حكاية ناي ♔
01-30-2024, 03:38 PM
الحمد لله عظيم الشأن، قديم الإحسان، جزيل العطاء مُسبغ النعماء، كاشف الضر والبلاء، مُغيث المستغيثين، وجار المستجيرين، وأمان الخائفين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد في ملكه الواحد في ربوبيته وأسمائه وصفاته، من دعاه أجابه، ومَن سأله أعطاه، ومَن توكَّل عليه كفاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومَن تبِعهم بإحسان.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
أما بعد، فعباد الله، سنقف وإياكم مع اسمٍ من أسماء الله الحسنى، فإن لله تسعةً وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، هكذا يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أحصاها؛ أي: حفِظها، عمل بها، اعتقدها، آمن بها، عبِد الله بها، دخل الجنة.
ومع اسم الله الملك؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ﴾ [الحشر: 23].
وقال تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، وفي قراءة أُخرى ملك يوم الدين.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54- 55].
وفي آيةٍ رابعة يقول جل جلاله: ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آلعمران: 26].
وفي آيةٍ خامسة قال تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83].
وفي آيةٍ سادسة يقول تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116].
جاء في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه جل وعلا: لله الواحد القهار"؛ [صحيح البخاري «7414»، صحيح مسلم «2786»].
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عمار بن ياسر وحذيفة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني، حوَّلت قلوبَ ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإنِ العبادُ عصوني، حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، وادعوا لهم بالصلاح، فإنَّ صلاحهم بصلاحكم».
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يمضى ثُلُث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر».
عباد الله، الله الملك، ومنآثار ملكه عز وجل أنه يملِك وحده استبدال هذا الكون أو بعضٍ منه بخلقٍ جديد، وفي ذلك يقول جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [فاطر: 15 - 17].
الله الملك وحده يَملِك أن يضيف إلي كونه ما ليس فيه؛ كما قال جل وعلا: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1].
الله الملك بل مالك الملوك، فهو الذي يُملِّك الملوك، سُئل أعرابي يملك قطيعًا من الغنم: لمن هذه؟ قال: لله في يدي، فالمؤمن الصادق: بيته ومتجره، سيارته، خبرته، مكانته، شهاداته، مَن ملَّكه هذه النعم، إنه الله عز وجل.
عباد الله، تأمَّلوا أعلى طبيب في اختصاصه، إذا تجمدت خلية في دماغه، يفقد ذاكرته، فمصيره إلى مستشفى المجانين، إذًا مَن مالك الملك؟ الله.
هذه العين التي ترى بها، من مالكها؟ الله.
هذه الأُذن، هذا اللسان، هذه الحركة، هذه القوة، مِن حقائق الإيمان أن ترى أن كل شيء بحوزتك هو مِلكٌ لله عز وجل، سمح لك هو برحمته أن تتصرف به.
علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول صباحًا: أصبحنا وأصبح الملك لله، ونقول مساءً: أمسينا وأمسى الملك لله.
عبد الله، اعرِف حجمك الحقيقي: «رحم الله عبدًا عرف حدَّه، فوقف عنده».
الملك الحق هو الله.
قال تعالى: ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
والمُلْك الحقيقي لمن يَمْلِك هواه ولا يَمْلِكه هواه، من ملَكَ نفسه ولا تَمْلِكُه نفسه، قال تعالى على لسان يوسف: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [يوسف: 101].
