حكاية ناي ♔
01-30-2024, 03:41 PM
الحمد لله الرحيم العليم الغفار القلوب والأبصار، ومُقدِّر الأمور كما يشاء ويختار، خلق الشمس والقمر بحسبان ومقدار، وجعلها مواقيت في هذه الدار حكمةٌ بالغة من عليم ذي اقتدار، أحمده وأشكره وفضله على من شكره مدرار، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له مقدر الأقدار.
وأسلمْتُ وجهي لمن أسلمَت
له الأرض تحمل صخرًا ثقالَا
وأسلمْت وجهي لمن أسلمَت
له الُمزن تَحمل عذبًا زُلالَا
وأسلمْت وجهي لمن أسلمَت
له الريح تصرف حالًا فحالَا
وأشهد أن محمدًاعبده ورسوله المصطفى المختار البدر جبينه إذا سُر استنار، واليم يمينه إذا سُئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرَّق بشرعته بين المتقين والفجار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2].
أما بعدُ:
فاعلموا عباد الله أنَّ الله قدَّر المقادير وقسَّم الأرزاق، وحدَّد الآجال قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وما من إنسان يُنفخ فيه الروح إلا ويُكتَب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، والله جل وعلا يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، ومع هذا كله فهناك وسائل تُبارك في الرزق ومفاتيح تزيد في الرزق بإذن الله تعالى وهذه المفاتيح من كتاب الله وسنة نبيه.
المفتاح الأول التوبة والاستغفار:
فمتى تاب الناس إلى الله ورجعوا إليه بارك في أرزاقهم وأصلح أحوالهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [سورة التحريم: 8].
وقال صالح عليه السلام: ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [سورة هود: 61].
وقال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿ واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ ﴾ [سورة هود: 90].
وهذا الصدِّيق أبو بكر يسأل المصطفى محمد أن يُعلمُه دعاء يدعو به في صلاته، فأوصاه المصطفى أن يدعو في صلاته قبل أن يُسلِّم ويقول: «اللهم أني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وقال تعالى: ﴿ ومَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [سورة النساء: 110].
نعم ومن يُقْدِمْ على عمل سيِّئ قبيح، أو يظلم نفسه بارتكاب ما يخالف حكم الله وشرعه، ثم يرجع إلى الله نادمًا على ما عمل، راجيًا مغفرته وستر ذنبه، يجد الله تعالى غفورًا له، رحيمًا به.
وقال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10- 12].
جاء رجلُ إلى الحسن البصري يشكو إليه الجدب والقحط، فأجابه قائلًا: «أكثر من الاستغفار»، ثم جاءه رجلُ آخر يشكو الحاجة والفقر، فقال له: «أكثر من الاستغفار»، ثم جاءه ثالثُ يشكو قلة الولد، فقال له: «أكثر من الاستغفار»، فعجب القوم من إجابته فأرشدهم إلى الفقه الإيماني والفهم القرآني والهدي النبوي، وتلا قول الحق جل وعلا: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * ويُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [سورة نوح: 10-12].
أسئلة شتى وإجابة واحدة.
عباد الله، اعلموا أن التوبة من أهم أسباب البركة في الأرزاق، وأن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه.
ما التوبة؟
التوبة هي رجوع العبد إلى الله وأوبته إلى ما يرضيه وترك ما يسخطه.
التوبة أن يقف العبد المذنب المقصر وكلُّنا مذنبون، وكلنا مقصِّرون، يقف العبد أمام ربه التواب مُنكسر القلب خاشع الجوارح ولسان حاله ومقاله يقول: «يا رب، ليس لي رب سواك يقبل توبتي، من يغفر لي إن لم تغفر لي، يا رب العالمين من يرحمني إن لم ترحمني».
التوبة النصوح هي أن يقلع العبد عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل، ويرد الحقوق والمظالم إلى أهلها.
وها هو عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كنا نعد للنبي في المجلس الواحد مائة مرة يقول: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم؛ [صحيح، أخرجه أحمد «2 /67»وغيره].
عبد الله كن من ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ والصَّادِقِينَ والْقَانِتِينَ والْمُنْفِقِينَ والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ [سورة آل عمران: 16].
وأكثر من الاستغفار فنبيُّك، يقول: «من لزم الاستغفار، جعَل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»؛ [رواه أبو داود 1518 وابن ماجه 3819].
