حكاية ناي ♔
02-01-2024, 04:36 PM
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا, وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا يبقى إلا وجهه ولا يدوم إلا ملكه له الحكم واليه ترجعون، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا, بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, هدى الله به البشرية, وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية، فيا رب صلِّ وسلم على هذا النبي العظيم وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى لتكونوا من أولياء الله الذين يقول الله فيهم: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، أما بعد:
فلا زلنا وإياكم مع صفات عباد الرحمن، ومع صفة أُخرى: يقول جل وعلا واصفًا عباده: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73]. والخرور: السقوط، ولا سقوط حقيقة، فالذين يعرضون عن آيات الله عز وجل لا يسمعون ولا يستجيبون، بل يبتعدون عن سماع كتاب الله سبحانه وتعالى، وخروا عليها صمًّا وعميانًا، أما عباد الرحمن، فإنهم يخرون لله عز وجل مطيعين له، ساجدين له، وإذا ذُكروا تذكروا.
قال الله عنهم في موضع آخر أنهم: ﴿ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء:107 - 109]، فهذا إقبال عباد الرحمن على الطاعة، وإذا جاءت آيات من آيات الله عز وجل فيها سجود، خرُّوا لله سجدًا؛ قال عنهم سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]. فهذا خرور حقيقي، فهم مقبلون على كتاب الله سبحانه، متدبرون لما يقوله الله سبحانه، وهذا حال المؤمن دائمًا إذا جاءه أمر من الله ورسوله، سارع بتنفيذه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51].
وإليكم مثلًا لمدى مسارعة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر الله، لقد صلى النبي تجاه بيت المقدس ستة عشر شهرًا، ثم جاء الأمر الإلهي بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، فكانت أول صلاة صلاها تجاه الكعبة صلاة العصر، فبعد الصلاة خرج رجل ممن صلى مع النبي، فمر على أهل مسجد يصلون تجاه بيت المقدس، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله قبل الكعبة، قال الصحابي هذه المقالة وهم راكعون، فداروا كما هم قِبَلَ مكة.
فانظر إلى مسارعة الصحابة لتنفيذ أمر الله، فهم لم ينتظروا حتى ينتهوا من صلاتهم، بل استداروا مباشرة، سبحان الله، ما أطهرها من قلوب، وما أنقاها من نفوس!
وللمرء إذا ما ذُكِّر بآيات الله وآلائه ونِعَمِه، أو وجِّه إليه نُصح أو ترغيب في رضا الله أو ترهيب من غضبه، أو حُثَّ على فعل الواجب واجتناب المحرم، أحد موقفين:
إما أن يتلقى ذلك فاتحًا ذهنه حريصًا على الاستفادة، مُقبلًا على المذكِّر الناصح بأُذنٍ واعية وعينٍ راعية، وقلب خاشع، ممتثلًا لشرع الله وحُكمه، وهو بذلك من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].
وإما أن يسمع النصح بأُذنٍ صماء وعينٍ عمياء وقلبٍ مختوم عليه، لا يتأثر ولا يتغير، ويبقى مستمرًّا على الغواية والضلال والجهل والكفر، وعن مثله قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
والبعض يفر من النصيحة والموعظة، ويهرب، حدِّثه عن الله وآياته، وعن النبي وأحاديثه، لا يقبل ولا يرتاح، بل يشمئز ويضيق ويفر، لكن حدِّثه عن الدنيا والمباريات واللهو، لا يكل ولا يمل.
أيها المسلمون، إن الذين يُذكِّرون بآيات الله صنفان: سعيد وشقي، وقلبان: حي وميت، وفيهما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].
والصفة الأخرى لعباد الرحمن أنهم دائمًا يدعون الله بصلاح الزوجات وصلاح الذرية؛ قال تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]: وما أجمل هذا الدعاء: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا ﴾، أعطِنا من فضلك ومن كرمك، وامنحنا وهبْ لنا أزواجًا وذريَّة مطيعين صالحين، تقر بهم العين لا نتطلع إلى غيرهم.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)؛ [رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسنادهما جيد].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقاوة ابن ادم ثلاثة، من سعادة ابن ادم المرأة الصالحة والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن ادم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء)؛ [رواه أحمد بإسناد صحيح وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم 3523].
