حكاية ناي ♔
02-01-2024, 04:40 PM
الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، فصرف قلوبهم إلى طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
عباد الله، سنقف وإياكُم مع الصدقة وأهميتها في الدنيا والآخرة.
الصدقة شعار المتقين، ولواء الصالحين المصلحين، زكاة للنفوس، ونماء في المال، وطُهرة للبدن، مرضاة للرب، بها تُدفع عن الأمة البلايا والرزايا، تُطهر القلوب من أدران التعلق بهذه الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].
وفي مضمار سباق إلى رضا الله تعالى، قال عمر رضي الله عنه: أمرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ نتصدقَ، فوافقَ ذلك عندي مالًا فقلتُ: اليومَ أسبقُ أبا بكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قال: فجئتُ بنصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أبقيتَ لأهلِكَ؟ قلتُ مثلهُ، وأتى أبو بكرٍ بكُلِّ ما عنده، فقال يا أبا بكرٍ: ما أبقيتَ لأهلِكَ؟ فقال: أبقيتُ لهمُ اللهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسبِقُهُ إلى شيءٍ أبدًا.
إنه عُمق الإيمان، وصدق اليقين بالله، وإخلاص التوكل عليه، والشعور بجسد الأمة الواحد، وإلا ما الذي يدفع الصديق أن يخرج بماله كله، وعمر بنصف ماله؟! روى الترمذي وقال: حسن صحيح، وأحمد وبعضه في مسلم، عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة أُقسم عليهن وأُحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلم عبدٌ مظلمة فصبر عليها، إلا زاده الله عز وجل بها عزًّا، ولا فتح عبدٌ باب مسألة، إلا فتح الله عليه باب فق، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: ـ إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله عز وجل مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله عز وجل فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل. وعبدٌ رزقه الله عز وجل علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت به بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبدٌ رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل. وعبدٌ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما فيه سواء».
عبد الله: لا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب، وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنعَيْن أشد؟! فإن لله في كل نعمة حقًا، فمن أدَّاه زاده منها، ومن قصَّر عنه خاطر بزوال نعمته.
أين المتاجرون بالبذل والإنفاق؟ أين المتاجرون بدفع الزكوات؟ أين الذين يتاجرون في هذا كله مع الله؟ وهل يخسر تاجر يتاجر في تجارة مع الواسع العليم القائل: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].
إن مفهوم الصدقة ينبغي أن يحيا فينا، فيتبوأ مكانًا عليًّا، ويتصدر فهمنا، ويحكم سلوكنا، ويتوج عرش قلوبنا، حتى نتخلَّص من شُحِّ نفوسنا، وسوء ظننا؛ قال الله تعالى آمرًا نبيه: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 31]. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].
ومن الأحاديث الدَّالة على فضل الصدقة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة»؛ [متفق عليه]. وقال عمر بن العزيز رحمه الله: «الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه».
عباد الله: إن للصدقة فضائل وفوائد:
أولًا: أنها تطفئ غضب الله تعالى:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة السر تُطفئ غضب الرب»؛ [صحيح الترغيب للألباني ].
ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة، وتُذهب نارها:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «والصدقة تُطفئ الخطيئة كما تُطفئ الماءُ النار»؛ [صحيح الترغيب للألباني ].
ثالثًا: أنها وقاية من النار:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا النار، ولو بشق تمرة»؛ [رواه البخاري ومسلم].
رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة:
كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل امرئٍ في ظل صدقته، حتى يُقضى بين الناس»؛ [الحديث رواه أحمد والحاكم وسنده صحيح؛ صحيح الجامع 4 / 170 ].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»؛ [رواه البخاري ومسلم].
خامسًا: أن في الصدقة دواءً للأمراض البدنية:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة».
سادسًا: إن فيها دواءً للأمراض القلبية:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمن شكى إليه قسوة قلبه: «إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم»؛ [رواه أحمد ].
سابعًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء:
كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل: «وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم»؛ [صحيح، أخرجه الترمذي كتاب الأمثال باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863 )، وأحمد في مسنده (4 /130) ].
