حكاية ناي ♔
02-03-2024, 12:58 PM
مبادرة القبائل العربية إلى الإسلام وانضواء العرب تحت راية الإسلام:
يُعد فتح المسلمين لمكة من أقوى عوامل انتشار الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، فقد كانت العرب تتربص إسلام قريش، وما ينتهي إليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على يديها، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم ومن سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وعندهم بيت الله الذي يحجون إليه، و قد دافع الله عنهم في حادث الفيل، مما جعل العرب يعظمون البيت وأهله ولا يجرؤون على حربهم، بل هم قادة العرب.
كما أن قريشا هي التي تصدت وجندت رجالها لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش وخضعت للإسلام، عرفت العرب أن لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته[1]، وقد صار سيدا للجزيرة العربية بعد انتصاره على مناوئيه المشركين وتحطم قواهم، وإزالة أصنامهم التي كانوا يعبدونها في عمى وضلال، فعلموا أنهم كانوا على غير الهدى، وأن الإسلام هو دين الحق، وشرعوا يفدون إلى المدينة أفواجا[2]، ليدخلوا في دين الله، ويقدموا ولاءهم وطاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وقد كانوا قبلا يدخلون فرادى، فصاروا يضربون إليه من كل وجه من مختلف مناطق الجزيرة وأنحائها.
قال الإمام القرطبي رحمه الله:( لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم- وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل- فليس لكم به يدان-أي طاقة- فكانوا يسلمون أفواجا: أي أمة أُمة)[3].
وقال عمرو بن سلمة رضي الله عنه: (وكانت العرب تَلوَّم[4] بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا..)[5].
وجمع الإسلام بعد الفتح شتات العرب المتفرقين، فأصبحوا بنعمة الله عليهم إخوانا متآلفين، وقضى على نعرات الجاهلية، وهداهم إلى الرابطة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم، وهو الإسلام، فهو الرابطة التي تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية[6]، فتوحدت صفوفهم وتطهرت نفوسهم، وجعل الفرد يعمل لمصلحة الأمة لا لمصلحة قبيلته أو شخصه، وأصبحوا أهلا لحمل أمانة الدعوة والانطلاق بها في أنحاء الجزيرة العربية وخارجها.
ومما يدل على سرعة انتشار الإسلام بعد الفتح أن الجيش الذي انطلق لفتح مكة كان تعداده عشرة آلاف مقاتل، وخرج الجيش ذاته إلى حنين باثني عشر ألفا من المسلمين، ثم في السنة التي تليها تجهز لغزوة تبوك ثلاثون ألف مسلم[7].
أما في حجة الوداع فقد زاد عدد المسلمين على مائة ألف مسلم[8]،حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأْتمُّوا به في هديه.
ولم يلحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى أقر الله عينه بالفتح وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية[9]، وحتى بدأت تسير الكتائب من هذه الأفواج المسلمة لحمل دعوة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
تنظيم الأمور الإدارية بمكة:
ومن الآثار المترتبة على فتح مكة، إلغاء بعض مظاهر الجاهلية وتشريعاتها، والإبقاء على البعض الآخر، ومن ذلك ما يتعلق بتحريم مكة وحدودها، وتوزيع بعض المناصب التشريفية بين أهلها، ومما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن:
أ- تجديد أنصاب[10] الحرم (أعلام حدود الحرم):
خص الله تعالى قريشا وأهل مكة دون سائر الناس بنعمة الأمن، وجعل بلدهم حرمًا، وحرم على الناس أن يدخلوه بغارة أو قتل أو سبي، والأعراب حولهم ينهب بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا[11]، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [12].
وبعد الفتح أكد النبي صلى الله عليه وسلم حرمة القتال بمكة، وبين أن هذا التحريم هو من عند الله تعالى وأنه سابق لشريعة الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم:(( إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما))[13]،كما حرم صلى الله عليه وسلم قطع أشجارها ونباتها، وتنفير صيدها وحرم لقط لقطتها إلا لمعرف[14]، وقد كان لمكة حدود معروفة، توضع عندها الأنصاب لتمييزها عن غيرها من الأرض، ولما تم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم تميم بن أسيد الخزاعي [15] رضي الله عنه فجدد هذه الأنصاب[16]، فكانت حدود الحرم في ست جهات كالآتي:
♦ من طريق المدينة في التَنعيم[17] عند بيوت غِفار[18]، ثلاثة أميال.
