يتعدَّى مَقدور البشر بمثل هذه الوسائل الهزيلة؛ ذلك لأنه اعتمد على نفسه كليَّةً في تصوُّر وتنفيذ مهمته العظيمة، ولم يكن يساعده سوى حَفنة من الرجال المؤمنين به في هذا الركن المجهول من الصحراء الشاسعة.

وأخيرًا، فلم يحدث أن استطاع إنسان من قبلُ أن يُحقق مثل هذه الثورة الهائلة والدائمة في العالم بأسْره؛ لأنه بعد أقل من قرنين على ظهور الإسلام، كان بالإيمان والسلاح يُسيطر على كل جزيرة العرب، ثم يغزو باسم الله بلاد فارس وخراسان، وما بين النهرين، والهند الغربية، وسوريا والحبشة، وكل شمال إفريقيا، وعددًا من جزر البحر المتوسط، وإسبانيا، وجزءًا من بلاد الغال "فرنسا".

فإذا اعتبرنا عظمة الهدف وضآلة الوسائل، والإنجاز المذهل - معاييرَ ثلاثة للعبقرية الإنسانية، فمن ذا الذي يَجرؤ على مقارنة أيٍّ من عظماء الرجال في التاريخ الحديث مع محمد صلى الله عليه وسلم؟

هؤلاء العظماء خلَقوا السلاح أو القوانين الوضعية أو الإمبراطوريات فقط، لم يُقيموا سوى هياكل مادية رَأَوْها في معظم الأحيان تتهاوى أمام أنظارهم، لكن هذا الرجل لم يُحرك الجيوش والقوانين والتشريعات، والإمبراطوريات والشعوب والمماليك وحدها، ولكنه حرَّك معها ملايين الناس ممن كانوا يسكنون أكثر من ثُلث العالم المأهول في ذلك الوقت، بل وأكثر من ذلك حرَّك الأرباب والمقدسات والأديان، والأفكار والمعتقدات والأرواح، على هدي الكتاب الذي تُصبح كل آية من آياته قانونًا يُنظِّم، خلق أمة روحانية، امتزجت فيها شعوبٌ بأكملها من كل عِرق ولون ولغة، ترَك فينا الخاصيةَ التي لا تُمحى للأمة الإسلامية، ألا وهي كراهية الشِّرك بالله، وعبادة الإله الواحد الأحد الذي لا تُدركه الأبصار، هكذا تميَّز المؤمنون بمحمد بالالتزام الشديد بالوقوف ضد الآلهة المزيَّفة، والشِّرك الذي يُدنس السماء، كان دخول ثُلث سكان الأرض في دينه هو معجزته، أو على الأصح لا نقول: إنها كانت معجزة الرجل، وإنما معجزة العقل، فقد كانت فكرة الإله الواحد[2] التي دعا إليها وسط أساطير وخرافات رسَّختها ممارسات الكُهَّان وخُدَّام الأوثان - معجزة في حد ذاتها، استطاعت - فورَ أن نطَق بها - أن تُدمر كلَّ معابد الوثنية، وأن تُضرِم النار في ثلث العالم.

