حكاية ناي ♔
02-05-2024, 01:51 PM
سارت الدعوة إلى الإسلام عبر مرحلتين؛ إحداهما: سرية، وقد ظلت ثلاث سنين، والأخرى: جهرية، وقد بَقِيَت حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة، ورَضِيَ الإسلام دينًا لعباده، وقد تتساءل: ولماذا هذه المرحلة السرية، ولم يجهر النبي عليه الصلاة والسلام بدينه ابتداء ومن غير استتار ولا استخفاء؟ والجواب: أن هذه المرحلة السرية ضرورية لنجاح الدعوة إلى الإسلام، ولازمة لانتشارها وانتصارها وذلك لسببين:
أحدهما: أن الإسلام قد كان على النقيض مما كان عليه العرب في مكة وفي غيرها من شتى أنحاء الجزيرة، كان يدعو إلى وحدانية الله وكانوا وثنيين ينحتون آلهتهم من الحجر، ويصنعونها من الشجر. وكان يدعو إلى الحرية والمساواة، وكانوا بُغَاةً يظلم بعضهم بعضًا ويعلو بعضهم على بعض، وكان يدعو إلى الحق والفضيلة، وكانوا مقلدين لا يَرِيمون [أي: لا يبرحون] عما كان عليه الآباء والأجداد ولو كان موغِلاً في الشر ومرتطمًا في الرذيلة.
وليس من المعقول - والقوم هكذا - أن يجابههم محمد عليه الصلاة والسلام بدينه الجديد من غير ترتيب ولا تمهيد.
وثانيهما: أن التعصب القَبَلي قد كان متأصلاً في نفوس هؤلاء الناس، وأن القبيلة قد كانت تنصر أفرادها ظالمين ومظلومين وجائرين ومنصفين، وأن محمدًا إذا أفلح في إقناع أفرادٍ مِنْ بطون قريش وبيوتاتها بالانقياد له، والوقوف إلى جانبه، فقد أَمِنَ على دينه من الوأْد، وأمن على أنصاره وأصحابه من الهلاك والقتل.
وهذا هو ما كان؛ فقد عرض صلوات الله وسلامه عليه دينَهُ على أبي بكر، وعلى رجالٍ غيرِهِ من العشائر والبطون، ولم تمض هذه المرحلة السرية حتى كان قد دخل في دينه أفرادٌ من بني عبدمناف وبني زهرة، وبني تيم، وبني عدي، وغيرهم، وأصبح من الصعب على هؤلاء البطونِ خلعُ هؤلاء الرجال أو قتلهم، وأصبح من الصعب عليها كذلك اجتثاثُ شجرة الإسلام، وقد أورقت وأثمرت في قلوبهم.
ولم يكن هذا التخطيط من تدبير محمد عليه الصلاة والسلام وحده، ولا كان ثمرةً لخبرته الواسعة بأحوال العرب المختلفة في البوادي والحواضر، وإنما كان تنظيمًا أراده الله، وتولى القرآن متابعة تحقيقه وتنفيذه.
وقد مر بك كيف أن المرحلة السرية للدعوة إلى الإسلام قد بدأت بآيتين هما قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].
وكما بدأت هذه المرحلة بآيتين، فقد بدأت المرحلة الجهرية بآيتين كذلك، وهما قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] وقوله: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94].
ففي الآية الأولى يأمر الله عز وجل محمدًا بإنذار عشيرته، وهم بنو عبد المطلب وبنو هاشم.
وفي الآية الثانية يأمره بإنذار أم القرى ومَنْ حولَها وجميع الناس من بدوٍ وحضر، وعرب وعجم، وواضح من هذين الأمرين المتتاليين أن الدعوة الجهرية قد سارت عبر مرحلتين:
أولاهما: دعوة أقارب النبي عليه الصلاة والسلام وعشيرته.
والثانية: دعوة من سواهم من قريش وغيرهم.
فالسر في هذا هو أن التعصُّب القبلي قد كان جزءًا من الطبيعة العربية، أو كان عَرَضًا لازمًا لها، وكان يقوى ويشتد كلما تقاربت الأنساب أو تدانت، وكأنه يقوى ويضعُف كلما تباينت أو تباعدت، وعلى هذا الأساس، فقد كان في العشائر أقوى منه في البطون، وكان في هذه وتلك أقوى منه في القبائل؛ الأمر الذي يتطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالجهر إلى عشيرته؛ فإن دخلت في دينه فذلك ما يرجوه ويحرص عليه، وإلا وقفَتْ إلى جانبه تمنع عنه الأذى، وتَحُول بينه وبين الشر والمكروه.