♦ ومن طريق اليمن من طرف إضاءة لِبن[19]، سبعة أميال.
♦ ومن طريق جدة مُنقطع الأعْشَاش[20]، عشرة أميال.
♦ ومن طريق الطائف من بطن نَمِرة[21] عند طرف عُرَنة، أحد عشر ميلا.
♦ ومن طريق العراق على ثنية خَلّ الصِفاح بالمقطع[22]، سبعة أميال..
♦ ومن طريق الجِعْرانة[23] على في شعب عبدالله بن خالد، تسعة أميال.[24].
ب- إلغاء مآثر الجاهلية عدا السدانة[25] والسقاية[26]:
وقد ألغاها صلى الله عليه وسلم في خطبته من أول يوم حيث قال:(( ألا إن كل مأثرة في الجاهلية تُعد وتُدعى، وكل دم أو دعوى، موضوعة تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج))[27].
وكان قصي بن كلاب[28] قد وزع بعض المناصب التشريفية في الجاهلية، وكان ابنه عبدمناف[29] قد شرف وساد في حياته وكان ابنه البكر عبدالدار[30]، فأحب أن يلحقه بأخيه ويشرفه، فأوصى له بما يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ثم هلك قصي، وأقام بنوه على أمره فلما هلك عبدمناف نافس أبناؤه بني عمهم في هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة[31] إلى عبدمناف، وبقيت دار الندوة[32] واللواء[33] والحجابة في بني عبدالدار[34]، فلم يزالوا كذلك حتى فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة، فأعلن إلغاء هذه المناصب، ولم يبق إلا السدانة والسقاية.
وكانت السدانة في يد بني عبدالدار، فأبقاها بأيديهم وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة العبدري[35] رضي الله عنه وقال له:(( خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة[36]، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا منه بالمعروف))[37].
وسدنة الكعبة المشرفة في عصرنا هذا هم الشيبيون، وينتهي نسبهم إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة[38]، ولا تزال عائلة الشيبي هي القائمة بسدانة الكعبة حتى يومنا هذا، ووجودهم من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، التي أخبر بها أنها لهم خالدة تالدة، فصرّح ببقاء نسل أبي طلحة إلى يوم القيامة[39].
و أبقى السقاية بيد بني هاشم وكانت بيد العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وكان له عنب بالطائف، وكان يحمل زبيبه فينبذه كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي[40]، وذلك في الجاهلية والإسلام، وكانت في يده حتى توفي رضي الله عنه، فوليها بعده ابنه العباس، فكان يفعل فيها كفعله دون بني المطلب.
وقد رُوي أنه جاءه رجل فقال له:( ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ، وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق، أبخل أم بهم حاجة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بنا من بخل وما بنا من حاجة، ولكن دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وخلفه أسامة بن زيد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب، فأتي بنبيذ فشرب منه، ودفع فضله إلى أسامة فشرب منه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أحسنتم وأجملتم، كذلك فافعلوا))، فنحن هكذا، لا نريد أن نغير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)[41]. وبقيت بيده، حتى توفي فكانت بيد ولده[42].
ج- تأمير عتاب بن أسيد على أهل مكة:
بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة خمسة عشر يوما أو يزيد، ثم غادرها إلى حنين، واستخلف عليها عتابا رضي الله عنه أميرا على الرغم من صغر سنه، فقد كان عمره حين استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم نيفا وعشرين سنة، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم، إذا أراد إرسال سرية أو فتح بلد، أو عزم على الخروج للغزو، أن يؤمر أميرا يقوم مقامه مدة غيابه، يقوم بحوائج الناس ويتفقد أحوالهم، وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بطاعته فيقول: (( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني))[43].[44].
د- تعيين معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما لأهل مكة:
روى الإمام الحاكم رحمه الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم (استخلف معاذ بن جبل رضي الله عنه على أهل مكة حين خرج إلى حنين، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس القرآن، وأن يفقههم في الدين، ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا إلى المدينة، وخلف معاذ بن جبل على أهل مكة)[45].
وهذا يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتعليم المسلمين الجدد، شرائع الدين والقرآن ليثبتوا على الحق، ولئلا يكون جهلهم سببا لارتدادهم عن الطريق المستقيم، وضعف عقيدتهم.