إن حياته وتأمُّلاته في الكون وثورته هي البطولة ضد الخرافات والضلالات في بلده، وجراءته على تحدِّي سَخَط الوثنيين، وقوة تحمُّله للأذى طوال ثلاثة عشر عامًا في مكة[3]، وصبره على تعسُّف القوم وازدرائهم، حتى كاد أن يُصبح ضحيتهم كل هذا، مع استمراره في نشر دعوته، وحربه ضد فساد الأخلاق وعادات الجاهلية، وإيمانه العميق بالنجاح، وسكينته عند الشدائد، وتواضُعه عند النصر، وطموحه الذي كان مُكرَّسًا لفكرة واحدة، لا سعيًا وراء الجاه والسلطان، وصلواته التي كانت لا تنقطع، ومناجاته لله، وموته وانتصاره الساحق بعد الموت - تشهد جميعها بأننا لسنا أمام أفَّاكٍ مُدَّعٍ، وإنما نحن أمام إيمان راسخ، واقتناع لا يَتزعزع، فقد أعطاه اعتناقه القوة ليُقيم الدين، فبنَى عقيدته على مبدأين أساسيين؛ هما: أن الله واحد، وأنه غير محسوس ماديًّا، بالمبدأ الأول نعرف مَن هو الله، والثاني ترتبط المعرفة بالغيب، إنه فيلسوف، خطيب، مشرِّع، مُحارب، فاتح، مفكر، رسول، مؤسس دين عقلاني وعبادة، بلا تماثيل أو أوثان، وزعيم عشرين إمبراطورية أرضية، بالإضافة إلى الإمبراطورية الروحية التي لا تَحُدُّها حدودٌ، هذا هو محمد، فإذا نظرنا في كل المعايير التي نقيس بها عظمة الإنسان، فلنسأل أنفسنا: هل يوجد أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم؟)[4].

أما المرأة، فلها مع شخصه صلى الله عليه وسلم رؤية أُسرية، باعتباره زوجًا، وليس كأي زوج، بل الزوج العادل المنصف المتسامح، الذي لم يسمح لشواغل رسالته وعظائم الأمور حوله أن تتجاذبه فتَسرقه من أزواجه، أو يَسلُبُهنَّ حقوقهنَّ، فلم يُرْهِبُهنَّ بكونه رسولاً وهنَّ أُمهات المؤمنين أن يَتغاضينَ عن حقوقهن أبدًا..، فهذا خُلقٌ يليق بصغار الرجال الهُمل النكرات، وليس بخُلقه الكريم صلى الله عليه وسلم، وما كانت لترصد تلك المعجزة إلا امرأة، فتقول الدكتورة ليلى أحمد الأحدب[5]: (أي رجل يكون له تسعة نسوة، ثم يستطيع أن يصوغ حياته وحياة الناس من حوله بهذا الشكل العبقري؟!.... إن هذا التوازن بين الروح والمادة الذي اكتست به حياة رسولنا حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام هو بحد ذاته معجزة ودلالة على أنه نبي).

ويدعم ما ذهبت إليه الدكتورة ليلى وما فيه من تماسٍّ من علاقته صلى الله عليه وسلم بأزواجه رضوان الله عليهنَّ وبين الناس، بسمته صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تكن الحياة حوله رغيدة يسيرة، لكونه نبيًّا يستعين بمدد السماء كلما أعْوَزته حاجة، ناجى ربه، فاستجاب له.

إن الذي يؤسِّس منزلاً لحياة زوجية أو شركة، لا تراه إلا مشغولاً مهمومًا قَلِقًا، لا تكاد الابتسامة تلامس شفتيه، فما بالك بمن ينشر دينًا وينشئ دولة ويدعو ويجاهد، ورغم عظيم مسؤولياته بالقيام بأمر الدعوة الناشئة، وتأمين مَن آمنوا معه من غوائل المعتدين، والوقوف أمام ما تَبثه أفواه المنافقين من دسٍّ رخيصٍ عليه وعلى آل بيته، والإجابة على ما يطرحه اليهود من أسئلة تعجيزية - من وجهة نظرهم - بُغية إحباط نفوس الملتفين حوله من المؤمنين، فينفضون عنه ويتركونه قائمًا، ودأبه على تنظيم الغزوات وإخراج السرايا لصد الهجوم الباغي الطاغي على الدعوة لوأْدها سريعًا في مهدها، ذلك الهجوم الذي تكاتف عليه فيه اليهود والمنافقون من الداخل، والمشركون من الخارج، والدولة الرومانية وأذنابها على الحدود بعددها وعَتادها، ومعاناته في تلقي الوحي، وحفظه في السطور بعد الصدور، وإرساله السفراء بالرسائل للملوك لدعوتهم للإسلام، وتنظيم المجتمع ليتعايش فيه المسلمون وغيرهم، ثم حق آل بيته من أزواجه الطيبات المؤمنات الطاهرات وأبنائهن وبناتهن، وبناته وأحفاده، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم بالزوج المتشاغل عن أمور بيته أبدًا، وإلى جانب هذا كله أسئلة المؤمنين والمؤمنات فيما يشغلهم وفيما يَجِدُّ لهم من حياتهم الإيمانية الجديدة من أمور تعبُّدية، أو من معاملات فيما بين الرجل وامرأته، والمسلم وأخيه المسلم، مما يلزم معه لقاؤه بهم وتعليمهم، ثم قيامه بواجب القضاء والفصل في كل ما يَنشَب بينهم من بيوع ومواريث وغيره، وفوق ذلك كثير، ولو عددنا ما أحصينا ولا توقَّفنا.

