حكاية ناي ♔
02-05-2024, 01:55 PM
روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)).
تستمد الأيام قيمتها من الأحداث التي تخالطها، ومن جلال الأعمال التي تقع فيها، ومن حق هذه الأيام التي تتجدد فيها نِعَمُ الله على عباده أن تكثُر فيها الطاعات، وأن يتقرب فيها المؤمنون إلى الله بأفضل القربات؛ شكرًا لله على سابغ فضله.
ومن هذه الأيام الخالدة يومُ ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويومُ إرساله للناس رحمة مهداة، ونعمة مسداة، فهذان اليومان من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسانية عامة، وعلى الأمة الإسلامية خاصة؛ ففيهما أشرقت الأرض بنور ربها، وبهما تحقق عز الدنيا وسعادة الآخرة، فقد سعد الوجود بسيد الوجود، وتتابعت آيات الوحي تتقاطر من السماء، كالغيث الذي أصاب أرضًا جديبة، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
وقد بيَّن الحديث الشريف أن هذه النعم الجليلة حدثت يوم الاثنين، فكانت مزيّة لهذا اليوم فضَّلَتْه على غيره من الأيام، وكان صيامه تكريمًا له، وتمجيدًا لما ارتبط به من هذه الذكريات الغالية، وقيامًا بمزيد من الطاعة فيه؛ شكرًا لله على أنْعُمِه.
رُوي من طريق عائشة وأبي هريرة وأسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام يوم الاثنين، ولما سئل عن ذلك قال: ((ذاك يوم وُلدْتُ فيه، وأُنزِلَتْ عليَّ فيه النبوة)) كما كان عليه الصلاة والسلام يجمع بين صيام الاثنين والخميس، ولما سئل عن ذلك قال فيما رواه عنه أبو هريرة: ((تُعرَضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وهكذا كان الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يُرَغِّب في صيام الأيام الفاضلة التي تتجدد فيها النِّعَم، وتشير إلى ذكريات يعتز بها دين الله، وذلك مِثْلُ صيام عاشوراء؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم ستًّا من شوال؛ فهو كصيام الدهر، ومن السُّنَّة صيام يوم عرفة مشارَكة للحجاج في يوم حجهم، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: ((يُكَفِّر السنة الماضية والباقية))؛ رواه مسلم.
ويصوم شهر الله المحرم، ويقول: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلم.
ويُرغِّب في صوم شعبان، وقد سأله أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، لَمْ أرَكَ تصوم من شهر من الشهور، ما تصوم من شعبان، قال: ((ذاك شهر يَغفُل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم))؛ رواه النسائي.
وكان يصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، فقد روى أبو داود والنسائي واللفظ له: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بهذه الأيام الثلاثة البيض، ويقول: ((هن صيام الشهر)).
ولا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد بجوف مكة يوم الاثنين عام الفيل سنة (571) ميلادية، والجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول، حتى لقد حكى بعضهم الاتفاق على هذا.
أما الخلاف فهو في تعيين ليلة الميلاد من هذا الشهر، والذي رجحه ابن إسحاق أنه ولد لثِنْتَيْ عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
فقد روى ابن هشام في سيرته قال: حدثنا زياد بن عبدالملك البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: وُلِد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل، ورواه ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس، وحكوا شهرته عند الجمهور.
وقد حقق صاحب كتاب تقويم العرب قبل الإسلام بالحساب الفلكي الدقيق أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد في يوم الاثنين 9 من ربيع الأول الموافق 20 أبريل سنة 571 مسيحية.
ولما كان اليوم السابع من ولادته صلى الله عليه وسلم، ذبح عنه جده عبدالمطلب، فأمر بجزور فنُحِرت، ودعا رجالاً من قريش فحضروا وطَعِموا، فلما علموا منه أنه أسمى الطفل محمدًا، سألوه: لِمَ رغبْتَ به عن أسماء قومه وآبائه؟
فقال: أردتُ أن يكون محمودًا في السماء وفي الأرض.
