حكاية ناي ♔
12-21-2022, 09:24 AM
غزوة بني قريظة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم مستمعي الأكارم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد سبق معنا أيها المستمعون الأفاضل أن استكمَلنا في حلقة ماضية غزوة الأحزاب، وكيف تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع ضيق الحال والشدة والخوف? تعاملوا بالتفاؤل وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، وكيف أيضًا حاول المشركون القتال، فخيَّبهم الله، وذكرنا أيضًا المبارزة ونتيجتها، وذكرنا أيضًا العوامل التي سخَّرها الله تعالى لعباده المؤمنين، فكانت سببًا لنصرهم بتوفيق الله عز وجل، وذكرنا أيضًا انصراف المؤمنين منتصرين، وانصراف المشركين خاسئين مهزومين، وختمنا ذلك بالدروس والعبر، ونزدلف في حلقتنا هذه إلى الحديث عن غزوة بني قريظة، يقول ابن القيم رحمه الله: وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن كثير رحمه الله: أحلَّ الله على بني قريظة البأس الشديد في الدنيا، مع ما أعدَّه لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقْضهم للعهود ومشاركتهم الأحزاب، فباؤوا بغضب الله، وأخرج البخاري أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين? قال: ها هنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري، وقد جاء جبريل على هيئة دحية الكلب رضي الله عنه، وقد كان دحية حسن الصورة، وكان جبريل كثيرًا ما يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة دحية، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ألا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أخرج البخاري عن أنس أنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في طرق الخزرج وهو موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى بني قريظة، حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، فلما اشتد عليهم الحصار، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تعاملنا معاملة بني النضير، بحيث يرحلون ولهم ما حملت الإبل من المتاع إلا السلاح، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم أرسلوا إليه مرة أخرى، فقالوا: لنرحل ولا حاجة لنا في الأموال كلها، فأبى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه، فلما رأوا ذلك طلبوا أن يستشيروا حلفاءهم من الأوس: ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة رضي الله عنه، وكان حليفًا لهم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه أجهشوا بالبكاء، وقاموا إليه وسألوه ماذا سيفعل بهم محمد إذا نزلوا على حكمه? فأشار بيده إلى حلقه يعني الذبح وكان أبو لبابة بإشارته تلك، رأى أنه افشى سرًّا وخان الله ورسوله، فقال رضي الله عنه: والله لا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوب مما فعلت، ويتوب الله تعالى عليَّ، فذهب إلى المسجد وربط نفسه، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، فنزل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [الأنفال: 27].
فلما استبطأه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعَلِم خبره قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، وقام أبو لبابة مربوطًا في المسجد ست ليال، فلا يحل رباطه إلا امرأته لوقت الصلاة فقط، حتى نزلت توبته رضي الله عنه في قول الله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، ولما اشتد عليهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قذف الله في قلوب بني قريظة الرعب والخوف، وانهارت معنوياتهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكُتفوا وكانوا أربعمائة، وقيل سبعمائة، وتَم عزل الرجال عن النساء والذراري، فجاء الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا يا رسول الله، إن بني قريظة حلفاؤنا وموالينا، وقد التمسوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عليهم العقوبة والحكم، فقال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه في المسجد في خيمة له وهو مريض يعوده من يعوده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأُتي به محمولًا على حمار ليحكم فيهم، فلما كان في طريقه إليهم، استقبلوه وكلموه في الرفق، وقالوا هم مواليك وحلفاؤك، وأكثروا عليه من طلب الرفق بهم، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم فأنزلوه، فقاموا إليه فأنزلوه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، وتُقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه بالأسرى فجُمعوا، ثم أمر بحفر الخنادق لهم، فجيء بهم إرسالًا ومجموعات، ثم تضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ويلقون فيها، وكانوا أربعمائة وقيل سبعمائة، وكان من جملتهم حيي بن أخطب؛ لأنه دخل مع بني قريظة في حصنهم، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، وقد تم توزيع غنائم بني قريظة، فجمعوا من حصونهم ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألف رمح وجمالًا وماشية كثيرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقر بني قريظة ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك ونقضوا العهد، فقتل رجالهم وقسَّم نساءهم وأولادهم، وقد قال الله في بني قريظة: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ [الأحزاب: 26]؛ أي حصونهم: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 26، 27]، ولم يستشهد من المسلمين في مقابلة بني قريظة إلا ثلاثة فقط، وفي نهاية الحدث مع بني قريظة ذلت اليهود وذل المنافقون، ودخلهم الرعب والخوف، ولم يكن لهم بعد ذلك شوكة، ولم يفكروا في غزو المسلمين، ولما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه على بني قريظة، وشفى الله تعالى صدره منهم، انفجر جرحه، فمات رضي الله عنه وقد سأل الله تعالى ألا يُميته حتى يشفي صدره من بني قريظة في حكمه عليهم؛ لأنهم نقضوا العهود والمواثيق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز العرش لوفاة سعد رضي الله عنه، وهبطت الملائكة لتشييعه، وأخرج النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد: لقد ضُمَّ ضمة ثم فرِّج عنه، وقد حملوا سعدًا لدفنه وكان جسمه طويلًا وضخمًا، ووجدوا له خفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تحمله معهم، وكان عمره رضي الله عنه سبعًا وثلاثين سنة، وفي ذلك العام الخامس من الهجرة، قدم وفد من أشجع وكانوا مائة رجل، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس والطاعة، ولا يسألون الناس شيئًا، قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوت أحدهم فلا يسأل أحدًا يناوله إياه، وبعد أن قويت شوكة المسلمين بدؤوا يغزون غيرهم من المشركين، ففتحوا الفتوح وكثر إرسال السرايا والبعوث لدعوة غير المسلمين أو قتالهم، وهذا مصداق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنهم بعد الخندق يغزون الكفار فبدؤوا بفتح مكة والطائف وحنين، وغيرها من الفتوحات.
ونختم أيها المستمعون والمستمعات الكرام حلقتنا تلك في بعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، ومن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة العزة والقوة والشجاعة والبسالة، فقد طلب بنو قريظة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملوه معاملة بني النظير، ولكنه أبى عليهم لأن بني قريظة قد عاهدوا وغدروا بعد عهدهم وقاتلوا مع الأحزاب، فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم عزة الإسلام وقوته، فلم يُطعهم فيما طلبوا، مع أنهم استكانوا وخضعوا وذلوا في طلبهم هذا، ولكن العزة لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، فحكم عليهم بما أصدره سعد بن معاذ من قتلهم وسبيهم، وأقرَّه على ذلك وأوضح أن هذا هو حكم الله تعالى فيهم، وبذلك استردت الأمة قوتها وشجاعتها بين الأمم، وخافها القاصي والداني، وبدأ المسلمون بعد ذلك يغزون الكفار في بلادهم كفتح مكة وحنين والطائف؛ حيث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تغزونهم ولا يغزونكم.
