حكاية ناي ♔
02-01-2024, 04:33 PM
الخطبة الأولى
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي يُمهل ولا يُهمل، الحكَم العدل، لا مُعقِّب لحكمه، ولا رادَّ لفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له:
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا
ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعه
جلالُه عن العطا لذي الخَطَا
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير السراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تعالى القائل: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله، اليوم سنعيش وإياكم مع النور وطريق النور وحياة النور، ومنابع النور وآيات النور، وأول وقفة نقفها معكم مع نور الأنوار ومصدر النور وهو الله النور جل جلاله.
سبحانه نور وجهه أشرقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة، سبحانه ذو البهاء والجمال، سبحانه سمى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا يتلألأ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله إذا قام من الليل يقول: اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن....... »؛ [متفق عليه].
دعونا نُبحر في ظلال القرآن مع آيات النور، وأول آية نقف معها هي آية النور في سورة النور وهي قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]، قال ابن عباس رضي الله عنه: هادي السماوات والأرض، قال: هو المؤمن الذي جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فبدأ بنوره جل وعلا، ثم ذكر نور المؤمن وشبَّهه بالمصباح من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الصافي المشرق الذي لا كدر فيه.
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35].
نورٌ على نور، نور القرآن ونور الإيمان حين يجتمعان في قلب المؤمن.
نور على نور، فالمؤمن كله نور كلامه نور وعمله نور، ومدخله نور ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة.
أما الكافر والمنافق والمصر على الفواحش والمعاصي، فهو يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ظلمات المعاصي ظلمات الحرام، ظلمات ظلم العباد، فالظلم ظلمات يوم القيامة.
كلامه ظُلمة وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة ومخرجه ظُلمة، ومصيره إلى الظلمة يوم القيامة: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
يسمع الناس الأذان، فمنهم من يُلبِّي داعي الله، ومنهم مشغولٌ بالدنيا وبالجوال وبقيل وقال لماذا؟ ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
الصلاة نور: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
ينفق الصالحون في سبيل الله، ويكفُلون الأيتام والأرامل، بينما فئة من الماس تبخل بالمال لماذا؟ ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
لماذا كثير من الناس لا يعصي والديه إلا عند الكبر لماذا؟ ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
يقول أحد السلف وهو عبدالواحد المقدسي رحمه الله: «ركبنا البحر فألقتنا السفينة إلى جزيرة، فرأينا رجلُا يعبد وثنًا، قلنا له: ما تعبد؟ فأشار إلى الوثن، قال: وأنتم ما تعبدون؟ قلنا نعبد الله، قال: ومن الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه، وفي الناس قضاؤه، قال: وما أعلمكم به؟ قلنا: رسول الله من عند الملك، قال: فأين الرسول؟ قلنا: مات، قال: فهل ترك من علامة؟ قلنا: كتاب من عند الملك، قال: ينبغي أن تكون كتب الملوك حسانًا، ائتوني به، فجئناه بالقرآن الكريم، فقرأنا عليه، فبكى ثم قال: ما يصنع من أراد الدخول في دينكم؟ قلنا: يغتسل ويتوضأ، ويقول كلمة التوحيد ويُصلِّي، فاغتسل وقال كلمة التوحيد، وصلى، فلما جنَّ علينا الليل أخذنا مضاجعنا، قال: أسألكم الإله الذي دللتموني عليه إذا جنَّ الليل ينام؟ قلنا: لا بل هو حي قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم تنامون وربكم لا ينام».
لا إله إلا الله إذا دخل نور الإيمان القلب يفعل بصاحبه الأعاجيب.
عباد الله، لقد جعل الله النور لمن سلك طريقه، فقال جل جلاله: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، فهو ينظر بنور الله.
وللنور علامات ذكرها المصطفى، فقال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: يا رسول الله، وما علاقة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»؛ [أخرجه ابن أبي الدنيا والحاكم][1].
أيها المسلمون، قد يسأل سائلٌ: ما مصادر النور؟ ما منابع النور؟
المصدر الأول من هذه المصادر القرآن الكريم النور المبين والذكر الحكيم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174].
وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
القرآن كم نوَّر الله به من بيوت، كم أصلح الله به من أُسَر، كم هدى الله به من عصاة.
فيا أخي الحبيب، لا تهجُر هذا النور، ونوِّر به قلبك وبيتك وحياتك تلاوةً وتدبرًا وتحكيمًا.
المصدر الثاني من مصادر النور السنة المباركة، وصاحبها محمد، مَن اتبعه أسعَده الله في الدنيا والآخرة، ومَن ترك هديه وحارَب سُنته، عاش في الظلام والظلمة في الدنيا والآخرة، ولهذه الأمة من النور ما ليس لأمة غيرها، ولنبيها من النور ما ليس لنبي غيره، فإن لكل نبي منهم نورين، ولنبينا تحت كل شعرة من رأسه وجسده نورًا تامًّا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، فالنور هو محمد.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
ويجعل لكم نورًا تمشون به: يعني هُدى يتبصر به من العمى والجهالة، ويغفر لكم، ففضَّلهم بالنور والمغفرة.
