حكاية ناي ♔
01-30-2024, 02:54 PM
تمهيد:
لقد بدأت الدعوةُ في المدينة المنورة - يثرب - من قَبْل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حينما دعا "الأنصارَ" وعرَض عليهم الإسلامَ في المَوْسم بالكعبة بمكة، وتمت بيعةُ العقبة الأولى؛ عن عبادة بن الصامت قال: (كنتُ ممن حضر العقبةَ الأولى، وكنا اثني عشرَ رجلاً، فبايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعةِ النساء - وذلك قبل أن تُفرَض الحرب - على ألا نشركَ بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجُلنا، ولا نعصيه في معروف)، ويقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: قوله: (على بيعة النساء) يعني: وَفْق ما نزلت عليه بيعةُ النساء بعد ذلك عام الحديبية[1].
قال ابن اسحاق: فلما انصرف عنه القومُ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعبَ بن عمير، وأمَره أن يُقرِئَهم القرآن، ويُعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين[2].
وظل مصعبٌ رضي الله عنه يدعو في المدينة، ويقرأ عليهم ما نزَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، حتى لم تبقَ دار من دُور (الأنصار)، إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
ولا شك أن الدعوةَ في المدينة في هذه الفترة كانت على نفسِ منهج الدعوة في مكة، وهي الدعوة إلى التوحيدِ، وإلى مكارم الأخلاق، ونَبْذِ الشِّرك والسيِّئ من الأفعال والأخلاق، حتى كانت بيعة العقبة الثانية، وهي على خلاف البيعة الأولى، فكانت بيعةً على الحرب؛ ذكر الحافظ ابن كثير: أن عبادةَ بن الصامت الأنصاريَّ قال: "إنا بايعنا الرسولَ صلى الله عليه وسلم على السمعِ والطاعة في النَّشاط والكَسَل، والنَّفقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعلى أن نقولَ في الله لا تأخذنا فيه لومةُ لائم، وعلى أن ننصرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدِم علينا يثربَ مما نمنَع به أنفسَنا وأرواحنا وأبناءنا، ولنا الجنة..."[3]، وكانوا سبعين رجلاً وامرأة واحدة.
هذا، وكان يسكُن يثربَ مع قبائل العرب من الأوس والخزرج قبائلُ يهود، وقد كانوا يعلَمون بقُرب بعثة نبي في هذا الزمان والمكان؛ قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
وكانت أرضُ الدعوة - وهي يثرب - تتكوَّنُ من المسلمين من الأوسِ والخزرج، واليهود والمشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام بعدُ، ثم نشأت طائفةٌ جديدة بعد ذلك، وهي المنافقون، ومن هنا يمكن القول بأن مِن أهداف الدعوة في مرحلتها المدنيَّة ما يلي:
1- تكوين القاعدة الإيمانية الصُّلبة من المسلِمين الأوَّلين من أهل يثربَ، والتأليف بينهم من ناحية، وبينهم وبين إخوانهم المهاجرين من ناحية أخرى[4]؛ وذلك بإقرارِ نظام المؤاخاة والموالاة حسب نظام الصحيفة، كما سيتبين.
2- مواجهة اليهود؛ أعداء الدعوة، أعداء الله، وأعداء الرسل، وقد نزلت سورةُ البقرة لتكشفَ ألاعيبَهم، وتصفَ أخلاقهم، وتحذِّر المسلمين منهم، ومِن أن يفعلوا فِعلهم، أو يتشبَّهوا بهم في ذلك؛ وذلك فيما يقرُبُ من مائة وعشرين آيةً، ومواجهة المنافقين كذلك وفَضْحهم.
3- إرساء أول قاعدة تشريعية، ومثَّلتها سورة البقرة وسورة الأنفال، وهي المرحلةُ الأولى من مراحلِ التشريع؛ حيث سار التشريعُ بتدرُّج - حسب ترتيب المصحف[5] - وكانت المرحلة الثانية من مراحل فَرْض العبادات، وتحريم المحرَّمات، وأحكام المعاملات في سورة النِّساء، وكانت المرحلةُ النهائية - والتي تمثِّل الأحكامَ النهائية المستقرة والناسخة لِما قبْلَها من أحكام مرحلية - هي في سورتي المائدة والتوبة.