ويقول المؤرخون وكُتَّابُ السِّيَر: إن النبي عليه الصلاة والسلام عندما هبط عليه الوحي بالآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] صنع طعامًا ودعا إليه أقاربه، وقال لهم: ((إن الرائد لا يَكْذِبُ أهله، والله لو كذبْتُ الناسَ جميعًا، ما كذبتكم، ولو غررت الناسَ جميعًا، ما غررتكم، والله إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبْعَثُنَّ كما تستيقظون، ولتحاسَبُنَّ بما تعملون، وإنها لجنةٌ أبدًا، أو لنارٌ أبدًا)).
وأن هذه الخطبة قد أغضبت عمه أبا لهب، وأغرَتْه بالعبث به والسخرية منه.
وسواء أكانت هذه المرة هي التي وجَّه فيها النبي عليه الصلاة والسلام الدعوةَ إلى أقاربه وحدها، أم أنه قد دعاهم مرة أخرى في اليوم التالي، فإنهم جميعًا قد صمتوا، ولم يُجِبْه منهم إلى دينه أحد، اللهم إلا ما كان من أبي لهب الذي هاج وماج، وقال ما قال.
ويقول المؤرخون وكُتَّابُ السِّيَر كذلك: إنه عليه الصلاة والسلام عندما هبط عليه الوحي بالآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، ذهب إلى الصفا وجعل ينادي العشائر والبطون؛ كلٌّ باسمه أو بلقبه المميز له، حتى إذا أقبل القوم إليه والتفُّوا حوله قال لهم: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغِير عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟)) قالوا: "نعم، ما جرَّبنا عليك كذبًا".
قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، وأثارت هذه الكلمات حفائظ القوم، وأهاجت كوامن الغضب فيهم، وقال له أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟ ووجَّهَ وجهه إلى الناس، وقال: يا معشر قريش، خذوا على يديه قبل أن يجتمع العرب عليه، فإن أسلمتموه ذللتم، وإن منعتموه قُتِلْتم، ولكن الله تبارك وتعالى رد عليه، ونزل الوحي بقوله تعالى: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1 - 3] وهكذا وصفه الوحي بهذه الآيات البينات التي كانت بمثابة التشجيع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما كانت بشارة بأن الله سينصر الحق، ويتم نوره ولو كره المشركون.
وهكذا جهر النبي بالدعوة إلى دينه، وأعلن فيهم مبادئه وتعاليمه ولم يبق في مكة شاب ولا شابة، ولا شيخ ولا عجوز إلا وقد عرفه وعرف ما يقصده ويهدف إليه، وعارضت قريش هذا الدين الجديد، وأصرت على ألا يكون له مكان في مكة غير أن معارضتها هذه قد كانت سهلة ولينة في ابتداء الدعوة ظنًّا منها بأنها سرعان ما يخفت شعاعها، وتنطفئ شمعتها، وأن النبي لن يكون إلا كغيره من أمثال قس بن ساعدة، وعمرو بن زيد بن نفيل، وغيرهما ممن نبذ عبادة الأصنام والأوثان، ثم لم يكن لهما عميقُ أثر، ولا كبير خطر، غير أن هذه المعارضة ما لبثت أن اشتعلت وتضرمت وبلغت من القسوة والعنف الحد الذي لا يُحتمَل، والثقل الذي لا يطاق؛ وذلك لأسباب:
أحدها: إصرار النبي عليه الصلاة والسلام على دعوته، ودخول الرجال والنساء فيها، رجلاً إثر رجل، وامرأة إثر امرأة.
وثانيها: ازدراؤه عليه الصلاة والسلام أحلام القرشيين، واحتقاره لدين آبائهم وأجدادهم.
وثالثها: اتخاذه مركزًا دائمًا لدعوته، وهو دار الأرقم بن أبي الأرقم، واجتماع أصحابه حوله فيها بعد أن كان يلقاهم في الشِّعَاب، وينتقل إليهم من بيت إلى بيت.
موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم:
أخذت قريش ترميه بالجنون، وتنعته بالشعر والكهانة، وتصف ما ينزل عليه من القرآن بأنه أساطير الأولين، وتنسبها إلى رجل أعجمي، وتزعم أنه هو الذي يمليها عليه، وهو الذي يُعلِّمه إياها. ولا يكفيها هذا الإيذاء الكلامي، فتُلْقي الأشواك في طريقه، وتضع الأقذار بين كتفيه وهو ساجد تجاه الكعبة لربه، ويعتدي عليه بعض رجالها بالخنق والضرب، ولأن عمه أبا طالب وعشيرته من بني هاشم وبني المطلب قد كانت تسانده وتقف إلى جانبه، فإن قريشًا لم تستطع قتله، ولم تجرؤ على إغراء أحد سفهائها بذلك خوفًا من اشتعال الحرب الأهلية في مكة، وانقسام العشائر والبطون بين مؤيد لهذه الجريمة ومعارض فيها، ولهذا فإنها اضْطُرت إلى الذهاب إلى أبي طالب تطلب منه كف محمد عن عيب الآلهة واحتقار دين الآباء والأجداد، وتعرض عليها أجمل شبابها وأروعهم حُسنًا ليأخذه ويخلي بينهم وبين النبي ليقتلوه، ويرفض أبو طالب كف ابن أخيه ويرفض ضم الشاب الذي عرضوه عليه إلى عشيرته، وتُضْطر قريش إلى الوعيد والتهديد، ويستدعي أبو طالب النبي ويقص عليه ما جرى وينصحه بالكف والمهادنة، ويرفض النبي ويؤكد له أنه مُصِرٌّ على الثبات على دعوته، والمضي في طريقه، ويقول له: ((يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركْتُ هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهْلِكَ دونه)).
ولا تجد قريش - وقد رأت صلابة النبي ووقوف عشيرته إلى جواره - إلا أن تجرب معه سلوكًا آخر، لعلها تنجح فيما أخفق فيه سلوكها الأول، ويتولى ذلك منها الوليد بن المغيرة، فهو من كبار أعيانها، وهو إذا قال شيئًا كان حريًّا أن يحققه ويفيَ به.
ويذهب الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول له بعد أن يحدثه عما كان منه من عيب آلهتهم وتفريق جماعتهم: يا ابن أخي إن كنت إنما أردْتَ بما جئْتَ به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنْتَ إنما تريد الملك، ملكناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كان ما بك رَئِيٌّ من الجن، داويناك حتى يتم برؤك وتذهب علتك، وأجابه النبي عليه الصلاة والسلام: ((لقد سمعْتُ ما قلت، فاسمع مني ما أقول، وقرأ عليه قوله تعالى: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 1 - 6].
وتهز هذه الآيات قلب الوليد، وتثير مشاعره وخواطره، ويذهب إلى قريش في نواديها، ويراه القوم، فيقول بعضهم لبعض: والله لقد عاد الوليد إلينا بوجهٍ غيرِ الوجه الذي ذهب به إلى محمد، وتتحقق فِراسة القوم، فما يكاد الوليد يدنو منهم حتى يقول: والله، لقد جئتكم من عند محمد بحديث عجب؛ تقولون: إنه شاعر، فهل رأيتموه يقول شعرًا قطُّ، وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن قط، وتثور ثائرة القوم، ويقولون: فما يقول إذن يا أبا المغيرة؟ ويجيب أبو المغيرة: لقد سمعْتُ منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لَمُثْمِر، وإن أدناه لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه.
ويتميز القوم من الغيظ، ويقول بعضهم لبعض: صَبَأَ - والله - الوليد، وسحره محمد بخلابته وحلاوة منطقه، ويخشى الرجل على مكانته ومنزلته فيفكر ويُقَدِّر ويُدْبِر ويستكبر، ويقول: أتعرفون ما محمد؟ إنه ساحر يُفَرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الابن وأبيه، وبين المرء وعشيرته. وتخفق هذه الخطة تمامًا كما أخفقت الخطة الأولى، وتلجأ قريش إلى الإمعان في تحدي محمد عليه الصلاة والسلام ومطالبته بالمستحيل، وتجعله شرطًا لازمًا للانقياد له، والدخول في دينه، ويحكي القرآن الكريم هذه الشروط الغريبة فيقول: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 90 - 94].
ولا تقنع قريش بهذا الجواب، ولا تنفكُّ تطالب محمدًا عليه الصلاة والسلام بالمزيد من الخوارق والآيات، فالرسول يجب - في رأيها - أن يكون من الملائكة، فإن لم يكن من بشريته بُدٌّ، فيجب أن يكون معه ملك يعاونه، ويقف إلى جانبه، ويجيب القرآن الكريم عن هذه الأسئلة بالحجة والموعظة الحسنة، ويؤكد أن قريشًا لن تؤمن، ولو جاءها محمد بما تطالب به من الآيات ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 109] وإذا كان ذلك كذلك، كان التمادي في المناقشة ضربًا من العبث، ولَوْنًا من اللهو واللعب.
موقفهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم:
لم يقتصر إيذاء قريش وعَنَتُها على محمد عليه الصلاة والسلام وحده، وإنما شمل أصحابه لا سيما الموالي والرقيق الذين لم يكن لهم من يشد أزرهم، أو يقف إلى جانبهم؛ فقد عُذِّب هؤلاء وأولئك بالنار، وأُلْهِبَتْ ظهورهم بالسياط، ووُضِعَتِ الصخور على بعضهم، وتُرِكوا في هواجر مكة تحت أشعة الشمس الكاوية ولهبها المميت، وأنت إذا تصفحْتَ ما سجله التاريخ عن بلال بن رباح، وياسر وزوجته سمية وابنه عمار، رأيت ألوانًا من القسوة يتقطع لها الكبد وتشيب من هولها الرؤوس، وحتى الأحرار الذين كانت تحميهم عشائرهم، وتقف إلى جوارهم بيوتُهُم وبطونُهُم، لم يسلموا من الأذى؛ فقد كان منهم من أَدْمَت القيود يديه ورجليه، وكان منهم من حُبِس وحِيلَ بينه وبين رؤية أشعة الشمس وأضواء النهار، وكان هؤلاء الأبطال يأتون النبي عليه الصلاة والسلام، أو كان يراهم وهم يعذبون، فينصحهم ويوصيهم بالصبر والاحتمال، ويتلو عليهم ما نزل به الوحي إليه من أنباء الغابرين وقصص الأنبياء والمرسلين، وكيف أوذي رسل الله، وكيف صبروا على ما كذبوا حتى جاءهم النصر، وخلق لهم الله اليسر من العسر؟
لماذا وقفت قريش هذا الموقف؟
وقد تتساءل وأنت تطالع هذه السطور، لماذا وقفَتْ قريش من محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه هذا الموقف؟ ولماذا عارضته وإياهم هكذا في قسوة؟ وهل كان ذلك لأنهم كانوا على يقين من كذب محمد وافتياته على ربه بادعائه الوحي منه إليه؟
والجواب أن قريشًا لم تكن ترتاب في صدق محمد عليه الصلاة والسلام، ولا كان يخامرها الشك في نُبْل مبادئه وسمو تعاليمه، وإنما دفَعَتْها إلى موقفها هذا منه ومن أصحابه أسبابٌ:
أحدها: أن مكانتها في العرب ومنزلتها عندهم قد كانت مرتبطة بسدانتها للبيت وقيامها على رعاية الأوثان والأصنام المنصوبة حوله، فإذا عدلت عن الوثنية التي يدين بها العرب إلى التوحيد الذي يدعو إليه محمد، زالت هذه المكانة، وتلاشت أو ضعفت تلك المنزلة، وأصبحت كغيرها من القبائل التي تقاسمها الحياة في بوادي شبه الجزيرة وحواضرها.
وثانيها: أن مكة كما يحكي القرآن الكريم وادٍ غير ذي زرع، وأن الحياة فيها قائمة على دعامتين:
إحداهما: ما يجلبه إليها الحجيج معهم من الهدايا والسلع.
وثانيتهما: هذه التجارة التي احترفتها قريش والتي كانت ترتحل بقوافلها إلى الشام مرة وإلى اليمن أخرى، ولا جدال في ارتباط هذه الحياة بوثنية العرب وما تقدسه من الآلهة والأرباب المنصوبة حول الكعبة، فهي إنما تحج إليها، وهي إنما تحمي تجارة قريش وتكف عداوتها عنها من أجلها، فإذا اعتنقت قريش الإسلام ونبذت الأوثان والأصنام، بارت التجارة وجفت موارد العيش في مكة.
وسبب ثالث لا سبيل إلى تجاهله، وهو أن قريشًا قد أحاطت نفسها بهالة من الإجلال والقدسية، وأصدرت من أجل هذا إجراءات لدعم هذه العظمة والتمكين لها، منها أنها لا تتجاوز في حجها الحرم إلى الحل، ولهذا فلم تكن تقف بعرفة، ولا كانت تفيض منها إلى المزدلفة، وكان ذلك فرضًا على جميع القبائل، ومنها أنها لا تدخل بيتًا من شعر، ولا تستظل بقبة من أدم، ومنها أن غيرها من عمار البيت والقاصدين إليه لا يأكلون طعامًا جاؤوا به معهم من الحل، والأمر كذلك بالنسبة للثياب، فلا يجوز لأحد منهم أن يلبس ثوبا جاء به من الحل حتى ولو اضطر إلى أن يطوف بالبيت عريانًا، ولا مراء في أن المساواة التي جاء بها محمد تبطل هذه كله وتقضي عليه، وتجعل قريشًا وغيرها سواء في شعائر الحج ومناسكه، من أجل هذه الأسباب وغيرها عارضت قريش محمدًا، وأمعنت في تحديه، وهي لا تشك في صدقه وأمانته، ولا في تَنَبُّئِهِ من قِبَل ربه وأنت تجد هذا واضحًا في قوله تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14] وقوله تعالى ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
فقد أعلنت هذه الآيات أن قريشًا على يقين بأن ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام هو الحق، وأن موقفها الذي اتخذته منه قد كانت مدفوعة إليه بسببين:
أحدهما: الظلم.