الدرس الثاني: أن المسلم إذا فعل ذنبًا أو معصية، فإنه يشعر بألم تلك الخطيئة، ولا تكن عادة أو أمرًا يسيرًا، وذلك أنه معصية لله تبارك وتعالى، وهو العظيم القوي العزيز، فهذا أبو لبابة رضي الله عنه عندما ذهب إلى بني قريظة يستشيرونه في نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لبابة: نعم انزلوا على حكمه، وهذا لا جناح عليه، لكنه زاد على ذلك أنه وضَّح لهم العقوبة وهي القتل، عندما أشار إلى حلقه أنه الذبح، فاعتبر نفسه بتلك الإشارة إلى حلقه وأنه الذبح أنه قد خان الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فماذا فعل أبو لبابة رضي الله عنه بعد ذلك? ذهب وربط نفسه في المسجد حتى يتوب الله تعالى عليه، وذلك إظهار للندم على تلك المعصية حتى تاب الله تعالى عليه، فنحن يا كرام عندما نخطئ في جنب الله تعالى بتسويل من الشيطان، فنرتكب معصية من المعاصي، فيتعيَّن علينا أن يكون لهذه المعصية وقعٌ شديد في أنفسنا وهمٌّ في الخلاص منها؛ لأنها إذا تكررت المعصية على النفس، ولم يكن لها وقعٌ شديد، فإن دخول الشيطان إلى قلب الإنسان يكون سهلًا، فيكثر دخوله عليه، فيخشى عليه من الران وهو متابعة الذنب على الذنب، وقد يختم له بشيءٍ من هذه المعاصي، فإذا سول لك الشيطان المعصية، ففعلتها فاندم وتبْ واستغفر، وعوِّضها من صالح العمل لعل الحسنة تكفر السيئة وتَمحوها، فأبو لبابة رضي الله عنه يعرف أن باب التوبة مفتوح، ولكنه يريد تأديب نفسه؛ حتى لا تتكرر تلك المعصية أو غيرها، أو حتى يطهِّر نفسه أيضًا من أضرارها، وهذا يدل على قوة الإيمان ويقظة الضمير، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
الدرس الثالث: في قصة أبي لبابة أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستغفار، ومعنى الاستغفار هو طلب المغفرة والعفو والمحو للذنب عنه، فهو ذكر من أهم الأذكار وأخفها على اللسان، فما أجمل كلمة أستغفر الله، فهي اعتراف بالذنب وطلب لمغفرة هذا الخطأ، فإذا استشعر المستغفر ذلك، واستشعر أن الله تعالى غفور غفار، وأحسن الظن بربه، فليُبشر بالخير العظيم، فقد وعد الله تعالى عباده بالإجابة، وليكن لنا أيها المستمعون الكرام منهجية واضحة مع الاستغفار، سواء عند الذنب، أو عند الانتهاء من الطاعة، أو في المجالس، أو على عموم الأحوال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر أكثر من سبعين مرة، وربما كان ذلك في المجلس الواحد، فاجعل الاستغفار سجية لك، فاستغفر في مجلسك، وبعد صلاتك وفي سجودك، وعند خطئك وعلى عموم أحوالك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، واحرص على الأعمال التي من خلالها تُغفر الذنوب، وذلك مثل قولك: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، فقد ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، ففي خلال دقيقتين تغفر ذنوبك بهذا، فما أعظم عفو الله تعالى وسعة فضله على عباده.
الدرس الرابع: فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإنه قد دعا الله تعالى ألا يُميته حتى يحكم في بني قريظة، وقد استجاب الله دعاءه، فحكم عليهم بحكم الله تعالى، ومن فضائله أنه اهتز لموته عرش الرحمن، ومن فضائله أن الملائكة هبطت من السماء لتشييع جنازة سعد، ولذلك وجدوا لحمله خفة مع أنه رجل طويل ضخم، وهذه الفضائل وغيرها كثير مع أنه لم يعمر كثيرًا، فهو رضي الله عنه لم يتجاوز السابعة والثلاثين، وهكذا هم القدوات من الصحابة والأئمة والصالحين، تَكثُر أعمالهم تزكيةً لنفوسهم، وليكونوا قدوة لمن خلفهم، فلنستمسك بما استمسكوا به من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا، ولنربي أولادنا على ذلك المسلك القويم، لنحيا حياة السعداء، فما أجمل أن يكون في داخل الأسرة كلام عن سيرة الصالحين في السابق واللاحق؛ ليكونوا محل القدوة والأسوة، فإن ذلك سيكون سببًا في تصحيح المفاهيم وتحسين الأخلاق وكثرة الأعمال الصالحة.
الدرس الخامس: إن سعد بن معاذ على فضائله الجمة والجليلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه ضمه القبر ضمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيًا منها لنجا منها سعد بن معاذ)؛ صححه الألباني ووافقه الذهبي وغيره، وهي ضمة تكون على المؤمن الصالح يسيرة، ثم يفرج عنه، وتشتد على الفاسق وتطول عليه، وهي من المكفرات للذنوب، فهم يتفاوتون في ذلك حسب أعمالهم الحسنة والسيئة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، فلنُكثر من الصالحات ولنجتنب السيئات، فمن فعل ذلك، فهو على خير في دينه ودنياه وفي قبره وأخراه بإذن الله تعالى، وليعلم العبد أن أمامه أهوالًا وعليه استحضارها عندما يفعل الطاعة ليزيد منها، وعندما يهمُّ بفعل المعصية لينزع منها، فما أحرانا بذلك معاشر المستمعين كرام.