برغم كل ما تقدم، لم يعهد المسلمون في نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا الوجه الأَلِق المنير ببسمة لا تكاد تُفارق شفتيه، حتى في أشد المواقف التي تكاد تَعصِف به ومَن معه، كانت بسمته دومًا سلاحه الذي يعتصم به بعد اعتصامه بالله عز وجل، وكانت الفرع الباسق النَّدِي المُطِل من شجرة رحمته؛ ليُظِل مَن حوله، فيسري الأمن إلى قلوبهم.

أخرج الترمذي في المناقب عن عبدِالله بنِ الحارثِ بنِ جزء رضي الله عنه، قال: (ما رأيتُ أحدًا أكثرَ تبسُّمًا من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)[6].

وكان الصحابة من حوله صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه الرسول الحق من الله الحق، فقوله حق، وصمته حق، ومُزاحه صلى الله عليه وسلم كذلك حق، فهو المعصوم الذي لا ينطِق عن الهوى، فحفظوا له قدره، وعَظَّموه في قلوبهم، وقدَّموه على أنفسهم، وافتدوه بأرواحهم، ليس أحب منه على وجه البسيطة أحد، وليس أعظمَ منه صلى الله عليه وسلم - منذ أن خلَق الله عز وجل الأرض ومَن عليها، وإلى أن يَرِثَها ومَن عليها - أحدٌ.

يقول الدكتور محمد عمارة: "ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النموذج الأعظم للإنسان الكامل، الذي تكاملت في صفاته وشمائله وأفعاله الوسطية الجامعة، والتوازن العادل - فإن حياته وأُسوته وقدوته لم تخلُ من المُلَح والطرائف والنكات، التي نهضت بمهام الترويح عن النفس، وتجديد ملكات وطاقات القلوب، والإعانة على جد الحياة وصعابها، مع التزام الحق والصدق والعدل"[7].

فبسمته صلى الله عليه وسلم رحمة، ومُزاحه صلى الله عليه وسلم رحمة، وتواضعه صلى الله عليه وسلم رحمة، وتخفيفه لبعض التكاليف التعبدية عن أتباعه من المؤمنين رحمة، وأن يُشيح بوجهه عمن أغضبه رحمة، واختياره للأيسر لأُمته رحمة، واستغفاره صلى الله عليه وسلم عن أمته رحمة، وشفاعته لنا في مشهد القيامة والهول العظيم بين يدي الله رحمة، ومراجعته صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في أمر الصلاة في رحلة العروج العلوية رحمة، ولو استطردنا لَفَصَّلنا وأسْهَبنا فيما أجمله الحق في قوله الفصل الجامع المانع الماتع الحق: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

يقول العقاد: "فاستراحة محمد إلى الفكاهة هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شمِلت كل ناحية من نواحي العاطفة الإنسانية، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال، وكان محمد يتفكَّه ويَمزح كما كان يستريح إلى الفكاهة والمزاح، وكان دأبه في ذلك دأبه في جميع مزاياه، يعطي كل مزية حقها، ولا يأخذ لها من حق غيرها، أو يعطي الفكاهة حقها، ولا ينقص بذلك من حق الصدق والمُروءة، وإذا مزح محمد، فإنما كان يعطي الرضا والبشاشة حقهما، ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروءة، فكان مزاحه آية من آيات النبوة؛ لأنه كان كذلك آية من آيات الإنسانية، ولم يكن بالنقيض الذي يستغرب من نبي كريم"[8].

