حكاية ناي ♔
02-08-2024, 08:15 AM
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدْيِ هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن الله سبحانه وتعالى قص في كتابه العظيم قصصًا عظيمة من قصص الأمم الخالية، وقصص أنبيائه وأصفيائه وأوليائه؛ لِما في ذلك من تسلية المؤمنين، وتثبيت أفئدة الصالحين، ولما في قصصه من العبرة والعظة، والدروس والفائدة: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، ﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ﴾ [طه: 99].
ومن عظيم الأنباء ومن أحسن القصص ما قصه الله عز وجل من قصة سبأ، وما أعطاهم الله من النِّعَمِ الوافرة، والخيرات المتكاثرة، والأرض الطيبة، والمياه العذبة، والثمار اليانعة، مع طيب الهواء، ونسيمه العليل المنعش: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 15 - 20].
سبأ: اسم للقبيلة العظيمة في اليمن ذات البطون الكثيرة، ومساكنهم في اليمن في المأرب، ومساكنهم في غاية الجمال والإتقان، أدرَّ الله عز وجل عليهم فيها النعم، وصرف عنهم النقم، ما قص الله سبحانه وتعالى، جعل لهم جنتين عن يمين وشمال.
كان لهم وادٍ عظيم تأتيه سيول كثيرة، وقد بنَوا سدًّا محكمًا يكون مجمعًا للمياه؛ حتى يفرقوا هذا الماء على بساتينهم التي عن يمين الوادي وعن شماله، وتنتج لهم الجنتان العظيمتان من الثمار المتنوعة ما يكفيهم، وتحصل بهم الغبطة والفرح والسرور؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]، بلدة طيبة: بحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الواسع فيها.
أمرهم الله عز وجل أن يشكروا نعمة الله عليهم بعبادته وحده بالإيمان به ربًّا، والمتابعة بالعمل الصالح، ولكنهم أعرضوا وتولَّوا، واستمروا على كفرهم وبطرهم، وذلك بعد أن بلغتهم دعوة الأنبياء والمرسلين، فعاقب الله سبأ بأن أطلق عليهم السيل العظيم الكبير المتدفق: ﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 16].
خمط: مر غاية المرارة.
أثل: الشجر الذي لا ينتفع به.
سدر: سدر بريًّا لا يُنتفَع به، ولا يصلح ورقه لشيء.
ثم ذكر الله عز وجل سبب ذلك العذاب وهذا التبديل: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17].
ثم ذكر الله عز وجل ما أنعم عليهم من أمن الطريق بين القرى لتقاربها، وإزالة وحشة السفر عنهم، إلا أنهم بطروا النعمة وملُّوا ما هم عليه: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18].
﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 19].
أحاديث: عبرة لمن بعدهم، يتحدثون بشأنهم، وكيف فعل الله عز وجل بهم.
ومزقناهم كل ممزق: فرقناهم في البلاد قبائلَ شتى.
إن في ذلك لآيات: لَعِبَرًا ودلالاتٍ.
لكل صبار: عن معصية الله عز وجل.
شكور: لأنْعُمِ الله عز وجل.
﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 20].
فإنهم مشوا على ما أراد لهم إبليس من الضلال والفساد في الأرض، والإعراض عن دعوة الأنبياء والمرسلين، إلا من عصم الله تعالى من المؤمنين المخلصين.
﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 21].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المعتبرين المنتفعين بقصص القرآن، الشاكرين لأنعم الله، الصابرين عن معصية الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد عباد الله:
فإن نعم الله عز وجل علينا لا تُقابَل بالمعاصي، ولا تُؤخَذ المعصية بما وهبنا الله تعالى به من نِعَمٍ وأموال، فهذا من كفر النعمة الذي حذرنا الرب منه، وأبدأ وأعاد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلنكن شاكرين لنِعَمِ الله تعالى علينا، نقر بها بقلوبنا: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
وتلهج ألسنتنا بحمد الله عز وجل وشكره، وأن نستعملها في طاعة الله سبحانه: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
فكل من آمن وعمل صالحًا، واهتدى على ذلك، واستقام على فرائض الله عز وجل، واجتنب محارم الله، فهو شاكر لنعم الله تعالى عليه.
وأما من قابَلَ نعم الله بمعصية الله، والمجاهرة بها، والتبجح بها، فهو كافر لنعم الله عليه، وهو مستوجب لنقمة الله وسخطه وعذابه.
فالفساد إذا عمَّ عباد الله، فهو مؤذِن لوقوع الشر والعذاب، فعلينا أن نستقيم على طاعة الله عز وجل، وأن نحذر معصية الله سبحانه، وأن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، وندعو الله أن يجنبنا مضلات الفتن، وأن نعتبر بما قص الله عز وجل علينا من قصص عظيمة، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أحداث، وما وقع في عصرنا هذا من المصائب والمحن؛ تصديقًا لقول الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة زينب رضي الله عنها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب؛ فُتح اليوم من ردمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثُر الخبَثُ))[1].
