حكاية ناي ♔
12-21-2022, 09:23 AM
غزوة الخندق
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى حادثة الإفك التي أشاعها المنافقون، وهي في غزوة بني المصطلق، وكيف نزل القرآن مبينًا الحق من الباطل، وكيف كان ذلك خيرًا لبيت النبوة? وذكرنا الدروس المستفادة من تلك الواقعة العظيمة، ونستأنف في هذه الحلقة غزوة الخندق التي صاحبتها المخاوف والظروف من كل جهة، وضاقت على المؤمنين، ولكن الله عز وجل أعانهم بنصره وتأييده، وقد حدثت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة، وتسمى أيضًا غزوة الأحزاب، فسُميت بالخندق لأجل الخندق الذي حُفر الذي أشار إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وأمَر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسُميت أيضًا بالأحزاب؛ لأن طوائف المشركين تحزَّبوا على المسلمين كغَطَفان وقريش واليهود وغيرهم، وسبب تلك الغزوة أن نفرًا من كبار اليهود من بني النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، ومنهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرج هؤلاء إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وحرَّضوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوهم أولئك من أنفسهم الإعانة والنصرة، ثم خرج هؤلاء النفر من اليهود إلى بقية قبائل اليهود، فاستجابوا لدعوتهم، فحصلت تلك الغزوة وهي غزوة الخندق، وقد خرجت قريش بعد أن تشاوروا في دار الأرقم، وعقدوا اللواء فيه، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفًا وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وكان في طريقهم بنو سليم، فخرجوا معهم وهم سبعمائة رجل، وأيضًا خرج معهم أيضًا بنو فزارة وهم ألف رجل، وكذلك خرج معهم بنو مرة وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا أشجع وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا آخرون، فكان جميع من خرج يصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فاتجه هؤلاء جميعًا نحو المدينة على ميعاد تعاهدوا عليه مع قبائل اليهود هناك، وقبل خروج الأحزاب من مكة، قدم ركب من خزاعة إلى المدينة، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأحزاب وخروجهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في ذلك، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال: كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فأعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بحفر الخندق، وكانت المدينة محاطة من كل نواحيها إلا الناحية الشمالية، فحفر الخندق منها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل عشرة رجال أربعين ذراعًا يحفروه، وشرع المسلمون في حفر الخندق في جو بارد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم في ذلك، ويحمل التراب بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد رأى ما بهم من الجوع والتعب، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، فقالوا هم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا؛ متفق عليه. وواصل المسلمون حفرهم للخندق، فهم يحفرون طول النهار، ثم يعودون في ليلهم إلى أهليهم ليرتاحوا ويطعموا.
وقد ربطوا على بطونهم الحجارة من الجوع، وأما المنافقون فكانوا يتأخرون في العمل ويثبِّطون عزائم المسلمين، ويتسللون عن العمل بلا إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذهبون إلى أهليهم، وفي هذه الغزوة حصلت معجزات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه المعجزات ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نحفر الخندق، فعرضت لنا كدية؛ أي حجر كبير، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عجزوا عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب الحجر على ضخامته، فما كان من الحجر إلا أن كان كثيبًا؛ أي رملًا لينًا، فحفروه، فسبحان من قدرته عمَّت كل شيء.
والمعجزة الثانية تكثير الطعام، ففي البخاري ومسلم أن جابرًا رضي الله عنه لما حفر الخندق، قال: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جوعًا شديدًا، فذهبت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء? فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا، فأخرجت قليلًا من الشعير ولنا بهيمة صغيرة، فذبحتها ثم وضعناها في البرمة، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وساررته، فقلت: يا رسول الله، لقد صنعت طعامًا قليلًا، فتعالَ أنت ونفر قليل معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق جميعًا، وقال: يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا؛ أي: طعامًا، فحيَّ هلًا بكم، وكان عددهم ألف رجل، فقال جابر: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تُنزلنَّ برمتكم، ولا تَخبزن عجينكم حتى أجيء، قال جابر: فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الخندق وكان عددهم ألف رجل، فقلت لامرأتي في ذلك، فعاتبتني وقالت بك وبك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في العجين وفي البرمة، وبارك فزاد الطعام حتى فاض.
قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى شبعوا وتركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط باللحم والخبز، فهذا شيء من معجزاته عليه الصلاة والسلام يقرأها المسلم، فيزداد ثباتًا وإيمانًا ويقينًا.
واستمروا على حفر الخندق مدة اختلف فيها أهل السير، فبعضهم قال ستة أيام وبعضهم قال أكثر من ذلك، وبعضهم قال: إن الخندق استغرق شهرًا لحفره.
ويجمع بين تلك الروايات بأن بعض المجموعات فرغت بستة أيام من نصيبها، وأخرى استمرت إلى شهر، وتكامل حفر الخندق قبل وصول جيش المشركين إلى المدينة، وبعد حفر الخندق وصل جيش المشركين الذي يصل تعداده إلى عشرة آلاف مقاتل، فنزل بعضهم وهم أربعة آلاف في أعلى المدينة، ونزل ستة آلاف في أسفلها إلى جهة أحد، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 10].
وخرج إليهم المسلمون بجيش تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، فمكثوا قرب جبل سلع، وجعلوا وجوههم إلى العدو والخندق بينهم وبين عدوِّهم، فضربت للنبي صلى الله عليه وسلم قبة، وكان على حراستها عدد من الأنصار، وقدم المشركون بجيشهم ورآهم المؤمنون، فقال الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22] ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، ولما رأى المشركون الخندق دهشوا وتعجبوا، وقالوا: إن هذا ليس معروفًا عند العرب، فأخذوا يتجولون عند الخندق ليدخلوا فعجزوا، والصحابة رضي الله عنهم يقذفونهم بالنبل، وأقاموا على ذلك بضعًا وعشرين ليلة لم يحصل حرب إلا الضرب بالنبل، وفي هذه الأثناء أمر أبو سفيان وهو زعيم المشركين حيي بن أخطب أن يذهب إلى زعيم بني قريظة وهو كعب بن أسد، ليأمره بنقض العهد مع محمد، فأبى عليه كعب إضافته وأبى عليه النقض، فَأَلَحَّ عليه حيي حتى تكلم معه، فذكر له نقض العهد مع وانضمامه إلى جيش الأحزاب، فقال زعيم بني قريظة: ما أنا بناقض العهد مع محمد، فلم أجد منه إلا وفاءً وصدقًا وعدلًا، فما زال به يُلح عليه ويعرض عليه المغريات حتى نقض العهد بنو قريظة، ودخلوا مع المشركين، فلما بلغ ذلك الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام ليتأكد من الخبر، فجاءه بخبرهم وأنهم نقضوا العهد، وكان حصل للمسلمين في تلك الغزوة موقف عصيب وشديد؛ حيث تكالبت عليهم الأحزاب من كل جهة مع خوف شديد وجوع كذلك، وأجواء باردة شديدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].
فالموقف عصيب وشديد، ويزيد ذلك شدةً أن المنافقين من الداخل يخلخلون الصف قائلين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، وبعضهم يشجع على الفرار، فمنهم من يستأذن ومنهم من لا يستأذن مع عهودهم السابقة ألا يرجعوا.
