حكاية ناي ♔
12-21-2022, 09:20 AM
بعض الأحداث بين أحد والخندق (2)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد سبق معنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية ذكر بعض الأحداث التي حصلت بين غزوتي أُحُد والخندق، فقد ذكرنا يهود بني النضير وبني قريظة، وأيضًا غدرهم وكيف أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وذكرنا ما أفاءه الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من سلاحهم وأموالهم، وذكرنا أيضًا غزوة دُومة الجندل، وغزوة بدر الآخرة، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، ونحن في حلقتنا هذه بإذن الله نتابع ذكر تلك الأحداث، سواء كانت في بيت النبوة أم خارجها.
فمن ذلك قدوم وفد مُزَينة؛ ففي رجب من السنة الخامسة قدم وفد من مزينةَ، وعددهم أربعمائة رجل، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بأمره، وأوضح لهم، وزودهم ببعض الطعام، وهذا الوفد هو أحد الوفود التي قدمت المدينة، فتُبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وذلك مما يغيظ المنافقين والكفار آنذاك؛ لأنه بإسلام مثل هذا الوفد ورجوعه إلى قومه سيسلم الكثيرون ممن وراءهم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، ومن نصره له، وتسديده إياه، ومن الأحداث أيضًا في تلك المرحلة غزوة بني المصطلق أو المُرَيْسِيع، والمريسيع هو موقع ماء لخزاعة، وهو الآن في وادي ستارة، تبعد عن المدينة قرابة مائتين وخمسين كيلومترًا إلى جهة مكة قريبًا من قديد، وكانت تلك الغزوة في الثاني من شهر شعبان من السنة الخامسة، وكان سببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع قومه لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب؛ ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وكأنه رجل من العرب يريد إعانتهم، فأتى إلى الحارث وكلَّمه فيما يريدونه، وعلِم خططهم ومآربهم وما هم عليه من خلال كلامه معه، فقال بريدة للحارث: دعني أذهب إلى قومي لكي أجمع منهم رجالًا، فسُرُّوا بذلك، ورجع هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبرهم، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج وكانوا سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسة، وخرج معهم عدد كبير من المنافقين، ومعهم رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول، وكان الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق قد أرسل عينًا له يأتيه بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلقيَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه، فسأله عنهم، فلم يذكر عنهم شيئًا، وكتم أخبارهم، فعرض النبي عليه الصلاة والسلام عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، واتضح لهم أنه عين لبني المصطلق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرَ بن الخطاب فضرب عنقه، فلما علم بذلك الحارث، ساءهم وَوَلَجَ في قلوبهم الرعب، وتفرق عنه مَن كان معه من غير قومه.
فوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع، فأغار عليهم وهم غافلون، فقتل بعض مقاتلتهم، وسبى من ذراريهم، وكان منهم جويرية رضي الله عنها؛ [رواه البخاري]، ثم جُمعت الغنائم بعد ذلك، وغنموا من الإبل الشيء الكثير، فقد غنموا ألفين من الإبل، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي والأسرى الشيء الكثير؛ لأنهم أتَوهم على غفلة، ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله في موضعه الذي غنمه فيه، فأخرج الخمس، ثم قسم الباقي بين الناس، وفرق السبيَ، فصار بأيدي الرجال، وقسم الإبل والشياه، وكانت جويرية رضي الله عنها من السبي فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت أمًّا للمؤمنين؛ وهي بنت الحارث رئيس بني المصطلق.
وكان زواجه عليه الصلاة والسلام بها سببًا في إسلام الكثير من بني المصطلق، حتى أسلم أبوها الحارث بن ضرار، ثم خرج الحارث إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم كثير منهم، وبزواجه أيضًا عليه الصلاة والسلام من جويرية أعتق كثير من الرقيق؛ لأنهم صاروا أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: ((ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها))، وكانت جويرية رضي الله عنها عابدة ذاكرة، وهي التي كانت سببًا في ورود ذلك الذكر العظيم المضاعف الذي رواه مسلم في صحيحه؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها؛ أي: في موضع صلاتها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال لها: ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها؟ قالت: نعم، أذكر الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات؛ ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم، لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ [رواه مسلم].