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا مضلات الفتن، وأن يجعلنا من المعتبرين المتوسمين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدْيِ هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن الله سبحانه وتعالى قص في كتابه العظيم قصصًا عظيمة من قصص الأمم الخالية، وقصص أنبيائه وأصفيائه وأوليائه؛ لِما في ذلك من تسلية المؤمنين، وتثبيت أفئدة الصالحين، ولما في قصصه من العبرة والعظة، والدروس والفائدة: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، ﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ﴾ [طه: 99].
ومن عظيم الأنباء ومن أحسن القصص ما قصه الله عز وجل من قصة سبأ، وما أعطاهم الله من النِّعَمِ الوافرة، والخيرات المتكاثرة، والأرض الطيبة، والمياه العذبة، والثمار اليانعة، مع طيب الهواء، ونسيمه العليل المنعش: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 15 - 20].
سبأ: اسم للقبيلة العظيمة في اليمن ذات البطون الكثيرة، ومساكنهم في اليمن في المأرب، ومساكنهم في غاية الجمال والإتقان، أدرَّ الله عز وجل عليهم فيها النعم، وصرف عنهم النقم، ما قص الله سبحانه وتعالى، جعل لهم جنتين عن يمين وشمال.
كان لهم وادٍ عظيم تأتيه سيول كثيرة، وقد بنَوا سدًّا محكمًا يكون مجمعًا للمياه؛ حتى يفرقوا هذا الماء على بساتينهم التي عن يمين الوادي وعن شماله، وتنتج لهم الجنتان العظيمتان من الثمار المتنوعة ما يكفيهم، وتحصل بهم الغبطة والفرح والسرور؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]، بلدة طيبة: بحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الواسع فيها.
أمرهم الله عز وجل أن يشكروا نعمة الله عليهم بعبادته وحده بالإيمان به ربًّا، والمتابعة بالعمل الصالح، ولكنهم أعرضوا وتولَّوا، واستمروا على كفرهم وبطرهم، وذلك بعد أن بلغتهم دعوة الأنبياء والمرسلين، فعاقب الله سبأ بأن أطلق عليهم السيل العظيم الكبير المتدفق: ﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 16].
خمط: مر غاية المرارة.
أثل: الشجر الذي لا ينتفع به.
سدر: سدر بريًّا لا يُنتفَع به، ولا يصلح ورقه لشيء.
ثم ذكر الله عز وجل سبب ذلك العذاب وهذا التبديل: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17].
ثم ذكر الله عز وجل ما أنعم عليهم من أمن الطريق بين القرى لتقاربها، وإزالة وحشة السفر عنهم، إلا أنهم بطروا النعمة وملُّوا ما هم عليه: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18].
﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 19].
أحاديث: عبرة لمن بعدهم، يتحدثون بشأنهم، وكيف فعل الله عز وجل بهم.
ومزقناهم كل ممزق: فرقناهم في البلاد قبائلَ شتى.
إن في ذلك لآيات: لَعِبَرًا ودلالاتٍ.
لكل صبار: عن معصية الله عز وجل.
شكور: لأنْعُمِ الله عز وجل.
﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 20].
فإنهم مشوا على ما أراد لهم إبليس من الضلال والفساد في الأرض، والإعراض عن دعوة الأنبياء والمرسلين، إلا من عصم الله تعالى من المؤمنين المخلصين.
﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 21].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المعتبرين المنتفعين بقصص القرآن، الشاكرين لأنعم الله، الصابرين عن معصية الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد عباد الله:
فإن نعم الله عز وجل علينا لا تُقابَل بالمعاصي، ولا تُؤخَذ المعصية بما وهبنا الله تعالى به من نِعَمٍ وأموال، فهذا من كفر النعمة الذي حذرنا الرب منه، وأبدأ وأعاد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلنكن شاكرين لنِعَمِ الله تعالى علينا، نقر بها بقلوبنا: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
وتلهج ألسنتنا بحمد الله عز وجل وشكره، وأن نستعملها في طاعة الله سبحانه: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
فكل من آمن وعمل صالحًا، واهتدى على ذلك، واستقام على فرائض الله عز وجل، واجتنب محارم الله، فهو شاكر لنعم الله تعالى عليه.
وأما من قابَلَ نعم الله بمعصية الله، والمجاهرة بها، والتبجح بها، فهو كافر لنعم الله عليه، وهو مستوجب لنقمة الله وسخطه وعذابه.
فالفساد إذا عمَّ عباد الله، فهو مؤذِن لوقوع الشر والعذاب، فعلينا أن نستقيم على طاعة الله عز وجل، وأن نحذر معصية الله سبحانه، وأن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، وندعو الله أن يجنبنا مضلات الفتن، وأن نعتبر بما قص الله عز وجل علينا من قصص عظيمة، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أحداث، وما وقع في عصرنا هذا من المصائب والمحن؛ تصديقًا لقول الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة زينب رضي الله عنها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب؛ فُتح اليوم من ردمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثُر الخبَثُ))[1].
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا مضلات الفتن، وأن يجعلنا من المعتبرين المتوسمين.