فمزاحه صلى الله عليه وسلم من تواضعه، نعم، إنه تواضُع، ولكنها رحمة على جناح بسمة هدهدت الخائف، وأمَّنَت المُروَّع، كان صلى الله عليه وسلم مبعوث الرحمة والعناية الإلهية لكافة البشر برسالة سامية جادة، يكسو البهاء والمهابة والجمال الوقور وجهه وشخصه، ومشيته وجلسته صلى الله عليه وسلم، فقد جاءمَندخلعليهفارتعدَ،فقال صلى الله عليه وسلمله: ((هوِّنعليك،فلستُبملكٍ،إنماأناابنامرأةمنقريشكانتتأ كلالقديدبمكة))[9].

إن أغرب ما نستطيع أن نتخيله معجزة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو "الفقر"، وهذا عين ما يراه مصطفى صادق الرافعي حين يقول: "إن فقره صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتسعُ في الكون لا في المال، فهو فقرٌ يُعَد من معجزاته الكبرى التي لم يَتنبه إليها أحد إلى الآن، وهو خاص به، ومن أين تدبَّرته، رأيتَه في حقيقته معجزة تواضعت وغيَّرت اسمها، معجزة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرنًا، وهي اليوم تثبتُ بالبرهان معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفةِ نفسهِ: ((إنما أنا رحمة مُهداة))[10].

إن ما قاله الرافعي ليس من قبيل الكلمات الفخمة الرنانة التي لا يُؤيدها سندٌ من واقع أو فكر، فالرجل يُجلي ما ذهب إليه، فهو يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنزَّه عن التعلق بالمال؛ لأنه نبي الإنسانية ومثَلُها الأعلى، وأنه لم يكن يفتقر إلى امتلاك المال، بل امتلكه وجاد به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان ليترك المال عنده يتناسل ويتكاثر، ولهذا ختم كلامه بقوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوُتهم واختلاف مراتبهم، كيف يكون لهم عقل واحد من الكون؟ وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يَفتنه أو يَصرِفه عن واجبه الإنساني، أبت نفسُهُ العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذا هو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل، فيرتفع وتتهاوى ويصبح الذهب - وإنه ذهب - وليس فيه عند المؤمن إلا رُوح التراب)[11].

إن فقر الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هو الغريب المضاف إلى معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولكن "حب الصداقة"، وهي معجزة لم يكن ليتطرق إليها الفكر؛ يقول العقاد: "هي المحبة التي جعلت كثيرًا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم إياه، واطمئنانهم إليه، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والإيمان، إن عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها المقام العظيم في نظر بني الإنسان، ولكن قد يقال: إن استحقاق العظيم أن يحبه العظماء لأشرف من ذلك رتبة، وأدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان..، هذا صحيح لاريب فيه..، وهنا أيضًا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحدٌ من ذوي الصداقات النادرة.

فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الهمة، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة....، تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الإعجاز في باب الصداقات، وما استحقها محمد إلا بنفس غنيت بالحب وخلصت له حتى أعطت كل محبٍّ لها كفاءَ ما يعطيها؛ مودة بمودة، وصفاء بصفاء، وعليها المزيد من فضل التفاوت في الأقدار..، ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعًا بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة، وهما أشرف من نور البصر؛ لأنه نعمة يشترك فيها الإنسان والعجماوات، ونور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الإنسان"[12].