فهذا ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه، والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا، ولم يُقتَل أحد من المسلمين في تلك الغزوة إلا رجل واحد، وهو هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار، وهو يظنه من العدو فقتله خطأ، فلما علم أخوه مقياس بن صبابة وهو في مكة، جاء إلى المدينة وأشهر إسلامه، ومكث أيامًا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أطلب دية أخي"، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع دية أخيه، فأخذها، واستلمها، ثم بعد أن أقام أيامًا عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًّا، والعياذ بالله، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه وإن كان متعلقًا بأستار الكعبة؛ فقُتل في فتح مكة.
وقد خرج في تلك الغزوة غزوة المريسيع عدد من المنافقين؛ ومنهم عبدالله بن أُبي، رئيس المنافقين، وقد خرجوا باسم الجهاد، ولكنهم يقصدون إثارة الفتنة بين المسلمين، وقد حدث حدثان عظيمان بسببهم:
الحدث الأول: إنه ازدحم رجلان؛ أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار، فاختلفا فكسع المهاجري الأنصاري؛ أي: ضربه، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها؛ فإنها مُنتنة، لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا؛ فإن كان ظالمًا، فلْيَنْهَهُ، فإنه له نصرة، وإن كان مظلومًا فلينصره))؛ [رواه مسلم]، وفي رواية قال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟ فبلغ ذلك عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فغضب، وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، وكان غلامًا يافعًا، فقال ابن أبي: أو قد فعلوها؟ يعني: المهاجرين جاؤوا إلى المدينة، وكاثرونا في ديارنا، والله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال أيضًا: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله؛ حتى ينفضوا من حوله))؛ [أخرجه البخاري ومسلم].
فذهب زيد بن أرقم ذلك الغلام وكان حاضرًا معهم، فذكر ذلك لعمه سعد بن عبادة، فذكر سعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق ذلك المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي يسأله عن ذلك، فحلف أنه ما قال ذلك، واجتهد في يمينه، وقال هو ومن معه: كذب زيد، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد؛ أي مستنكرًا ذلك الخبر، فقال سعد: إنما أخبرنيه ذلك الغلام؛ يعني: زيدًا، فأخذ عبدالله بن أبي يزجر زيدًا على ذلك زجرًا شديدًا، يقول زيد: فأجهشت بالبكاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: والذي أنزل عليك النبوة، لقد قالها، يقول زيد: فأصابني همٌّ وغمٌّ لم يصبني مثله قط، وجلست وحيدًا، فلما حصل ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف الناس عن دعوى الجاهلية، وإلا تتسع دائرة المشكلة، فأمر بسير الجيش في ساعة لا يرتحل فيها عادة، فسأله أسيد بن الحضير عن هذا الارتحال على غير العادة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة ابن أبي، فقال أسيد رضي الله عنه: أنت يا رسول الله العزيز، وهو وحزبه الذليل، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به؛ فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لَينْظِمون له الخرز ليُتوِّجوه؛ فإنه يرى أنك قد سلبته ملكه.
ثم سار بهم النبي صلى الله عليه وسلم مسارًا طويلًا حتى تعبوا ثم ناموا، قال زيد: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم والغم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك بأُذني، وضحك في وجهي، فما يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، فلقيني أبو بكر، فقال: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما قال شيئًا، وإنما ضحك في وجهي، وسررت لذلك، ولحقني عمر، وقال لي مثل ذلك، فقلت له مثل ذلك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون؛ وكان مما قرأ قوله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7]؛ الآية، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]؛ الآية.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد صدقك))؛ [رواه البخاري]، ثم أكملوا مسيرهم فنزلوا في مكان، فهبت عليهم ريح شديدة وتخوَّفوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخافوها؛ هذه الريح لموت منافق))، قال جابر: فلما قدمنا المدينة، فإذا رفاعة بن زيد قد مات، وهو من عظماء اليهود، وكان كهفًا للمنافقين، وعندما علم عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول وهو أحد الصحابة الأجلاء، عندما علم ما قاله والده المنافق، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلًا، فمُرْني به، فإني أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقِيَ معنا))، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من المريسيع، وقف الصحابي الجليل عبدالله بن عبدالله بن أبي على باب المدينة، فلما جاء أبوه أناخ ناقته عند بابها، وقال لأبيه: والله لا تجوز من هذا الباب، حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذِن له فخلى سبيله، وكانت تلك الغزوة في اليوم الثاني من شهر شعبان، وقدموا المدينة في هلال رمضان.