الصالحون لا ينسون صباحَ مساءَ الدعاء بصلاح الذرية: ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
والولد الصالح هو خير كنز يتركه المسلم من بعده، فهو نافع لأبويه في حياتهما وبعد موتهما؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»؛ [رواه الترمذي والنسائي].
ولكن على المسلم أن يأخذ بالأسباب لنيل الولد الصالح ومنها: حُسن اختيار الأم الصالحة؛ لأنها هي المدرسة التي سيتخرج منها الولد، وصدق الشاعر:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم روضٌ إن تعهده الحيا
بالري أورق أيما إيراق
لا تكاد ترى عظيمًا من العظماء إلا وراءه أم عظيمة سعت على تربيته وتنشئته، لكن كيف ستربي الأم ولدها على الإيمان والقرآن والأخلاق السامية، وهي مشغولة بالمناسبات والمسامرات.
اللهم احفظ لنا أولادنا، وأصلِح لنا نساءنا يا رب العالمين، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا الداعي إلى رضوانه.
عباد الله، لا زلنا وإياكم مع عباد الرحمن:
عباد الرحمن يدعون الله ويقولون: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]، وهذا من الدعاء العظيم الجميل أن يكون الإنسان إمامًا وقدوة لأهل التقوى، فالإمامة هنا إمامة الدين، الإمامة في الزهد، الإمامة في التقوى، الإمامة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾.
فهم يدعون الله أن يرزُقَهم التقوى، وأن يجعلهم هداةً إلى الخير والعلم، يُقتدى بهم، وأئمة في الخير والمعروف والصلاح، وإذا اقتدى بهم الناس فكل عمل طيب يعملونه ويعمله الناس يكون لهم أجر فيه، قال النبي: (مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
ثم ختم عز وجل وصفه لعباده المتقين بذكر الجزاء الذي أعدَّه لهم بعد أن ذكر صفاتهم قبل ذلك، إحدى عشرة صفة، فذكر التواضع، وذكر الحلم، وذكر التهجد، وأنهم يقومون من الليل، وذكر خوفهم من الله سبحانه وتعالى، وأنهم يبتهلون إلى الله داعين راغبين راهبين أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وأنهم ينفقون بلا إسراف ولا تقتير، وذكر أنهم نزَّهوا أنفسهم عن أن يشركوا بالله، أو أن يقعوا في الزنا، أو أن يقعوا في القتل، وذكر أنهم يتوبون إلى الله سبحانه، وذكر أنهم يجتنبون الكذب وشهود الزور، وأنهم يعفون عن المسيء، وأنهم يقبلون الموعظة، ويطيعون من يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه، وكذلك يطلبون من الله سبحانه في دعاء جميل: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾.
ثم ذكر الله عز وجل جزاء هؤلاء، فقال: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ [الفرقان: 75]، أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة، والأقوال والأفعال الحميدة، كان جزاؤهم ثلاثة أصناف من التكريم.
أولًا: الدرجة العليا من الجنة، وقد عبَّر عنها القرآن «بالغُرفة»؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ﴾، وهي المنازل العالية، والدرجات الرفيعة في الجنان، عالي الجنة، الفردوس الأعلى من الجنات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
يقول الله سبحانه: ﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾؛ أي: بسبب صبرهم، فصبرهم كان سببًا في دخول هذه الغرفة وهذه الجنة، صبرهم على طاعة الله عز وجل، وطاعة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وصبرهم عن المحرمات، فلا يقعون فيما حرم الله، وصبرهم على القضاء والقدر.
يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، وقال تعالى: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾ [الزمر: 20].
الصنف الثاني من التكريم التعظيم، لقوله تعالى: ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ [الفرقان: 75]، والتحية تكون لهم من الله تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 58]، وتكون أيضًا من الملائكة: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24].
سلام عليكم، سلمتم في الجنة من كل سوء، فلا خصام في الجنة، ولا نكد فيها، ولا كدر، ولا حقد ولا غل، وهذا من فضل الله ومن كرمه ورحمته سبحانه وتعالى.
الصنف الثالث من التكريم لعباد الرحمن: دوام هذا النعيم خالصًا غير منقطع، لا يشوبه سوء أو اضطراب، وخلود المقام في الجنة لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 76]، ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108].