هذه الآية دقيقة جدًّا، سيدنا يوسف عليه السلام يقول إنَّ الله قد آتاه الملك، أيُّ مُلْكٍ آتاه، لعلكم ظننتم أنه كان أمينًا على خزائن الأرض، أغلب علماء التفسير قالوا: لا، بل آتاه الملك الحقيقي، فما هو الملْك الحقيقي؟ أن يملك الإنسان نفسه أمام الشهوات والفتن، فيوسف عليه السلام ملك نفسه، فقد قال: ﴿ مَعَاذَ اللهِ ﴾، حينما دعته امرأة العزيز، وقالت: هيتَ لك، فقال: ﴿ مَعَاذَ اللهِ ﴾، قال علماء التفسير: هذا هو المُلْك الحقيقي، المُلْك الذي لا يزول، المُلْك الذي تسعد به إلى الأبد، أن تملك نفسك ولا تملِكك، أن ينقاد لك هواك ولا تنقاد له، إذا انقاد لك هواك وسيطرت عليه، فأنت ملك، إذا سيطرت على نفسك، فأنت ملك، إذا ملكت زمام نفسك، فأنت ملك، إذا سيطرت على شهواتك، فأنت ملك، إذا قُدتَ نفسك إلى طريق الخير والسعادة، فأنت ملك، أما إذا قادتك نفسك إلى الضلال والشهوات والمعاصي والآثام، فأنت مملوك، إذا قادك عقلك، فأنت ملك، إذا قادك هواك، فأنت مملوك، وشتان بين أن تكون ملكًا وبين أن تكون مملوكًا.
عباد الله، كُل أهل الدنيا عندهم نقطتا ضَعفٍ مدمرتان: المال والنساء، فتراه يملِك أشياء كثيرة، وله اطلاع واسع، له قدرات عجيبة، ومع ذلك المرأة والدرهم والدينار تمتلكه، إذًا هو مملوك، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ..»؛ [رواه البخاري].
سيدنا يوسف لَمَّا مرَ بالقصر، كان عبدًا في القصر، ثم صار ملكًا، جارية من جواري القصر كانت تعرفه عبدًا ورأته في موكب الملك، فقالت: سبحان الذي جعل العبيد ملوكًا بطاعته، وسبحان الذي جعل الملوك عبيدًا بمعصيته.
الملِك من إذا أعطى أدهش، وإذا حاسب فتَّش، أعطانا أمطارًا غزيرة دُهشنا بها، وإذا انحبست أمطار السماء، فَمَنْ في الأرض كلها يستطيع أن يصدر قرارًا بإنزال المطر! ولو اجتمعت الأمم كلها، المجالس كلها، والقيادات كلها، وإذا انحبست الأمطار مات الزرع، وتبِعه الضرع وتبعه الإنسان.
فنحن عبيد لأننا مفتقرون لماء السماء: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30].
عباد الله، ذكر الله تعالى في آيةٍ واحدة خمسة بنود للملكية؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 26-27].
العلماء فسَّروا المُلْك أنه مُلك الآخرة كما فسَّروه مُلْك الدنيا، فإذا كنت مؤمنًا مستقيمًا، صادقًا مخلصًا، لك عمل طيب، فأنت ملِك، ولكن مِن ملوك الدار الآخرة ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89]، وعلي رضي الله عنه يقول: «الغنى والفقر بعد العرض على الله»، وقال تعالى: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آلعمران: 26]، ولكن من تشاء؟ إذا قال الله عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213]، ما معنى يهدي من يشاء؟ يعني من شاء الهداية هداه الله ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 27]: من شاء الضلالة أضلَّه الله؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [محمد: 17].
تؤتي الملك من تشاء، تؤتي التوفيق السداد والهداية من تشاء، ﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾.
عباد الله، مُلْك الدنيا يؤتيه الله لمن يحب ولمن لا يحب، وأمَّا مُلْك الآخرة، أمَّا الصلاح والهداية والتقوى والزهد والورع والإيمان، فلا يؤتيه الله إلا لمن يحب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه.