4- توطيد أركان الدولة الثلاثة: الشَّعب (الأمة)، والنظام، والأرض[6]؛ وذلك وَفْق ما جاء في الكتاب الذي كتَبه رسول الله صلى الله عليه وسلم (والمسمَّى بالصحيفة)، حدَّد فيه قواعدَ ومعالِمَ ودستور الدولة الإسلامية الجديدة، وهذا نص الصحيفة:
"قال محمد بن إسحاق: (كتب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَع فيه اليهودَ، وعاهَدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط، وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمد النبيِّ الأمِّي بين المؤمنين والمسلمين من قريشٍ ويثربَ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمةٌ واحدة من دون الناس، والمهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدون عانيَهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار، وأهل كل دار من بني ساعدة وبني جُشَم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف... إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرجًا - المثقل بالدَّين، الكثير العيال - بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، وألاَّ يحالف مؤمنٌ مولَى مؤمنٍ دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعةَ ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد في الأرض بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم، ولا يقتل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، ولا يُسالم مؤمنًا دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يُبيء - من البواء؛ أي: المساواة - بعضهم بعضًا بما نال دماءهم في سبيل الله، وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط
مؤمنًا قتلاً عن بينة، فإنه قَوَدٌ به، إلا أن يرضى وليُّ المقتول عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحفية، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصرَ مُحدِثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإنه عليه لعنةُ الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرَدَّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلَم وأثِم؛ فإنه لا يُوتِغُ - لا يوبق ويهلك - إلا نفسَه وأهلَ بيته، وأن يهود بني النجار وبني الحارث... مثل يهود بني عوف، وأن بطانةَ يهودَ كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد، وأنه لَا يُنْحَجَزُ على ثَأْرٍ جُرْحٌ، وأنه مَن فتك فبنفسِه فتك، وأهلِ بيته، إلا من ظلم، وأن الله على أبرِّ هذا، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على مَن حارَب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النُّصح والبِر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن على يثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفْس غير مضارٍّ ولا آثم، وأنه لا تُجارُ حرمةٌ إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَث أو شجار يُخاف فسادُه، فإن مردَّه إلى الله وإلى محمدٍ رسول الله، وأن الله على أتْقَى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وأنه لا تُجارُ قريش ولا مَن نصرها، وأن بينهم النصر على من دَهِمَ يثرب، وإذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب الدين، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثِم، وأنه من خرج آمِن، ومَن قعد آمِن بالمدينة، إلا من ظلَم أو أثِم، وأن الله جارٌ لِمَنِ اتَّقى وبَرَّ)[7].
لقد وضَعتْ هذه الصحيفة أسسَ ومبادئ الدولة الإسلامية الجديدة، وصارت دستورًا للأمة يستند إلى كتابِ الله عز وجل وسنة رسوله، ويستمد مبادئَه من عقيدة التوحيد وشريعة الإسلام التي تتميز بالعَدْل والسَّماحة، والصدق والوضوح، والشمولية والواقعية؛ لأن مصدرَها واحد، وهو الوحي.
ولقد حددت الصحيفة المفاهيم والمبادئ الآتية:
• مفهوم الأمة وحقوق المواطنة:
عرَّفت الأمةَ تعريفًا لا يستند إلى العصبية القبَلية، وإنما قررت أن الأمةَ كلُّ من اعتنق الدِّين الجديد دون نظرٍ إلى أصله وقبيلته؛ فهي أمة قابلة للاتِّساع واستيعاب شعوب أخرى، حسب المبدأ القرآني: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]؛ فقد جاء في نص الصحيفة وفي مطلعِها: (هذا كتاب محمدٍ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بين المسلمين من قريش ويثرب، ومن تبِعهم فلحق بهم، وجاهَد معهم، أنهم أمةٌ واحدة من دون الناس).
فلم تعُدْ هناك فوارقُ بين القبائل، وإنما صارت الأفخاذُ والقبائل أعضاءً في الأمة الواحدة، وصار ميزانُ التفاضل هو التقوى والعملَ الصالح.
• سيادة القانون والإجراءات التنفيذية:
فالناس أمام القانون سواء؛ فإن أخلَّ أحدٌ بالأمن، أو ارتكب عملاً فاحشًا، فإن الأمةَ بأجمعها تتولى توقيعَ العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالَبون بالتضامنِ في تنفيذ العقوبة، ولو كان ولَدَ أحدهم؛ جاء في الوثيقة: (وأن المؤمنين المتَّقين على مَن بغى أو ابتغى دسيعةَ ظُلْم أو إِثْم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديَهم عليه جميعًا، ولو كان ولَدَ أحدِهم...).