وقد نشأ عليه الصلاة والسلام نشأة طيبة كريمة، لم يخالط إثمًا، ولم يقارف ذنبًا، ولم يطعَمْ حرامًا، ولم يشرب خمرًا، ولم يسجد لصنم، ولكنه شب يكلؤه الله تعالى ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية؛ لِمَا يريد به من كرامته ورسالته، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تُدَنِّس الرجال تنزُّهًا وتكرُّمًا، ولم يُسَمَّ في قومه إلا بالأمين؛ لما جُمِعَ فيه من الأمور الصالحة، ولأن الأمانة كانت خُلُقًا راسخًا من أخلاقه العالية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّث عما كان الله يحفظه به في صغره، فقال: ((لقد رأيتُني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لَأُقْبِلُ معهم كذلك وأُدْبِرُ، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمةً وجيعةً: ثم قال: شُدَّ عليك إزارك، قال فأخذتُه وشددْتُه عليَّ، ثم جعلْتُ أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري عليَّ مِنْ بين أصحابي))[1].
وذكر البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما هممْتُ بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله فيهما، قلت لبعض فتيان مكة، ونحن رعاء غَنَمِ أهلِها: أبصِرْ لي غنمي حتى أدخل مكة فأَسْمُرَ فيها كما يَسْمُرُ الفتيان، فقال: بلى: فدخلت حتى جئت أول دار من دُورِها فسمعْتُ عزفًا بالغرابيل[2]، والمزامير، فجلست لأنظر فَغلبني النوم، فوالله ما أيقظني إلا مسُّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فسألني عما فعلْتُ، فأخبرته بالذي كان، ثم ذهبتُ ليلة أخرى فحدث لي مثل الذي حدث في المرة الأولى، فوالله ما هممْتُ ولا عُدْتُ بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته)).
وقد بغَّض الله إليه أمر الأوثان، وكرَّهَه في دين قومه، حتى لم يكن شيء أبغض إليه من ذلك، وحتى إنَّ بُحيرا الراهب لما قال له: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال له: ((لا تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغضْتُ شيئًا قط بُغْضَهُما)).
ويقول عنه زيد بن حارثة: فوالله الذي أكرمه، وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنمًا قط، حتى أكرمه الله بالذي أكرمه به، وأنزله عليه.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وأرسله للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
وهكذا نرى أن مولد الرسول الكريم كان خيرًا وبركة، فيه وُلِد الهدى، وأطل على الدنيا فجرٌ جديد، نثر الضياء على آفاقها الداجية، وأرسل أنفاسه الرطبة على هجيرها اللافح.
وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر - بحق - أعظمَ حدث في تاريخ الدنيا؛ فهو أعظم مولود، وأشرف موجود، وهو صلى الله عليه وسلم مورِد عذْب، والكثير من الباحثين بهرتهم شخصية الرسول الكريم قبل النبوة وبعدها، فالذين لم يؤمنوا به نبيًّا، عرفوه إنسانًا مثلاً كاملاً في النبل والفضل والخُلُق العظيم، والذين تشككوا في الوحي المنزل عليه آمنوا بمنهجه في السلوك، وبتصرفه الحسن في معاملة الناس وحلِّ مشاكلهم، فإن الخلق العظيم الذي منحه الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ له بعد الرسالة فحسب، ولكن كان خُلُقًا أصيلاً في نفسه، ملازمًا له من قبل ومن بعد، يعرف ذلك كل من قرأ ما كتبه الكاتبون عن هذا النبي الكريم، من العرب والعجم، من الأصدقاء والأعداء، من المؤرخين المسلمين، والباحثين من المستشرقين.
وكان مبعثه صلوات الله وسلامه عليه نقطة انطلاق للدعوة الخالدة، زحفت معها كتائب الحق، لتأخذ مواقعها في ساحة الجهاد الطويل المرير؛ إعلاء لكلمة الله، وإرساءً لقواعد العدل، ونشرًا لمبادئ الحرية والمساواة.
وفَضْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإنسانية عظيم؛ فهو الذي سما بقدرها، ومنحها حقها، وطَرَق بابها كما يطرق الغني باب قوم أضناهم الجوع، ووفد عليها كما تفد العافية على جسم مَزَّقته العلة، ولا غنى للإنسانية عن هدى النبي العربي؛ فهو لها كالنور للعينين، والهواء للرئتين، والماء للزرع، والروح للجسم: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53].
ولقد وقف صلى الله عليه وسلم من الحياة موقفَ الكريم المتفضل، أعطاها كل شيء، ولم يأخذ منها شيئًا، عاش فيها عمره كله كالغريب النازح، لم يضع لبنة على لبنة، ولم يتخذ لنفسه قصرًا، إن هي إلا حجرة متواضعة يسكنها راضيًا قانعًا، فإن طُلِبَ إليه أن يتحول إلى أرفع منها قال: ((ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)).
ومَنِ الثاوي في تلك الحجرة؟
إنه ذو الخلق العظيم، الذي شيد للدنيا أعظم صروح العدل والأمانة والسلام.
ذات مرة كان يضع تسعين ألف درهم على حصير يفرشها في حجرته، ولم يقم من مجلسه حتى أنفقها جميعًا، ثم نام بعد ذلك على هذا الحصير، فأَثَّر في جنبه!
ربط الحجر على أحشائه؛ ليصُدَّ عنها غائلة الجوع، وهو الذي أعطى عطاءَ من لا يخشى فاقة، ولا يخاف حِرمانًا.
كان إذا نام وضع تحت رأسه وسادة حَشْوُها ليف، وفوق هذه الوسادة الخشنة استقر رأس ملأه الهم بمشاكل الناس، والتفكير الدائب فيما يسعدهم.
كان يخصِفُ نعله، وتحت هذه النعل المخصوفة تدحرجت تيجان، وتكدس ذهب.
كان يَرْقَع ثوبه، ومن ثنايا هذا الثوب المرقع فاح عطر ملأ أرجاء الدنيا طهارةً وعفَّةً ونُبلاً
.
كان خير الناس لأهله، عطوفًا عليهم، بارًّا بهم، ولكنه كان مع الحق أكثر عطفًا، وأعظم بِرًّا.
تسأله فاطمة ابنته - وهي أحب الناس إليه - بعض ما لديه، فيقول: ((وكيف أعطيك وأدعُ أهلَ الصُّفَّة تَطْوَى بطونُهُم من الجوع؟)).
كان لا يرد سائلاً، ولا يُخَيِّب رجاءً، إلا رجاءً يمس قداسة العدل وحرمة المبادئ؛ فقد سَرَقَت امرأة من بني مخزوم، فكلمه أسامة بن زيد ليُعفيَها من تطبيق القانون عليها؛ لشرفها بين قومها، فقال له: ((أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ إنما أهلَكَ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، فوالذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)).
جعله الله فوق الناس، فعاش مع الناس كواحد منهم؛ فقد رفض أن يتميز على أصحابه حين شرعوا في إعداد الطعام وهم على سفر، فتقاسموا جوانب العمل بحسَب استعدادهم وإتقانهم له، فقال: ((وعَلَيَّ جمعُ الحطب))، فقالوا: يا رسول الله، إنا نكفيك هذا، فقال: ((قد علمْتُ أنكم تكفونني إياه، ولكني أكره أن أتميز عليكم)).
كان الوفاء خلقه الأصيل، لا يتاجر به ولا يجامل، ولكن تفيض نفسه به عن حب ورغبة، تروي عائشة رضي الله عنها، فتقول: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ((من أنتِ؟)) فقالت: جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ، فقال: ((بل أنت حسَّانة؟ كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟)) قالت: بخير، بأبي أنت وأمي، فلما خرجَتْ قلْتُ: يا رسول الله، تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حُسْنَ العهد من الإيمان)).