أما بعد، عباد الله، فالله سبحانه يقول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ﴾، «ما الحكمة؟ لماذا أعطى فلانًا ومنع فلانًا؟ ومَلَّكَ فلانًا ونزع من فلان؟ لماذا رفع فلانًا وخفض فلانًا؟ الجواب: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، يمتحنك بالغنى وبالفقر، بالصحة وبالمرض، بالقوة وبالضعف، فإذا كان هذا العبد متمردًا، فما الجواب، قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنعام: 165]، فإذا كان طائعًا فما الجواب؟ ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
إذًا جعلكم خلائف الأرض، ووزَّع الحظوظ توزيع ابتلاءٍ، وسوف تُوَزَّعُ في الآخرة توزيع جزاء، إذًا هو مالك الملك، إِما أن يُمَلِّكك مُلك الآخرة، أو مُلك الدنيا، أو مُلك الآخرة والدنيا:
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعَا *** لا بارك الله في دنيا بلا دينِ
ثم يقول تعالى: ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، دخلنا في باب العز والذل، هنالك شيء دقيق جدًّا إذا أعزك الله سخَّر لك أعداءك، وإذا أراد الله أن يذل عبدًا ما، أذلَّه أقرب الناس إليه، ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18].
اجعل لربك كلَّ عزِّك يستقرَّ ويثبُت *** فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميِّتُ
ثم يقول جل وعلا: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ [آل عمران: 27]، تصريف الكون، تسيير الكون، الأرض تدور حول الشمس، مَن يجعلها على مسارها تمامًا؟ هل في الكون كله قوة سوى الله تستطيع أن تجعلها على مسارها؟ قال جل جلاله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
يمسكها على مسارها، إذا خرج القطار عن سِكَّته، طفل رضيع أو نملة صغيرة أو ذبابة حقيرة، هل بإمكانها أن تُعيده إلى السكة؟ هذا هو الإنسان الضعيف أمام قوة الله جل وعلا، {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، مَن جعل الأرض تسير في الثانية (30كم؟) مَن جعلها تدور في الساعة ( 1600 كم؟) مَن جعلها بهذا الحجم، ومن جعل بعدها عن الشمس بهذه المسافة؟ إنه الله الملك.
يقول تعالى: ﴿ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [آل عمران: 27].
من معاني هذه الآية أن الكافر قد يلد مؤمنًا كإبراهيم من آزر، وأن المؤمن قد يلد كافرًا كنوحٍ وابنه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ [هود: 45].
آخر بند من بنود المُلْكية لله عز وجل: ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]، قد يرزق الإنسان الضعيف، وقد يفقر القوي الذكي.
أخي الحبيب دبِّر أو لا تدبِّر، فالمدبر هو الله سبحانه.
كُن عن همومك مُعرضًا
وكِلِ الأمور إلى القضا
وأبشر بخيرٍ عاجلٍ
تنسى به ما قد مضى
فلرُب أمرٍ مُسخطٍ
لك في عواقبه رضى
ولربما ضاق المضيق
ولربما اتسع الفضا
الله يفعل ما يشاء
فلا تكن مُعترضا
الله عوَّدك الجميل
فقِس على ما قد مضى
من آداب الإيمان بأن الله هو الملك، أن يكون العبد بما في يَدَيِ الله أوثق منه مما في يديه أو في أيدي الناس، إذا أردت أن تكون أغنى الناس، فكن بما في يدي الله أوثق منك مما في يديك.
إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أكرم الناس منزلةً فاتَّق الله.
من عرف أَنَّ الملك هو الله وحده، لم يذلَّ ويخضع ويركع لمخلوق، وقال بعضهم: أيجمل بالحُر أن يتذلل للعبيد وهو يجد من مولاه ما يريد، يقول له: «عبدي أُطلبْ تعطَ، كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد».
عباد الله، من أصبح حزينًا على الدنيا، أصبح ساخطًا على ربه، ومن جالس غنيًّا فتضعضع له، ذهب ثُلثا دينه، ومن أصابته مصيبة فشكاها إلى الناس، فإنما يشكو ربه.
تأملوا حال الإنسان أول ليلة في قبره؛ يقول الله عز وجل له كما جاء في الأثر: «عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت».
