حكاية ناي ♔
02-01-2024, 04:39 PM
الحمد لله رب العالمين، الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، فهو القائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله: إن نعم الله علينا لا تُعد ولا تحصى بالليل والنهار، عافانا وأعطانا ومنحنا ووهبنا وهدانا، هل نحن من الشاكرين لنعمه جل وعلا.
الشكر خير عيش السعداء لم يترقوا إلى أعلى المنازل إلا بشكرهم، والشكر هو ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيمانًا، وفي لسانه حمدًا وثناءً وفي جوارحه عبادة وطاعة, ويكون القليل من النعمة مستوجبًا الكثير من الشكر، فكيف إذا كانت النعم كثيرة؟ ومن العباد من هو شاكر ومنهم من هو كافر.
الشكر: هو أن تُثني على المنعم بإنعامه، وأن تجعل نعمته في طاعته ولا تخالف أمره، وهذا من أعظم ما فُسِّر به، ويُقابل الشكر كُفران الجميل؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ [إبراهيم: 28].
أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده، فقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].
وقسَّم الله الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهل الكفر، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهل الشكر: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].
يبتلي عباده ليستخرج الشكور، فقال على لسان سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
ووعد الله الشاكرين بالزيادة، فقال: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
والله يرضى عمل الشاكرين ويرضى الشكر، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الزمر: 7].
ووصف الله الشاكرين بأنهم قليلٌ من عباده، فقال: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: 12].
وإذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين، فإنه ليس كذلك عند كل الناس فإن كثيرًا منهم يتمتعون بالنعم ولا يشكرونها.
أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر وهو نوح عليه السلام: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]، إشارة إلى الاقتداء به.
وأخبر عن خليله إبراهيم بشكر نعمته: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 120، 121].
فمن صفات الأمة القدوة الذي يؤتم به بالخير أنه كان قانتًا لله شاكرًا لأنعُمِه، فجعل الشكر غاية خليله.
وأمر الله به داود وآله، فقال: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: 12].
ودعا سليمان عليه السلام ربَّه أن يكون من الشاكرين: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
وأمر الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالشكر، فقال: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66]، وأمر الله لقمانَ بالشكر، فقال: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12].
وأوَّلُ وصية وصَّى بها ربُّنا الإنسانَ هي الوصية بالشكر له وللوالدين، فقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
قيل لأحد الصالحين: ما شكر الله؟ قال: أما شكر العينين، فالبكاء - يعني من خشية الله - وشكر القلب الحياء، وشكر اللسان الثناء، وشكر الأذنين الإصغاء. فكونوا عباد الله من الشاكرين اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد البشر، اللهم صلِّ وسلم على هذا النبي الشافع المشفع في المحشر وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، أما بعد:
فعباد الله، الشكر لله يكون بالقلب واللسان والجوارح، ويكون بأن يعلم العبد أن الله هو المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها.
وأما الشكر باللسان، فلسان المرء يعبر عمَّا في قلبه، فإذا امتلأ القلب بشكر الله لهج اللسان بحمده والثناء عليه.
عبد الله، قف وتأمل ما في أذكار النبي صلى الله عليه وسلم من الحمد والشكر لرب العالمين، كان لَمَّا يفيق من نومه؛ يقول: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»؛ [رواه البخاري]. «الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره»؛ [رواه الترمذي]. ومن أذكار الصباح والمساء: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد والشكر» من قالها حين يصبح فقد أدَّى شكر ليلته؛ [أخرجه أبو داود رقم: «5073»، والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، وإسناده ضعيف، وفيه عبدالله بن عنبسة].
وفي ليلة من الليالي تبحث عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقعت يدها على يد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في بطن الليل وقدماه منصوبتان، وهو يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك»؛ [رواه مسلم].
قال صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، إني أُحبك فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك»؛ [أخرجه أحمد «5/247»، أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار: «1522»، وقال النووي في الخلاصة: إسناده صحيح].
والشكر بالجوارح عباد الله: فما من عمل يعمله ابن آدم من الطاعات والعبادات إلا وهو شاكر فيه لنعم ربه، ومن وسائل الشكر بالجوارح: ما أخرج مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن ذكر الله وحمد الله وهلل الله وسبح لله، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظمًا، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة أمسى من يومه وقد زحزح نفسه من النار»؛ [رواه مسلم].