إخواني الكرام، فيما سبق عرضه في تلك الحلقة دروس وعِبر، فلعلنا نتطرق لبعضها، ونستكمل حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله؛ فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: في هذه الغزوة ظهرت بركات متعددة لجويرية رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم المؤمنين، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت في السبي صارت من نصيب أحد الصحابة، فعرضت على سيدها المكاتبة، فكاتبها، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينها، فأعانها، وتزوجها، فزواجه منها صار سببًا في عتق عدد من الصحابة لمماليكهم من بني المصطلق؛ حيث كانوا بعد هذا الزواج أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بركتها أنها بزواجها من الرسول عليه الصلاة والسلام أسلم أبوها، ومن بركتها أيضًا أنه بإسلام أبيها ذهب يدعو قومه فأسلموا، وأيضًا من بركتها رضي الله عنها أنها كانت سببًا في هذا الذكر المضاعف؛ وهو ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ والحديث مشهور في صحيح مسلم، فهو ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا صغارًا وكبارًا، وأن ندل عليه كل من نحب، فهو يُقال في كل وقت، لكنه يتأكد في الصباح، وهو ذكر عظيم ويسير أيضًا؛ فهو لا يستغرق أكثر من ربع دقيقة، لكنه يحوي من الأجور أكثر من ملء الأرض والسماء، فحافظوا عليه يا رعاكم الله، فإنكم على خير عظيم، وأُعيده لأهميته: ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته؛ ثلاث مرات)).
الدرس الثاني: قد يكون أحيانًا ظاهرُ الأمر قتلًا وفتكًا، لكنه في باطنه الخير العظيم؛ فغزوة بني المصطلق كانت لقتال وجهاد الكفار، ولكنه حصل في تلك الغزوة خير عظيم، ويتمثل ذلك بإسلام الأسرى، وبركات جويرية رضي الله عنها، وإسلام الحارث زعيم بني المصطلق، وإسلام كثير من قومه لما دعاهم، فحصل هذا الخير العظيم، مع أن ظاهر الأمر لهم شرٌّ كبير، فعندما يحصل أمر قد نكرهه في حياتنا، فلننظر إلى النقطة الإيجابية فيه، وننطلق منها في التفاؤل وحسن الظن؛ فإن ذلك أشْرَحُ لصدورنا، وأكثر طمأنينة لنفوسنا، وأضيق لدائرة المشكلة، وأوسع في دائرة الحل، بينما لو تشاءمنا ولم نتفاءل، لانقلبت تلك الإيجابيات المذكورة إلى سلبيات، فتبدأ المشاكل بالاتساع والتكاثر.
الدرس الثالث: في تلك الغزوة عندما تشاجر المهاجري والأنصاري يُستفاد أن النفوس ليست معصومة من الخطأ، حتى ولو كانوا صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكنهم يرجعون سريعًا للحق رضي الله عنهم، ويُستفاد من تلك الحادثة تلكم القاعدة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نهيه عن أمور الجاهلية؛ حيث قال: ((دعوها فإنها منتنة))، فهو نهي عن أعمال أهل الجاهلية وأسس المحبة والتعاون، والتكاتف والتفاهم، وحسن الظن، وغير ذلك من تعاليم الإسلام، فإذا أسلم الكافر أو اهتدى العاصي، فليترك ما كان عليه قبل ذلك من جاهلية، وليستبدلها بنور الإسلام وتعاليمه.