الدرس السادس: عندما وفد قوم من أشجع بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أمور أربعة هي من عظائم الأمور، وهي أولًا: العبادة الخالصة من الشرك والرياء والنفاق، فلا ينفعك عند ربك إلا ما أخلصت فيه لله تعالى، وأما غير ذلك فهو وبال على صاحبه، ومردود عليه فلا يتعب نفسه فيه.
الأمر الثاني الذي بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلوات الخمس، وإتقانها كما أمر الله تعالى بأوقاتها وأذكارها، فلا تأخير ولا نسيان، ولا جمعَ لها بغير عذرٍ، فهي - أي الصلاة - ستخاطب صاحبها يوم القيامة، فتقول له إن كان محافظًا عليها: حفِظك الله كما حفظتني وإن كان مضيعًا لها فهي ستقول له: ضيَّعك الله كما ضيعتني، فلنحضر أيها المستمعون والمستمعات قلوبنا في صلواتنا، ولنحافظ عليها في أوقاتها، ولنؤدِّيها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطمئنان وتأنٍّ وتُؤدة، ولا نستعجل في أدائها، ولا ننقص من أذكارها وأقوالها حتى تقول لنا يوم القيامة حفِظكم الله كما حفظتموني.
الأمر الثالث: الطاعة لله ورسوله بالفعل في الأوامر والترك في النواهي، فهذه هي العبادة الحقة، فلو حرصنا أيها المستمعون الكرام مع أولادنا على أن ننظر في أوامر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم نَمتثلها، وننظر إلى النواهي ثم نتركها، لكنا على خيرٍ عظيم، وإن قصَّرنا في الأوامر استغفرنا، وإن قصرنا في ترك النواهي استغفرنا، فصار هذا المنهج سجيةً لنا ومع أولادنا، وبهذا نلحق لركب المفلحين والصالحين والمصلحين.
الأمر الرابع: عدم سؤال الناس، وهذه هي التي تجعل الناس معك ويحبونك ويجالسونك، فإن سؤال الناس هو إظهار لِمِنَّتهم عليك، وكسل تجلبه إلى نفسك، وزهد من الناس فيك، إذا استغنيت عن الناس واستعنت بالله تعالى، وقضيت حوائجك بنفسك، فإنك ستغتني عن الناس بفضل الله تعالى وعونه لك، وهذا لا يمنع أن يشفع الناس بعضهم لبعض، أو يعينوا بعضهم بعضًا، فإن هذا باب من الخير عظيم وهو من الإحسان الذي يؤجر عليه الإنسان، ولكن الذي تستطيع فعله افعَله، ولا تحتج إلى الناس، وأما سوى ذلك فلا مانع من الاستعانة بالناس بعد الله تعالى فيما يقدِر عليه الناس، ولكن لا يكن ذلك عادة دائمة فيَملَّ الناس منك، ولهذا بعض الناس كثيرًا ما يجعل الناس يخدمونه حتى في أمور هو يستطيع فعلها، وهذا لا شك أنه من الكسل، ومن ثم ربما ملَّ الناس من هذا الذي يحتاج إليهم، أما حاجة الإنسان لأخيه فيما لا يستطيعه هذا المحتاج، وهو في مقدور ذلك المستعان به بعد الله تعالى، فهذا لا مانع، وهو من الإحسان الذي أمر الله تعالى به، ويؤجَر عليه الناسُ، وفي الأثر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما عند الناس يُحبك الناس).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، كما أسأله تبارك وتعالى أن يوصلنا دار السلام بسلام، وأن يرزقنا قلوبًا سليمة وعقولًا زاكية راشدة وألسنةً صادقةً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم مستمعي الأكارم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد سبق معنا أيها المستمعون الأفاضل أن استكمَلنا في حلقة ماضية غزوة الأحزاب، وكيف تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع ضيق الحال والشدة والخوف? تعاملوا بالتفاؤل وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، وكيف أيضًا حاول المشركون القتال، فخيَّبهم الله، وذكرنا أيضًا المبارزة ونتيجتها، وذكرنا أيضًا العوامل التي سخَّرها الله تعالى لعباده المؤمنين، فكانت سببًا لنصرهم بتوفيق الله عز وجل، وذكرنا أيضًا انصراف المؤمنين منتصرين، وانصراف المشركين خاسئين مهزومين، وختمنا ذلك