كان أخشى الناس، وأتقاهم لله، يجد في العبادة قُرَّة عينه، وطمأنينة نفسه، يقول المغيرة بن شعبة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم ليصلي حتى تتورم قدماه أو ساقاه، فيقال له: لِمَ تَشُقُّ على نفسك، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟!)).
ويقول ابن مسعود: صليتُ مع النبي ليلة، فلم يزَلْ قائمًا حتى هممْتُ بأمر سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذَرَ النبي!.
كان لا يعيش لنفسه، ولكن يعيش لغيره، لأمته، للناس جميعًا.
وعلى ضوء هذا المبدأ القويم رسم لنفسه وأهل بيته عيشة خشنة، فرضها عليهم؛ ليكونوا للناس خير أسوة، فهم أهل بيت ترنو إليه الأبصار من وراء الأجيال المتعاقبة، تتطلع في لهفة لترى كيف يعيش النبي في خاصة أمره؟ وكيف يخالط الحياةَ أهلُ هذا البيت الكريم؟
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة وفي يدها سلسلة من ذهب، وهي تقول لامرأة عندها: هذه أهداها أبو الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة، أَيَسُرُّك أن يقول الناس: ابنة رسول الله في يدها سلسلة من نار؟ ثم خرج ولم يقعد، فأرسلَتْ فاطمة بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبدًا فأعتقته، فحُدِّث رسولُ الله بذلك، فقال: الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار"!
كان إذا ملك صفح، وإذا قدر عفا، ألم يقل لأهل مكة يوم الفتح وهم الذين صنعوا به وبأصحابه ما صنعوا: ((ما تظُنُّون أني فاعل بكم؟))، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
كان رحمة مهداة، وسعت رحمته العدو والصديق، والقريب والبعيد، والقوي والضعيف، والإنسان والحيوان، كان يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويداعب الأطفال ويُسلِّم عليهم، ويبسط يده للشاة لتأكل ما فيها من النوى، ويُميل الإناء للهِرَّة لتشرب، ويفتح لها بابه لتجد عنده المأوى.
فيا لها منْ رحمة بسطت جناحيها على الكون كله! سمع مرة أعرابيًّا يصلي خلفه يقول: "اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم قال له: ((لقد ضيَّقْتَ واسعًا)).
وهكذا، لم تكن رسالته صلى الله عليه وسلم مقصورة على تصحيح العقيدة، ودعوة الناس إلى عبادة الله، ولكنها عُنِيَت بإصلاح الحياة من جميع نواحيها، فاقتلعت أسباب الفوضى، وقضت على الفساد الذي استشرى في كل مكان، وكرمت الإنسان، وسمت بمنزلته، وأعلنت حقوقه قبل أن تعرف ذلك المجامع الدولية، والمنظمات العالمية بعدة قرون.
ولست مع الذين يُسَمُّون رسالة الإسلام (ثورة) بل هي دعوة إصلاح، قامت على الحجة والإقناع، وأخذت طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالثورة وسيلة تُمَكِّن صاحب الفكرة من السلطة، أولاً عن طريق القوة المادية، ثم بعد أن يقبض على زمام الحكم يفرض مبادئه على الناس، ونبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه فتح الدنيا بالكلمة، وجمع الناس حوله بالخُلُق الطيب، والقلب الرحيم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وبعدُ؛ فهذه كلمة فاض بها الخاطر في هذه الذكرى العطرة، لا أقول إني قد أَوْفَيْتُ بها على الغاية، أو استقصيت فيها جوانب العظمة في الخُلُق النبوي، فهذا لا أستطيع أن أدركه، ولكنها قبسات من النور المحمدي، ولمحات من الخُلُق الزَّكي، وزهرات من الروض النديِّ، أُقَدِّمها للمسلمين في ذكرى ميلاد نبيهم العظيم؛ لينتفع بها من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
تستمد الأيام قيمتها من الأحداث التي تخالطها، ومن جلال الأعمال التي تقع فيها، ومن حق هذه الأيام التي تتجدد فيها نِعَمُ الله على عباده أن تكثُر فيها الطاعات، وأن يتقرب فيها المؤمنون إلى الله بأفضل القربات؛ شكرًا لله على سابغ فضله.