سُئل الحسن البصري رحمه الله: بمَ نلت هذا المقام، قال: «باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي».
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تُذلَّنا بمعصيتك، واختم لنا بالشهادة في سبيلك يا رب العالمين.
هذا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
أما بعد، فعباد الله، سنقف وإياكم مع اسمٍ من أسماء الله الحسنى، فإن لله تسعةً وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، هكذا يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أحصاها؛ أي: حفِظها، عمل بها، اعتقدها، آمن بها، عبِد الله بها، دخل الجنة.
ومع اسم الله الملك؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ﴾ [الحشر: 23].
وقال تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، وفي قراءة أُخرى ملك يوم الدين.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54- 55].
وفي آيةٍ رابعة يقول جل جلاله: ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آلعمران: 26].
وفي آيةٍ خامسة قال تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83].
وفي آيةٍ سادسة يقول تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116].
جاء في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه جل وعلا: لله الواحد القهار"؛ [صحيح البخاري «7414»، صحيح مسلم «2786»].
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عمار بن ياسر وحذيفة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني، حوَّلت قلوبَ ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإنِ العبادُ عصوني، حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، وادعوا لهم بالصلاح، فإنَّ صلاحهم بصلاحكم».
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يمضى ثُلُث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر».
عباد الله، الله الملك، ومنآثار ملكه عز وجل أنه يملِك وحده استبدال هذا الكون أو بعضٍ منه بخلقٍ جديد، وفي ذلك يقول جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [فاطر: 15 - 17].
الله الملك وحده يَملِك أن يضيف إلي كونه ما ليس فيه؛ كما قال جل وعلا: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1].
الله الملك بل مالك الملوك، فهو الذي يُملِّك الملوك، سُئل أعرابي يملك قطيعًا من الغنم: لمن هذه؟ قال: لله في يدي، فالمؤمن الصادق: بيته ومتجره، سيارته، خبرته، مكانته، شهاداته، مَن ملَّكه هذه النعم، إنه الله عز وجل.
عباد الله، تأمَّلوا أعلى طبيب في اختصاصه، إذا تجمدت خلية في دماغه، يفقد ذاكرته، فمصيره إلى مستشفى المجانين، إذًا مَن مالك الملك؟ الله.
هذه العين التي ترى بها، من مالكها؟ الله.
هذه الأُذن، هذا اللسان، هذه الحركة، هذه القوة، مِن حقائق الإيمان أن ترى أن كل شيء بحوزتك هو مِلكٌ لله عز وجل، سمح لك هو برحمته أن تتصرف به.
علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول صباحًا: أصبحنا وأصبح الملك لله، ونقول مساءً: أمسينا وأمسى الملك لله.
عبد الله، اعرِف حجمك الحقيقي: «رحم الله عبدًا عرف حدَّه، فوقف عنده».
الملك الحق هو الله.
قال تعالى: ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
والمُلْك الحقيقي لمن يَمْلِك هواه ولا يَمْلِكه هواه، من ملَكَ نفسه ولا تَمْلِكُه نفسه، قال تعالى على لسان يوسف: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [يوسف: 101].