الدرس الرابع: على المسلمين أن ينصر بعضهم بعضًا، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فنصرُ الظالم بإبعاده عن الظلم ونهيه عنه، ونصر المظلوم بأخذ حقه من الظالم، والمقياس في هذا كله هو الإسلام، وليس حظوظ النفس أو القرابة أو العشيرة ونحو ذلك؛ فالعدل هو الأساس، والله عز وجل يعلم الخفايا وما تخفيه الصدور، ونهيُ الظالم عن ظلمه هو حجز له عن عذاب الله، وحفاظ على حسناته وأعماله، وكم نحن بحاجة ماسة في واقعنا المعاصر إلى ذلك، سواء في البيع والشراء، أو في الغيبة والنميمة، أو في القضايا الزوجية، أو في التعاملات الأخرى، فيتعين علينا جميعًا أن نعدل في هذا، وننصف المظلوم من الظالم، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك إذا طلب منك شهادة على شيء من الأشياء، فعليك بالعدل، واحذر الحيف، ولا يمنعك من العدل، حتى ولو كان صاحبك أو قريبك، بل ولو على نفسك؛ لأنك إن نجوت الآن، فأمامك الآخرة، وسيتضح فيها كل شيء، وستظهر فيها النتائج على حقيقتها، فكلما وقع سمعك أو نظرك على ظلم، فكن إيجابيًّا مع الظالم والمظلوم، وذلك بإحلال العدل بينهما؛ فالظلم يتنوع؛ فقد يكون بالأقوال، أو بالأعيان، أو بالأعراض، ويا ليت الظالم الذي يأخذ ما ليس له من مال أو عرض في الدنيا، يا ليته يعلم أنه سيرده يوم القيامة من حسناته، فوقفة تأمل مع تلك النقطة قد تُوقِظ القلب إلى الأبد، إن كان في القلب تقوى وخوف.
الدرس الخامس: تأمل بُعد النظر عند هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وتأمل أيضًا النظر في مآلات الأمور، كم نحن بحاجة ماسة لهذه الصفة العظيمة؛ وهي بُعْدُ النظر في تصرفاتنا وقراراتنا! فكان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لأحد الصحابة بقتل رئيس المنافقين، وينتهي أمره، ويدرأ شره، لكنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى أمر بعيد، وهو قوله: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، فإن هذا قد يرد بعض الناس عن الإسلام، وكذلك قد تقوم فتنة بذلك؛ ولذلك احتمل أدنى المفسدتين بدفع أعلاهما، فكذلك نحن في تربيتنا لأولادنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الآخرين لا بد أن يكون ذلك مدروسًا ومنظورًا فيه عواقب الأمور؛ ففي الطلاق والهجر، والكلام السيئ، والظنون القبيحة آثار سلبية كبيرة، فلندرأها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.
الدرس السادس: في موقف عبدالله بن عبدالله بن أُبيٍّ رضي الله عنه عندما أراد أبوه دخول المدينة فقال: "لا تتجاوز حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في هذا الموقف العظيم تقديم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام على أمر الوالدين، مع أنه كان بارًّا بأبيه أشد البر، ومع ذلك قال له: "لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فمهما كانت محبة الوالدين أو البر بهما، فلا يُقدَّمان على أمر الله ورسوله، وفي ذلك قوة إيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، مع عِظم حق الوالدين، ووجوب البر بهما، فإن تلك المحبة وذلك البر إذا تعارض مع أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يُنظر إليه، بل ليس برًّا.
الدرس السابع: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبيِّ بن سلول، الخلق الحسن في التعامل حتى ولو كان الآخر فيه عداوة؛ فالخلق الحسن مفتاح لكل خير، وجالب لكل برٍّ، وهذا يرسم لنا منهجًا في التعامل الأمثل فيما بيننا في كلامنا وتصرفاتنا أن تكون مدروسة، ويُراعَى فيها نفوس الآخرين؛ فالخلق الحسن والتعامل الأمثل هو دعوة إلى الدين، وموضع قدوة للآخرين، فإذا رآك أحد على خلق حسن أحبك وارتاح إليك، واقتدى بك، فنِلْتَ مثل أجره، فاحرص على اقتناص ذلك الخلق الحسن من خلال تصرفات الآخرين، فما كان من حسن فخُذْهُ، واحرص عليه، وما كان من سيئ، فاتركه وابتعد عنه، وبذلك تجتمع فيك المحاسن، وتزول عنك المساوئ، فهذه قاعدة عظيمة في حسن الأخلاق، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد سبق معنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية ذكر بعض الأحداث التي حصلت بين غزوتي أُحُد والخندق، فقد ذكرنا يهود بني النضير وبني قريظة، وأيضًا غدرهم وكيف أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وذكرنا ما أفاءه الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من سلاحهم وأموالهم، وذكرنا أيضًا غزوة دُومة الجندل، وغزوة بدر الآخرة، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، ونحن في حلقتنا هذه بإذن الله نتابع ذكر تلك الأحداث، سواء كانت في بيت النبوة أم خارجها.