عبد الله، كم نصيبك من الاستغفار في اليوم والليلة إذا كان حبيب الله ورسوله المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة.
والاستغفار عباد الله ليس مجرَّد قولٍ باللسان فقط، بل هو عمل وتوبة بالجوارح والأركان.
فيا عبد الله، فارِق المعصية وأهل المعصية ومكان المعصية، وكل ما يُذكرك بالمعصية، وأكثر من قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [سورة الأعراف: 23].
ارفَع صوتك بالنداء
يا رب إن ذنوبي قد كثرت
وليس لي بعذاب النار من قبل
ولا أُطيق لها صبرًا ولا جلَدَا
فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي
ولا تذقني حرًا لجهنم أبدَا
وأخرج الطبراني في الدعاء بسندٍ حسنه البيهقي بسند لا بأس به عن رسول الله أنه قال: «من أحب أن تسرُّه صحيفته، فليكثر فيها من الاستغفار».
وعند ابن ماجه بسندٍ صحيح وعند النسائي في عمل اليوم والليلة بسند صحيح أيضًا عن رسول الله أنه قال: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا»؛ [رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبدالله بن بسر].
وانظر كذلك إلى الأثر العظيم المهم من آثار الاستغفار وهو دفع العذاب ورفع المصائب، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ ومَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [سورة الأنفال: 33].
ورحمة الله واسعة وعفوه أوسع لمن جاء إليه وتاب وأناب.
سبحانه القائل: ﴿ قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [سورة الزمر: 53].
أخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن سول الله عن رب العزة والجلال أنه قال: «يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم لو لقيتني بقراب الأرض معصيةً، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لقيتك بقرابها مغفرة».
فالله الله عباد الله أن نتعرض إلى كرم الله بالتوبة والاستغفار أن أردنا البركة والزيادة في الرزق والسعادة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا، أما بعد:
لا زلنا وإياكم مع مفاتيح الرزق والبركة، المفتاح الثاني من مفاتيح البركة والزيادة في الرزق التقوى: قال الله تعالى: ﴿ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2].
أحيانًا تُغلق أمامك أبواب الرزق، كل السبُل مغلقة، إذًا اتقِ الله حتى يجعل الله لك من هذا الضيق فرجًا، وكل من أراد العز في الدين والدنيا والبركة في الرزق والوقت والعمل، فعليه بتقوى الله تعالى، فإنها من أعظم ما استُنزلت به الخيرات واستُدفعت المكروهات؛ قال الله تعالى: ﴿ ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [سورة الأعراف: 96].
قال القرطبي: ما من خيرٍ عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن، إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلِّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن، إلا وتقوى الله تعالى حرز متين وحصنٌ حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
في القرآن الكريم ما يزيد عن ثلاثمائة آية ذُكرت فيها التقوى بمشتقاتها.
والتقوى هي القيام بأمر الله وترك ما نهى الله.
التقوى ليست هيئة معينة، لباس معين، حركات معينة، إيماءات، كلمات، إيحاءات، إنما هي تطبيق لأوامر الله وترك لِما حرَّم الله.
ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، ولكن الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، يراه الله حيث أمره، ويفتقده حيث نهاه.
والتقوى عباد الله أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية؛ تقيةً منه، وذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: «المتقون هم الذين يحذرون من الله وعقوبته»، وقال طلق بن حبيب رحمه الله: «التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله».
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [سورة آل عمران: 102]؛ قال: «تقوى الله أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر».
وعرَّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه التقوى، فقال: «هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل».
التقوى هي خير ضمانة نحفظ بها أولادنا ومستقبل أبنائنا من بعدنا؛ قال تعالى: ﴿ ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [سورة النساء: 9].
والتقوى وصيَّة الله للأولين والآخرين؛ قال تعالى: ﴿ ولَقَدْ وصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [سورة النساء: 131].
وكان من دعاء النبي: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها».
والتقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ورِيشًا ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى
تقلَّب عُريانا وإن كان كاسيَا
وخير لباس المرء طاعة ربه
ولا خير فيمن كان لله عاصيَا
والتقوى هي أفضل زاد يتزود به العبد، قال تعالى: ﴿ وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
وبها الطريق إلى الجنة فقد سُئل النبي: ما أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: «تقوى الله وحُسْن الخلق»؛ [رواه أحمد].