ثامنًا: أن المنفق يدعو له الملَك كل يوم بخلاف الممسك:
وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
تاسعًا: أن صاحب الصدقة يُبارَك له في ماله:
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «ما نقصت صدقة من مال»؛ [رواه مسلم ].
عاشرًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به.
كما في قوله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272].
ولما سأل النبي عائشة عن الشاة التي ذبحوها: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفُها، قال صلى الله عليه وسلم: «بقيت كلها غير كتفها»؛ [رواه مسلم ].
الحادي عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره:
كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18].
الثاني عشر: أن صاحبها يُدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب الصدقة:
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريَّان»؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها، قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يومٍ وأحد، إلا أوجب ذلك لصاحبه الجنة:
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟»، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعت في امرئٍ إلا دخل الجنة»؛ [رواه مسلم ].
الرابع عشر: أن فيها انشراح الصدر، وراحة القلب وطمأنينته:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المُنفق فلا يُنفق إلا اتسعت على جلده حتى يخفى أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
فالمتصدق كلما تصدَّق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلمَّا تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوِي فرحه، وعظُم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها، لكان كافية للعبد بالاستكثار منها والمبادرة إليها.
الخامس عشر: أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم جعل الغِنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به: وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفقه آناء الليل والنهار»؛ [البخاري: ك: العلم «73» ].
السادس عشر: أنَّ الصدقة مَطْهَرة للمال، تُخلِّصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو، والحلف، والكذب، والغفلة فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يوصي التَّجار بقوله: «يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة»؛ [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، صحيح الجامع ].
أسأل الله أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد أيها المسلمون، ما هي أفضل الصدقات؟
أولًا: الصدقة الخفية:
لأنَّها أقرب إلى الإخلاص من المُعلنة، وفي ذلك يقول جل وعلا: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271].
ثانيًا: الصدقةُ في حال الصحة والقوة أفضل من الوصية بعد الموت أو حال المرض والاحتضار:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
إن بعض الناس لا تجود نفسه بمال ولا يقبل أن ينفق، حتى إذا أصاب ذلك المسكين داءٌ عضال ومرضٌ فتَّاك وعايَن الموت، بدأ ينفق ماله يَمنةً ويَسرةً، بعدما ذهبت نَضرة الشباب وبَهجة الدنيا، فشتان شتان بين هذا وذاك.
ثالثًا: بذل الإنسان ما يستطيعه ويُطيقه مع القلة والحاجة:
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول»؛ [رواه أبو داود].
أيها المسلمون، ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268]؛ قد يقول قائل: أنا لا أملك إلا ما أقتات أنا وأهلي وعيالي، قال صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: وكيف؟! قال: «كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها»؛ [رواه النسائي، صحيح الجامع ].
رابعًا: الإنفاق على الأولاد:
كما في قوله: «الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة»؛ [رواه البخاري ومسلم ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكينًا، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك»؛ [رواه مسلم ].
خامسًا: الصدقة على القريب:
كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ؛ قال أنس رضي الله عنه: «فلما أُنزلت هذه الآية) ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنَّ الله يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، إني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: «أفعل يا رسول، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
سادسًا: الصَّدقة علـى الجار:
فقد أوصـى بـه الله ـ بقوله: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].
سابعًا: الصدقة الجارية: وهي ما يبقى بعد موت العبد، ويستمر أجره عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛ [رواه مسلم ].
عبادَ الله: الصدقة لها معنًى واسع، فهِي تشمَل عملَ كل خير، إرشادُ الضال، إماطةُ الأذى، العدلُ بين اثنين، التبسُّم في وجه أخيك المسلم، غرسُ شجرة، تعليمُ علمٍ نافع، إصلاح ذات البَين، الكلمَة الطيبة صدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كلّ مسلمٍ صدقة»، فقالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم نجد؟ قال: «يعمل بيده فينفَع نفسَه ويتصدّق»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجةِ الملهوف»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمَل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة»؛ [أخرجه البخاري].
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وبطاعتك عن معصيتك، اللهم قوِّ إيماننا وارفَع درجاتنا، وتقبَّل صلاتنا يا رب العالمين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على البشير النذير والسراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم وعلى وصحبه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
عباد الله، سنقف وإياكُم مع الصدقة وأهميتها في الدنيا والآخرة.