ومما زاد الخوف شدةً نقض بني قريظة للعهد، فقد خاف المسلمون على المدينة من هذا النقض الذي حصل في هذا الموقف العصيب، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجيش ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من بني قريظة أن يُغيروا عليهم، ولكن مع تلك الشدة العصيبة والموقف الشديد كان المسلمون موقنين بأن الأمر بيد الله، وأنه سينصرهم ويفرِّج كربهم ويعينهم، ولهذا قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يبشِّرهم بقوله: والذي نفسي بيده، ليفرجنَّ عنكم ما ترونه من الشدة، واني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح كسرى وقيصر، ولتُنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله، فيا تُرى ما الذي حصل بعد تلك الشدة العصيبة والمواقف الشديدة والخوف، والجوع والبرد وقلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وتكالُب المشركين على المسلمين من كل جانب، ما الذي حصل بعد هذا? هذا ما سنعرفه إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يشاركهم في إعداده وحفره، فلم يكن موقفه موقف المتفرج، وإنما كأنه واحد منهم، فهو بذلك يشجعهم ويحفزهم، ويكون مكان القدوة لهم، فما أحوجنا في أوامرنا لأولادنا أو لغيرهم أن نكون ممتثلين لما نأمرهم به، ويرونه عيانًا فينا؛ ليتشجعوا على التنفيذ، فإن من أهم العوامل في التربية الأسرية هو التربية بالقدوة، وهي ترجمة الأقوال والتوجيهات إلى واقع أسري إيجابي يراه الأولاد، فيقتدون، وهو وقاية وعلاج في آن واحد، لذا أعتب على بعض أحبابنا من الآباء والأمهات والمربين الذين يأمرون مَن تحت أيديهم بعمل حسن، ثم يرى هؤلاء المتربون عملًا مخالفًا، فإن التربية حينئذ تكون هزيلة وضعيفة، وذلك كمن ينهى عن الكذب ويسمعونه يكذب، أو ينهى عن السب ويسمعونه يسب، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عندما أمرهم ووجَّههم، وبدؤوا العمل، وكان عليه الصلاة والسلام واحدًا منهم، والبعض من الآباء وهو موضع القدوة، قد يعمل عملًا مشينًا أمام الأبناء كالتدخين وسماع ما لا يحل سماعه، أو يتحدث مع أحد بكلام سيئ، فهؤلاء سيقتدون به؛ لأنه أمامهم موضع القدوة، فلينتبه لذلك وُفِّقتم وبوركتم.
الدرس الثاني: إن النتائج الطيبة والمخرجات المتميزة تحتاج إلى الجهود الجبارة والتعب وتحمُّل المشاق بعد توفيق الله تعالى، أما من يطلب ذلك بدون جهود تُذكَر، فهو في الغالب قد لا يتحصل عليها، فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا جهودًا عظيمة في حفر الخندق، فحماهم الله عز وجل، فشبابنا وأولادنا الكرام الأفاضل يتطلعون إلى معالي الأمور في دينهم ودنياهم، ولكن نَهمس في أذانهم بأن هذا يحتاج منكم وفَّقكم الله إلى جهدٍ وصبرٍ، وعدم استعجال، ويحتاج أيضًا إلى نظر في العواقب، وتخطيط واهتمام وتفاؤل، أما من يريد تلك المعالي وهو لم يقدِّم ما يوازيها، فقد لا يحصل له ذلك، فالبداية المحرقة تكون لها بإذن الله تعالى النهاية المشرقة، وعلى الآباء والأمهات الكرام تثقيف أولادهم في ذلك مما مارسه الوالدان في سابق عملهم، وأيضًا مما اكتسبوه من معرفتهم وتجاربهم.
الدرس الثالث: في هذه الغزوة حدث عددٌ من المعجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي من دلائل النبوة وأدلتها، وإذا قرأها المسلم زاده إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلفنا في ثنايا تلك الحلقة بذكر بعض المعجزات؛ كزيادة الطعام، وقصة الحجر في الخندق وغير ذلك، فعلى المسلم أن يكون له اطلاع على تلك المعجزات، فإذا علمها وتأمَّلها زاد إيمانه، والعلم بها من أسباب الثبات على دين الله؛ لأنها خارقة للعادة، وهي أدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكم هو جميل أن يطلع عليها الأولاد ليقوى إيمانُهم? وهي أسلوب قصصي مرغوب، وفيها مظاهر عديدة من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث أجرى تلك الخوارق على يد نبيه صلى الله عليه وسلم نصرًا له وتأييدًا وتسديدًا.