أيها الناس، اتخذوا تقوى الله تجارة يأتكم الرزق بلا بضاعة ولا تجارة.
والمفتاح الثالث من مفاتيح الرزق والبركة في حياتك يا عبد الله: التوكل على الله تعالى، والاستعانة بالله في الأمور كلها، والاعتماد على الله في كل أمر.
عباد الله، متى عادت الأمة إلى ربها وتوكلت عليه، واستعانت به، وفوَّضت جميع أمورها إليه، نصَرها الله وأعانها وأصلح بالها؛ قال الله تعالى: ﴿ ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [سورة الطلاق: 3].
قال رسول الله: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا»؛ [رواه أحمد والترمذي وهو صحيح].
إن الطيور لم يأتها رزقها رغدًا إلى أوكارها، وهي قابعة في أعشاشها، وإنما غدت في الصباح سعيًا في طلبه، فطارت من عشها، وحلَّقت في السماء، وحطَّت على الشجر والحجر، ورجعت وقد شبِعت من رزق الله تعالى وفضله.
سُئل ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى: ما أحسن وسيلة لطلب الرزق؟ أهي الزراعة أهي الصناعة أم التجارة؟ فأجاب عليه بقوله: «أحسن وأفضل وسيلة لطلب الرزق التوكل على الله الواحد الأحد مع العمل بالأسباب».
توكل على الرحمن في كل حاجةٍ
ولا تؤثرن العجز يومًا على الطلب
ألم ترَ أنّ الله قال لمريم
إليك فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها
جنته ولكن كل شيء له سبب
فتخيل حال امرأة ضعيفة في حال النفاس، أضعف ما تكون المرأة، والنخلة شجرة قوية، جذعها قوي، ولكن الله قال: ﴿ وهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، ولكن بالسبب الضعيف جعل النتيجة، كان من الممكن أن يسقط الثمر بلا هز، وماذا يغني الهز من امرأة ضعيفة لشجرة قوية، ولكن ليعلم العباد الأخذ بما أمكن من الأسباب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].
فمن حقَّق والتوكل، كفاه الله ما أهمه في الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: «وعزتي وجلالي وعظمتي، ما من عبدٍ آثر هواي على هواه، أي آثر طاعة الله على هوى نفسه، إلا أقللت همومه، وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه».
ويقول: «من أصبح وأكبر همه الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا، جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤتيه من الدنيا إلا ما قدر له»؛ [أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك].
قال ابن القيم رحمه الله: «ولو توكل العبد على الله حقَّ توكُّله في إزالة جبل من مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله».
عباد الله، التوكل مقام جليل عظيم الأثر، ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله.
قال ابن القيم رحمه الله: «التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة».
والله جل وعلا أمرنا وأمر نبيه بالتوكل، فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [سورة التوبة: 129].
وقال تعالى: ﴿ وتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [سورة الفرقان: 58].
وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [سورة آل عمران: 159].
وقال تعالى: ﴿ ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [سورة الشورى: 10].
عباد الله، التوكل على الله من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [سورة الأنفال: 2].
لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف بالمُلْك لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
سيد المتوكلين هو محمد لما نزل مع أصحابه في وادٍ، فعلَّق سيفه في شجرة فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر، فلم يرعهم إلا والنبي يدعوهم فأتوه فإذا بشخص وسيف ساقط، فقال الرسول: إن رجلًا أتاني وأنا نائم، فاتخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلف؛ أي مسلول.
سبحان الله انتبه النبي والسيف فوق رأسه، أين المهرب؟! فقال: من يمنعك مني يا محمد؟
قال صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق بربه وحفظه: الله، الله.
إنها كلمة فيها التوكل والتفويض والاستعانة وكل شيء، قال: فشام السيف؛ أي: أغمده، وفي رواية سقط السيف من يده؛ [كما في صحيح مسلم].
وها هو النبي مع أبي بكر رضي الله عنه في الغار، أبو بكر خائف على النبي أكثر من خوفه على نفسه؛ يقول: «يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى ما بين قدميه لأبصرنا»، ما بيننا وبين الهلاك إلا نظرة تحت، قال يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، هذا هو التوكل والتفويض يظهر فعلًا في أوقات الأزمات جليًّا واضحًا.