فمن ذلك قدوم وفد مُزَينة؛ ففي رجب من السنة الخامسة قدم وفد من مزينةَ، وعددهم أربعمائة رجل، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بأمره، وأوضح لهم، وزودهم ببعض الطعام، وهذا الوفد هو أحد الوفود التي قدمت المدينة، فتُبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وذلك مما يغيظ المنافقين والكفار آنذاك؛ لأنه بإسلام مثل هذا الوفد ورجوعه إلى قومه سيسلم الكثيرون ممن وراءهم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، ومن نصره له، وتسديده إياه، ومن الأحداث أيضًا في تلك المرحلة غزوة بني المصطلق أو المُرَيْسِيع، والمريسيع هو موقع ماء لخزاعة، وهو الآن في وادي ستارة، تبعد عن المدينة قرابة مائتين وخمسين كيلومترًا إلى جهة مكة قريبًا من قديد، وكانت تلك الغزوة في الثاني من شهر شعبان من السنة الخامسة، وكان سببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع قومه لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب؛ ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وكأنه رجل من العرب يريد إعانتهم، فأتى إلى الحارث وكلَّمه فيما يريدونه، وعلِم خططهم ومآربهم وما هم عليه من خلال كلامه معه، فقال بريدة للحارث: دعني أذهب إلى قومي لكي أجمع منهم رجالًا، فسُرُّوا بذلك، ورجع هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبرهم، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج وكانوا سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسة، وخرج معهم عدد كبير من المنافقين، ومعهم رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول، وكان الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق قد أرسل عينًا له يأتيه بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلقيَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه، فسأله عنهم، فلم يذكر عنهم شيئًا، وكتم أخبارهم، فعرض النبي عليه الصلاة والسلام عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، واتضح لهم أنه عين لبني المصطلق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرَ بن الخطاب فضرب عنقه، فلما علم بذلك الحارث، ساءهم وَوَلَجَ في قلوبهم الرعب، وتفرق عنه مَن كان معه من غير قومه.
فوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع، فأغار عليهم وهم غافلون، فقتل بعض مقاتلتهم، وسبى من ذراريهم، وكان منهم جويرية رضي الله عنها؛ [رواه البخاري]، ثم جُمعت الغنائم بعد ذلك، وغنموا من الإبل الشيء الكثير، فقد غنموا ألفين من الإبل، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي والأسرى الشيء الكثير؛ لأنهم أتَوهم على غفلة، ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله في موضعه الذي غنمه فيه، فأخرج الخمس، ثم قسم الباقي بين الناس، وفرق السبيَ، فصار بأيدي الرجال، وقسم الإبل والشياه، وكانت جويرية رضي الله عنها من السبي فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت أمًّا للمؤمنين؛ وهي بنت الحارث رئيس بني المصطلق.
وكان زواجه عليه الصلاة والسلام بها سببًا في إسلام الكثير من بني المصطلق، حتى أسلم أبوها الحارث بن ضرار، ثم خرج الحارث إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم كثير منهم، وبزواجه أيضًا عليه الصلاة والسلام من جويرية أعتق كثير من الرقيق؛ لأنهم صاروا أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: ((ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها))، وكانت جويرية رضي الله عنها عابدة ذاكرة، وهي التي كانت سببًا في ورود ذلك الذكر العظيم المضاعف الذي رواه مسلم في صحيحه؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها؛ أي: في موضع صلاتها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال لها: ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها؟ قالت: نعم، أذكر الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات؛ ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم، لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ [رواه مسلم].