الدرس الرابع: يظهر من خلال تلك الغزوة قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث أَلَمَّت بهم المخاوف من كل وجه، فالتحزب من المشركين واليهود، وأيضًا كثرة العدد في العدو، وأيضًا قلة المعيشة، وكذلك الأجواء الباردة، وكذلك نقض بني قريظة للعهد، وأيضًا إتيان المشركين للمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، فالوضع حرج جدًّا، ولكن هذه المخاوف والمظاهر هي ضئيلة مقابل ما امتلأت به قلوب المسلمين من الإيمان، وحب الله تعالى ورسوله، واستشعارهم أن الله عز وجل معهم ينصرهم ويسدِّدهم، وييسِّر أمورهم، ولذلك ما زادهم هذا إلا إيمانًا وتسليمًا، وهكذا المؤمن الحق إذا حصل له مخاوف، فيتجه إلى تعالى ويكثر من ذكره وعبادته، ويعلم أن الله عز وجل معه، ويستشعر ذلك ويتفاءل، فتنقلب تلك المخاوف إلى أقل درجاتها، ولربما تزول هذه المخاوف، وهذا الاستشعار وذلك التفاؤل يعطي العقل الباطن إيجابية وتحفيزًا واطمئنانًا وَسَعة، وذلك بخلاف من اشغل عقله وفكره بالتشاؤم، فهو قد ملأ داخله بالرسائل السلبية التي لا منتهى لها، فإذا حصل لك موقف تكرهه فلا تستدرج معه، بل انظر النقطة الإيجابية فيه، وانطلق منها بالتفاؤل، فسيخف كثيرًا، ولا فرق بين التفاؤل والتشاؤم من حيث العمل، إلا ما يقع في العقل من التأمل، فاجعله إيجابيًّا لا سلبيًّا، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم حصل لهم تلك المواقف الحرجة، فانطلقوا بالتفاؤل مبتدئين بمعيَّة الله تعالى لهم، وأنه لن يتخلى عنهم، ومسترشدين بتوجيه هذا النبي الكريم لهم.
إن التفاؤل مسكن فعَّال لكثير من المشاكل الحاضرة والمستقبلية، فإذا صحبه الدعاء كان أكثر فاعلية، فلنتعلم أيها المستمعون الكرام خلقَ التفاعل من خلال مواقفنا، كيف لا? والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فأوكِل الأمر إلى الله تعالى، وقل: لعله خير لا أعلمه، فستطمئن وترتاح، وتسكن نفس عن الأفكار السلبية.
الدرس الخامس: إن الحق ما شهدت به الأعداء كما يقال، فبنو قريظة قبل نقضهم للعهد، شهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق والعدل، وهكذا المسلم يكون متصفًا بهذه الصفات الطيبة، فهو وفي وصادق وعادل، وتلك الصفات الثلاث هي من مقومات نجاح المجتمع أُسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا المجتمع يتصف بضدها من الغدر والكذب والظلم، فهو مجتمع مخفق فاشل، فلنستمسك معاشر المستمعين الأفاضل بتلك الصفات الطيبة مع أنفسنا ومع الآخرين من ذوي القربى وغيرهم، وهي من جملة العمل الصالح، ومن جملة الخلق الحسن الذي هو من أعظم أسباب دخول الجنة.