بالدروس والعبر، ونزدلف في حلقتنا هذه إلى الحديث عن غزوة بني قريظة، يقول ابن القيم رحمه الله: وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن كثير رحمه الله: أحلَّ الله على بني قريظة البأس الشديد في الدنيا، مع ما أعدَّه لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقْضهم للعهود ومشاركتهم الأحزاب، فباؤوا بغضب الله، وأخرج البخاري أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين? قال: ها هنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري، وقد جاء جبريل على هيئة دحية الكلب رضي الله عنه، وقد كان دحية حسن الصورة، وكان جبريل كثيرًا ما يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة دحية، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ألا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أخرج البخاري عن أنس أنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في طرق الخزرج وهو موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى بني قريظة، حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، فلما اشتد عليهم الحصار، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تعاملنا معاملة بني النضير، بحيث يرحلون ولهم ما حملت الإبل من المتاع إلا السلاح، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم أرسلوا إليه مرة أخرى، فقالوا: لنرحل ولا حاجة لنا في الأموال كلها، فأبى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه، فلما رأوا ذلك طلبوا أن يستشيروا حلفاءهم من الأوس: ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة رضي الله عنه، وكان حليفًا لهم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه أجهشوا بالبكاء، وقاموا إليه وسألوه ماذا سيفعل بهم محمد إذا نزلوا على حكمه? فأشار بيده إلى حلقه يعني الذبح وكان أبو لبابة بإشارته تلك، رأى أنه افشى سرًّا وخان الله ورسوله، فقال رضي الله عنه: والله لا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوب مما فعلت، ويتوب الله تعالى عليَّ، فذهب إلى المسجد وربط نفسه، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، فنزل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [الأنفال: 27].
فلما استبطأه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعَلِم خبره قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، وقام أبو لبابة مربوطًا في المسجد ست ليال، فلا يحل رباطه إلا امرأته لوقت الصلاة فقط، حتى نزلت توبته رضي الله عنه في قول الله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، ولما اشتد عليهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قذف الله في قلوب بني قريظة الرعب والخوف، وانهارت معنوياتهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكُتفوا وكانوا أربعمائة، وقيل سبعمائة، وتَم عزل الرجال عن النساء والذراري، فجاء الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا يا رسول الله، إن بني قريظة حلفاؤنا وموالينا، وقد التمسوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عليهم العقوبة والحكم، فقال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه في المسجد في خيمة له وهو مريض يعوده من يعوده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأُتي به محمولًا على حمار ليحكم فيهم، فلما كان في طريقه إليهم، استقبلوه وكلموه في الرفق، وقالوا هم مواليك وحلفاؤك، وأكثروا عليه من طلب الرفق بهم، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم فأنزلوه، فقاموا إليه