أما وقد استغرقتنا هذه المعجزات في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بات من البيِّن الجَلِي أن الذات التي انبثقت منها ورُكِّبت فيها كلُّ تلك المعجزات، أن تكون معجزة في ذاتها؛ يقول خالد محمد خالد معترضًا على إلحاح المشركين في مطالبته صلى الله عليه وسلم بأن يأتيهم بالخوارق والمعجزات: "لقد جهِل المشركون أن الله جل جلاله لا يُمتحَن، ولا تناله اختبارات الناس وتفسيراتهم..، ومن ثَم فهم باطلون ومبطلون حين يتطاولون بالقول، فيسألونه سبحانه أن يريه مقدرته من خلال "محمد" صلى الله عليه وسلم من خلال قدرته وتوثيقه، وتأييده لهذه النبوة ولصاحبها..! لم يستطيعوا أن يرتفعوا بتفكيرهم إلى المستوى الذي عنده يدركون أن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هي محمدٌ ذاته..، وأن أروع آياته ومعجزاته، ماثلٌ في أن الله جعله هُدًى ونورًا"[13].

وجمع د. عبدالمعطي الدالاتي للرسول صلى الله عليه وسلم بعض ما سبق؛ ليجعله معجزة: "لقد كان القرآن معجزة الإسلام الأولى، وكان الرسول بذاته وأخلاقه وسيرته، وانتشار دعوته - معجزة الإسلام الثانية، وحق للذات التي تجمَّعت فيها نهايات الفضيلة الإنسانية العليا أن تكون معجزة الإنسانية الخالدة"[14].

كم ماتت رسالات بموت رُسلها وأنبيائها، بل كم ماتت أفكار ونظريات سريعًا بموت أصحابها، وتفرَّق بعدها من آمنوا بها ودافعوا عنها ونافَحوا، ومات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كما يموت البشر بأمْر ربِّ البشر سبحانه وتعالى، ومع هذا فما زالت رسالته باقية خالدة، وستبقى، ويزداد عدد المؤمنين بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورسالته، لتشهد بصدق الإعجاز الخالد للرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول ر. ف. برادلي: "وفي الواقع إنها لمعجزة أن ما جاء به محمد لم يمُت بموته، إن هذا لشاهد آخر على شخصية الرجل، وعلى قوة الدين الذي أسَّسه".

يُبين ديدات أن النجاح ظل ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته وبعدها، فيقول: "إن هذا الرجل - يقصد ديدات الرسول صلى الله عليه وسلم - نجح في حياته، واستمر نجاحه بعد موته على يد أتباعه، فقد صنع الأبطال، إنها مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم التي خرَّجت الأبطال والدعاة الذين جابوا الأرض شرقًا وغربًا لنشر دين الله ونوره، وتبليغه إلى الناس"[15].

إن تزاحُم الكمالات داخل شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أدهشت عقول مَن هم من غير أهل مِلَّتنا..، ولِمَ لا فقد كان سراجًا منيرًا يضيء بالكمالات فوق ما يخطر في بال الكُمَّل وفوق ما يخطر في بال الشخصيات؟ لقد كان نورًا باهرًا بهَر أحبابه وأصحابه، كما بهر أعداءه وخصومه صلى الله عليه وسلم، فكان الفريقان يَعجَبان منه أشد العجب من هذه الكمالات التي لا يتوقعها أحدٌ من بشر[16].

وبدأ تلك المحاولة الفيلسوف الهندوسي ك. س. رامكرشنة راو، فيقول: "إنه من الصعب جدًّا أن نصل إلى الحقيقة الكاملة لشخصية محمد، إنني لم أستطع الحصول إلا على لمحة سريعة منها، يا لها من تعاقب مثير لمشاهد رائعة! فهناك محمد النبي ومحمد القائد، ومحمد الملك ومحمد المقاتل، ومحمد التاجر ومحمد الواعظ أو البشير، ومحمد الحكيم ومحمد رجل الدولة، ومحمد الخطيب ومحمد المصلح والمجدد، ومحمد ملاذ اليتامى، ومحمد حامي العبيد، والمدافع عنهم، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، والحَكَم، ومحمد القدِّيس، ولقد كان محمد بطلاً في كل هذه المهام الجليلة، وفي جميع مجالات النشاط الإنساني على حدٍّ سواء"[17].