وحينما يتمثل المسلم تلك الأخلاق، فإن الأخلاق الأخرى الحسنة تأتي تبعًا لها، حتى تجتمع فيه المحاسن من الأخلاق، فيا بشراه بذلك، فلنكن جميعًا كذلك، فهو أكثرُ انشراحًا لنفوسنا، وأكثر سكنًا لقلوبنا، وأصفى وأنقى لصدورنا، وها هي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام بين أيدينا، فلنَمْتثلها في أفعالنا وأقوالنا؛ لنُفلح في دنيانا وأخرانا، فاقضوا مع أولادكم رحمكم الله الجلسات التربوية في الخلق الحسن؛ ليتعلموه منكم وينشؤوا عليه، وذلك بالأسلوب المناسب لهم، مع الاستشهاد بالقصص والمواقف، فسيزيد برُّهم بكم من خلال تلك الجلسات الطيبة، اللهم أصلحنا، وأصلِح لنا، وأصلح بنا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى حادثة الإفك التي أشاعها المنافقون، وهي في غزوة بني المصطلق، وكيف نزل القرآن مبينًا الحق من الباطل، وكيف كان ذلك خيرًا لبيت النبوة? وذكرنا الدروس المستفادة من تلك الواقعة العظيمة، ونستأنف في هذه الحلقة غزوة الخندق التي صاحبتها المخاوف والظروف من كل جهة، وضاقت على المؤمنين، ولكن الله عز وجل أعانهم بنصره وتأييده، وقد حدثت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة، وتسمى أيضًا غزوة الأحزاب، فسُميت بالخندق لأجل الخندق الذي حُفر الذي أشار إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وأمَر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسُميت أيضًا بالأحزاب؛ لأن طوائف المشركين تحزَّبوا على المسلمين كغَطَفان وقريش واليهود وغيرهم، وسبب تلك الغزوة أن نفرًا من كبار اليهود من بني النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، ومنهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرج هؤلاء إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وحرَّضوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوهم أولئك من أنفسهم الإعانة والنصرة، ثم خرج هؤلاء النفر من اليهود إلى بقية قبائل اليهود، فاستجابوا لدعوتهم، فحصلت تلك الغزوة وهي غزوة الخندق، وقد خرجت قريش بعد أن تشاوروا في دار الأرقم، وعقدوا اللواء فيه، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفًا وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وكان في طريقهم بنو سليم، فخرجوا معهم وهم سبعمائة رجل، وأيضًا خرج معهم أيضًا بنو فزارة وهم ألف رجل، وكذلك خرج معهم بنو مرة وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا أشجع وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا آخرون، فكان جميع من خرج يصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فاتجه هؤلاء جميعًا نحو المدينة على ميعاد تعاهدوا عليه مع قبائل اليهود هناك، وقبل خروج الأحزاب من مكة، قدم ركب من خزاعة إلى المدينة، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأحزاب وخروجهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في ذلك، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال: كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فأعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بحفر الخندق، وكانت المدينة محاطة من كل نواحيها إلا الناحية الشمالية، فحفر الخندق منها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل عشرة رجال أربعين ذراعًا يحفروه، وشرع المسلمون في حفر الخندق في جو بارد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم في ذلك، ويحمل التراب بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد رأى ما بهم من الجوع والتعب، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، فقالوا هم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا؛ متفق عليه. وواصل المسلمون حفرهم للخندق، فهم يحفرون طول النهار، ثم يعودون في ليلهم إلى أهليهم ليرتاحوا ويطعموا.
وقد ربطوا على بطونهم الحجارة من الجوع، وأما المنافقون فكانوا يتأخرون في العمل ويثبِّطون عزائم المسلمين، ويتسللون عن العمل بلا إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذهبون إلى أهليهم، وفي هذه الغزوة حصلت معجزات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه المعجزات ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نحفر الخندق، فعرضت لنا كدية؛ أي حجر كبير، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عجزوا عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب الحجر على ضخامته، فما كان من الحجر إلا أن كان كثيبًا؛ أي رملًا لينًا، فحفروه، فسبحان من قدرته عمَّت كل شيء.
والمعجزة الثانية تكثير الطعام، ففي البخاري ومسلم أن جابرًا رضي الله عنه لما حفر الخندق، قال: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جوعًا شديدًا، فذهبت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء? فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا، فأخرجت قليلًا من الشعير ولنا بهيمة صغيرة، فذبحتها ثم وضعناها في البرمة، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وساررته، فقلت: يا رسول الله، لقد صنعت طعامًا قليلًا، فتعالَ أنت ونفر قليل معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق جميعًا، وقال: يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا؛ أي: طعامًا، فحيَّ هلًا بكم، وكان عددهم ألف رجل، فقال جابر: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تُنزلنَّ برمتكم، ولا تَخبزن عجينكم حتى أجيء، قال جابر: فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الخندق وكان عددهم ألف رجل، فقلت لامرأتي في ذلك، فعاتبتني وقالت بك وبك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في العجين وفي البرمة، وبارك فزاد الطعام حتى فاض.
قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى شبعوا وتركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط باللحم والخبز، فهذا شيء من معجزاته عليه الصلاة والسلام يقرأها المسلم، فيزداد ثباتًا وإيمانًا ويقينًا.
واستمروا على حفر الخندق مدة اختلف فيها أهل السير، فبعضهم قال ستة أيام وبعضهم قال أكثر من ذلك، وبعضهم قال: إن الخندق استغرق شهرًا لحفره.
ويجمع بين تلك الروايات بأن بعض المجموعات فرغت بستة أيام من نصيبها، وأخرى استمرت إلى شهر، وتكامل حفر الخندق قبل وصول جيش المشركين إلى المدينة، وبعد حفر الخندق وصل جيش المشركين الذي يصل تعداده إلى عشرة آلاف مقاتل، فنزل بعضهم وهم أربعة آلاف في أعلى المدينة، ونزل ستة آلاف في أسفلها إلى جهة أحد، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 10].
وخرج إليهم المسلمون بجيش تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، فمكثوا قرب جبل سلع، وجعلوا وجوههم إلى العدو والخندق بينهم وبين عدوِّهم، فضربت للنبي صلى الله عليه وسلم قبة، وكان على حراستها عدد من الأنصار، وقدم المشركون بجيشهم ورآهم المؤمنون، فقال الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22] ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، ولما رأى المشركون الخندق دهشوا وتعجبوا، وقالوا: إن هذا ليس معروفًا عند العرب، فأخذوا يتجولون عند الخندق ليدخلوا فعجزوا، والصحابة رضي الله عنهم يقذفونهم بالنبل، وأقاموا على ذلك بضعًا وعشرين ليلة لم يحصل حرب إلا الضرب بالنبل، وفي هذه الأثناء أمر أبو سفيان وهو زعيم المشركين حيي بن أخطب أن يذهب إلى زعيم بني قريظة وهو كعب بن أسد، ليأمره بنقض العهد مع محمد، فأبى عليه كعب إضافته وأبى عليه النقض، فَأَلَحَّ عليه حيي حتى تكلم معه، فذكر له نقض العهد مع وانضمامه إلى جيش الأحزاب، فقال زعيم بني قريظة: ما أنا بناقض العهد مع محمد، فلم أجد منه إلا وفاءً وصدقًا وعدلًا، فما زال به يُلح عليه ويعرض عليه المغريات حتى نقض العهد بنو قريظة، ودخلوا مع المشركين، فلما بلغ ذلك الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام ليتأكد من الخبر، فجاءه بخبرهم وأنهم نقضوا العهد، وكان حصل للمسلمين في تلك الغزوة موقف عصيب وشديد؛ حيث تكالبت عليهم الأحزاب من كل جهة مع خوف شديد وجوع كذلك، وأجواء باردة شديدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].
فالموقف عصيب وشديد، ويزيد ذلك شدةً أن المنافقين من الداخل يخلخلون الصف قائلين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، وبعضهم يشجع على الفرار، فمنهم من يستأذن ومنهم من لا يستأذن مع عهودهم السابقة ألا يرجعوا.