ومن الأشياء التي تؤدي إلى الشكر:
أولًا: أن تنظر إلى من هو دونك، قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله»؛ [رواه مسلم عن أبي هريرة].
ثانيًا: أن يعلم العبد أنه مسؤول عن كل نعمة أنعم الله عليه بها: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]. وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تفطَّرت قدماه وتشققت، قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا كون عبدًا شكورًا؟».
ومن الوسائل أن ندعو الله أن يعيننا على الشكر بعد كل صلاة: « اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وسُئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي المال نتخذ؟ فلفت نظرهم صلى الله عليه وسلم فقال: «ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة مؤمنة تُعين أحدكم على أمر دينه ودنياه»؛ [رواه أحمد وابن ماجه والترمذي عن ثوبان وهو في صحيح الجامع].
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى على العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها»؛ رواه مسلم. وقال الحسن البصري رحمه الله: « إن الله ليُمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذابًا». واللهُ ما خلع نعمةً عن عبدٍ إلا يوم يخلع العبد طاعة الله، واللهُ عز وجل ما حبس نعمة عن عبدٍ إلا يوم يعرض العبد عن مرضاة الله.
إذا كنتَ في نعمةٍ فارعها
فإن المعاصي تُزيل النعم
وحافظ عليها بتقوى الإله
فإن الإله سريع النقم
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: «لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس - وفي لفظ - أو غربت».
ولقد كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إذا قلَّب بصره في نعمة أنعمها الله عليه، قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أبدِّل نعمتك كفرًا، وأن أكفرها بعد أن عرفتها، وأن أنساها ولا أثني بها؛ لأن الله ذم الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار».
والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رُفعت مائدته، قال: «الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفيٍّ ولا مكفور، الحمد لله ربنا غير مكفي ولا مودع ولا مستغنٍ ربنا»؛ [رواه البخاري].
وكذلك من شكر النعم المتجددة أنك تسجد سجود الشكر، وفي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أمر فسُرَّ به فخرَّ لله ساجدًا، وكعب بن مالك سجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما بُشِّر بتوبة الله عليه.
أخيرًا أسال الله أن يجعلنا من الشاكرين، وأن يوفقنا لطريق الشكر ومنزلته العالية. اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين، وأعنَّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، هذا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، فهو القائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله: إن نعم الله علينا لا تُعد ولا تحصى بالليل والنهار، عافانا وأعطانا ومنحنا ووهبنا وهدانا، هل نحن من الشاكرين لنعمه جل وعلا.
الشكر خير عيش السعداء لم يترقوا إلى أعلى المنازل إلا بشكرهم، والشكر هو ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيمانًا، وفي لسانه حمدًا وثناءً وفي جوارحه عبادة وطاعة, ويكون القليل من النعمة مستوجبًا الكثير من الشكر، فكيف إذا كانت النعم كثيرة؟ ومن العباد من هو شاكر ومنهم من هو كافر.
الشكر: هو أن تُثني على المنعم بإنعامه، وأن تجعل نعمته في طاعته ولا تخالف أمره، وهذا من أعظم ما فُسِّر به، ويُقابل الشكر كُفران الجميل؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ [إبراهيم: 28].
أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده، فقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].
وقسَّم الله الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهل الكفر، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهل الشكر: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].
يبتلي عباده ليستخرج الشكور، فقال على لسان سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
ووعد الله الشاكرين بالزيادة، فقال: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
والله يرضى عمل الشاكرين ويرضى الشكر، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الزمر: 7].
ووصف الله الشاكرين بأنهم قليلٌ من عباده، فقال: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: 12].
وإذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين، فإنه ليس كذلك عند كل الناس فإن كثيرًا منهم يتمتعون بالنعم ولا يشكرونها.
أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر وهو نوح عليه السلام: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]، إشارة إلى الاقتداء به.
وأخبر عن خليله إبراهيم بشكر نعمته: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 120، 121].
فمن صفات الأمة القدوة الذي يؤتم به بالخير أنه كان قانتًا لله شاكرًا لأنعُمِه، فجعل الشكر غاية خليله.
وأمر الله به داود وآله، فقال: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: 12].
ودعا سليمان عليه السلام ربَّه أن يكون من الشاكرين: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
وأمر الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالشكر، فقال: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66]، وأمر الله لقمانَ بالشكر، فقال: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12].