أسال الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الذين اصطفاهم ورضي عنهم، هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك، فقال في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى لتكونوا من أولياء الله الذين يقول الله فيهم: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، أما بعد:
فلا زلنا وإياكم مع صفات عباد الرحمن، ومع صفة أُخرى: يقول جل وعلا واصفًا عباده: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73]. والخرور: السقوط، ولا سقوط حقيقة، فالذين يعرضون عن آيات الله عز وجل لا يسمعون ولا يستجيبون، بل يبتعدون عن سماع كتاب الله سبحانه وتعالى، وخروا عليها صمًّا وعميانًا، أما عباد الرحمن، فإنهم يخرون لله عز وجل مطيعين له، ساجدين له، وإذا ذُكروا تذكروا.
قال الله عنهم في موضع آخر أنهم: ﴿ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء:107 - 109]، فهذا إقبال عباد الرحمن على الطاعة، وإذا جاءت آيات من آيات الله عز وجل فيها سجود، خرُّوا لله سجدًا؛ قال عنهم سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]. فهذا خرور حقيقي، فهم مقبلون على كتاب الله سبحانه، متدبرون لما يقوله الله سبحانه، وهذا حال المؤمن دائمًا إذا جاءه أمر من الله ورسوله، سارع بتنفيذه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51].
وإليكم مثلًا لمدى مسارعة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر الله، لقد صلى النبي تجاه بيت المقدس ستة عشر شهرًا، ثم جاء الأمر الإلهي بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، فكانت أول صلاة صلاها تجاه الكعبة صلاة العصر، فبعد الصلاة خرج رجل ممن صلى مع النبي، فمر على أهل مسجد يصلون تجاه بيت المقدس، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله قبل الكعبة، قال الصحابي هذه المقالة وهم راكعون، فداروا كما هم قِبَلَ مكة.
فانظر إلى مسارعة الصحابة لتنفيذ أمر الله، فهم لم ينتظروا حتى ينتهوا من صلاتهم، بل استداروا مباشرة، سبحان الله، ما أطهرها من قلوب، وما أنقاها من نفوس!
وللمرء إذا ما ذُكِّر بآيات الله وآلائه ونِعَمِه، أو وجِّه إليه نُصح أو ترغيب في رضا الله أو ترهيب من غضبه، أو حُثَّ على فعل الواجب واجتناب المحرم، أحد موقفين:
إما أن يتلقى ذلك فاتحًا ذهنه حريصًا على الاستفادة، مُقبلًا على المذكِّر الناصح بأُذنٍ واعية وعينٍ راعية، وقلب خاشع، ممتثلًا لشرع الله وحُكمه، وهو بذلك من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].
وإما أن يسمع النصح بأُذنٍ صماء وعينٍ عمياء وقلبٍ مختوم عليه، لا يتأثر ولا يتغير، ويبقى مستمرًّا على الغواية والضلال والجهل والكفر، وعن مثله قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
والبعض يفر من النصيحة والموعظة، ويهرب، حدِّثه عن الله وآياته، وعن النبي وأحاديثه، لا يقبل ولا يرتاح، بل يشمئز ويضيق ويفر، لكن حدِّثه عن الدنيا والمباريات واللهو، لا يكل ولا يمل.
أيها المسلمون، إن الذين يُذكِّرون بآيات الله صنفان: سعيد وشقي، وقلبان: حي وميت، وفيهما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].
والصفة الأخرى لعباد الرحمن أنهم دائمًا يدعون الله بصلاح الزوجات وصلاح الذرية؛ قال تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]: وما أجمل هذا الدعاء: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا ﴾، أعطِنا من فضلك ومن كرمك، وامنحنا وهبْ لنا أزواجًا وذريَّة مطيعين صالحين، تقر بهم العين لا نتطلع إلى غيرهم.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)؛ [رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسنادهما جيد].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقاوة ابن ادم ثلاثة، من سعادة ابن ادم المرأة الصالحة والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن ادم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء)؛ [رواه أحمد بإسناد صحيح وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم 3523].