هذه الآية دقيقة جدًّا، سيدنا يوسف عليه السلام يقول إنَّ الله قد آتاه الملك، أيُّ مُلْكٍ آتاه، لعلكم ظننتم أنه كان أمينًا على خزائن الأرض، أغلب علماء التفسير قالوا: لا، بل آتاه الملك الحقيقي، فما هو الملْك الحقيقي؟ أن يملك الإنسان نفسه أمام الشهوات والفتن، فيوسف عليه السلام ملك نفسه، فقد قال: ﴿ مَعَاذَ اللهِ ﴾، حينما دعته امرأة العزيز، وقالت: هيتَ لك، فقال: ﴿ مَعَاذَ اللهِ ﴾، قال علماء التفسير: هذا هو المُلْك الحقيقي، المُلْك الذي لا يزول، المُلْك الذي تسعد به إلى الأبد، أن تملك نفسك ولا تملِكك، أن ينقاد لك هواك ولا تنقاد له، إذا انقاد لك هواك وسيطرت عليه، فأنت ملك، إذا سيطرت على نفسك، فأنت ملك، إذا ملكت زمام نفسك، فأنت ملك، إذا سيطرت على شهواتك، فأنت ملك، إذا قُدتَ نفسك إلى طريق الخير والسعادة، فأنت ملك، أما إذا قادتك نفسك إلى الضلال والشهوات والمعاصي والآثام، فأنت مملوك، إذا قادك عقلك، فأنت ملك، إذا قادك هواك، فأنت مملوك، وشتان بين أن تكون ملكًا وبين أن تكون مملوكًا.
عباد الله، كُل أهل الدنيا عندهم نقطتا ضَعفٍ مدمرتان: المال والنساء، فتراه يملِك أشياء كثيرة، وله اطلاع واسع، له قدرات عجيبة، ومع ذلك المرأة والدرهم والدينار تمتلكه، إذًا هو مملوك، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ..»؛ [رواه البخاري].
سيدنا يوسف لَمَّا مرَ بالقصر، كان عبدًا في القصر، ثم صار ملكًا، جارية من جواري القصر كانت تعرفه عبدًا ورأته في موكب الملك، فقالت: سبحان الذي جعل العبيد ملوكًا بطاعته، وسبحان الذي جعل الملوك عبيدًا بمعصيته.
الملِك من إذا أعطى أدهش، وإذا حاسب فتَّش، أعطانا أمطارًا غزيرة دُهشنا بها، وإذا انحبست أمطار السماء، فَمَنْ في الأرض كلها يستطيع أن يصدر قرارًا بإنزال المطر! ولو اجتمعت الأمم كلها، المجالس كلها، والقيادات كلها، وإذا انحبست الأمطار مات الزرع، وتبِعه الضرع وتبعه الإنسان.
فنحن عبيد لأننا مفتقرون لماء السماء: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30].
عباد الله، ذكر الله تعالى في آيةٍ واحدة خمسة بنود للملكية؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 26-27].
العلماء فسَّروا المُلْك أنه مُلك الآخرة كما فسَّروه مُلْك الدنيا، فإذا كنت مؤمنًا مستقيمًا، صادقًا مخلصًا، لك عمل طيب، فأنت ملِك، ولكن مِن ملوك الدار الآخرة ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89]، وعلي رضي الله عنه يقول: «الغنى والفقر بعد العرض على الله»، وقال تعالى: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آلعمران: 26]، ولكن من تشاء؟ إذا قال الله عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213]، ما معنى يهدي من يشاء؟ يعني من شاء الهداية هداه الله ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 27]: من شاء الضلالة أضلَّه الله؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [محمد: 17].
تؤتي الملك من تشاء، تؤتي التوفيق السداد والهداية من تشاء، ﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾.
عباد الله، مُلْك الدنيا يؤتيه الله لمن يحب ولمن لا يحب، وأمَّا مُلْك الآخرة، أمَّا الصلاح والهداية والتقوى والزهد والورع والإيمان، فلا يؤتيه الله إلا لمن يحب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه.