ومما زاد الخوف شدةً نقض بني قريظة للعهد، فقد خاف المسلمون على المدينة من هذا النقض الذي حصل في هذا الموقف العصيب، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجيش ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من بني قريظة أن يُغيروا عليهم، ولكن مع تلك الشدة العصيبة والموقف الشديد كان المسلمون موقنين بأن الأمر بيد الله، وأنه سينصرهم ويفرِّج كربهم ويعينهم، ولهذا قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يبشِّرهم بقوله: والذي نفسي بيده، ليفرجنَّ عنكم ما ترونه من الشدة، واني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح كسرى وقيصر، ولتُنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله، فيا تُرى ما الذي حصل بعد تلك الشدة العصيبة والمواقف الشديدة والخوف، والجوع والبرد وقلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وتكالُب المشركين على المسلمين من كل جانب، ما الذي حصل بعد هذا? هذا ما سنعرفه إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يشاركهم في إعداده وحفره، فلم يكن موقفه موقف المتفرج، وإنما كأنه واحد منهم، فهو بذلك يشجعهم ويحفزهم، ويكون مكان القدوة لهم، فما أحوجنا في أوامرنا لأولادنا أو لغيرهم أن نكون ممتثلين لما نأمرهم به، ويرونه عيانًا فينا؛ ليتشجعوا على التنفيذ، فإن من أهم العوامل في التربية الأسرية هو التربية بالقدوة، وهي ترجمة الأقوال والتوجيهات إلى واقع أسري إيجابي يراه الأولاد، فيقتدون، وهو وقاية وعلاج في آن واحد، لذا أعتب على بعض أحبابنا من الآباء والأمهات والمربين الذين يأمرون مَن تحت أيديهم بعمل حسن، ثم يرى هؤلاء المتربون عملًا مخالفًا، فإن التربية حينئذ تكون هزيلة وضعيفة، وذلك كمن ينهى عن الكذب ويسمعونه يكذب، أو ينهى عن السب ويسمعونه يسب، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عندما أمرهم ووجَّههم، وبدؤوا العمل، وكان عليه الصلاة والسلام واحدًا منهم، والبعض من الآباء وهو موضع القدوة، قد يعمل عملًا مشينًا أمام الأبناء كالتدخين وسماع ما لا يحل سماعه، أو يتحدث مع أحد بكلام سيئ، فهؤلاء سيقتدون به؛ لأنه أمامهم موضع القدوة، فلينتبه لذلك وُفِّقتم وبوركتم.
الدرس الثاني: إن النتائج الطيبة والمخرجات المتميزة تحتاج إلى الجهود الجبارة والتعب وتحمُّل المشاق بعد توفيق الله تعالى، أما من يطلب ذلك بدون جهود تُذكَر، فهو في الغالب قد لا يتحصل عليها، فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا جهودًا عظيمة في حفر الخندق، فحماهم الله عز وجل، فشبابنا وأولادنا الكرام الأفاضل يتطلعون إلى معالي الأمور في دينهم ودنياهم، ولكن نَهمس في أذانهم بأن هذا يحتاج منكم وفَّقكم الله إلى جهدٍ وصبرٍ، وعدم استعجال، ويحتاج أيضًا إلى نظر في العواقب، وتخطيط واهتمام وتفاؤل، أما من يريد تلك المعالي وهو لم يقدِّم ما يوازيها، فقد لا يحصل له ذلك، فالبداية المحرقة تكون لها بإذن الله تعالى النهاية المشرقة، وعلى الآباء والأمهات الكرام تثقيف أولادهم في ذلك مما مارسه الوالدان في سابق عملهم، وأيضًا مما اكتسبوه من معرفتهم وتجاربهم.
الدرس الثالث: في هذه الغزوة حدث عددٌ من المعجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي من دلائل النبوة وأدلتها، وإذا قرأها المسلم زاده إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلفنا في ثنايا تلك الحلقة بذكر بعض المعجزات؛ كزيادة الطعام، وقصة الحجر في الخندق وغير ذلك، فعلى المسلم أن يكون له اطلاع على تلك المعجزات، فإذا علمها وتأمَّلها زاد إيمانه، والعلم بها من أسباب الثبات على دين الله؛ لأنها خارقة للعادة، وهي أدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكم هو جميل أن يطلع عليها الأولاد ليقوى إيمانُهم? وهي أسلوب قصصي مرغوب، وفيها مظاهر عديدة من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث أجرى تلك الخوارق على يد نبيه صلى الله عليه وسلم نصرًا له وتأييدًا وتسديدًا.