ومن هذه الأيام الخالدة يومُ ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويومُ إرساله للناس رحمة مهداة، ونعمة مسداة، فهذان اليومان من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسانية عامة، وعلى الأمة الإسلامية خاصة؛ ففيهما أشرقت الأرض بنور ربها، وبهما تحقق عز الدنيا وسعادة الآخرة، فقد سعد الوجود بسيد الوجود، وتتابعت آيات الوحي تتقاطر من السماء، كالغيث الذي أصاب أرضًا جديبة، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
وقد بيَّن الحديث الشريف أن هذه النعم الجليلة حدثت يوم الاثنين، فكانت مزيّة لهذا اليوم فضَّلَتْه على غيره من الأيام، وكان صيامه تكريمًا له، وتمجيدًا لما ارتبط به من هذه الذكريات الغالية، وقيامًا بمزيد من الطاعة فيه؛ شكرًا لله على أنْعُمِه.
رُوي من طريق عائشة وأبي هريرة وأسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام يوم الاثنين، ولما سئل عن ذلك قال: ((ذاك يوم وُلدْتُ فيه، وأُنزِلَتْ عليَّ فيه النبوة)) كما كان عليه الصلاة والسلام يجمع بين صيام الاثنين والخميس، ولما سئل عن ذلك قال فيما رواه عنه أبو هريرة: ((تُعرَضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وهكذا كان الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يُرَغِّب في صيام الأيام الفاضلة التي تتجدد فيها النِّعَم، وتشير إلى ذكريات يعتز بها دين الله، وذلك مِثْلُ صيام عاشوراء؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم ستًّا من شوال؛ فهو كصيام الدهر، ومن السُّنَّة صيام يوم عرفة مشارَكة للحجاج في يوم حجهم، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: ((يُكَفِّر السنة الماضية والباقية))؛ رواه مسلم.
ويصوم شهر الله المحرم، ويقول: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلم.
ويُرغِّب في صوم شعبان، وقد سأله أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، لَمْ أرَكَ تصوم من شهر من الشهور، ما تصوم من شعبان، قال: ((ذاك شهر يَغفُل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم))؛ رواه النسائي.
وكان يصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، فقد روى أبو داود والنسائي واللفظ له: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بهذه الأيام الثلاثة البيض، ويقول: ((هن صيام الشهر)).
ولا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد بجوف مكة يوم الاثنين عام الفيل سنة (571) ميلادية، والجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول، حتى لقد حكى بعضهم الاتفاق على هذا.
أما الخلاف فهو في تعيين ليلة الميلاد من هذا الشهر، والذي رجحه ابن إسحاق أنه ولد لثِنْتَيْ عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
فقد روى ابن هشام في سيرته قال: حدثنا زياد بن عبدالملك البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: وُلِد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل، ورواه ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس، وحكوا شهرته عند الجمهور.
وقد حقق صاحب كتاب تقويم العرب قبل الإسلام بالحساب الفلكي الدقيق أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد في يوم الاثنين 9 من ربيع الأول الموافق 20 أبريل سنة 571 مسيحية.
ولما كان اليوم السابع من ولادته صلى الله عليه وسلم، ذبح عنه جده عبدالمطلب، فأمر بجزور فنُحِرت، ودعا رجالاً من قريش فحضروا وطَعِموا، فلما علموا منه أنه أسمى الطفل محمدًا، سألوه: لِمَ رغبْتَ به عن أسماء قومه وآبائه؟
فقال: أردتُ أن يكون محمودًا في السماء وفي الأرض.