الصدقة شعار المتقين، ولواء الصالحين المصلحين، زكاة للنفوس، ونماء في المال، وطُهرة للبدن، مرضاة للرب، بها تُدفع عن الأمة البلايا والرزايا، تُطهر القلوب من أدران التعلق بهذه الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].
وفي مضمار سباق إلى رضا الله تعالى، قال عمر رضي الله عنه: أمرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ نتصدقَ، فوافقَ ذلك عندي مالًا فقلتُ: اليومَ أسبقُ أبا بكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قال: فجئتُ بنصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أبقيتَ لأهلِكَ؟ قلتُ مثلهُ، وأتى أبو بكرٍ بكُلِّ ما عنده، فقال يا أبا بكرٍ: ما أبقيتَ لأهلِكَ؟ فقال: أبقيتُ لهمُ اللهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسبِقُهُ إلى شيءٍ أبدًا.
إنه عُمق الإيمان، وصدق اليقين بالله، وإخلاص التوكل عليه، والشعور بجسد الأمة الواحد، وإلا ما الذي يدفع الصديق أن يخرج بماله كله، وعمر بنصف ماله؟! روى الترمذي وقال: حسن صحيح، وأحمد وبعضه في مسلم، عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة أُقسم عليهن وأُحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلم عبدٌ مظلمة فصبر عليها، إلا زاده الله عز وجل بها عزًّا، ولا فتح عبدٌ باب مسألة، إلا فتح الله عليه باب فق، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: ـ إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله عز وجل مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله عز وجل فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل. وعبدٌ رزقه الله عز وجل علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت به بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبدٌ رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل. وعبدٌ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما فيه سواء».
عبد الله: لا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب، وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنعَيْن أشد؟! فإن لله في كل نعمة حقًا، فمن أدَّاه زاده منها، ومن قصَّر عنه خاطر بزوال نعمته.
أين المتاجرون بالبذل والإنفاق؟ أين المتاجرون بدفع الزكوات؟ أين الذين يتاجرون في هذا كله مع الله؟ وهل يخسر تاجر يتاجر في تجارة مع الواسع العليم القائل: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].
إن مفهوم الصدقة ينبغي أن يحيا فينا، فيتبوأ مكانًا عليًّا، ويتصدر فهمنا، ويحكم سلوكنا، ويتوج عرش قلوبنا، حتى نتخلَّص من شُحِّ نفوسنا، وسوء ظننا؛ قال الله تعالى آمرًا نبيه: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 31]. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].
ومن الأحاديث الدَّالة على فضل الصدقة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة»؛ [متفق عليه]. وقال عمر بن العزيز رحمه الله: «الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه».
عباد الله: إن للصدقة فضائل وفوائد:
أولًا: أنها تطفئ غضب الله تعالى:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة السر تُطفئ غضب الرب»؛ [صحيح الترغيب للألباني ].
ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة، وتُذهب نارها:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «والصدقة تُطفئ الخطيئة كما تُطفئ الماءُ النار»؛ [صحيح الترغيب للألباني ].
ثالثًا: أنها وقاية من النار:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا النار، ولو بشق تمرة»؛ [رواه البخاري ومسلم].
رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة:
كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل امرئٍ في ظل صدقته، حتى يُقضى بين الناس»؛ [الحديث رواه أحمد والحاكم وسنده صحيح؛ صحيح الجامع 4 / 170 ].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»؛ [رواه البخاري ومسلم].
خامسًا: أن في الصدقة دواءً للأمراض البدنية:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة».
سادسًا: إن فيها دواءً للأمراض القلبية:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمن شكى إليه قسوة قلبه: «إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم»؛ [رواه أحمد ].
سابعًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء:
كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل: «وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم»؛ [صحيح، أخرجه الترمذي كتاب الأمثال باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863 )، وأحمد في مسنده (4 /130) ].