الدرس الرابع: يظهر من خلال تلك الغزوة قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث أَلَمَّت بهم المخاوف من كل وجه، فالتحزب من المشركين واليهود، وأيضًا كثرة العدد في العدو، وأيضًا قلة المعيشة، وكذلك الأجواء الباردة، وكذلك نقض بني قريظة للعهد، وأيضًا إتيان المشركين للمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، فالوضع حرج جدًّا، ولكن هذه المخاوف والمظاهر هي ضئيلة مقابل ما امتلأت به قلوب المسلمين من الإيمان، وحب الله تعالى ورسوله، واستشعارهم أن الله عز وجل معهم ينصرهم ويسدِّدهم، وييسِّر أمورهم، ولذلك ما زادهم هذا إلا إيمانًا وتسليمًا، وهكذا المؤمن الحق إذا حصل له مخاوف، فيتجه إلى تعالى ويكثر من ذكره وعبادته، ويعلم أن الله عز وجل معه، ويستشعر ذلك ويتفاءل، فتنقلب تلك المخاوف إلى أقل درجاتها، ولربما تزول هذه المخاوف، وهذا الاستشعار وذلك التفاؤل يعطي العقل الباطن إيجابية وتحفيزًا واطمئنانًا وَسَعة، وذلك بخلاف من اشغل عقله وفكره بالتشاؤم، فهو قد ملأ داخله بالرسائل السلبية التي لا منتهى لها، فإذا حصل لك موقف تكرهه فلا تستدرج معه، بل انظر النقطة الإيجابية فيه، وانطلق منها بالتفاؤل، فسيخف كثيرًا، ولا فرق بين التفاؤل والتشاؤم من حيث العمل، إلا ما يقع في العقل من التأمل، فاجعله إيجابيًّا لا سلبيًّا، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم حصل لهم تلك المواقف الحرجة، فانطلقوا بالتفاؤل مبتدئين بمعيَّة الله تعالى لهم، وأنه لن يتخلى عنهم، ومسترشدين بتوجيه هذا النبي الكريم لهم.
إن التفاؤل مسكن فعَّال لكثير من المشاكل الحاضرة والمستقبلية، فإذا صحبه الدعاء كان أكثر فاعلية، فلنتعلم أيها المستمعون الكرام خلقَ التفاعل من خلال مواقفنا، كيف لا? والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فأوكِل الأمر إلى الله تعالى، وقل: لعله خير لا أعلمه، فستطمئن وترتاح، وتسكن نفس عن الأفكار السلبية.
الدرس الخامس: إن الحق ما شهدت به الأعداء كما يقال، فبنو قريظة قبل نقضهم للعهد، شهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق والعدل، وهكذا المسلم يكون متصفًا بهذه الصفات الطيبة، فهو وفي وصادق وعادل، وتلك الصفات الثلاث هي من مقومات نجاح المجتمع أُسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا المجتمع يتصف بضدها من الغدر والكذب والظلم، فهو مجتمع مخفق فاشل، فلنستمسك معاشر المستمعين الأفاضل بتلك الصفات الطيبة مع أنفسنا ومع الآخرين من ذوي القربى وغيرهم، وهي من جملة العمل الصالح، ومن جملة الخلق الحسن الذي هو من أعظم أسباب دخول الجنة.
وحينما يتمثل المسلم تلك الأخلاق، فإن الأخلاق الأخرى الحسنة تأتي تبعًا لها، حتى تجتمع فيه المحاسن من الأخلاق، فيا بشراه بذلك، فلنكن جميعًا كذلك، فهو أكثرُ انشراحًا لنفوسنا، وأكثر سكنًا لقلوبنا، وأصفى وأنقى لصدورنا، وها هي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام بين أيدينا، فلنَمْتثلها في أفعالنا وأقوالنا؛ لنُفلح في دنيانا وأخرانا، فاقضوا مع أولادكم رحمكم الله الجلسات التربوية في الخلق الحسن؛ ليتعلموه منكم وينشؤوا عليه، وذلك بالأسلوب المناسب لهم، مع الاستشهاد بالقصص والمواقف، فسيزيد برُّهم بكم من خلال تلك الجلسات الطيبة، اللهم أصلحنا، وأصلِح لنا، وأصلح بنا.