هذا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [سورة الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
وأسلمْتُ وجهي لمن أسلمَت
له الأرض تحمل صخرًا ثقالَا
وأسلمْت وجهي لمن أسلمَت
له الُمزن تَحمل عذبًا زُلالَا
وأسلمْت وجهي لمن أسلمَت
له الريح تصرف حالًا فحالَا
وأشهد أن محمدًاعبده ورسوله المصطفى المختار البدر جبينه إذا سُر استنار، واليم يمينه إذا سُئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرَّق بشرعته بين المتقين والفجار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2].
أما بعدُ:
فاعلموا عباد الله أنَّ الله قدَّر المقادير وقسَّم الأرزاق، وحدَّد الآجال قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وما من إنسان يُنفخ فيه الروح إلا ويُكتَب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، والله جل وعلا يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، ومع هذا كله فهناك وسائل تُبارك في الرزق ومفاتيح تزيد في الرزق بإذن الله تعالى وهذه المفاتيح من كتاب الله وسنة نبيه.
المفتاح الأول التوبة والاستغفار:
فمتى تاب الناس إلى الله ورجعوا إليه بارك في أرزاقهم وأصلح أحوالهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [سورة التحريم: 8].
وقال صالح عليه السلام: ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [سورة هود: 61].
وقال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿ واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ ﴾ [سورة هود: 90].
وهذا الصدِّيق أبو بكر يسأل المصطفى محمد أن يُعلمُه دعاء يدعو به في صلاته، فأوصاه المصطفى أن يدعو في صلاته قبل أن يُسلِّم ويقول: «اللهم أني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وقال تعالى: ﴿ ومَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [سورة النساء: 110].
نعم ومن يُقْدِمْ على عمل سيِّئ قبيح، أو يظلم نفسه بارتكاب ما يخالف حكم الله وشرعه، ثم يرجع إلى الله نادمًا على ما عمل، راجيًا مغفرته وستر ذنبه، يجد الله تعالى غفورًا له، رحيمًا به.
وقال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10- 12].
جاء رجلُ إلى الحسن البصري يشكو إليه الجدب والقحط، فأجابه قائلًا: «أكثر من الاستغفار»، ثم جاءه رجلُ آخر يشكو الحاجة والفقر، فقال له: «أكثر من الاستغفار»، ثم جاءه ثالثُ يشكو قلة الولد، فقال له: «أكثر من الاستغفار»، فعجب القوم من إجابته فأرشدهم إلى الفقه الإيماني والفهم القرآني والهدي النبوي، وتلا قول الحق جل وعلا: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * ويُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [سورة نوح: 10-12].
أسئلة شتى وإجابة واحدة.
عباد الله، اعلموا أن التوبة من أهم أسباب البركة في الأرزاق، وأن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه.
ما التوبة؟
التوبة هي رجوع العبد إلى الله وأوبته إلى ما يرضيه وترك ما يسخطه.
التوبة أن يقف العبد المذنب المقصر وكلُّنا مذنبون، وكلنا مقصِّرون، يقف العبد أمام ربه التواب مُنكسر القلب خاشع الجوارح ولسان حاله ومقاله يقول: «يا رب، ليس لي رب سواك يقبل توبتي، من يغفر لي إن لم تغفر لي، يا رب العالمين من يرحمني إن لم ترحمني».
التوبة النصوح هي أن يقلع العبد عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل، ويرد الحقوق والمظالم إلى أهلها.
وها هو عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كنا نعد للنبي في المجلس الواحد مائة مرة يقول: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم؛ [صحيح، أخرجه أحمد «2 /67»وغيره].
عبد الله كن من ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ والصَّادِقِينَ والْقَانِتِينَ والْمُنْفِقِينَ والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ [سورة آل عمران: 16].
وأكثر من الاستغفار فنبيُّك، يقول: «من لزم الاستغفار، جعَل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»؛ [رواه أبو داود 1518 وابن ماجه 3819].
عبد الله، كم نصيبك من الاستغفار في اليوم والليلة إذا كان حبيب الله ورسوله المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة.