فهذا ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه، والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا، ولم يُقتَل أحد من المسلمين في تلك الغزوة إلا رجل واحد، وهو هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار، وهو يظنه من العدو فقتله خطأ، فلما علم أخوه مقياس بن صبابة وهو في مكة، جاء إلى المدينة وأشهر إسلامه، ومكث أيامًا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أطلب دية أخي"، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع دية أخيه، فأخذها، واستلمها، ثم بعد أن أقام أيامًا عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًّا، والعياذ بالله، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه وإن كان متعلقًا بأستار الكعبة؛ فقُتل في فتح مكة.
وقد خرج في تلك الغزوة غزوة المريسيع عدد من المنافقين؛ ومنهم عبدالله بن أُبي، رئيس المنافقين، وقد خرجوا باسم الجهاد، ولكنهم يقصدون إثارة الفتنة بين المسلمين، وقد حدث حدثان عظيمان بسببهم:
الحدث الأول: إنه ازدحم رجلان؛ أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار، فاختلفا فكسع المهاجري الأنصاري؛ أي: ضربه، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها؛ فإنها مُنتنة، لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا؛ فإن كان ظالمًا، فلْيَنْهَهُ، فإنه له نصرة، وإن كان مظلومًا فلينصره))؛ [رواه مسلم]، وفي رواية قال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟ فبلغ ذلك عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فغضب، وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، وكان غلامًا يافعًا، فقال ابن أبي: أو قد فعلوها؟ يعني: المهاجرين جاؤوا إلى المدينة، وكاثرونا في ديارنا، والله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال أيضًا: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله؛ حتى ينفضوا من حوله))؛ [أخرجه البخاري ومسلم].
فذهب زيد بن أرقم ذلك الغلام وكان حاضرًا معهم، فذكر ذلك لعمه سعد بن عبادة، فذكر سعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق ذلك المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي يسأله عن ذلك، فحلف أنه ما قال ذلك، واجتهد في يمينه، وقال هو ومن معه: كذب زيد، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد؛ أي مستنكرًا ذلك الخبر، فقال سعد: إنما أخبرنيه ذلك الغلام؛ يعني: زيدًا، فأخذ عبدالله بن أبي يزجر زيدًا على ذلك زجرًا شديدًا، يقول زيد: فأجهشت بالبكاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: والذي أنزل عليك النبوة، لقد قالها، يقول زيد: فأصابني همٌّ وغمٌّ لم يصبني مثله قط، وجلست وحيدًا، فلما حصل ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف الناس عن دعوى الجاهلية، وإلا تتسع دائرة المشكلة، فأمر بسير الجيش في ساعة لا يرتحل فيها عادة، فسأله أسيد بن الحضير عن هذا الارتحال على غير العادة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة ابن أبي، فقال أسيد رضي الله عنه: أنت يا رسول الله العزيز، وهو وحزبه الذليل، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به؛ فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لَينْظِمون له الخرز ليُتوِّجوه؛ فإنه يرى أنك قد سلبته ملكه.
ثم سار بهم النبي صلى الله عليه وسلم مسارًا طويلًا حتى تعبوا ثم ناموا، قال زيد: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم والغم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك بأُذني، وضحك في وجهي، فما يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، فلقيني أبو بكر، فقال: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما قال شيئًا، وإنما ضحك في وجهي، وسررت لذلك، ولحقني عمر، وقال لي مثل ذلك، فقلت له مثل ذلك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون؛ وكان مما قرأ قوله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7]؛ الآية، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]؛ الآية.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد صدقك))؛ [رواه البخاري]، ثم أكملوا مسيرهم فنزلوا في مكان، فهبت عليهم ريح شديدة وتخوَّفوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخافوها؛ هذه الريح لموت منافق))، قال جابر: فلما قدمنا المدينة، فإذا رفاعة بن زيد قد مات، وهو من عظماء اليهود، وكان كهفًا للمنافقين، وعندما علم عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول وهو أحد الصحابة الأجلاء، عندما علم ما قاله والده المنافق، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلًا، فمُرْني به، فإني أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقِيَ معنا))، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من المريسيع، وقف الصحابي الجليل عبدالله بن عبدالله بن أبي على باب المدينة، فلما جاء أبوه أناخ ناقته عند بابها، وقال لأبيه: والله لا تجوز من هذا الباب، حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذِن له فخلى سبيله، وكانت تلك الغزوة في اليوم الثاني من شهر شعبان، وقدموا المدينة في هلال رمضان.