فأنزلوه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، وتُقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه بالأسرى فجُمعوا، ثم أمر بحفر الخنادق لهم، فجيء بهم إرسالًا ومجموعات، ثم تضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ويلقون فيها، وكانوا أربعمائة وقيل سبعمائة، وكان من جملتهم حيي بن أخطب؛ لأنه دخل مع بني قريظة في حصنهم، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، وقد تم توزيع غنائم بني قريظة، فجمعوا من حصونهم ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألف رمح وجمالًا وماشية كثيرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقر بني قريظة ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك ونقضوا العهد، فقتل رجالهم وقسَّم نساءهم وأولادهم، وقد قال الله في بني قريظة: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ [الأحزاب: 26]؛ أي حصونهم: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 26، 27]، ولم يستشهد من المسلمين في مقابلة بني قريظة إلا ثلاثة فقط، وفي نهاية الحدث مع بني قريظة ذلت اليهود وذل المنافقون، ودخلهم الرعب والخوف، ولم يكن لهم بعد ذلك شوكة، ولم يفكروا في غزو المسلمين، ولما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه على بني قريظة، وشفى الله تعالى صدره منهم، انفجر جرحه، فمات رضي الله عنه وقد سأل الله تعالى ألا يُميته حتى يشفي صدره من بني قريظة في حكمه عليهم؛ لأنهم نقضوا العهود والمواثيق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز العرش لوفاة سعد رضي الله عنه، وهبطت الملائكة لتشييعه، وأخرج النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد: لقد ضُمَّ ضمة ثم فرِّج عنه، وقد حملوا سعدًا لدفنه وكان جسمه طويلًا وضخمًا، ووجدوا له خفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تحمله معهم، وكان عمره رضي الله عنه سبعًا وثلاثين سنة، وفي ذلك العام الخامس من الهجرة، قدم وفد من أشجع وكانوا مائة رجل، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس والطاعة، ولا يسألون الناس شيئًا، قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوت أحدهم فلا يسأل أحدًا يناوله إياه، وبعد أن قويت شوكة المسلمين بدؤوا يغزون غيرهم من المشركين، ففتحوا الفتوح وكثر إرسال السرايا والبعوث لدعوة غير المسلمين أو قتالهم، وهذا مصداق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنهم بعد الخندق يغزون الكفار فبدؤوا بفتح مكة والطائف وحنين، وغيرها من الفتوحات.
ونختم أيها المستمعون والمستمعات الكرام حلقتنا تلك في بعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، ومن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة العزة والقوة والشجاعة والبسالة، فقد طلب بنو قريظة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملوه معاملة بني النظير، ولكنه أبى عليهم لأن بني قريظة قد عاهدوا وغدروا بعد عهدهم وقاتلوا مع الأحزاب، فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم عزة الإسلام وقوته، فلم يُطعهم فيما طلبوا، مع أنهم استكانوا وخضعوا وذلوا في طلبهم هذا، ولكن العزة لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، فحكم عليهم بما أصدره سعد بن معاذ من قتلهم وسبيهم، وأقرَّه على ذلك وأوضح أن هذا هو حكم الله تعالى فيهم، وبذلك استردت الأمة قوتها وشجاعتها بين الأمم، وخافها القاصي والداني، وبدأ المسلمون بعد ذلك يغزون الكفار في بلادهم كفتح مكة وحنين والطائف؛ حيث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تغزونهم ولا يغزونكم.