والاستغفار عباد الله ليس مجرَّد قولٍ باللسان فقط، بل هو عمل وتوبة بالجوارح والأركان.
فيا عبد الله، فارِق المعصية وأهل المعصية ومكان المعصية، وكل ما يُذكرك بالمعصية، وأكثر من قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [سورة الأعراف: 23].
ارفَع صوتك بالنداء
يا رب إن ذنوبي قد كثرت
وليس لي بعذاب النار من قبل
ولا أُطيق لها صبرًا ولا جلَدَا
فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي
ولا تذقني حرًا لجهنم أبدَا
وأخرج الطبراني في الدعاء بسندٍ حسنه البيهقي بسند لا بأس به عن رسول الله أنه قال: «من أحب أن تسرُّه صحيفته، فليكثر فيها من الاستغفار».
وعند ابن ماجه بسندٍ صحيح وعند النسائي في عمل اليوم والليلة بسند صحيح أيضًا عن رسول الله أنه قال: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا»؛ [رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبدالله بن بسر].
وانظر كذلك إلى الأثر العظيم المهم من آثار الاستغفار وهو دفع العذاب ورفع المصائب، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ ومَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [سورة الأنفال: 33].
ورحمة الله واسعة وعفوه أوسع لمن جاء إليه وتاب وأناب.
سبحانه القائل: ﴿ قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [سورة الزمر: 53].
أخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن سول الله عن رب العزة والجلال أنه قال: «يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم لو لقيتني بقراب الأرض معصيةً، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لقيتك بقرابها مغفرة».
فالله الله عباد الله أن نتعرض إلى كرم الله بالتوبة والاستغفار أن أردنا البركة والزيادة في الرزق والسعادة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا، أما بعد:
لا زلنا وإياكم مع مفاتيح الرزق والبركة، المفتاح الثاني من مفاتيح البركة والزيادة في الرزق التقوى: قال الله تعالى: ﴿ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2].
أحيانًا تُغلق أمامك أبواب الرزق، كل السبُل مغلقة، إذًا اتقِ الله حتى يجعل الله لك من هذا الضيق فرجًا، وكل من أراد العز في الدين والدنيا والبركة في الرزق والوقت والعمل، فعليه بتقوى الله تعالى، فإنها من أعظم ما استُنزلت به الخيرات واستُدفعت المكروهات؛ قال الله تعالى: ﴿ ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [سورة الأعراف: 96].
قال القرطبي: ما من خيرٍ عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن، إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلِّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن، إلا وتقوى الله تعالى حرز متين وحصنٌ حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
في القرآن الكريم ما يزيد عن ثلاثمائة آية ذُكرت فيها التقوى بمشتقاتها.
والتقوى هي القيام بأمر الله وترك ما نهى الله.
التقوى ليست هيئة معينة، لباس معين، حركات معينة، إيماءات، كلمات، إيحاءات، إنما هي تطبيق لأوامر الله وترك لِما حرَّم الله.
ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، ولكن الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، يراه الله حيث أمره، ويفتقده حيث نهاه.
والتقوى عباد الله أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية؛ تقيةً منه، وذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: «المتقون هم الذين يحذرون من الله وعقوبته»، وقال طلق بن حبيب رحمه الله: «التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله».
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [سورة آل عمران: 102]؛ قال: «تقوى الله أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر».
وعرَّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه التقوى، فقال: «هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل».
التقوى هي خير ضمانة نحفظ بها أولادنا ومستقبل أبنائنا من بعدنا؛ قال تعالى: ﴿ ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [سورة النساء: 9].
والتقوى وصيَّة الله للأولين والآخرين؛ قال تعالى: ﴿ ولَقَدْ وصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [سورة النساء: 131].
وكان من دعاء النبي: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها».
والتقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ورِيشًا ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى
تقلَّب عُريانا وإن كان كاسيَا
وخير لباس المرء طاعة ربه
ولا خير فيمن كان لله عاصيَا
والتقوى هي أفضل زاد يتزود به العبد، قال تعالى: ﴿ وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
وبها الطريق إلى الجنة فقد سُئل النبي: ما أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: «تقوى الله وحُسْن الخلق»؛ [رواه أحمد].