والثاني: العلو.
وقد مر بك كيف ظلمَتْ قريش العرب بالإجراءات التي اتخذتها، وكيف تعالت عليهم بمكانها من الحرم وسدانتها للبيت وقيامها برعاية ما حوله من الأوثان والأصنام.
أحدهما: أن الإسلام قد كان على النقيض مما كان عليه العرب في مكة وفي غيرها من شتى أنحاء الجزيرة، كان يدعو إلى وحدانية الله وكانوا وثنيين ينحتون آلهتهم من الحجر، ويصنعونها من الشجر. وكان يدعو إلى الحرية والمساواة، وكانوا بُغَاةً يظلم بعضهم بعضًا ويعلو بعضهم على بعض، وكان يدعو إلى الحق والفضيلة، وكانوا مقلدين لا يَرِيمون [أي: لا يبرحون] عما كان عليه الآباء والأجداد ولو كان موغِلاً في الشر ومرتطمًا في الرذيلة.
وليس من المعقول - والقوم هكذا - أن يجابههم محمد عليه الصلاة والسلام بدينه الجديد من غير ترتيب ولا تمهيد.
وثانيهما: أن التعصب القَبَلي قد كان متأصلاً في نفوس هؤلاء الناس، وأن القبيلة قد كانت تنصر أفرادها ظالمين ومظلومين وجائرين ومنصفين، وأن محمدًا إذا أفلح في إقناع أفرادٍ مِنْ بطون قريش وبيوتاتها بالانقياد له، والوقوف إلى جانبه، فقد أَمِنَ على دينه من الوأْد، وأمن على أنصاره وأصحابه من الهلاك والقتل.
وهذا هو ما كان؛ فقد عرض صلوات الله وسلامه عليه دينَهُ على أبي بكر، وعلى رجالٍ غيرِهِ من العشائر والبطون، ولم تمض هذه المرحلة السرية حتى كان قد دخل في دينه أفرادٌ من بني عبدمناف وبني زهرة، وبني تيم، وبني عدي، وغيرهم، وأصبح من الصعب على هؤلاء البطونِ خلعُ هؤلاء الرجال أو قتلهم، وأصبح من الصعب عليها كذلك اجتثاثُ شجرة الإسلام، وقد أورقت وأثمرت في قلوبهم.
ولم يكن هذا التخطيط من تدبير محمد عليه الصلاة والسلام وحده، ولا كان ثمرةً لخبرته الواسعة بأحوال العرب المختلفة في البوادي والحواضر، وإنما كان تنظيمًا أراده الله، وتولى القرآن متابعة تحقيقه وتنفيذه.
وقد مر بك كيف أن المرحلة السرية للدعوة إلى الإسلام قد بدأت بآيتين هما قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].
وكما بدأت هذه المرحلة بآيتين، فقد بدأت المرحلة الجهرية بآيتين كذلك، وهما قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] وقوله: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94].
ففي الآية الأولى يأمر الله عز وجل محمدًا بإنذار عشيرته، وهم بنو عبد المطلب وبنو هاشم.
وفي الآية الثانية يأمره بإنذار أم القرى ومَنْ حولَها وجميع الناس من بدوٍ وحضر، وعرب وعجم، وواضح من هذين الأمرين المتتاليين أن الدعوة الجهرية قد سارت عبر مرحلتين:
أولاهما: دعوة أقارب النبي عليه الصلاة والسلام وعشيرته.
والثانية: دعوة من سواهم من قريش وغيرهم.
فالسر في هذا هو أن التعصُّب القبلي قد كان جزءًا من الطبيعة العربية، أو كان عَرَضًا لازمًا لها، وكان يقوى ويشتد كلما تقاربت الأنساب أو تدانت، وكأنه يقوى ويضعُف كلما تباينت أو تباعدت، وعلى هذا الأساس، فقد كان في العشائر أقوى منه في البطون، وكان في هذه وتلك أقوى منه في القبائل؛ الأمر الذي يتطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالجهر إلى عشيرته؛ فإن دخلت في دينه فذلك ما يرجوه ويحرص عليه، وإلا وقفَتْ إلى جانبه تمنع عنه الأذى، وتَحُول بينه وبين الشر والمكروه.
ويقول المؤرخون وكُتَّابُ السِّيَر: إن النبي عليه الصلاة والسلام عندما هبط عليه الوحي بالآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] صنع طعامًا ودعا إليه أقاربه، وقال لهم: ((إن الرائد لا يَكْذِبُ أهله، والله لو كذبْتُ الناسَ جميعًا، ما كذبتكم، ولو غررت الناسَ جميعًا، ما غررتكم، والله إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبْعَثُنَّ كما تستيقظون، ولتحاسَبُنَّ بما تعملون، وإنها لجنةٌ أبدًا، أو لنارٌ أبدًا)).
وأن هذه الخطبة قد أغضبت عمه أبا لهب، وأغرَتْه بالعبث به والسخرية منه.
وسواء أكانت هذه المرة هي التي وجَّه فيها النبي عليه الصلاة والسلام الدعوةَ إلى أقاربه وحدها، أم أنه قد دعاهم مرة أخرى في اليوم التالي، فإنهم جميعًا قد صمتوا، ولم يُجِبْه منهم إلى دينه أحد، اللهم إلا ما كان من أبي لهب الذي هاج وماج، وقال ما قال.
ويقول المؤرخون وكُتَّابُ السِّيَر كذلك: إنه عليه الصلاة والسلام عندما هبط عليه الوحي بالآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، ذهب إلى الصفا وجعل ينادي العشائر والبطون؛ كلٌّ باسمه أو بلقبه المميز له، حتى إذا أقبل القوم إليه والتفُّوا حوله قال لهم: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغِير عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟)) قالوا: "نعم، ما جرَّبنا عليك كذبًا".
قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، وأثارت هذه الكلمات حفائظ القوم، وأهاجت كوامن الغضب فيهم، وقال له أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟ ووجَّهَ وجهه إلى الناس، وقال: يا معشر قريش، خذوا على يديه قبل أن يجتمع العرب عليه، فإن أسلمتموه ذللتم، وإن منعتموه قُتِلْتم، ولكن الله تبارك وتعالى رد عليه، ونزل الوحي بقوله تعالى: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1 - 3] وهكذا وصفه الوحي بهذه الآيات البينات التي كانت بمثابة التشجيع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما كانت بشارة بأن الله سينصر الحق، ويتم نوره ولو كره المشركون.
وهكذا جهر النبي بالدعوة إلى دينه، وأعلن فيهم مبادئه وتعاليمه ولم يبق في مكة شاب ولا شابة، ولا شيخ ولا عجوز إلا وقد عرفه وعرف ما يقصده ويهدف إليه، وعارضت قريش هذا الدين الجديد، وأصرت على ألا يكون له مكان في مكة غير أن معارضتها هذه قد كانت سهلة ولينة في ابتداء الدعوة ظنًّا منها بأنها سرعان ما يخفت شعاعها، وتنطفئ شمعتها، وأن النبي لن يكون إلا كغيره من أمثال قس بن ساعدة، وعمرو بن زيد بن نفيل، وغيرهما ممن نبذ عبادة الأصنام والأوثان، ثم لم يكن لهما عميقُ أثر، ولا كبير خطر، غير أن هذه المعارضة ما لبثت أن اشتعلت وتضرمت وبلغت من القسوة والعنف الحد الذي لا يُحتمَل، والثقل الذي لا يطاق؛ وذلك لأسباب:
أحدها: إصرار النبي عليه الصلاة والسلام على دعوته، ودخول الرجال والنساء فيها، رجلاً إثر رجل، وامرأة إثر امرأة.
وثانيها: ازدراؤه عليه الصلاة والسلام أحلام القرشيين، واحتقاره لدين آبائهم وأجدادهم.
وثالثها: اتخاذه مركزًا دائمًا لدعوته، وهو دار الأرقم بن أبي الأرقم، واجتماع أصحابه حوله فيها بعد أن كان يلقاهم في الشِّعَاب، وينتقل إليهم من بيت إلى بيت.
موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم:
أخذت قريش ترميه بالجنون، وتنعته بالشعر والكهانة، وتصف ما ينزل عليه من القرآن بأنه أساطير الأولين، وتنسبها إلى رجل أعجمي، وتزعم أنه هو الذي يمليها عليه، وهو الذي يُعلِّمه إياها. ولا يكفيها هذا الإيذاء الكلامي، فتُلْقي الأشواك في طريقه، وتضع الأقذار بين كتفيه وهو ساجد تجاه الكعبة لربه، ويعتدي عليه بعض رجالها بالخنق والضرب، ولأن عمه أبا طالب وعشيرته من بني هاشم وبني المطلب قد كانت تسانده وتقف إلى جانبه، فإن قريشًا لم تستطع قتله، ولم تجرؤ على إغراء أحد سفهائها بذلك خوفًا من اشتعال الحرب الأهلية في مكة، وانقسام العشائر والبطون بين مؤيد لهذه الجريمة ومعارض فيها، ولهذا فإنها اضْطُرت إلى الذهاب إلى أبي طالب تطلب منه كف محمد عن عيب الآلهة واحتقار دين الآباء والأجداد، وتعرض عليها أجمل شبابها وأروعهم حُسنًا ليأخذه ويخلي بينهم وبين النبي ليقتلوه، ويرفض أبو طالب كف ابن أخيه ويرفض ضم الشاب الذي عرضوه عليه إلى عشيرته، وتُضْطر قريش إلى الوعيد والتهديد، ويستدعي أبو طالب النبي ويقص عليه ما جرى وينصحه بالكف والمهادنة، ويرفض النبي ويؤكد له أنه مُصِرٌّ على الثبات على دعوته، والمضي في طريقه، ويقول له: ((يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركْتُ هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهْلِكَ دونه)).
ولا تجد قريش - وقد رأت صلابة النبي ووقوف عشيرته إلى جواره - إلا أن تجرب معه سلوكًا آخر، لعلها تنجح فيما أخفق فيه سلوكها الأول، ويتولى ذلك منها الوليد بن المغيرة، فهو من كبار أعيانها، وهو إذا قال شيئًا كان حريًّا أن يحققه ويفيَ به.
ويذهب الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول له بعد أن يحدثه عما كان منه من عيب آلهتهم وتفريق جماعتهم: يا ابن أخي إن كنت إنما أردْتَ بما جئْتَ به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنْتَ إنما تريد الملك، ملكناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كان ما بك رَئِيٌّ من الجن، داويناك حتى يتم برؤك وتذهب علتك، وأجابه النبي عليه الصلاة والسلام: ((لقد سمعْتُ ما قلت، فاسمع مني ما أقول، وقرأ عليه قوله تعالى: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 1 - 6].
وتهز هذه الآيات قلب الوليد، وتثير مشاعره وخواطره، ويذهب إلى قريش في نواديها، ويراه القوم، فيقول بعضهم لبعض: والله لقد عاد الوليد إلينا بوجهٍ غيرِ الوجه الذي ذهب به إلى محمد، وتتحقق فِراسة القوم، فما يكاد الوليد يدنو منهم حتى يقول: والله، لقد جئتكم من عند محمد بحديث عجب؛ تقولون: إنه شاعر، فهل رأيتموه يقول شعرًا قطُّ، وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن قط، وتثور ثائرة القوم، ويقولون: فما يقول إذن يا أبا المغيرة؟ ويجيب أبو المغيرة: لقد سمعْتُ منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لَمُثْمِر، وإن أدناه لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه.
ويتميز القوم من الغيظ، ويقول بعضهم لبعض: صَبَأَ - والله - الوليد، وسحره محمد بخلابته وحلاوة منطقه، ويخشى الرجل على مكانته ومنزلته فيفكر ويُقَدِّر ويُدْبِر ويستكبر، ويقول: أتعرفون ما محمد؟ إنه ساحر يُفَرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الابن وأبيه، وبين المرء وعشيرته. وتخفق هذه الخطة تمامًا كما أخفقت الخطة الأولى، وتلجأ قريش إلى الإمعان في تحدي محمد عليه الصلاة والسلام ومطالبته بالمستحيل، وتجعله شرطًا لازمًا للانقياد له، والدخول في دينه، ويحكي القرآن الكريم هذه الشروط الغريبة فيقول: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 90 - 94].
ولا تقنع قريش بهذا الجواب، ولا تنفكُّ تطالب محمدًا عليه الصلاة والسلام بالمزيد من الخوارق والآيات، فالرسول يجب - في رأيها - أن يكون من الملائكة، فإن لم يكن من بشريته بُدٌّ، فيجب أن يكون معه ملك يعاونه، ويقف إلى جانبه، ويجيب القرآن الكريم عن هذه الأسئلة بالحجة والموعظة الحسنة، ويؤكد أن قريشًا لن تؤمن، ولو جاءها محمد بما تطالب به من الآيات ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 109] وإذا كان ذلك كذلك، كان التمادي في المناقشة ضربًا من العبث، ولَوْنًا من اللهو واللعب.
موقفهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم:
لم يقتصر إيذاء قريش وعَنَتُها على محمد عليه الصلاة والسلام وحده، وإنما شمل أصحابه لا سيما الموالي والرقيق الذين لم يكن لهم من يشد أزرهم، أو يقف إلى جانبهم؛ فقد عُذِّب هؤلاء وأولئك بالنار، وأُلْهِبَتْ ظهورهم بالسياط، ووُضِعَتِ الصخور على بعضهم، وتُرِكوا في هواجر مكة تحت أشعة الشمس الكاوية ولهبها المميت، وأنت إذا تصفحْتَ ما سجله التاريخ عن بلال بن رباح، وياسر وزوجته سمية وابنه عمار، رأيت ألوانًا من القسوة يتقطع لها الكبد وتشيب من هولها الرؤوس، وحتى الأحرار الذين كانت تحميهم عشائرهم، وتقف إلى جوارهم بيوتُهُم وبطونُهُم، لم يسلموا من الأذى؛ فقد كان منهم من أَدْمَت القيود يديه ورجليه، وكان منهم من حُبِس وحِيلَ بينه وبين رؤية أشعة الشمس وأضواء النهار، وكان هؤلاء الأبطال يأتون النبي عليه الصلاة والسلام، أو كان يراهم وهم يعذبون، فينصحهم ويوصيهم بالصبر والاحتمال، ويتلو عليهم ما نزل به الوحي إليه من أنباء الغابرين وقصص الأنبياء والمرسلين، وكيف أوذي رسل الله، وكيف صبروا على ما كذبوا حتى جاءهم النصر، وخلق لهم الله اليسر من العسر؟
لماذا وقفت قريش هذا الموقف؟
وقد تتساءل وأنت تطالع هذه السطور، لماذا وقفَتْ قريش من محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه هذا الموقف؟ ولماذا عارضته وإياهم هكذا في قسوة؟ وهل كان ذلك لأنهم كانوا على يقين من كذب محمد وافتياته على ربه بادعائه الوحي منه إليه؟
والجواب أن قريشًا لم تكن ترتاب في صدق محمد عليه الصلاة والسلام، ولا كان يخامرها الشك في نُبْل مبادئه وسمو تعاليمه، وإنما دفَعَتْها إلى موقفها هذا منه ومن أصحابه أسبابٌ:
أحدها: أن مكانتها في العرب ومنزلتها عندهم قد كانت مرتبطة بسدانتها للبيت وقيامها على رعاية الأوثان والأصنام المنصوبة حوله، فإذا عدلت عن الوثنية التي يدين بها العرب إلى التوحيد الذي يدعو إليه محمد، زالت هذه المكانة، وتلاشت أو ضعفت تلك المنزلة، وأصبحت كغيرها من القبائل التي تقاسمها الحياة في بوادي شبه الجزيرة وحواضرها.
وثانيها: أن مكة كما يحكي القرآن الكريم وادٍ غير ذي زرع، وأن الحياة فيها قائمة على دعامتين:
إحداهما: ما يجلبه إليها الحجيج معهم من الهدايا والسلع.
وثانيتهما: هذه التجارة التي احترفتها قريش والتي كانت ترتحل بقوافلها إلى الشام مرة وإلى اليمن أخرى، ولا جدال في ارتباط هذه الحياة بوثنية العرب وما تقدسه من الآلهة والأرباب المنصوبة حول الكعبة، فهي إنما تحج إليها، وهي إنما تحمي تجارة قريش وتكف عداوتها عنها من أجلها، فإذا اعتنقت قريش الإسلام ونبذت الأوثان والأصنام، بارت التجارة وجفت موارد العيش في مكة.
وسبب ثالث لا سبيل إلى تجاهله، وهو أن قريشًا قد أحاطت نفسها بهالة من الإجلال والقدسية، وأصدرت من أجل هذا إجراءات لدعم هذه العظمة والتمكين لها، منها أنها لا تتجاوز في حجها الحرم إلى الحل، ولهذا فلم تكن تقف بعرفة، ولا كانت تفيض منها إلى المزدلفة، وكان ذلك فرضًا على جميع القبائل، ومنها أنها لا تدخل بيتًا من شعر، ولا تستظل بقبة من أدم، ومنها أن غيرها من عمار البيت والقاصدين إليه لا يأكلون طعامًا جاؤوا به معهم من الحل، والأمر كذلك بالنسبة للثياب، فلا يجوز لأحد منهم أن يلبس ثوبا جاء به من الحل حتى ولو اضطر إلى أن يطوف بالبيت عريانًا، ولا مراء في أن المساواة التي جاء بها محمد تبطل هذه كله وتقضي عليه، وتجعل قريشًا وغيرها سواء في شعائر الحج ومناسكه، من أجل هذه الأسباب وغيرها عارضت قريش محمدًا، وأمعنت في تحديه، وهي لا تشك في صدقه وأمانته، ولا في تَنَبُّئِهِ من قِبَل ربه وأنت تجد هذا واضحًا في قوله تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14] وقوله تعالى ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
فقد أعلنت هذه الآيات أن قريشًا على يقين بأن ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام هو الحق، وأن موقفها الذي اتخذته منه قد كانت مدفوعة إليه بسببين:
أحدهما: الظلم.
والثاني: العلو.
وقد مر بك كيف ظلمَتْ قريش العرب بالإجراءات التي اتخذتها، وكيف تعالت عليهم بمكانها من الحرم وسدانتها للبيت وقيامها برعاية ما حوله من الأوثان والأصنام.