وأوَّلُ وصية وصَّى بها ربُّنا الإنسانَ هي الوصية بالشكر له وللوالدين، فقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
قيل لأحد الصالحين: ما شكر الله؟ قال: أما شكر العينين، فالبكاء - يعني من خشية الله - وشكر القلب الحياء، وشكر اللسان الثناء، وشكر الأذنين الإصغاء. فكونوا عباد الله من الشاكرين اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد البشر، اللهم صلِّ وسلم على هذا النبي الشافع المشفع في المحشر وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، أما بعد:
فعباد الله، الشكر لله يكون بالقلب واللسان والجوارح، ويكون بأن يعلم العبد أن الله هو المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها.
وأما الشكر باللسان، فلسان المرء يعبر عمَّا في قلبه، فإذا امتلأ القلب بشكر الله لهج اللسان بحمده والثناء عليه.
عبد الله، قف وتأمل ما في أذكار النبي صلى الله عليه وسلم من الحمد والشكر لرب العالمين، كان لَمَّا يفيق من نومه؛ يقول: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»؛ [رواه البخاري]. «الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره»؛ [رواه الترمذي]. ومن أذكار الصباح والمساء: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد والشكر» من قالها حين يصبح فقد أدَّى شكر ليلته؛ [أخرجه أبو داود رقم: «5073»، والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، وإسناده ضعيف، وفيه عبدالله بن عنبسة].
وفي ليلة من الليالي تبحث عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقعت يدها على يد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في بطن الليل وقدماه منصوبتان، وهو يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك»؛ [رواه مسلم].
قال صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، إني أُحبك فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك»؛ [أخرجه أحمد «5/247»، أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار: «1522»، وقال النووي في الخلاصة: إسناده صحيح].
والشكر بالجوارح عباد الله: فما من عمل يعمله ابن آدم من الطاعات والعبادات إلا وهو شاكر فيه لنعم ربه، ومن وسائل الشكر بالجوارح: ما أخرج مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن ذكر الله وحمد الله وهلل الله وسبح لله، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظمًا، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة أمسى من يومه وقد زحزح نفسه من النار»؛ [رواه مسلم].
ومن الأشياء التي تؤدي إلى الشكر:
أولًا: أن تنظر إلى من هو دونك، قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله»؛ [رواه مسلم عن أبي هريرة].
ثانيًا: أن يعلم العبد أنه مسؤول عن كل نعمة أنعم الله عليه بها: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]. وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تفطَّرت قدماه وتشققت، قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا كون عبدًا شكورًا؟».
ومن الوسائل أن ندعو الله أن يعيننا على الشكر بعد كل صلاة: « اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وسُئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي المال نتخذ؟ فلفت نظرهم صلى الله عليه وسلم فقال: «ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة مؤمنة تُعين أحدكم على أمر دينه ودنياه»؛ [رواه أحمد وابن ماجه والترمذي عن ثوبان وهو في صحيح الجامع].
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى على العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها»؛ رواه مسلم. وقال الحسن البصري رحمه الله: « إن الله ليُمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذابًا». واللهُ ما خلع نعمةً عن عبدٍ إلا يوم يخلع العبد طاعة الله، واللهُ عز وجل ما حبس نعمة عن عبدٍ إلا يوم يعرض العبد عن مرضاة الله.
إذا كنتَ في نعمةٍ فارعها
فإن المعاصي تُزيل النعم
وحافظ عليها بتقوى الإله
فإن الإله سريع النقم
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: «لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس - وفي لفظ - أو غربت».
ولقد كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إذا قلَّب بصره في نعمة أنعمها الله عليه، قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أبدِّل نعمتك كفرًا، وأن أكفرها بعد أن عرفتها، وأن أنساها ولا أثني بها؛ لأن الله ذم الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار».
والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رُفعت مائدته، قال: «الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفيٍّ ولا مكفور، الحمد لله ربنا غير مكفي ولا مودع ولا مستغنٍ ربنا»؛ [رواه البخاري].
وكذلك من شكر النعم المتجددة أنك تسجد سجود الشكر، وفي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أمر فسُرَّ به فخرَّ لله ساجدًا، وكعب بن مالك سجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما بُشِّر بتوبة الله عليه.
أخيرًا أسال الله أن يجعلنا من الشاكرين، وأن يوفقنا لطريق الشكر ومنزلته العالية. اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين، وأعنَّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، هذا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].