إخواني الكرام، فيما سبق عرضه في تلك الحلقة دروس وعِبر، فلعلنا نتطرق لبعضها، ونستكمل حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله؛ فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: في هذه الغزوة ظهرت بركات متعددة لجويرية رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم المؤمنين، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت في السبي صارت من نصيب أحد الصحابة، فعرضت على سيدها المكاتبة، فكاتبها، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينها، فأعانها، وتزوجها، فزواجه منها صار سببًا في عتق عدد من الصحابة لمماليكهم من بني المصطلق؛ حيث كانوا بعد هذا الزواج أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بركتها أنها بزواجها من الرسول عليه الصلاة والسلام أسلم أبوها، ومن بركتها أيضًا أنه بإسلام أبيها ذهب يدعو قومه فأسلموا، وأيضًا من بركتها رضي الله عنها أنها كانت سببًا في هذا الذكر المضاعف؛ وهو ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ والحديث مشهور في صحيح مسلم، فهو ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا صغارًا وكبارًا، وأن ندل عليه كل من نحب، فهو يُقال في كل وقت، لكنه يتأكد في الصباح، وهو ذكر عظيم ويسير أيضًا؛ فهو لا يستغرق أكثر من ربع دقيقة، لكنه يحوي من الأجور أكثر من ملء الأرض والسماء، فحافظوا عليه يا رعاكم الله، فإنكم على خير عظيم، وأُعيده لأهميته: ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته؛ ثلاث مرات)).
الدرس الثاني: قد يكون أحيانًا ظاهرُ الأمر قتلًا وفتكًا، لكنه في باطنه الخير العظيم؛ فغزوة بني المصطلق كانت لقتال وجهاد الكفار، ولكنه حصل في تلك الغزوة خير عظيم، ويتمثل ذلك بإسلام الأسرى، وبركات جويرية رضي الله عنها، وإسلام الحارث زعيم بني المصطلق، وإسلام كثير من قومه لما دعاهم، فحصل هذا الخير العظيم، مع أن ظاهر الأمر لهم شرٌّ كبير، فعندما يحصل أمر قد نكرهه في حياتنا، فلننظر إلى النقطة الإيجابية فيه، وننطلق منها في التفاؤل وحسن الظن؛ فإن ذلك أشْرَحُ لصدورنا، وأكثر طمأنينة لنفوسنا، وأضيق لدائرة المشكلة، وأوسع في دائرة الحل، بينما لو تشاءمنا ولم نتفاءل، لانقلبت تلك الإيجابيات المذكورة إلى سلبيات، فتبدأ المشاكل بالاتساع والتكاثر.
الدرس الثالث: في تلك الغزوة عندما تشاجر المهاجري والأنصاري يُستفاد أن النفوس ليست معصومة من الخطأ، حتى ولو كانوا صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكنهم يرجعون سريعًا للحق رضي الله عنهم، ويُستفاد من تلك الحادثة تلكم القاعدة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نهيه عن أمور الجاهلية؛ حيث قال: ((دعوها فإنها منتنة))، فهو نهي عن أعمال أهل الجاهلية وأسس المحبة والتعاون، والتكاتف والتفاهم، وحسن الظن، وغير ذلك من تعاليم الإسلام، فإذا أسلم الكافر أو اهتدى العاصي، فليترك ما كان عليه قبل ذلك من جاهلية، وليستبدلها بنور الإسلام وتعاليمه.