ولقد جمع الرجل بين الصفات التي يتحلى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين المهام التي يقوم بها؛ بناءً على قياسات لأقوال خلطت بين الأمرين؛ إذ يضع الفيلسوف "رينيه ديكارت" أن الواعظ الماهر ضمن أندر أصناف الرجال في العالم؛ لأنه جمع بين بالقدرة الفائقة على الوعظ والحديث الجاد، وهو أمر نادر الحدوث، كما ذكر ذلك الزعيم الألماني "أدولف هتلر" في كتابه "كفاحي"؛ حيث يقول: "من النادر أن يكون واضع النظريات قائدًا عظيمًا..، أما المحرك الاجتماعي أو السياسي، فامتلاكه لتلك الصفات التي تُرشحه للقيادة أرجح إلى حدٍّ بعيد، فهو دائمًا قائدًا أفضل، فالقيادة تعني القدرة على تحريك جموع البشر، والقدرة على تقديم الأفكار لا علاقة لها بالقدرة على القيادة"…، ثم يُصدر حكمَه الباتَّ في أن اجتماع الكمالات أمر عظيم ونادر الحدوث، كمن يشهد في ذات الوقت لجامع تلك الكمالات ضمنيًّا بالعظمة، فيقول: "إن اتحاد صفات وضع النظريات والتنظيم والقيادة في شخص واحد، هي ظاهرة من النادر جدًّا حدوثها في هذا العالم، وهنالك تكمُن العظمة".

وبناءً على تلك الاستقراءات التي جمعها رامكرشنة راو ورصدها، يصدر حكمه النهائي والأخير والمتجرد والمحايد، فيقول: "وقد شاهد العالم هذه الظاهرة النادرة تتجسد في شخص عاش على الأرض هو نبي الإسلام".

حقًّا لقد جاء حكم رامكرشنة محايدًا؛ لأنه استهلَّ دراسته بعِدة ملاحظات تمهيدية، أفصح فيها عن هندوسيته المغايرة للإسلام، وأنه لم يعتنقه، كما دعا إلى محاولة المرء للتعرف على جميع أديان العالم؛ لأنه شيء مرغوب فيه، وذلك بالروح الصحيحة، من أجل تشجيع التفاهم المتبادل والتقبل الأفضل لمن يعيشون معنا على المدى القريب والبعيد[18].

فالثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه كمالات بلَغ في كلٍّ منها الذِّروة، واجتماع هذه الكمالات في ذات واحدة معجزة وليس عبقرية..، فالعبقرية هي أن يتفوق الفرد في صفة واحدة وحسب..، أما أن تكون ذواته مَجمع كمالات، فهنا تكون "نبوَّة"، وتكون المعجزة هي ذاته صلى الله عليه وسلم التي جمعت الكمالات، وبلغت في كل كمال ذِروته؛ إذ كانت ذاته كسلوك وخُلق وسيرة، هي المعجزة التي تسعى على الأرض..، كما يرى مصطفى محمود[19] أن من يرى إدراك تلك الكمالات بمستطاعة لقصور نظره؛ إذ إنه يحسَبُها جملة واحدة، والأصح أن يعاينها مفردة، مفردة، فيظهر في ذلك التفصيل سر الإعجاز، فلئن بلغت ذات الكمال في صفة واحدة - فتَبُزُّ فيها وتتفوق على أقرانها - فهذه هي العبقرية، وأما أن تَمتحنه الأيام في كل صفة، فتبلغ فيها غاية المدى - دون مدرسة أو معلم - فهذا هو الإعجاز بعينه.