وارتبط بسيادة القانون تحويلُ الثأر إلى عقوبة، بمعنى: أنه عمل يقع على عاتق الأمة بعد أن كانت الأفخاذُ والعشائر تقوم به طبقًا للنظام القبَلي الباطل، واحتفظ القانونُ للفرد في نفس الوقت بالحق في تقرير نوع العقوبة بالاتفاق مع المعتدى عليه، جاء في الصحيفة: (وأن من اعتبط مؤمنًا قتلاً على بيِّنةٍ، فإنه قَوَدٌ به، إلا أن يرضى وليُّ المقتول...)[8].
• حرية الأديان وتحديد علاقةِ أتباعها بالدولة:
أقرَّت الصحيفة حريةَ الأديان، وأن أتباعها يُعتَبَرون مواطنين لهم حقُّ التمتع بحماية الدولة، وقد نصَّتِ الصحيفة - بوضوح - على ما لليهود وما عليهم من حقوق وواجبات، مع مراعاة حقوق المواطنة[9].
• سيادة الدولة وإقرارها مظاهرَ تلك السيادة:
وتمثَّلت قواعدُ سيادة الدولة فيما يلي:
1- اتحاد السكان جميعًا - المواطنين - لدفع أي عدوان.
2- اعتبار الحرب والسلام أمرًا من أمورِ سيادة الدولة.
3- حرية الوطن وأراضيه (وأن يثرب حرامٌ جوفُها...).
4- أن رئيس الدولة هو المرجعُ في كل خلاف، وحُكمه نافذ، وطاعته واجبة[10].
ومن هنا كان من أهداف هذه المرحلة توطيدُ أركان الدولة الثلاثة، وهي الأمة: والتي تمثَّلت في المسلمين ومَن حالَفهم وعاهَدهم، والنظام: وهو الصحيفة ومصدرها القرآن والسنَّة، والأرض: وهي يثربُ وما حولَها.
5- تحقيق عالَمية الدعوة[11]: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وذلك بضمان حريةِ الدعوة، وإزالة معوقاتها ومَن يعترض طريقها؛ لتسير بالحِكمة والموعظة الحسنة، ولتحقيق حرية اختيار العقيدة بلا إكراه، ولفرض السلامِ والأمان، ونَشْر العَدْل في ربوع الأرض؛ و: ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39].
من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"
لقد بدأت الدعوةُ في المدينة المنورة - يثرب - من قَبْل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حينما دعا "الأنصارَ" وعرَض عليهم الإسلامَ في المَوْسم بالكعبة بمكة، وتمت بيعةُ العقبة الأولى؛ عن عبادة بن الصامت قال: (كنتُ ممن حضر العقبةَ الأولى، وكنا اثني عشرَ رجلاً، فبايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعةِ النساء - وذلك قبل أن تُفرَض الحرب - على ألا نشركَ بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجُلنا، ولا نعصيه في معروف)، ويقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: قوله: (على بيعة النساء) يعني: وَفْق ما نزلت عليه بيعةُ النساء بعد ذلك عام الحديبية[1].
قال ابن اسحاق: فلما انصرف عنه القومُ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعبَ بن عمير، وأمَره أن يُقرِئَهم القرآن، ويُعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين[2].
وظل مصعبٌ رضي الله عنه يدعو في المدينة، ويقرأ عليهم ما نزَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، حتى لم تبقَ دار من دُور (الأنصار)، إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
ولا شك أن الدعوةَ في المدينة في هذه الفترة كانت على نفسِ منهج الدعوة في مكة، وهي الدعوة إلى التوحيدِ، وإلى مكارم الأخلاق، ونَبْذِ الشِّرك والسيِّئ من الأفعال والأخلاق، حتى كانت بيعة العقبة الثانية، وهي على خلاف البيعة الأولى، فكانت بيعةً على الحرب؛ ذكر الحافظ ابن كثير: أن عبادةَ بن الصامت الأنصاريَّ قال: "إنا بايعنا الرسولَ صلى الله عليه وسلم على السمعِ والطاعة في النَّشاط والكَسَل، والنَّفقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعلى أن نقولَ في الله لا تأخذنا فيه لومةُ لائم، وعلى أن ننصرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدِم علينا يثربَ مما نمنَع به أنفسَنا وأرواحنا وأبناءنا، ولنا الجنة..."[3]، وكانوا سبعين رجلاً وامرأة واحدة.