الدرس الثاني: أن المسلم إذا فعل ذنبًا أو معصية، فإنه يشعر بألم تلك الخطيئة، ولا تكن عادة أو أمرًا يسيرًا، وذلك أنه معصية لله تبارك وتعالى، وهو العظيم القوي العزيز، فهذا أبو لبابة رضي الله عنه عندما ذهب إلى بني قريظة يستشيرونه في نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لبابة: نعم انزلوا على حكمه، وهذا لا جناح عليه، لكنه زاد على ذلك أنه وضَّح لهم العقوبة وهي القتل، عندما أشار إلى حلقه أنه الذبح، فاعتبر نفسه بتلك الإشارة إلى حلقه وأنه الذبح أنه قد خان الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فماذا فعل أبو لبابة رضي الله عنه بعد ذلك? ذهب وربط نفسه في المسجد حتى يتوب الله تعالى عليه، وذلك إظهار للندم على تلك المعصية حتى تاب الله تعالى عليه، فنحن يا كرام عندما نخطئ في جنب الله تعالى بتسويل من الشيطان، فنرتكب معصية من المعاصي، فيتعيَّن علينا أن يكون لهذه المعصية وقعٌ شديد في أنفسنا وهمٌّ في الخلاص منها؛ لأنها إذا تكررت المعصية على النفس، ولم يكن لها وقعٌ شديد، فإن دخول الشيطان إلى قلب الإنسان يكون سهلًا، فيكثر دخوله عليه، فيخشى عليه من الران وهو متابعة الذنب على الذنب، وقد يختم له بشيءٍ من هذه المعاصي، فإذا سول لك الشيطان المعصية، ففعلتها فاندم وتبْ واستغفر، وعوِّضها من صالح العمل لعل الحسنة تكفر السيئة وتَمحوها، فأبو لبابة رضي الله عنه يعرف أن باب التوبة مفتوح، ولكنه يريد تأديب نفسه؛ حتى لا تتكرر تلك المعصية أو غيرها، أو حتى يطهِّر نفسه أيضًا من أضرارها، وهذا يدل على قوة الإيمان ويقظة الضمير، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
الدرس الثالث: في قصة أبي لبابة أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستغفار، ومعنى الاستغفار هو طلب المغفرة والعفو والمحو للذنب عنه، فهو ذكر من أهم الأذكار وأخفها على اللسان، فما أجمل كلمة أستغفر الله، فهي اعتراف بالذنب وطلب لمغفرة هذا الخطأ، فإذا استشعر المستغفر ذلك، واستشعر أن الله تعالى غفور غفار، وأحسن الظن بربه، فليُبشر بالخير العظيم، فقد وعد الله تعالى عباده بالإجابة، وليكن لنا أيها المستمعون الكرام منهجية واضحة مع الاستغفار، سواء عند الذنب، أو عند الانتهاء من الطاعة، أو في المجالس، أو على عموم الأحوال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر أكثر من سبعين مرة، وربما كان ذلك في المجلس الواحد، فاجعل الاستغفار سجية لك، فاستغفر في مجلسك، وبعد صلاتك وفي سجودك، وعند خطئك وعلى عموم أحوالك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، واحرص على الأعمال التي من خلالها تُغفر الذنوب، وذلك مثل قولك: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، فقد ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، ففي خلال دقيقتين تغفر ذنوبك بهذا، فما أعظم عفو الله تعالى وسعة فضله على عباده.
الدرس الرابع: فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإنه قد دعا الله تعالى ألا يُميته حتى يحكم في بني قريظة، وقد استجاب الله دعاءه، فحكم عليهم بحكم الله تعالى، ومن فضائله أنه اهتز لموته عرش الرحمن، ومن فضائله أن الملائكة هبطت من السماء لتشييع جنازة سعد، ولذلك وجدوا لحمله خفة مع أنه رجل طويل ضخم، وهذه الفضائل وغيرها كثير مع أنه لم يعمر كثيرًا، فهو رضي الله عنه لم يتجاوز السابعة والثلاثين، وهكذا هم القدوات من الصحابة والأئمة والصالحين، تَكثُر أعمالهم تزكيةً لنفوسهم، وليكونوا قدوة لمن خلفهم، فلنستمسك بما استمسكوا به من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا، ولنربي أولادنا على ذلك المسلك القويم، لنحيا حياة السعداء، فما أجمل أن يكون في داخل الأسرة كلام عن سيرة الصالحين في السابق واللاحق؛ ليكونوا محل القدوة والأسوة، فإن ذلك سيكون سببًا في تصحيح المفاهيم وتحسين الأخلاق وكثرة الأعمال الصالحة.
الدرس الخامس: إن سعد بن معاذ على فضائله الجمة والجليلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه ضمه القبر ضمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيًا منها لنجا منها سعد بن معاذ)؛ صححه الألباني ووافقه الذهبي وغيره، وهي ضمة تكون على المؤمن الصالح يسيرة، ثم يفرج عنه، وتشتد على الفاسق وتطول عليه، وهي من المكفرات للذنوب، فهم يتفاوتون في ذلك حسب أعمالهم الحسنة والسيئة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، فلنُكثر من الصالحات ولنجتنب السيئات، فمن فعل ذلك، فهو على خير في دينه ودنياه وفي قبره وأخراه بإذن الله تعالى، وليعلم العبد أن أمامه أهوالًا وعليه استحضارها عندما يفعل الطاعة ليزيد منها، وعندما يهمُّ بفعل المعصية لينزع منها، فما أحرانا بذلك معاشر المستمعين كرام.
الدرس السادس: عندما وفد قوم من أشجع بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أمور أربعة هي من عظائم الأمور، وهي أولًا: العبادة الخالصة من الشرك والرياء والنفاق، فلا ينفعك عند ربك إلا ما أخلصت فيه لله تعالى، وأما غير ذلك فهو وبال على صاحبه، ومردود عليه فلا يتعب نفسه فيه.
الأمر الثاني الذي بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلوات الخمس، وإتقانها كما أمر الله تعالى بأوقاتها وأذكارها، فلا تأخير ولا نسيان، ولا جمعَ لها بغير عذرٍ، فهي - أي الصلاة - ستخاطب صاحبها يوم القيامة، فتقول له إن كان محافظًا عليها: حفِظك الله كما حفظتني وإن كان مضيعًا لها فهي ستقول له: ضيَّعك الله كما ضيعتني، فلنحضر أيها المستمعون والمستمعات قلوبنا في صلواتنا، ولنحافظ عليها في أوقاتها، ولنؤدِّيها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطمئنان وتأنٍّ وتُؤدة، ولا نستعجل في أدائها، ولا ننقص من أذكارها وأقوالها حتى تقول لنا يوم القيامة حفِظكم الله كما حفظتموني.
الأمر الثالث: الطاعة لله ورسوله بالفعل في الأوامر والترك في النواهي، فهذه هي العبادة الحقة، فلو حرصنا أيها المستمعون الكرام مع أولادنا على أن ننظر في أوامر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم نَمتثلها، وننظر إلى النواهي ثم نتركها، لكنا على خيرٍ عظيم، وإن قصَّرنا في الأوامر استغفرنا، وإن قصرنا في ترك النواهي استغفرنا، فصار هذا المنهج سجيةً لنا ومع أولادنا، وبهذا نلحق لركب المفلحين والصالحين والمصلحين.
الأمر الرابع: عدم سؤال الناس، وهذه هي التي تجعل الناس معك ويحبونك ويجالسونك، فإن سؤال الناس هو إظهار لِمِنَّتهم عليك، وكسل تجلبه إلى نفسك، وزهد من الناس فيك، إذا استغنيت عن الناس واستعنت بالله تعالى، وقضيت حوائجك بنفسك، فإنك ستغتني عن الناس بفضل الله تعالى وعونه لك، وهذا لا يمنع أن يشفع الناس بعضهم لبعض، أو يعينوا بعضهم بعضًا، فإن هذا باب من الخير عظيم وهو من الإحسان الذي يؤجر عليه الإنسان، ولكن الذي تستطيع فعله افعَله، ولا تحتج إلى الناس، وأما سوى ذلك فلا مانع من الاستعانة بالناس بعد الله تعالى فيما يقدِر عليه الناس، ولكن لا يكن ذلك عادة دائمة فيَملَّ الناس منك، ولهذا بعض الناس كثيرًا ما يجعل الناس يخدمونه حتى في أمور هو يستطيع فعلها، وهذا لا شك أنه من الكسل، ومن ثم ربما ملَّ الناس من هذا الذي يحتاج إليهم، أما حاجة الإنسان لأخيه فيما لا يستطيعه هذا المحتاج، وهو في مقدور ذلك المستعان به بعد الله تعالى، فهذا لا مانع، وهو من الإحسان الذي أمر الله تعالى به، ويؤجَر عليه الناسُ، وفي الأثر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما عند الناس يُحبك الناس).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، كما أسأله تبارك وتعالى أن يوصلنا دار السلام بسلام، وأن يرزقنا قلوبًا سليمة وعقولًا زاكية راشدة وألسنةً صادقةً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.