عباد الله، الحياة مع القرآن والسنة نور، العمل بالقرآن والسنة ينير القلوب والأسماع والأبصار، تحكيم القرآن والسنة نورٌ للأمة في الدنيا والآخرة، ومن آيات النور في القرآن قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12].
يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين: إنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم، والجزاء من جنس العمل، عاشوا بنور القرآن والإيمان في حياتهم، فأعطاهم الله النور في الآخرة كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم: «على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم مَن نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويُطْفَأ مرة»؛ [رواه ابن أبي حاتم وابن جرير].
وقال الضحاك: ليس أحد إلا يُعطى نورًا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طُفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يُطفأَ نورُهم كما طُفئ نور المنافقين، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وقال الحسن رحمه الله: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12]؛ يعني على الصراط.
أما المنافقون يُسلب نورهم على الصراط، فيقولون: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ﴾ [الحديد: 13]، قيل: ارجعوا وراءكم، فالتمسوا نورًا؛ أي في الدنيا نور الإيمان ونور القرآن، ونور الصلاة والصيام والقيام وفعل الخيرات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمصدر الثالث من مصادر النور عباد الله: المساجد، ذكره الله في سورة النور بعد آية النور، اسمعوا ماذا قال الله تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النور: 36].
المساجد مصدر النور للأفراد والأسر والمجتمعات، وهي أحب البقاع إلى الله تعالى.
وكان من دعائه حال خروجه من بيته متطهرًا إلى المسجد: «اللهم اجعل لي نورًا في قلبي، ونورًا في قبري، ونورًا من بين يدي، ونورًا من خلفي، ونورًا عن يميني، ونورًا عن شمالي، ونورًا من فوقي، ونورًا من تحتي، ونورًا في سمعي، ونورًا في بصري، اللهم أعظم لي نورًا، وأعطني نورًا، واجعل لي نورًا»؛ [صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها-حديث «763»].
المساجد بيوت الله ومهابط رحمته، وملتقى ملائكته والصالحين من عباده، وقد أضافها الرب إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال، وتوعَّد مَن يَمنع عباده من ذكره فيها أو خرَّبها، أو تسبَّب في خرابها، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 114].
أيها المسلمون، إن القلوب المتعلقة بالمساجد لهي قلوب ملؤها الإيمان والتُّقى، والمسارعة إلى الخيرات، سارعت إلى محو الخطايا ورفع الدرجات، سارعت إلى ظل الله تعالى، سارعت إلى النور التام يوم القيامة، سارعت إلى الصلاة، فانتظرت الصلاة، فلم تزل الملائكة تصلي على أصحابها «اللهم صلِّ عليهم، اللهم اغفر لهم».
مرض أحد الصالحين من التابعين، اسمه ثابت بن عامر بن عبدالله بن الزبير، فسمع أذان المغرب، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض، وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله! أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم لا أُجيب! والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد، ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب، قبض الله روحه؛ قال بعض أهل العلم: كان هذا الرجل إذا صلى الفجر، قال: «اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قيل له: وما الميتة الحسنة، قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد».
نعم هذه هي الميتة الحسنة، أن يتوفاك ربك وأنت في صلاة، أو في جهاد في سبيل الله، أو على طهارة وأنت تقرأ القرآن، أو في طلب العلم، أو في مجالس الذكر.
وسعيد بن المسيب رحمه الله يقول في سكرات الموت: «والله ما أذَّن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد».
المصدر الرابع من مصادر النور عباد الله: ذكره الله في سورة النور قبل آية النور ألا وهو غض البصر عن المحارم، فإطلاق البصر يُلبس القلب ظلمةً، كما أن غض البصر لله تعالى يلبسه نورًا: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
وإطلاق البصر كذلك يُعمي القلب عن التمييز بين الحق والباطل والسنة والبدعة، وغضُّه لله تعالى يورثه فراسة صادقة يُميز بها؛ قال أحد الصالحين: «من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشبهات، واكتفى بالحلال - لم تخطئ له فِراسةٌ».
والجزاء من جنس العمل، فمن غضَّ بصرَه عن محارم الله، أطلَق الله نور بصيرته، ورزَقه من حيث لا يحتسب.
مَن غضَّ بصرَه عن الحرام أسعده الله بالحلال ونور الله حياته، هذا وصلوا وسلموا على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
[1] [هذا الحديث موضوع، راجع تخريجه في "سنن سعيد بن منصور" تحقيق فضيلة الشيخ سعد الحميد (918)] (إدارة تحرير الألوكة).