هذا، وكان يسكُن يثربَ مع قبائل العرب من الأوس والخزرج قبائلُ يهود، وقد كانوا يعلَمون بقُرب بعثة نبي في هذا الزمان والمكان؛ قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
وكانت أرضُ الدعوة - وهي يثرب - تتكوَّنُ من المسلمين من الأوسِ والخزرج، واليهود والمشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام بعدُ، ثم نشأت طائفةٌ جديدة بعد ذلك، وهي المنافقون، ومن هنا يمكن القول بأن مِن أهداف الدعوة في مرحلتها المدنيَّة ما يلي:
1- تكوين القاعدة الإيمانية الصُّلبة من المسلِمين الأوَّلين من أهل يثربَ، والتأليف بينهم من ناحية، وبينهم وبين إخوانهم المهاجرين من ناحية أخرى[4]؛ وذلك بإقرارِ نظام المؤاخاة والموالاة حسب نظام الصحيفة، كما سيتبين.
2- مواجهة اليهود؛ أعداء الدعوة، أعداء الله، وأعداء الرسل، وقد نزلت سورةُ البقرة لتكشفَ ألاعيبَهم، وتصفَ أخلاقهم، وتحذِّر المسلمين منهم، ومِن أن يفعلوا فِعلهم، أو يتشبَّهوا بهم في ذلك؛ وذلك فيما يقرُبُ من مائة وعشرين آيةً، ومواجهة المنافقين كذلك وفَضْحهم.
3- إرساء أول قاعدة تشريعية، ومثَّلتها سورة البقرة وسورة الأنفال، وهي المرحلةُ الأولى من مراحلِ التشريع؛ حيث سار التشريعُ بتدرُّج - حسب ترتيب المصحف[5] - وكانت المرحلة الثانية من مراحل فَرْض العبادات، وتحريم المحرَّمات، وأحكام المعاملات في سورة النِّساء، وكانت المرحلةُ النهائية - والتي تمثِّل الأحكامَ النهائية المستقرة والناسخة لِما قبْلَها من أحكام مرحلية - هي في سورتي المائدة والتوبة.
4- توطيد أركان الدولة الثلاثة: الشَّعب (الأمة)، والنظام، والأرض[6]؛ وذلك وَفْق ما جاء في الكتاب الذي كتَبه رسول الله صلى الله عليه وسلم (والمسمَّى بالصحيفة)، حدَّد فيه قواعدَ ومعالِمَ ودستور الدولة الإسلامية الجديدة، وهذا نص الصحيفة:
"قال محمد بن إسحاق: (كتب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَع فيه اليهودَ، وعاهَدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط، وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمد النبيِّ الأمِّي بين المؤمنين والمسلمين من قريشٍ ويثربَ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمةٌ واحدة من دون الناس، والمهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدون عانيَهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار، وأهل كل دار من بني ساعدة وبني جُشَم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف... إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرجًا - المثقل بالدَّين، الكثير العيال - بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، وألاَّ يحالف مؤمنٌ مولَى مؤمنٍ دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعةَ ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد في الأرض بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم، ولا يقتل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، ولا يُسالم مؤمنًا دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يُبيء - من البواء؛ أي: المساواة - بعضهم بعضًا بما نال دماءهم في سبيل الله، وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط
مؤمنًا قتلاً عن بينة، فإنه قَوَدٌ به، إلا أن يرضى وليُّ المقتول عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحفية، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصرَ مُحدِثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإنه عليه لعنةُ الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرَدَّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلَم وأثِم؛ فإنه لا يُوتِغُ - لا يوبق ويهلك - إلا نفسَه وأهلَ بيته، وأن يهود بني النجار وبني الحارث... مثل يهود بني عوف، وأن بطانةَ يهودَ كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد، وأنه لَا يُنْحَجَزُ على ثَأْرٍ جُرْحٌ، وأنه مَن فتك فبنفسِه فتك، وأهلِ بيته، إلا من ظلم، وأن الله على أبرِّ هذا، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على مَن حارَب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النُّصح والبِر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن على يثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفْس غير مضارٍّ ولا آثم، وأنه لا تُجارُ حرمةٌ إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَث أو شجار يُخاف فسادُه، فإن مردَّه إلى الله وإلى محمدٍ رسول الله، وأن الله على أتْقَى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وأنه لا تُجارُ قريش ولا مَن نصرها، وأن بينهم النصر على من دَهِمَ يثرب، وإذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب الدين، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثِم، وأنه من خرج آمِن، ومَن قعد آمِن بالمدينة، إلا من ظلَم أو أثِم، وأن الله جارٌ لِمَنِ اتَّقى وبَرَّ)[7].