الدرس الرابع: على المسلمين أن ينصر بعضهم بعضًا، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فنصرُ الظالم بإبعاده عن الظلم ونهيه عنه، ونصر المظلوم بأخذ حقه من الظالم، والمقياس في هذا كله هو الإسلام، وليس حظوظ النفس أو القرابة أو العشيرة ونحو ذلك؛ فالعدل هو الأساس، والله عز وجل يعلم الخفايا وما تخفيه الصدور، ونهيُ الظالم عن ظلمه هو حجز له عن عذاب الله، وحفاظ على حسناته وأعماله، وكم نحن بحاجة ماسة في واقعنا المعاصر إلى ذلك، سواء في البيع والشراء، أو في الغيبة والنميمة، أو في القضايا الزوجية، أو في التعاملات الأخرى، فيتعين علينا جميعًا أن نعدل في هذا، وننصف المظلوم من الظالم، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك إذا طلب منك شهادة على شيء من الأشياء، فعليك بالعدل، واحذر الحيف، ولا يمنعك من العدل، حتى ولو كان صاحبك أو قريبك، بل ولو على نفسك؛ لأنك إن نجوت الآن، فأمامك الآخرة، وسيتضح فيها كل شيء، وستظهر فيها النتائج على حقيقتها، فكلما وقع سمعك أو نظرك على ظلم، فكن إيجابيًّا مع الظالم والمظلوم، وذلك بإحلال العدل بينهما؛ فالظلم يتنوع؛ فقد يكون بالأقوال، أو بالأعيان، أو بالأعراض، ويا ليت الظالم الذي يأخذ ما ليس له من مال أو عرض في الدنيا، يا ليته يعلم أنه سيرده يوم القيامة من حسناته، فوقفة تأمل مع تلك النقطة قد تُوقِظ القلب إلى الأبد، إن كان في القلب تقوى وخوف.
الدرس الخامس: تأمل بُعد النظر عند هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وتأمل أيضًا النظر في مآلات الأمور، كم نحن بحاجة ماسة لهذه الصفة العظيمة؛ وهي بُعْدُ النظر في تصرفاتنا وقراراتنا! فكان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لأحد الصحابة بقتل رئيس المنافقين، وينتهي أمره، ويدرأ شره، لكنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى أمر بعيد، وهو قوله: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، فإن هذا قد يرد بعض الناس عن الإسلام، وكذلك قد تقوم فتنة بذلك؛ ولذلك احتمل أدنى المفسدتين بدفع أعلاهما، فكذلك نحن في تربيتنا لأولادنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الآخرين لا بد أن يكون ذلك مدروسًا ومنظورًا فيه عواقب الأمور؛ ففي الطلاق والهجر، والكلام السيئ، والظنون القبيحة آثار سلبية كبيرة، فلندرأها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.
الدرس السادس: في موقف عبدالله بن عبدالله بن أُبيٍّ رضي الله عنه عندما أراد أبوه دخول المدينة فقال: "لا تتجاوز حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في هذا الموقف العظيم تقديم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام على أمر الوالدين، مع أنه كان بارًّا بأبيه أشد البر، ومع ذلك قال له: "لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فمهما كانت محبة الوالدين أو البر بهما، فلا يُقدَّمان على أمر الله ورسوله، وفي ذلك قوة إيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، مع عِظم حق الوالدين، ووجوب البر بهما، فإن تلك المحبة وذلك البر إذا تعارض مع أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يُنظر إليه، بل ليس برًّا.
الدرس السابع: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبيِّ بن سلول، الخلق الحسن في التعامل حتى ولو كان الآخر فيه عداوة؛ فالخلق الحسن مفتاح لكل خير، وجالب لكل برٍّ، وهذا يرسم لنا منهجًا في التعامل الأمثل فيما بيننا في كلامنا وتصرفاتنا أن تكون مدروسة، ويُراعَى فيها نفوس الآخرين؛ فالخلق الحسن والتعامل الأمثل هو دعوة إلى الدين، وموضع قدوة للآخرين، فإذا رآك أحد على خلق حسن أحبك وارتاح إليك، واقتدى بك، فنِلْتَ مثل أجره، فاحرص على اقتناص ذلك الخلق الحسن من خلال تصرفات الآخرين، فما كان من حسن فخُذْهُ، واحرص عليه، وما كان من سيئ، فاتركه وابتعد عنه، وبذلك تجتمع فيك المحاسن، وتزول عنك المساوئ، فهذه قاعدة عظيمة في حسن الأخلاق، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.