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي يُمهل ولا يُهمل، الحكَم العدل، لا مُعقِّب لحكمه، ولا رادَّ لفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له:
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا
ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعه
جلالُه عن العطا لذي الخَطَا
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير السراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تعالى القائل: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله، اليوم سنعيش وإياكم مع النور وطريق النور وحياة النور، ومنابع النور وآيات النور، وأول وقفة نقفها معكم مع نور الأنوار ومصدر النور وهو الله النور جل جلاله.
سبحانه نور وجهه أشرقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة، سبحانه ذو البهاء والجمال، سبحانه سمى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا يتلألأ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله إذا قام من الليل يقول: اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن....... »؛ [متفق عليه].
دعونا نُبحر في ظلال القرآن مع آيات النور، وأول آية نقف معها هي آية النور في سورة النور وهي قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]، قال ابن عباس رضي الله عنه: هادي السماوات والأرض، قال: هو المؤمن الذي جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فبدأ بنوره جل وعلا، ثم ذكر نور المؤمن وشبَّهه بالمصباح من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الصافي المشرق الذي لا كدر فيه.
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35].
نورٌ على نور، نور القرآن ونور الإيمان حين يجتمعان في قلب المؤمن.
نور على نور، فالمؤمن كله نور كلامه نور وعمله نور، ومدخله نور ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة.
أما الكافر والمنافق والمصر على الفواحش والمعاصي، فهو يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ظلمات المعاصي ظلمات الحرام، ظلمات ظلم العباد، فالظلم ظلمات يوم القيامة.
كلامه ظُلمة وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة ومخرجه ظُلمة، ومصيره إلى الظلمة يوم القيامة: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
يسمع الناس الأذان، فمنهم من يُلبِّي داعي الله، ومنهم مشغولٌ بالدنيا وبالجوال وبقيل وقال لماذا؟ ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
الصلاة نور: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
ينفق الصالحون في سبيل الله، ويكفُلون الأيتام والأرامل، بينما فئة من الماس تبخل بالمال لماذا؟ ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35].
لماذا كثير من الناس لا يعصي والديه إلا عند الكبر لماذا؟ ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
يقول أحد السلف وهو عبدالواحد المقدسي رحمه الله: «ركبنا البحر فألقتنا السفينة إلى جزيرة، فرأينا رجلُا يعبد وثنًا، قلنا له: ما تعبد؟ فأشار إلى الوثن، قال: وأنتم ما تعبدون؟ قلنا نعبد الله، قال: ومن الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه، وفي الناس قضاؤه، قال: وما أعلمكم به؟ قلنا: رسول الله من عند الملك، قال: فأين الرسول؟ قلنا: مات، قال: فهل ترك من علامة؟ قلنا: كتاب من عند الملك، قال: ينبغي أن تكون كتب الملوك حسانًا، ائتوني به، فجئناه بالقرآن الكريم، فقرأنا عليه، فبكى ثم قال: ما يصنع من أراد الدخول في دينكم؟ قلنا: يغتسل ويتوضأ، ويقول كلمة التوحيد ويُصلِّي، فاغتسل وقال كلمة التوحيد، وصلى، فلما جنَّ علينا الليل أخذنا مضاجعنا، قال: أسألكم الإله الذي دللتموني عليه إذا جنَّ الليل ينام؟ قلنا: لا بل هو حي قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم تنامون وربكم لا ينام».
لا إله إلا الله إذا دخل نور الإيمان القلب يفعل بصاحبه الأعاجيب.
عباد الله، لقد جعل الله النور لمن سلك طريقه، فقال جل جلاله: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، فهو ينظر بنور الله.
وللنور علامات ذكرها المصطفى، فقال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: يا رسول الله، وما علاقة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»؛ [أخرجه ابن أبي الدنيا والحاكم][1].
أيها المسلمون، قد يسأل سائلٌ: ما مصادر النور؟ ما منابع النور؟
المصدر الأول من هذه المصادر القرآن الكريم النور المبين والذكر الحكيم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174].
وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
القرآن كم نوَّر الله به من بيوت، كم أصلح الله به من أُسَر، كم هدى الله به من عصاة.
فيا أخي الحبيب، لا تهجُر هذا النور، ونوِّر به قلبك وبيتك وحياتك تلاوةً وتدبرًا وتحكيمًا.
المصدر الثاني من مصادر النور السنة المباركة، وصاحبها محمد، مَن اتبعه أسعَده الله في الدنيا والآخرة، ومَن ترك هديه وحارَب سُنته، عاش في الظلام والظلمة في الدنيا والآخرة، ولهذه الأمة من النور ما ليس لأمة غيرها، ولنبيها من النور ما ليس لنبي غيره، فإن لكل نبي منهم نورين، ولنبينا تحت كل شعرة من رأسه وجسده نورًا تامًّا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، فالنور هو محمد.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
ويجعل لكم نورًا تمشون به: يعني هُدى يتبصر به من العمى والجهالة، ويغفر لكم، ففضَّلهم بالنور والمغفرة.