أما بعد، عباد الله، فالله سبحانه يقول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ﴾، «ما الحكمة؟ لماذا أعطى فلانًا ومنع فلانًا؟ ومَلَّكَ فلانًا ونزع من فلان؟ لماذا رفع فلانًا وخفض فلانًا؟ الجواب: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، يمتحنك بالغنى وبالفقر، بالصحة وبالمرض، بالقوة وبالضعف، فإذا كان هذا العبد متمردًا، فما الجواب، قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنعام: 165]، فإذا كان طائعًا فما الجواب؟ ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
إذًا جعلكم خلائف الأرض، ووزَّع الحظوظ توزيع ابتلاءٍ، وسوف تُوَزَّعُ في الآخرة توزيع جزاء، إذًا هو مالك الملك، إِما أن يُمَلِّكك مُلك الآخرة، أو مُلك الدنيا، أو مُلك الآخرة والدنيا:
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعَا *** لا بارك الله في دنيا بلا دينِ
ثم يقول تعالى: ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، دخلنا في باب العز والذل، هنالك شيء دقيق جدًّا إذا أعزك الله سخَّر لك أعداءك، وإذا أراد الله أن يذل عبدًا ما، أذلَّه أقرب الناس إليه، ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18].
اجعل لربك كلَّ عزِّك يستقرَّ ويثبُت *** فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميِّتُ
ثم يقول جل وعلا: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ [آل عمران: 27]، تصريف الكون، تسيير الكون، الأرض تدور حول الشمس، مَن يجعلها على مسارها تمامًا؟ هل في الكون كله قوة سوى الله تستطيع أن تجعلها على مسارها؟ قال جل جلاله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
يمسكها على مسارها، إذا خرج القطار عن سِكَّته، طفل رضيع أو نملة صغيرة أو ذبابة حقيرة، هل بإمكانها أن تُعيده إلى السكة؟ هذا هو الإنسان الضعيف أمام قوة الله جل وعلا، {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، مَن جعل الأرض تسير في الثانية (30كم؟) مَن جعلها تدور في الساعة ( 1600 كم؟) مَن جعلها بهذا الحجم، ومن جعل بعدها عن الشمس بهذه المسافة؟ إنه الله الملك.
يقول تعالى: ﴿ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [آل عمران: 27].
من معاني هذه الآية أن الكافر قد يلد مؤمنًا كإبراهيم من آزر، وأن المؤمن قد يلد كافرًا كنوحٍ وابنه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ [هود: 45].
آخر بند من بنود المُلْكية لله عز وجل: ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]، قد يرزق الإنسان الضعيف، وقد يفقر القوي الذكي.
أخي الحبيب دبِّر أو لا تدبِّر، فالمدبر هو الله سبحانه.
كُن عن همومك مُعرضًا
وكِلِ الأمور إلى القضا
وأبشر بخيرٍ عاجلٍ
تنسى به ما قد مضى
فلرُب أمرٍ مُسخطٍ
لك في عواقبه رضى
ولربما ضاق المضيق
ولربما اتسع الفضا
الله يفعل ما يشاء
فلا تكن مُعترضا
الله عوَّدك الجميل
فقِس على ما قد مضى
من آداب الإيمان بأن الله هو الملك، أن يكون العبد بما في يَدَيِ الله أوثق منه مما في يديه أو في أيدي الناس، إذا أردت أن تكون أغنى الناس، فكن بما في يدي الله أوثق منك مما في يديك.
إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أكرم الناس منزلةً فاتَّق الله.
من عرف أَنَّ الملك هو الله وحده، لم يذلَّ ويخضع ويركع لمخلوق، وقال بعضهم: أيجمل بالحُر أن يتذلل للعبيد وهو يجد من مولاه ما يريد، يقول له: «عبدي أُطلبْ تعطَ، كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد».
عباد الله، من أصبح حزينًا على الدنيا، أصبح ساخطًا على ربه، ومن جالس غنيًّا فتضعضع له، ذهب ثُلثا دينه، ومن أصابته مصيبة فشكاها إلى الناس، فإنما يشكو ربه.
تأملوا حال الإنسان أول ليلة في قبره؛ يقول الله عز وجل له كما جاء في الأثر: «عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت».
سُئل الحسن البصري رحمه الله: بمَ نلت هذا المقام، قال: «باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي».
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تُذلَّنا بمعصيتك، واختم لنا بالشهادة في سبيلك يا رب العالمين.
هذا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.