ولهذا فإن تزاحُم الكمالات في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخلق تناقضًا أو تضادًّا، بل تتناغم وتنسجم فيما بينها وتتكامل، وفي هذا يقول بديع الزمان النورسي: "ونقطة الإعجاز أن الأخلاق الحميدة لا تتخالف ولا تتباين فيما بينها، فإنها تتزاحم في درجة الكمال، فلو تفوقت إحداها ضَعُفَت الأخرى...، فاجتماعُ كمال الحلم مع كمال الشجاعة، وكمال التواضع مع كمال الشهامة، وكمال العدالة مع كمال المروءة والرحمة، ومنتهى الاقتصاد والاعتداد مع منتهى الكرم والسخاء، وغاية الوقار مع منتهى الحياء، وغاية الرأفة مع منتهى البغض في الله، وغاية العفو والصفح مع منتهى العزة بالنفس، وغاية التوكل مع منتهى الاجتهاد والسعي...، فاجتماعُ أمثال هذه الأخلاق الراقية المتزاحمة في شخص واحد - كل في ذِروتها دفعة واحدة، وانكشافها من دون تدافع وتزاحُم - هو معجزة المعجزات"[20].

نعم، معجزة المعجزات؛ إذ إن كل مفردة من الكمال هي بذاتها معجزة، واجتماعها في شخص واحد معجزة، وبلوغ كل مفردة من الكمال قمتها معجزة، واتساقها لا تضادُّها في نسقٍ واحد معجزة.

واجتماع تلك الكمالات في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بلُبِّ شيخ علماء الشريعة في عصره الإمام محمد أبو زهرة، مُقرًّا بعجزه عن الإحاطة بكل الكمالات المجموعة في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: "يا رسول الله، إننا نكتب في العظماء لنصور نواحي عظمتهم، ولكل عظيم ناحية واحدة من العظمة، فالاتجاه إلى تلك الناحية هو مفتاح عظمته، فتسهل معرفته، لكنك يا رسول الله فوق عظمة الأشخاص؛ لأن وجوه عظمتك تعدَّدت؛ حتى يَعجِز المحصي عن الإحصاء، والمستقرئ عن الاستقراء، وإذا نَفِدَت الطاقة أقرَّ مطمئنًا بعجزه، ومؤمنًا بأن وجودك في هذا الوجود معجزة البشر..، فكل شيء في حياتك الأولى كان من الخوارق التي علت عن الأسباب والمسببات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع، وإن كان مُحققًا، ولكنك كنت صنيع الله، فكنت معجزةً بشخصك وكونك ووجودك، ففيك البشرية، وفيك المعجزة الإلهية صلى الله عليه وسلم"[21].

المتأمل في تلك المقولات، وإن بدَت أمامه مختلفة الرؤى، إلا أنها كلها يضمها ويستوعبها شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فصدقه من أخلاقه، وأفكاره من شخصيته التي صنعت سيرته التي أصبحت خير مثال لأن يقتدي بها أصحابه رضوان الله عليهم، فيخرج منها هذا النور الرباني الذي ملأ الوجود من حوله صلى الله عليه وسلم، وتعطرت الدنيا بالعبق السماوي بنور الرسالة وهدي خير رسول، لتؤكد عن يقين وتشهد بحقٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بحد ذاته معجزة الإنسانية الخالدة، بل هو معجزة المعجزات، أُثبتها له كما أثبتها له كل من سبقوا حبًّا وكرامة، دون غلو أو شططٍ، إن لم يكن قد شابها التقصير، فلم ترقَ إلى بلوغ عظمته التي شهِد له بها ربه عز وجل في كتابه، وحسبي جهد المقل، وأن يكون ما كتبته في هذه السلسلة العطرة بنانًا تومئ إلي تلك العظمة في آفاقها...، وأختمها بتلك الأبيات التي فاضت بها على القلب نفحات طيبات من معايشة تلك الدراسات في حقه صلى الله عليه وسلم:

ساكن الروح
01-26-2024, 01:40 PM
اسأل الله العظيم
أن يرزقك الفردوس الأعلى من الجنان.
وأن يثيبك البارئ خير الثواب .
دمت برضى الرحمن