عباد الله، الحياة مع القرآن والسنة نور، العمل بالقرآن والسنة ينير القلوب والأسماع والأبصار، تحكيم القرآن والسنة نورٌ للأمة في الدنيا والآخرة، ومن آيات النور في القرآن قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12].
يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين: إنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم، والجزاء من جنس العمل، عاشوا بنور القرآن والإيمان في حياتهم، فأعطاهم الله النور في الآخرة كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم: «على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم مَن نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويُطْفَأ مرة»؛ [رواه ابن أبي حاتم وابن جرير].
وقال الضحاك: ليس أحد إلا يُعطى نورًا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طُفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يُطفأَ نورُهم كما طُفئ نور المنافقين، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وقال الحسن رحمه الله: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12]؛ يعني على الصراط.
أما المنافقون يُسلب نورهم على الصراط، فيقولون: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ﴾ [الحديد: 13]، قيل: ارجعوا وراءكم، فالتمسوا نورًا؛ أي في الدنيا نور الإيمان ونور القرآن، ونور الصلاة والصيام والقيام وفعل الخيرات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمصدر الثالث من مصادر النور عباد الله: المساجد، ذكره الله في سورة النور بعد آية النور، اسمعوا ماذا قال الله تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النور: 36].
المساجد مصدر النور للأفراد والأسر والمجتمعات، وهي أحب البقاع إلى الله تعالى.
وكان من دعائه حال خروجه من بيته متطهرًا إلى المسجد: «اللهم اجعل لي نورًا في قلبي، ونورًا في قبري، ونورًا من بين يدي، ونورًا من خلفي، ونورًا عن يميني، ونورًا عن شمالي، ونورًا من فوقي، ونورًا من تحتي، ونورًا في سمعي، ونورًا في بصري، اللهم أعظم لي نورًا، وأعطني نورًا، واجعل لي نورًا»؛ [صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها-حديث «763»].
المساجد بيوت الله ومهابط رحمته، وملتقى ملائكته والصالحين من عباده، وقد أضافها الرب إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال، وتوعَّد مَن يَمنع عباده من ذكره فيها أو خرَّبها، أو تسبَّب في خرابها، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 114].
أيها المسلمون، إن القلوب المتعلقة بالمساجد لهي قلوب ملؤها الإيمان والتُّقى، والمسارعة إلى الخيرات، سارعت إلى محو الخطايا ورفع الدرجات، سارعت إلى ظل الله تعالى، سارعت إلى النور التام يوم القيامة، سارعت إلى الصلاة، فانتظرت الصلاة، فلم تزل الملائكة تصلي على أصحابها «اللهم صلِّ عليهم، اللهم اغفر لهم».
مرض أحد الصالحين من التابعين، اسمه ثابت بن عامر بن عبدالله بن الزبير، فسمع أذان المغرب، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض، وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله! أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم لا أُجيب! والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد، ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب، قبض الله روحه؛ قال بعض أهل العلم: كان هذا الرجل إذا صلى الفجر، قال: «اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قيل له: وما الميتة الحسنة، قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد».
نعم هذه هي الميتة الحسنة، أن يتوفاك ربك وأنت في صلاة، أو في جهاد في سبيل الله، أو على طهارة وأنت تقرأ القرآن، أو في طلب العلم، أو في مجالس الذكر.
وسعيد بن المسيب رحمه الله يقول في سكرات الموت: «والله ما أذَّن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد».
المصدر الرابع من مصادر النور عباد الله: ذكره الله في سورة النور قبل آية النور ألا وهو غض البصر عن المحارم، فإطلاق البصر يُلبس القلب ظلمةً، كما أن غض البصر لله تعالى يلبسه نورًا: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
وإطلاق البصر كذلك يُعمي القلب عن التمييز بين الحق والباطل والسنة والبدعة، وغضُّه لله تعالى يورثه فراسة صادقة يُميز بها؛ قال أحد الصالحين: «من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشبهات، واكتفى بالحلال - لم تخطئ له فِراسةٌ».
والجزاء من جنس العمل، فمن غضَّ بصرَه عن محارم الله، أطلَق الله نور بصيرته، ورزَقه من حيث لا يحتسب.
مَن غضَّ بصرَه عن الحرام أسعده الله بالحلال ونور الله حياته، هذا وصلوا وسلموا على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
[1] [هذا الحديث موضوع، راجع تخريجه في "سنن سعيد بن منصور" تحقيق فضيلة الشيخ سعد الحميد (918)] (إدارة تحرير الألوكة).