وقد نشأ عليه الصلاة والسلام نشأة طيبة كريمة، لم يخالط إثمًا، ولم يقارف ذنبًا، ولم يطعَمْ حرامًا، ولم يشرب خمرًا، ولم يسجد لصنم، ولكنه شب يكلؤه الله تعالى ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية؛ لِمَا يريد به من كرامته ورسالته، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تُدَنِّس الرجال تنزُّهًا وتكرُّمًا، ولم يُسَمَّ في قومه إلا بالأمين؛ لما جُمِعَ فيه من الأمور الصالحة، ولأن الأمانة كانت خُلُقًا راسخًا من أخلاقه العالية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّث عما كان الله يحفظه به في صغره، فقال: ((لقد رأيتُني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لَأُقْبِلُ معهم كذلك وأُدْبِرُ، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمةً وجيعةً: ثم قال: شُدَّ عليك إزارك، قال فأخذتُه وشددْتُه عليَّ، ثم جعلْتُ أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري عليَّ مِنْ بين أصحابي))[1].
وذكر البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما هممْتُ بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله فيهما، قلت لبعض فتيان مكة، ونحن رعاء غَنَمِ أهلِها: أبصِرْ لي غنمي حتى أدخل مكة فأَسْمُرَ فيها كما يَسْمُرُ الفتيان، فقال: بلى: فدخلت حتى جئت أول دار من دُورِها فسمعْتُ عزفًا بالغرابيل[2]، والمزامير، فجلست لأنظر فَغلبني النوم، فوالله ما أيقظني إلا مسُّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فسألني عما فعلْتُ، فأخبرته بالذي كان، ثم ذهبتُ ليلة أخرى فحدث لي مثل الذي حدث في المرة الأولى، فوالله ما هممْتُ ولا عُدْتُ بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته)).
وقد بغَّض الله إليه أمر الأوثان، وكرَّهَه في دين قومه، حتى لم يكن شيء أبغض إليه من ذلك، وحتى إنَّ بُحيرا الراهب لما قال له: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال له: ((لا تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغضْتُ شيئًا قط بُغْضَهُما)).
ويقول عنه زيد بن حارثة: فوالله الذي أكرمه، وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنمًا قط، حتى أكرمه الله بالذي أكرمه به، وأنزله عليه.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وأرسله للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
وهكذا نرى أن مولد الرسول الكريم كان خيرًا وبركة، فيه وُلِد الهدى، وأطل على الدنيا فجرٌ جديد، نثر الضياء على آفاقها الداجية، وأرسل أنفاسه الرطبة على هجيرها اللافح.
وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر - بحق - أعظمَ حدث في تاريخ الدنيا؛ فهو أعظم مولود، وأشرف موجود، وهو صلى الله عليه وسلم مورِد عذْب، والكثير من الباحثين بهرتهم شخصية الرسول الكريم قبل النبوة وبعدها، فالذين لم يؤمنوا به نبيًّا، عرفوه إنسانًا مثلاً كاملاً في النبل والفضل والخُلُق العظيم، والذين تشككوا في الوحي المنزل عليه آمنوا بمنهجه في السلوك، وبتصرفه الحسن في معاملة الناس وحلِّ مشاكلهم، فإن الخلق العظيم الذي منحه الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ له بعد الرسالة فحسب، ولكن كان خُلُقًا أصيلاً في نفسه، ملازمًا له من قبل ومن بعد، يعرف ذلك كل من قرأ ما كتبه الكاتبون عن هذا النبي الكريم، من العرب والعجم، من الأصدقاء والأعداء، من المؤرخين المسلمين، والباحثين من المستشرقين.
وكان مبعثه صلوات الله وسلامه عليه نقطة انطلاق للدعوة الخالدة، زحفت معها كتائب الحق، لتأخذ مواقعها في ساحة الجهاد الطويل المرير؛ إعلاء لكلمة الله، وإرساءً لقواعد العدل، ونشرًا لمبادئ الحرية والمساواة.
وفَضْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإنسانية عظيم؛ فهو الذي سما بقدرها، ومنحها حقها، وطَرَق بابها كما يطرق الغني باب قوم أضناهم الجوع، ووفد عليها كما تفد العافية على جسم مَزَّقته العلة، ولا غنى للإنسانية عن هدى النبي العربي؛ فهو لها كالنور للعينين، والهواء للرئتين، والماء للزرع، والروح للجسم: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53].
ولقد وقف صلى الله عليه وسلم من الحياة موقفَ الكريم المتفضل، أعطاها كل شيء، ولم يأخذ منها شيئًا، عاش فيها عمره كله كالغريب النازح، لم يضع لبنة على لبنة، ولم يتخذ لنفسه قصرًا، إن هي إلا حجرة متواضعة يسكنها راضيًا قانعًا، فإن طُلِبَ إليه أن يتحول إلى أرفع منها قال: ((ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)).
ومَنِ الثاوي في تلك الحجرة؟
إنه ذو الخلق العظيم، الذي شيد للدنيا أعظم صروح العدل والأمانة والسلام.
ذات مرة كان يضع تسعين ألف درهم على حصير يفرشها في حجرته، ولم يقم من مجلسه حتى أنفقها جميعًا، ثم نام بعد ذلك على هذا الحصير، فأَثَّر في جنبه!
ربط الحجر على أحشائه؛ ليصُدَّ عنها غائلة الجوع، وهو الذي أعطى عطاءَ من لا يخشى فاقة، ولا يخاف حِرمانًا.
كان إذا نام وضع تحت رأسه وسادة حَشْوُها ليف، وفوق هذه الوسادة الخشنة استقر رأس ملأه الهم بمشاكل الناس، والتفكير الدائب فيما يسعدهم.
كان يخصِفُ نعله، وتحت هذه النعل المخصوفة تدحرجت تيجان، وتكدس ذهب.
كان يَرْقَع ثوبه، ومن ثنايا هذا الثوب المرقع فاح عطر ملأ أرجاء الدنيا طهارةً وعفَّةً ونُبلاً
.
كان خير الناس لأهله، عطوفًا عليهم، بارًّا بهم، ولكنه كان مع الحق أكثر عطفًا، وأعظم بِرًّا.
تسأله فاطمة ابنته - وهي أحب الناس إليه - بعض ما لديه، فيقول: ((وكيف أعطيك وأدعُ أهلَ الصُّفَّة تَطْوَى بطونُهُم من الجوع؟)).
كان لا يرد سائلاً، ولا يُخَيِّب رجاءً، إلا رجاءً يمس قداسة العدل وحرمة المبادئ؛ فقد سَرَقَت امرأة من بني مخزوم، فكلمه أسامة بن زيد ليُعفيَها من تطبيق القانون عليها؛ لشرفها بين قومها، فقال له: ((أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ إنما أهلَكَ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، فوالذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)).
جعله الله فوق الناس، فعاش مع الناس كواحد منهم؛ فقد رفض أن يتميز على أصحابه حين شرعوا في إعداد الطعام وهم على سفر، فتقاسموا جوانب العمل بحسَب استعدادهم وإتقانهم له، فقال: ((وعَلَيَّ جمعُ الحطب))، فقالوا: يا رسول الله، إنا نكفيك هذا، فقال: ((قد علمْتُ أنكم تكفونني إياه، ولكني أكره أن أتميز عليكم)).
كان الوفاء خلقه الأصيل، لا يتاجر به ولا يجامل، ولكن تفيض نفسه به عن حب ورغبة، تروي عائشة رضي الله عنها، فتقول: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ((من أنتِ؟)) فقالت: جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ، فقال: ((بل أنت حسَّانة؟ كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟)) قالت: بخير، بأبي أنت وأمي، فلما خرجَتْ قلْتُ: يا رسول الله، تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حُسْنَ العهد من الإيمان)).