لقد وضَعتْ هذه الصحيفة أسسَ ومبادئ الدولة الإسلامية الجديدة، وصارت دستورًا للأمة يستند إلى كتابِ الله عز وجل وسنة رسوله، ويستمد مبادئَه من عقيدة التوحيد وشريعة الإسلام التي تتميز بالعَدْل والسَّماحة، والصدق والوضوح، والشمولية والواقعية؛ لأن مصدرَها واحد، وهو الوحي.
ولقد حددت الصحيفة المفاهيم والمبادئ الآتية:
• مفهوم الأمة وحقوق المواطنة:
عرَّفت الأمةَ تعريفًا لا يستند إلى العصبية القبَلية، وإنما قررت أن الأمةَ كلُّ من اعتنق الدِّين الجديد دون نظرٍ إلى أصله وقبيلته؛ فهي أمة قابلة للاتِّساع واستيعاب شعوب أخرى، حسب المبدأ القرآني: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]؛ فقد جاء في نص الصحيفة وفي مطلعِها: (هذا كتاب محمدٍ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بين المسلمين من قريش ويثرب، ومن تبِعهم فلحق بهم، وجاهَد معهم، أنهم أمةٌ واحدة من دون الناس).
فلم تعُدْ هناك فوارقُ بين القبائل، وإنما صارت الأفخاذُ والقبائل أعضاءً في الأمة الواحدة، وصار ميزانُ التفاضل هو التقوى والعملَ الصالح.
• سيادة القانون والإجراءات التنفيذية:
فالناس أمام القانون سواء؛ فإن أخلَّ أحدٌ بالأمن، أو ارتكب عملاً فاحشًا، فإن الأمةَ بأجمعها تتولى توقيعَ العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالَبون بالتضامنِ في تنفيذ العقوبة، ولو كان ولَدَ أحدهم؛ جاء في الوثيقة: (وأن المؤمنين المتَّقين على مَن بغى أو ابتغى دسيعةَ ظُلْم أو إِثْم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديَهم عليه جميعًا، ولو كان ولَدَ أحدِهم...).
وارتبط بسيادة القانون تحويلُ الثأر إلى عقوبة، بمعنى: أنه عمل يقع على عاتق الأمة بعد أن كانت الأفخاذُ والعشائر تقوم به طبقًا للنظام القبَلي الباطل، واحتفظ القانونُ للفرد في نفس الوقت بالحق في تقرير نوع العقوبة بالاتفاق مع المعتدى عليه، جاء في الصحيفة: (وأن من اعتبط مؤمنًا قتلاً على بيِّنةٍ، فإنه قَوَدٌ به، إلا أن يرضى وليُّ المقتول...)[8].
• حرية الأديان وتحديد علاقةِ أتباعها بالدولة:
أقرَّت الصحيفة حريةَ الأديان، وأن أتباعها يُعتَبَرون مواطنين لهم حقُّ التمتع بحماية الدولة، وقد نصَّتِ الصحيفة - بوضوح - على ما لليهود وما عليهم من حقوق وواجبات، مع مراعاة حقوق المواطنة[9].
• سيادة الدولة وإقرارها مظاهرَ تلك السيادة:
وتمثَّلت قواعدُ سيادة الدولة فيما يلي:
1- اتحاد السكان جميعًا - المواطنين - لدفع أي عدوان.
2- اعتبار الحرب والسلام أمرًا من أمورِ سيادة الدولة.
3- حرية الوطن وأراضيه (وأن يثرب حرامٌ جوفُها...).
4- أن رئيس الدولة هو المرجعُ في كل خلاف، وحُكمه نافذ، وطاعته واجبة[10].
ومن هنا كان من أهداف هذه المرحلة توطيدُ أركان الدولة الثلاثة، وهي الأمة: والتي تمثَّلت في المسلمين ومَن حالَفهم وعاهَدهم، والنظام: وهو الصحيفة ومصدرها القرآن والسنَّة، والأرض: وهي يثربُ وما حولَها.
5- تحقيق عالَمية الدعوة[11]: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وذلك بضمان حريةِ الدعوة، وإزالة معوقاتها ومَن يعترض طريقها؛ لتسير بالحِكمة والموعظة الحسنة، ولتحقيق حرية اختيار العقيدة بلا إكراه، ولفرض السلامِ والأمان، ونَشْر العَدْل في ربوع الأرض؛ و: ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39].
من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"