ثامنًا: أن المنفق يدعو له الملَك كل يوم بخلاف الممسك:
وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
تاسعًا: أن صاحب الصدقة يُبارَك له في ماله:
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «ما نقصت صدقة من مال»؛ [رواه مسلم ].
عاشرًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به.
كما في قوله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272].
ولما سأل النبي عائشة عن الشاة التي ذبحوها: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفُها، قال صلى الله عليه وسلم: «بقيت كلها غير كتفها»؛ [رواه مسلم ].
الحادي عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره:
كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18].
الثاني عشر: أن صاحبها يُدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب الصدقة:
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريَّان»؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها، قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يومٍ وأحد، إلا أوجب ذلك لصاحبه الجنة:
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟»، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعت في امرئٍ إلا دخل الجنة»؛ [رواه مسلم ].
الرابع عشر: أن فيها انشراح الصدر، وراحة القلب وطمأنينته:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المُنفق فلا يُنفق إلا اتسعت على جلده حتى يخفى أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
فالمتصدق كلما تصدَّق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلمَّا تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوِي فرحه، وعظُم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها، لكان كافية للعبد بالاستكثار منها والمبادرة إليها.
الخامس عشر: أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم جعل الغِنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به: وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفقه آناء الليل والنهار»؛ [البخاري: ك: العلم «73» ].
السادس عشر: أنَّ الصدقة مَطْهَرة للمال، تُخلِّصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو، والحلف، والكذب، والغفلة فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يوصي التَّجار بقوله: «يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة»؛ [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، صحيح الجامع ].
أسأل الله أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد أيها المسلمون، ما هي أفضل الصدقات؟
أولًا: الصدقة الخفية:
لأنَّها أقرب إلى الإخلاص من المُعلنة، وفي ذلك يقول جل وعلا: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271].
ثانيًا: الصدقةُ في حال الصحة والقوة أفضل من الوصية بعد الموت أو حال المرض والاحتضار:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
إن بعض الناس لا تجود نفسه بمال ولا يقبل أن ينفق، حتى إذا أصاب ذلك المسكين داءٌ عضال ومرضٌ فتَّاك وعايَن الموت، بدأ ينفق ماله يَمنةً ويَسرةً، بعدما ذهبت نَضرة الشباب وبَهجة الدنيا، فشتان شتان بين هذا وذاك.
ثالثًا: بذل الإنسان ما يستطيعه ويُطيقه مع القلة والحاجة:
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول»؛ [رواه أبو داود].
أيها المسلمون، ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268]؛ قد يقول قائل: أنا لا أملك إلا ما أقتات أنا وأهلي وعيالي، قال صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: وكيف؟! قال: «كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها»؛ [رواه النسائي، صحيح الجامع ].
رابعًا: الإنفاق على الأولاد:
كما في قوله: «الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة»؛ [رواه البخاري ومسلم ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكينًا، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك»؛ [رواه مسلم ].
خامسًا: الصدقة على القريب:
كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ؛ قال أنس رضي الله عنه: «فلما أُنزلت هذه الآية) ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنَّ الله يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، إني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: «أفعل يا رسول، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»؛ [رواه البخاري ومسلم ].
سادسًا: الصَّدقة علـى الجار:
فقد أوصـى بـه الله ـ بقوله: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].
سابعًا: الصدقة الجارية: وهي ما يبقى بعد موت العبد، ويستمر أجره عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛ [رواه مسلم ].
عبادَ الله: الصدقة لها معنًى واسع، فهِي تشمَل عملَ كل خير، إرشادُ الضال، إماطةُ الأذى، العدلُ بين اثنين، التبسُّم في وجه أخيك المسلم، غرسُ شجرة، تعليمُ علمٍ نافع، إصلاح ذات البَين، الكلمَة الطيبة صدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كلّ مسلمٍ صدقة»، فقالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم نجد؟ قال: «يعمل بيده فينفَع نفسَه ويتصدّق»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجةِ الملهوف»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمَل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة»؛ [أخرجه البخاري].
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وبطاعتك عن معصيتك، اللهم قوِّ إيماننا وارفَع درجاتنا، وتقبَّل صلاتنا يا رب العالمين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على البشير النذير والسراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم وعلى وصحبه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.