كان أخشى الناس، وأتقاهم لله، يجد في العبادة قُرَّة عينه، وطمأنينة نفسه، يقول المغيرة بن شعبة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم ليصلي حتى تتورم قدماه أو ساقاه، فيقال له: لِمَ تَشُقُّ على نفسك، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟!)).
ويقول ابن مسعود: صليتُ مع النبي ليلة، فلم يزَلْ قائمًا حتى هممْتُ بأمر سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذَرَ النبي!.
كان لا يعيش لنفسه، ولكن يعيش لغيره، لأمته، للناس جميعًا.
وعلى ضوء هذا المبدأ القويم رسم لنفسه وأهل بيته عيشة خشنة، فرضها عليهم؛ ليكونوا للناس خير أسوة، فهم أهل بيت ترنو إليه الأبصار من وراء الأجيال المتعاقبة، تتطلع في لهفة لترى كيف يعيش النبي في خاصة أمره؟ وكيف يخالط الحياةَ أهلُ هذا البيت الكريم؟
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة وفي يدها سلسلة من ذهب، وهي تقول لامرأة عندها: هذه أهداها أبو الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة، أَيَسُرُّك أن يقول الناس: ابنة رسول الله في يدها سلسلة من نار؟ ثم خرج ولم يقعد، فأرسلَتْ فاطمة بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبدًا فأعتقته، فحُدِّث رسولُ الله بذلك، فقال: الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار"!
كان إذا ملك صفح، وإذا قدر عفا، ألم يقل لأهل مكة يوم الفتح وهم الذين صنعوا به وبأصحابه ما صنعوا: ((ما تظُنُّون أني فاعل بكم؟))، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
كان رحمة مهداة، وسعت رحمته العدو والصديق، والقريب والبعيد، والقوي والضعيف، والإنسان والحيوان، كان يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويداعب الأطفال ويُسلِّم عليهم، ويبسط يده للشاة لتأكل ما فيها من النوى، ويُميل الإناء للهِرَّة لتشرب، ويفتح لها بابه لتجد عنده المأوى.
فيا لها منْ رحمة بسطت جناحيها على الكون كله! سمع مرة أعرابيًّا يصلي خلفه يقول: "اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم قال له: ((لقد ضيَّقْتَ واسعًا)).
وهكذا، لم تكن رسالته صلى الله عليه وسلم مقصورة على تصحيح العقيدة، ودعوة الناس إلى عبادة الله، ولكنها عُنِيَت بإصلاح الحياة من جميع نواحيها، فاقتلعت أسباب الفوضى، وقضت على الفساد الذي استشرى في كل مكان، وكرمت الإنسان، وسمت بمنزلته، وأعلنت حقوقه قبل أن تعرف ذلك المجامع الدولية، والمنظمات العالمية بعدة قرون.
ولست مع الذين يُسَمُّون رسالة الإسلام (ثورة) بل هي دعوة إصلاح، قامت على الحجة والإقناع، وأخذت طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالثورة وسيلة تُمَكِّن صاحب الفكرة من السلطة، أولاً عن طريق القوة المادية، ثم بعد أن يقبض على زمام الحكم يفرض مبادئه على الناس، ونبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه فتح الدنيا بالكلمة، وجمع الناس حوله بالخُلُق الطيب، والقلب الرحيم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وبعدُ؛ فهذه كلمة فاض بها الخاطر في هذه الذكرى العطرة، لا أقول إني قد أَوْفَيْتُ بها على الغاية، أو استقصيت فيها جوانب العظمة في الخُلُق النبوي، فهذا لا أستطيع أن أدركه، ولكنها قبسات من النور المحمدي، ولمحات من الخُلُق الزَّكي، وزهرات من الروض النديِّ، أُقَدِّمها للمسلمين في ذكرى ميلاد نبيهم العظيم؛ لينتفع بها من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.