يُعد فتح المسلمين لمكة من أقوى عوامل انتشار الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، فقد كانت العرب تتربص إسلام قريش، وما ينتهي إليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على يديها، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم ومن سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وعندهم بيت الله الذي يحجون إليه، و قد دافع الله عنهم في حادث الفيل، مما جعل العرب يعظمون البيت وأهله ولا يجرؤون على حربهم، بل هم قادة العرب.
كما أن قريشا هي التي تصدت وجندت رجالها لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش وخضعت للإسلام، عرفت العرب أن لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته[1]، وقد صار سيدا للجزيرة العربية بعد انتصاره على مناوئيه المشركين وتحطم قواهم، وإزالة أصنامهم التي كانوا يعبدونها في عمى وضلال، فعلموا أنهم كانوا على غير الهدى، وأن الإسلام هو دين الحق، وشرعوا يفدون إلى المدينة أفواجا[2]، ليدخلوا في دين الله، ويقدموا ولاءهم وطاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وقد كانوا قبلا يدخلون فرادى، فصاروا يضربون إليه من كل وجه من مختلف مناطق الجزيرة وأنحائها.
قال الإمام القرطبي رحمه الله:( لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم- وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل- فليس لكم به يدان-أي طاقة- فكانوا يسلمون أفواجا: أي أمة أُمة)[3].
وقال عمرو بن سلمة رضي الله عنه: (وكانت العرب تَلوَّم[4] بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا..)[5].
وجمع الإسلام بعد الفتح شتات العرب المتفرقين، فأصبحوا بنعمة الله عليهم إخوانا متآلفين، وقضى على نعرات الجاهلية، وهداهم إلى الرابطة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم، وهو الإسلام، فهو الرابطة التي تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية[6]، فتوحدت صفوفهم وتطهرت نفوسهم، وجعل الفرد يعمل لمصلحة الأمة لا لمصلحة قبيلته أو شخصه، وأصبحوا أهلا لحمل أمانة الدعوة والانطلاق بها في أنحاء الجزيرة العربية وخارجها.
ومما يدل على سرعة انتشار الإسلام بعد الفتح أن الجيش الذي انطلق لفتح مكة كان تعداده عشرة آلاف مقاتل، وخرج الجيش ذاته إلى حنين باثني عشر ألفا من المسلمين، ثم في السنة التي تليها تجهز لغزوة تبوك ثلاثون ألف مسلم[7].
أما في حجة الوداع فقد زاد عدد المسلمين على مائة ألف مسلم[8]،حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأْتمُّوا به في هديه.
ولم يلحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى أقر الله عينه بالفتح وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية[9]، وحتى بدأت تسير الكتائب من هذه الأفواج المسلمة لحمل دعوة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
تنظيم الأمور الإدارية بمكة:
ومن الآثار المترتبة على فتح مكة، إلغاء بعض مظاهر الجاهلية وتشريعاتها، والإبقاء على البعض الآخر، ومن ذلك ما يتعلق بتحريم مكة وحدودها، وتوزيع بعض المناصب التشريفية بين أهلها، ومما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن:
أ- تجديد أنصاب[10] الحرم (أعلام حدود الحرم):
خص الله تعالى قريشا وأهل مكة دون سائر الناس بنعمة الأمن، وجعل بلدهم حرمًا، وحرم على الناس أن يدخلوه بغارة أو قتل أو سبي، والأعراب حولهم ينهب بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا[11]، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [12].
وبعد الفتح أكد النبي صلى الله عليه وسلم حرمة القتال بمكة، وبين أن هذا التحريم هو من عند الله تعالى وأنه سابق لشريعة الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم:(( إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما))[13]،كما حرم صلى الله عليه وسلم قطع أشجارها ونباتها، وتنفير صيدها وحرم لقط لقطتها إلا لمعرف[14]، وقد كان لمكة حدود معروفة، توضع عندها الأنصاب لتمييزها عن غيرها من الأرض، ولما تم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم تميم بن أسيد الخزاعي [15] رضي الله عنه فجدد هذه الأنصاب[16]، فكانت حدود الحرم في ست جهات كالآتي:
♦ من طريق المدينة في التَنعيم[17] عند بيوت غِفار[18]، ثلاثة أميال.