الصالحون لا ينسون صباحَ مساءَ الدعاء بصلاح الذرية: ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
والولد الصالح هو خير كنز يتركه المسلم من بعده، فهو نافع لأبويه في حياتهما وبعد موتهما؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»؛ [رواه الترمذي والنسائي].
ولكن على المسلم أن يأخذ بالأسباب لنيل الولد الصالح ومنها: حُسن اختيار الأم الصالحة؛ لأنها هي المدرسة التي سيتخرج منها الولد، وصدق الشاعر:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم روضٌ إن تعهده الحيا
بالري أورق أيما إيراق
لا تكاد ترى عظيمًا من العظماء إلا وراءه أم عظيمة سعت على تربيته وتنشئته، لكن كيف ستربي الأم ولدها على الإيمان والقرآن والأخلاق السامية، وهي مشغولة بالمناسبات والمسامرات.
اللهم احفظ لنا أولادنا، وأصلِح لنا نساءنا يا رب العالمين، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا الداعي إلى رضوانه.
عباد الله، لا زلنا وإياكم مع عباد الرحمن:
عباد الرحمن يدعون الله ويقولون: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]، وهذا من الدعاء العظيم الجميل أن يكون الإنسان إمامًا وقدوة لأهل التقوى، فالإمامة هنا إمامة الدين، الإمامة في الزهد، الإمامة في التقوى، الإمامة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾.
فهم يدعون الله أن يرزُقَهم التقوى، وأن يجعلهم هداةً إلى الخير والعلم، يُقتدى بهم، وأئمة في الخير والمعروف والصلاح، وإذا اقتدى بهم الناس فكل عمل طيب يعملونه ويعمله الناس يكون لهم أجر فيه، قال النبي: (مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
ثم ختم عز وجل وصفه لعباده المتقين بذكر الجزاء الذي أعدَّه لهم بعد أن ذكر صفاتهم قبل ذلك، إحدى عشرة صفة، فذكر التواضع، وذكر الحلم، وذكر التهجد، وأنهم يقومون من الليل، وذكر خوفهم من الله سبحانه وتعالى، وأنهم يبتهلون إلى الله داعين راغبين راهبين أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وأنهم ينفقون بلا إسراف ولا تقتير، وذكر أنهم نزَّهوا أنفسهم عن أن يشركوا بالله، أو أن يقعوا في الزنا، أو أن يقعوا في القتل، وذكر أنهم يتوبون إلى الله سبحانه، وذكر أنهم يجتنبون الكذب وشهود الزور، وأنهم يعفون عن المسيء، وأنهم يقبلون الموعظة، ويطيعون من يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه، وكذلك يطلبون من الله سبحانه في دعاء جميل: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾.
ثم ذكر الله عز وجل جزاء هؤلاء، فقال: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ [الفرقان: 75]، أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة، والأقوال والأفعال الحميدة، كان جزاؤهم ثلاثة أصناف من التكريم.
أولًا: الدرجة العليا من الجنة، وقد عبَّر عنها القرآن «بالغُرفة»؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ﴾، وهي المنازل العالية، والدرجات الرفيعة في الجنان، عالي الجنة، الفردوس الأعلى من الجنات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
يقول الله سبحانه: ﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾؛ أي: بسبب صبرهم، فصبرهم كان سببًا في دخول هذه الغرفة وهذه الجنة، صبرهم على طاعة الله عز وجل، وطاعة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وصبرهم عن المحرمات، فلا يقعون فيما حرم الله، وصبرهم على القضاء والقدر.
يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، وقال تعالى: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾ [الزمر: 20].
الصنف الثاني من التكريم التعظيم، لقوله تعالى: ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ [الفرقان: 75]، والتحية تكون لهم من الله تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 58]، وتكون أيضًا من الملائكة: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24].
سلام عليكم، سلمتم في الجنة من كل سوء، فلا خصام في الجنة، ولا نكد فيها، ولا كدر، ولا حقد ولا غل، وهذا من فضل الله ومن كرمه ورحمته سبحانه وتعالى.
الصنف الثالث من التكريم لعباد الرحمن: دوام هذا النعيم خالصًا غير منقطع، لا يشوبه سوء أو اضطراب، وخلود المقام في الجنة لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 76]، ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108].
أسال الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الذين اصطفاهم ورضي عنهم، هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك، فقال في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم.