حكاية ناي ♔
02-05-2024, 01:54 PM
بين يدي ذكرى مولد الرسول الكريم التي تطالعنا مع شهر ربيع الأول، نستعرض عملية البناء الحضاري التي قام بها الإسلام، فأنشأ دولة، وصنع حياة، ووضع منهجًا ربانيًّا، وجد الإنسان فيه ما يلائم طبيعته، وينسجم مع فطرته، ويعانق أشواقه المتسامية في طلب المثل العليا، والحياة المستقرة الآمنة، وهذا يقتضي منا أن نبحث عن البيئة التي نبت فيها الإسلام، وعن الدولة التي نهضت على أساس من تعاليمه السمحة التي احتضنتها تلك البيئة الذكية، وتفاعلت معها في صدق وإخلاص.
1 - بيئة:
لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الفريق الذي حمل عبء المبادرة في الدعوة الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نبت في فراغ خلا من المعنويات البانية، إننا بذلك نظلم هذه البيئة التي أصبحت بعد فترة وجيزة من نزول الرسالة حقلاً خصبًا لظهور الرواد العظام من صناع الحضارة الإسلامية، وما كان لذلك أن يتم بهذه السرعة على خواء.
وإنه لمن السذاجة الفكرية أن نستهين باحتفاء العربي بالشعر ونقده، والاحتفال به في الأسواق، أو أن نقلل من شأن صفات إنسانية راقية كانت في المجتمع العربي؛ مثل: الكرم، والغيرة على العِرض، والإحساس بالغير، في حماية الجار، والنجدة والإيثار... إلخ، وقد أُثِر عن العرب أنهم قدَّروا في الرسول العظيم قبل بِعثته صِدْقَه وأمانتَه؛ فلقبوه بالصادق الأمين، ولا شك أنها معنويات تتطلب استعدادًا فطريًّا عاليًا يجب ألا يخفيه المظهر الفقير في المقتنيات وضرورات الحياة، وهي معنويات تُباعد بين العرب وبين البدائية؛ ذلك أن البدائية ترتبط بالمادية الحسية التي تربط صاحبها بمطالب الحياة اليومية في مجال فردي أنوي، لا تؤدي بالنفس إلى الشعور بالآخرين إلا بمقدار ما يصارعهم ويجالدهم من أجل قدر من القوت، قلَّ أو كثر؛ لارتباطه ارتباطًا فصيليًّا بعالَم الحيوان.
وهكذا نجد أن هذه المعنويات الراقية التي أُثِرَت عن العرب قد أهَّلَتهم لأن يكونوا بيئة صالحة لظهور النبوة المحمدية؛ فالذهنية العامة كانت في مستوى قادر على تحمل المسؤولية تجاه رسالة الإسلام والدعوة إليه، وهذا لا يدعونا إلى الدهشة أمام مظاهر العناد التي جُوبِهَت بها الدعوة في نشأتها وتطورها، والتي بلغت درجة الحرب والقتال في عدة مواطن، فإن المعروف نفسيًّا أن درجة الذكاء العالية كثيرًا ما تمنع من الاستجابة السريعة بقدر ما تدعو إلى التروِّي الذي قد يصل إلى حد العداء، وفي (البيان والتبيين) يقول الجاحظ: "وذكر الله عز وجل لنبيه عليه السلام حال قريش في بلاغة الألسنة، واللدد عند الخصومة"، فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ [الأحزاب: 19]، وقال: ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، ولكن ذلك ينقلب كثيرًا إلى اعتناق متفانٍ عند الاقتناع والإيمان، ونجد هذا في صور عديدة في إيمان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، من كل من آمن بالدعوة بعد أن ملأت عقله ونفسه وبهرت ذكاءه، وإن من يقرأ عن المحاربين في مواقع الدفاع عن العقيدة لَيَرى العجب في نماذج المستشهدين في سبيلها، وقد بلغوا درجة عالية من التجرد منقطع النظير، يقوم عليه الصغير والكبير، ولا حصر للشواهد في هذا المجال، ويكفينا أن نسوق من بدرٍ قولَ عبدالرحمن بن عوف: "إني لفي الصف يوم بدر إذ التفَتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلْتُ: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مِثْله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء"؛ (البخاري).
وروى أحمد أن المشركين لما دنوا يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض! قال: ((نعم))، قال: بَخٍ بخ، قال رسول الله: ((وما يحملك على قول: بخٍ بخ؟))، قال: لا والله، إلا رجاء أن أكون من أهلها! قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حَيِيت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتَلهم حتى قُتِلَ رضي الله عنه.
ب- دولة:
من هذه البيئة الذكية نبعت الانطلاقة الرائدة، في بناء حضاري جديد لعالم حائر، وبدأت ككيان اجتماعي له شكل الحكومة الكاملة، بالرحلة المهاجرة من مكة إلى المدينة ليلة الهجرة، ومن خلفها المطاردون تشحذهم عوامل متأججة، منها الشرك الذي لم يكن عقيدة بقدر ما كان اقتصادًا يقوم على الاتِّجار في الآلهة والاستقطاب السياحي حول الكعبة - إذا جاز لنا أن نستعمل لغة العصر - بحكم قداستها، وهوى الناس إليها، والخوف من مستقبل متغير، لا يُدرَى مدى التغير فيه؟ ومن هنا كان انتصار هذه الهجرة في بلوغ غايتها المرسومة إرهاصًا قويًّا بشأن الدولة الجديدة في المدينة المنورة، والتي احتوت أهمَّ أجنَّةِ النمو لبناء الحضارات، في أي مكان، وفي كل زمان، وبجميع المقاييس، من هذه الأجنَّة الحية بعد الاستعداد الفطري الذي فصلته المقدمة:
1- حتمية النص الشرعي.
2- احترام مبادرات الرأي.
3- سيادة الإنسان.
أما النص الشرعي فهو الحَكَم الفاصل بين الدولة والرعية، ولا شيء يعلوه على الإطلاق؛ يقول الله تعالى في سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
بحيث تكون نصوص التشريع فوق الدولة، والاتجاهات اجتماعية كانت أو فردية، وهو طور حضاري متقدم جدًّا، وغاية ما تطمح إليه أشواق أمة على وجه الأرض في قديم العصور وحديثها؛ لأنه يحمل معنى حكم الأمة كلها، ويُنَحِّي كل شوائب الفِئَوية والأسرية والفردية بكل سلبياتها المتخلفة، وفي سورة المائدة يقول الله تعالى: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].
ونتجه إلى ممارسة الإنسان لوظائفه العليا التي فطره الله عليها، في التفكير، والمبادرة، والمجادلة، فنجد دولة متحررة من الخوف - أخطر أعداء الإنسان - ونراه عمليًّا حين تروي كتب التاريخ المعارضة بصيغة "قال رجل أو امرأة" من المسلمين، وتأتي العبارة مجابهة للخليفة دون رواية اسم الرجل أو المرأة؛ مما يدل على أنه تصرُّف مألوف ولا حرج فيه؛ لأنه لو كان شاذًّا أو في مجتمع متردد وَجِلٍ من ذِكر اسم الرجل أو المرأة، فالظاهرة الشاذة تُحفَظ لصاحبها، ومِن مشاعلِ عمرَ على الدرب القويم أنه كان يقول: "لا خير فيكم ما لم تقولوها، ولا خيرَ فيَّ ما لم أسمع"، وقد يكون من المفيد أن ندرك أثر غياب مثل هذه الممارسة في قول ابن خلدون في المقدمة: "إن الملك إذا كان قاهرًا باطشًا بالعقوبات، منقِّبًا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا فيه بالكذبِ والمكر والخديعة، فتخلَّقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية، بفساد النيات".
ومن النصوص التي لا يرقى إلى مستواها استشهاد، ولا حاجة بعدها إلى ذكر وقائع، وقد أصبحت ملكًا شائعًا للعامة قبل الخاصة: قول الله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، وقوله في وصف المؤمنين: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
وننتهي في آخر الحلقات إلى مركز الدائرة، وهي اعتبار الإنسان قيمة القِيم، ولا شيء يعلوه قدرًا في كوكبه الذي يعيش فيه؛ فكل ما فيه مسخَّر له، وجزء من مائدته أو رفاهيته أو خدمته، ولن تصل فلسفة مهما علا قدر الاجتهاد فيها إلى مستوى الوضوح الذي يجعل الإنسان محترمًا لذاته دون نظر إلى أي الصفات بعد الذات؛ مثل قول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
أرأينا شيئًا من جوانب التكوين لدولة المدنية؟
إنه بكل وضاءة، يعطي يسرًا من عبقرية دولة عظيمة، يقوم اتساعها وتجاوزها لمكانها على قدر نموها من داخلها، وهو عريض؛ فقد حولت الممارسات اليومية هذه المثاليات إلى سلوك خُلقي، ينزع إليه الفرد بالضمير، والجماعة بالمسؤولية، وحول كل قاعدة تتزاحم النصوص والحوادث، للدرجة التي تحقق ثراءً تكفينا منه الأقباس، لتحقيق الإشباع التاريخي من ناحية إعطاء ركائز وسوابق وأسس لنمو الأجيال المتتالية تقدُّمًا وتفوقًا، وانطلاقًا من القاعدة بأن الإنسان حيوان ذو تاريخ؛ لأنه ذو ذاكرة وبصيرة، وكل تجارِبه الذكية هي معالم مرشدة في مراحل حضارته على هذه الأرض الوعرة، والفضل أولاً وأخيرًا يعود إلى الإسلام؛ فهو الذي أنقذ حياة البشرية من التمزق والضياع، وهو الذي صقل مواهب الإنسان، ورباه على نهج القرآن، وصاغه صياغة فريدة، فأصبح خَلقًا جديدًا لا صلة بينه وبين نفسه الأولى، إلا في الجسم والشكل الظاهري، وهكذا كانت المدرسة المحمدية تضم بين أركانها الصحابة الكرام الذين حوَّلهم الإسلام إلى معجزات بهرت الدنيا، وتولت قيادة العالم، ونهضوا بتبعاتهم بكل قوة واقتدار، ومن هنا نرى أنه لما فارق الرسول الكريم هذه الحياة لم يحدث فراغ يزلزل البناء، ويُقَوِّض النظام، ولكن القيادات التي تولت الأمر بعده سدت الفراغ، وحفِظت التوازن، وظل الإيمان يتابع مسيرته، ويمضي إلى غايته، يهدي الخَلق إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
ومن هنا نجد المُسَوِّغ لضرورة النظرة المجددة إلى هذا التراث العظيم للاقتداء، واختصار جهودنا الإنسانية في مجال المحاولة والخطأ، وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
1 - بيئة:
لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الفريق الذي حمل عبء المبادرة في الدعوة الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نبت في فراغ خلا من المعنويات البانية، إننا بذلك نظلم هذه البيئة التي أصبحت بعد فترة وجيزة من نزول الرسالة حقلاً خصبًا لظهور الرواد العظام من صناع الحضارة الإسلامية، وما كان لذلك أن يتم بهذه السرعة على خواء.
وإنه لمن السذاجة الفكرية أن نستهين باحتفاء العربي بالشعر ونقده، والاحتفال به في الأسواق، أو أن نقلل من شأن صفات إنسانية راقية كانت في المجتمع العربي؛ مثل: الكرم، والغيرة على العِرض، والإحساس بالغير، في حماية الجار، والنجدة والإيثار... إلخ، وقد أُثِر عن العرب أنهم قدَّروا في الرسول العظيم قبل بِعثته صِدْقَه وأمانتَه؛ فلقبوه بالصادق الأمين، ولا شك أنها معنويات تتطلب استعدادًا فطريًّا عاليًا يجب ألا يخفيه المظهر الفقير في المقتنيات وضرورات الحياة، وهي معنويات تُباعد بين العرب وبين البدائية؛ ذلك أن البدائية ترتبط بالمادية الحسية التي تربط صاحبها بمطالب الحياة اليومية في مجال فردي أنوي، لا تؤدي بالنفس إلى الشعور بالآخرين إلا بمقدار ما يصارعهم ويجالدهم من أجل قدر من القوت، قلَّ أو كثر؛ لارتباطه ارتباطًا فصيليًّا بعالَم الحيوان.
وهكذا نجد أن هذه المعنويات الراقية التي أُثِرَت عن العرب قد أهَّلَتهم لأن يكونوا بيئة صالحة لظهور النبوة المحمدية؛ فالذهنية العامة كانت في مستوى قادر على تحمل المسؤولية تجاه رسالة الإسلام والدعوة إليه، وهذا لا يدعونا إلى الدهشة أمام مظاهر العناد التي جُوبِهَت بها الدعوة في نشأتها وتطورها، والتي بلغت درجة الحرب والقتال في عدة مواطن، فإن المعروف نفسيًّا أن درجة الذكاء العالية كثيرًا ما تمنع من الاستجابة السريعة بقدر ما تدعو إلى التروِّي الذي قد يصل إلى حد العداء، وفي (البيان والتبيين) يقول الجاحظ: "وذكر الله عز وجل لنبيه عليه السلام حال قريش في بلاغة الألسنة، واللدد عند الخصومة"، فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ [الأحزاب: 19]، وقال: ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، ولكن ذلك ينقلب كثيرًا إلى اعتناق متفانٍ عند الاقتناع والإيمان، ونجد هذا في صور عديدة في إيمان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، من كل من آمن بالدعوة بعد أن ملأت عقله ونفسه وبهرت ذكاءه، وإن من يقرأ عن المحاربين في مواقع الدفاع عن العقيدة لَيَرى العجب في نماذج المستشهدين في سبيلها، وقد بلغوا درجة عالية من التجرد منقطع النظير، يقوم عليه الصغير والكبير، ولا حصر للشواهد في هذا المجال، ويكفينا أن نسوق من بدرٍ قولَ عبدالرحمن بن عوف: "إني لفي الصف يوم بدر إذ التفَتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلْتُ: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مِثْله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء"؛ (البخاري).
وروى أحمد أن المشركين لما دنوا يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض! قال: ((نعم))، قال: بَخٍ بخ، قال رسول الله: ((وما يحملك على قول: بخٍ بخ؟))، قال: لا والله، إلا رجاء أن أكون من أهلها! قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حَيِيت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتَلهم حتى قُتِلَ رضي الله عنه.
ب- دولة:
من هذه البيئة الذكية نبعت الانطلاقة الرائدة، في بناء حضاري جديد لعالم حائر، وبدأت ككيان اجتماعي له شكل الحكومة الكاملة، بالرحلة المهاجرة من مكة إلى المدينة ليلة الهجرة، ومن خلفها المطاردون تشحذهم عوامل متأججة، منها الشرك الذي لم يكن عقيدة بقدر ما كان اقتصادًا يقوم على الاتِّجار في الآلهة والاستقطاب السياحي حول الكعبة - إذا جاز لنا أن نستعمل لغة العصر - بحكم قداستها، وهوى الناس إليها، والخوف من مستقبل متغير، لا يُدرَى مدى التغير فيه؟ ومن هنا كان انتصار هذه الهجرة في بلوغ غايتها المرسومة إرهاصًا قويًّا بشأن الدولة الجديدة في المدينة المنورة، والتي احتوت أهمَّ أجنَّةِ النمو لبناء الحضارات، في أي مكان، وفي كل زمان، وبجميع المقاييس، من هذه الأجنَّة الحية بعد الاستعداد الفطري الذي فصلته المقدمة:
1- حتمية النص الشرعي.
2- احترام مبادرات الرأي.
3- سيادة الإنسان.
أما النص الشرعي فهو الحَكَم الفاصل بين الدولة والرعية، ولا شيء يعلوه على الإطلاق؛ يقول الله تعالى في سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
بحيث تكون نصوص التشريع فوق الدولة، والاتجاهات اجتماعية كانت أو فردية، وهو طور حضاري متقدم جدًّا، وغاية ما تطمح إليه أشواق أمة على وجه الأرض في قديم العصور وحديثها؛ لأنه يحمل معنى حكم الأمة كلها، ويُنَحِّي كل شوائب الفِئَوية والأسرية والفردية بكل سلبياتها المتخلفة، وفي سورة المائدة يقول الله تعالى: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].
ونتجه إلى ممارسة الإنسان لوظائفه العليا التي فطره الله عليها، في التفكير، والمبادرة، والمجادلة، فنجد دولة متحررة من الخوف - أخطر أعداء الإنسان - ونراه عمليًّا حين تروي كتب التاريخ المعارضة بصيغة "قال رجل أو امرأة" من المسلمين، وتأتي العبارة مجابهة للخليفة دون رواية اسم الرجل أو المرأة؛ مما يدل على أنه تصرُّف مألوف ولا حرج فيه؛ لأنه لو كان شاذًّا أو في مجتمع متردد وَجِلٍ من ذِكر اسم الرجل أو المرأة، فالظاهرة الشاذة تُحفَظ لصاحبها، ومِن مشاعلِ عمرَ على الدرب القويم أنه كان يقول: "لا خير فيكم ما لم تقولوها، ولا خيرَ فيَّ ما لم أسمع"، وقد يكون من المفيد أن ندرك أثر غياب مثل هذه الممارسة في قول ابن خلدون في المقدمة: "إن الملك إذا كان قاهرًا باطشًا بالعقوبات، منقِّبًا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا فيه بالكذبِ والمكر والخديعة، فتخلَّقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية، بفساد النيات".
ومن النصوص التي لا يرقى إلى مستواها استشهاد، ولا حاجة بعدها إلى ذكر وقائع، وقد أصبحت ملكًا شائعًا للعامة قبل الخاصة: قول الله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، وقوله في وصف المؤمنين: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
وننتهي في آخر الحلقات إلى مركز الدائرة، وهي اعتبار الإنسان قيمة القِيم، ولا شيء يعلوه قدرًا في كوكبه الذي يعيش فيه؛ فكل ما فيه مسخَّر له، وجزء من مائدته أو رفاهيته أو خدمته، ولن تصل فلسفة مهما علا قدر الاجتهاد فيها إلى مستوى الوضوح الذي يجعل الإنسان محترمًا لذاته دون نظر إلى أي الصفات بعد الذات؛ مثل قول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
أرأينا شيئًا من جوانب التكوين لدولة المدنية؟
إنه بكل وضاءة، يعطي يسرًا من عبقرية دولة عظيمة، يقوم اتساعها وتجاوزها لمكانها على قدر نموها من داخلها، وهو عريض؛ فقد حولت الممارسات اليومية هذه المثاليات إلى سلوك خُلقي، ينزع إليه الفرد بالضمير، والجماعة بالمسؤولية، وحول كل قاعدة تتزاحم النصوص والحوادث، للدرجة التي تحقق ثراءً تكفينا منه الأقباس، لتحقيق الإشباع التاريخي من ناحية إعطاء ركائز وسوابق وأسس لنمو الأجيال المتتالية تقدُّمًا وتفوقًا، وانطلاقًا من القاعدة بأن الإنسان حيوان ذو تاريخ؛ لأنه ذو ذاكرة وبصيرة، وكل تجارِبه الذكية هي معالم مرشدة في مراحل حضارته على هذه الأرض الوعرة، والفضل أولاً وأخيرًا يعود إلى الإسلام؛ فهو الذي أنقذ حياة البشرية من التمزق والضياع، وهو الذي صقل مواهب الإنسان، ورباه على نهج القرآن، وصاغه صياغة فريدة، فأصبح خَلقًا جديدًا لا صلة بينه وبين نفسه الأولى، إلا في الجسم والشكل الظاهري، وهكذا كانت المدرسة المحمدية تضم بين أركانها الصحابة الكرام الذين حوَّلهم الإسلام إلى معجزات بهرت الدنيا، وتولت قيادة العالم، ونهضوا بتبعاتهم بكل قوة واقتدار، ومن هنا نرى أنه لما فارق الرسول الكريم هذه الحياة لم يحدث فراغ يزلزل البناء، ويُقَوِّض النظام، ولكن القيادات التي تولت الأمر بعده سدت الفراغ، وحفِظت التوازن، وظل الإيمان يتابع مسيرته، ويمضي إلى غايته، يهدي الخَلق إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
ومن هنا نجد المُسَوِّغ لضرورة النظرة المجددة إلى هذا التراث العظيم للاقتداء، واختصار جهودنا الإنسانية في مجال المحاولة والخطأ، وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].