♦ ومن طريق اليمن من طرف إضاءة لِبن[19]، سبعة أميال.
♦ ومن طريق جدة مُنقطع الأعْشَاش[20]، عشرة أميال.
♦ ومن طريق الطائف من بطن نَمِرة[21] عند طرف عُرَنة، أحد عشر ميلا.
♦ ومن طريق العراق على ثنية خَلّ الصِفاح بالمقطع[22]، سبعة أميال..
♦ ومن طريق الجِعْرانة[23] على في شعب عبدالله بن خالد، تسعة أميال.[24].
ب- إلغاء مآثر الجاهلية عدا السدانة[25] والسقاية[26]:
وقد ألغاها صلى الله عليه وسلم في خطبته من أول يوم حيث قال:(( ألا إن كل مأثرة في الجاهلية تُعد وتُدعى، وكل دم أو دعوى، موضوعة تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج))[27].
وكان قصي بن كلاب[28] قد وزع بعض المناصب التشريفية في الجاهلية، وكان ابنه عبدمناف[29] قد شرف وساد في حياته وكان ابنه البكر عبدالدار[30]، فأحب أن يلحقه بأخيه ويشرفه، فأوصى له بما يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ثم هلك قصي، وأقام بنوه على أمره فلما هلك عبدمناف نافس أبناؤه بني عمهم في هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة[31] إلى عبدمناف، وبقيت دار الندوة[32] واللواء[33] والحجابة في بني عبدالدار[34]، فلم يزالوا كذلك حتى فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة، فأعلن إلغاء هذه المناصب، ولم يبق إلا السدانة والسقاية.
وكانت السدانة في يد بني عبدالدار، فأبقاها بأيديهم وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة العبدري[35] رضي الله عنه وقال له:(( خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة[36]، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا منه بالمعروف))[37].
وسدنة الكعبة المشرفة في عصرنا هذا هم الشيبيون، وينتهي نسبهم إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة[38]، ولا تزال عائلة الشيبي هي القائمة بسدانة الكعبة حتى يومنا هذا، ووجودهم من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، التي أخبر بها أنها لهم خالدة تالدة، فصرّح ببقاء نسل أبي طلحة إلى يوم القيامة[39].
و أبقى السقاية بيد بني هاشم وكانت بيد العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وكان له عنب بالطائف، وكان يحمل زبيبه فينبذه كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي[40]، وذلك في الجاهلية والإسلام، وكانت في يده حتى توفي رضي الله عنه، فوليها بعده ابنه العباس، فكان يفعل فيها كفعله دون بني المطلب.
وقد رُوي أنه جاءه رجل فقال له:( ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ، وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق، أبخل أم بهم حاجة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بنا من بخل وما بنا من حاجة، ولكن دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وخلفه أسامة بن زيد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب، فأتي بنبيذ فشرب منه، ودفع فضله إلى أسامة فشرب منه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أحسنتم وأجملتم، كذلك فافعلوا))، فنحن هكذا، لا نريد أن نغير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)[41]. وبقيت بيده، حتى توفي فكانت بيد ولده[42].
ج- تأمير عتاب بن أسيد على أهل مكة:
بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة خمسة عشر يوما أو يزيد، ثم غادرها إلى حنين، واستخلف عليها عتابا رضي الله عنه أميرا على الرغم من صغر سنه، فقد كان عمره حين استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم نيفا وعشرين سنة، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم، إذا أراد إرسال سرية أو فتح بلد، أو عزم على الخروج للغزو، أن يؤمر أميرا يقوم مقامه مدة غيابه، يقوم بحوائج الناس ويتفقد أحوالهم، وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بطاعته فيقول: (( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني))[43].[44].
د- تعيين معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما لأهل مكة:
روى الإمام الحاكم رحمه الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم (استخلف معاذ بن جبل رضي الله عنه على أهل مكة حين خرج إلى حنين، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس القرآن، وأن يفقههم في الدين، ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا إلى المدينة، وخلف معاذ بن جبل على أهل مكة)[45].
وهذا يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتعليم المسلمين الجدد، شرائع الدين والقرآن ليثبتوا على الحق، ولئلا يكون جهلهم سببا لارتدادهم عن الطريق المستقيم، وضعف عقيدتهم.