أيها الناس، اتخذوا تقوى الله تجارة يأتكم الرزق بلا بضاعة ولا تجارة.
والمفتاح الثالث من مفاتيح الرزق والبركة في حياتك يا عبد الله: التوكل على الله تعالى، والاستعانة بالله في الأمور كلها، والاعتماد على الله في كل أمر.
عباد الله، متى عادت الأمة إلى ربها وتوكلت عليه، واستعانت به، وفوَّضت جميع أمورها إليه، نصَرها الله وأعانها وأصلح بالها؛ قال الله تعالى: ﴿ ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [سورة الطلاق: 3].
قال رسول الله: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا»؛ [رواه أحمد والترمذي وهو صحيح].
إن الطيور لم يأتها رزقها رغدًا إلى أوكارها، وهي قابعة في أعشاشها، وإنما غدت في الصباح سعيًا في طلبه، فطارت من عشها، وحلَّقت في السماء، وحطَّت على الشجر والحجر، ورجعت وقد شبِعت من رزق الله تعالى وفضله.
سُئل ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى: ما أحسن وسيلة لطلب الرزق؟ أهي الزراعة أهي الصناعة أم التجارة؟ فأجاب عليه بقوله: «أحسن وأفضل وسيلة لطلب الرزق التوكل على الله الواحد الأحد مع العمل بالأسباب».
توكل على الرحمن في كل حاجةٍ
ولا تؤثرن العجز يومًا على الطلب
ألم ترَ أنّ الله قال لمريم
إليك فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها
جنته ولكن كل شيء له سبب
فتخيل حال امرأة ضعيفة في حال النفاس، أضعف ما تكون المرأة، والنخلة شجرة قوية، جذعها قوي، ولكن الله قال: ﴿ وهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، ولكن بالسبب الضعيف جعل النتيجة، كان من الممكن أن يسقط الثمر بلا هز، وماذا يغني الهز من امرأة ضعيفة لشجرة قوية، ولكن ليعلم العباد الأخذ بما أمكن من الأسباب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].
فمن حقَّق والتوكل، كفاه الله ما أهمه في الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: «وعزتي وجلالي وعظمتي، ما من عبدٍ آثر هواي على هواه، أي آثر طاعة الله على هوى نفسه، إلا أقللت همومه، وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه».
ويقول: «من أصبح وأكبر همه الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا، جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤتيه من الدنيا إلا ما قدر له»؛ [أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك].
قال ابن القيم رحمه الله: «ولو توكل العبد على الله حقَّ توكُّله في إزالة جبل من مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله».
عباد الله، التوكل مقام جليل عظيم الأثر، ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله.
قال ابن القيم رحمه الله: «التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة».
والله جل وعلا أمرنا وأمر نبيه بالتوكل، فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [سورة التوبة: 129].
وقال تعالى: ﴿ وتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [سورة الفرقان: 58].
وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [سورة آل عمران: 159].
وقال تعالى: ﴿ ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [سورة الشورى: 10].
عباد الله، التوكل على الله من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [سورة الأنفال: 2].
لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف بالمُلْك لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
سيد المتوكلين هو محمد لما نزل مع أصحابه في وادٍ، فعلَّق سيفه في شجرة فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر، فلم يرعهم إلا والنبي يدعوهم فأتوه فإذا بشخص وسيف ساقط، فقال الرسول: إن رجلًا أتاني وأنا نائم، فاتخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلف؛ أي مسلول.
سبحان الله انتبه النبي والسيف فوق رأسه، أين المهرب؟! فقال: من يمنعك مني يا محمد؟
قال صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق بربه وحفظه: الله، الله.
إنها كلمة فيها التوكل والتفويض والاستعانة وكل شيء، قال: فشام السيف؛ أي: أغمده، وفي رواية سقط السيف من يده؛ [كما في صحيح مسلم].
وها هو النبي مع أبي بكر رضي الله عنه في الغار، أبو بكر خائف على النبي أكثر من خوفه على نفسه؛ يقول: «يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى ما بين قدميه لأبصرنا»، ما بيننا وبين الهلاك إلا نظرة تحت، قال يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، هذا هو التوكل والتفويض يظهر فعلًا في أوقات الأزمات جليًّا واضحًا.
هذا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [سورة الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.