حكاية ناي ♔
02-12-2024, 12:11 PM
الحمدُ للهِ الذي أنزلَ الفرقانَ على عبدِه ليكونَ للعالمين نذيراً، وأودعَ فيه من كنوزِ البركةِ خيراً كبيراً، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له رباً قديراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]...
أيها المؤمنون!
القرآنُ كتابٌ مباركٌ، ليس لبركتِه حدٌّ، ولا يبلغُ كُنْهَ بركتِه وصفٌ؛ فقد أطلقَ اللهُ وصفَ البركةِ عليه؛ تعظيماً لها، وبياناً لعدمِ حدِّها أو انتهائها؛ وذلك في أربعةِ مواضعَ من كتابِه العزيزِ؛ وكفى بتنويهِ الإلهِ وصفاً، سيَّما إنْ كان مكرراً! ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. هذا، وإنَّ من جوانبِ بركةِ القرآنِ التي أَوْلاها الشرعُ عنايتَه بركةَ المجالسِ التي يُتلى فيها الذِّكرُ الحكيمُ، وتُدْرَسُ فيها أحكامُه، وتُتَعلَّمُ طريقةُ تلاوتِه؛ تلاوةً واستماعاً وإنصاتاً، أياً كانت تلك المجالسُ، قلَّ زمنُها أو طالَ، أو كانت مجالسَ الكترونيةً متباعدةَ الأقطارِ. فقد حَبَاها مِن جُزَلِ الفضائلِ أربعاً، كلُّ فضيلةٍ منها لا تَعدِلُ الدنيا بأسْرِها أنَ تكونَ كِفَاءً لها؛ فكيف إنْ هيَ اجتمعتْ، بل أَرْبَتْ على ذلك؟! يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ " رواه مسلمٌ. وتقييدُ الاجتماعِ في المسجدِ قيدٌ أغلبيٌّ لا مفهومَ له، وقد وردتْ روايةٌ بالإطلاقِ دون تقييدٍ بالمسجدِ؛ فيعمُّ الفضلُ كلَّ اجتماعٍ بين اثنين فأكثرَ في أيِّ مكانٍ، بل رجا هذا الفضلَ بعضُ أهلِ العلمِ للمفردِ وإن لم يكن معه أحدٌ؛ وما ذاك عن فضلِ اللهِ ببعيدٍ!
عبادَ اللهِ!
إنَّ مجلسَ القرآنِ مَحلُّ نزولِ السكينةِ؛ " إلا نزلتْ عليهمُ السكينةُ "؛ فتَحُلُّ فيه ببركتِها التي من شأنِها طمأنينةُ القلبِ، وسكونُ اضطرابِه، وانشراحُه، وسرورُه وسُلُوُّهُ، وذهابُ حُزنِه وتَرحُّلُ شقائِه، وثباتُه والربطُ عليه؛ وذاك من أجلِّ مقاصدِ تنزُّلِ القرآنِ، ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 2]. مع مزادةِ الإيمانِ التي تكونُ بتلك السكينةِ وتلاوةِ آيِ الذكرِ الحكيمِ؛ فهما غِذاهُ الذي به يَزدادُ، كما قال -تعالى-: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]. ومن بركةِ المجلسِ القرآنيِّ أنْ تَعُمَّ سكينتُه التي تتنزلُ فيه كلَّ مَن حضرَه. وكفى شاهداً على ذلك تلكمُ الآيةُ التي كانت سكينتُها بلسماً لصحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين تَلاها عليهم أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه- إثْرَ وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]؛ فكانت مَسْلاةً للحزنِ، وتثبيتاً عند الاضطرابِ، وعزاءً في أعظمِ المصابِ.
أيها المسلمون!
والمجلسُ القرآنيُّ خيرُ ما استُجلِبتْ به رحمةُ اللهِ؛ " وغشيتهمُ الرحمةُ "؛ تغشيةَ مخالطةٍ وإسباغٍ؛ تعمُّ أهلَ ذلك المجلسِ المباركِ، وتغطِّيهم بكساءٍ سابغٍ، يحيطُ بكلِّ جانبٍ، وتشملُ كلَّ حاجةٍ لهمُ افتقرتْ إلى رحمةِ الرحيمِ -جلَّ وعلا-؛ دنيويةً كانت أو أخرويةً. وإذا سَترتِ الرحمةُ لم يبقَ للعذابِ موضعٌ؛ فلتلك المجالسِ عظيمُ شأنٍ في تكفيرِ السيئاتِ وإنْ عَظُمتْ، ودخولِ الجناتِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هلمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً، قال: يقولُ: فما يسألونني؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
عبادَ اللهِ!
والمجلسُ القرآنيُّ محلُّ احتفاءٍ ملائكيٍّ بالذكرِ الحكيمِ وأهلِه المكرمين؛ " وحفَّتهمُ الملائكةُ "؛ يَتباشرون بذلكمُ المجلسِ المَهيبِ، ويَتنادون لحضورِه، ويتراصُّون فيه، مُطيفينَ بأهلِه، يَحُفُّونَهم بأجنحتِهم، مُقتربين منهم، مُستديرين عليهم، مُحْدِقِين بهم؛ ليس ثمَّ في المجلسِ فُرْجةٌ إلا ويَسُدُّها مَلَكٌ كريمٌ؛ فلا مكانَ للشياطينِ في ذلك المجلسِ المحفوفِ بأجنحةِ الملائكةِ الكرامِ من موقعِ المجلسِ في الأرضِ صُعُدَاً في أجْوازِ الفضاءِ حتى السماءِ الدنيا، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ". وحضورُ الملائكةِ مَشاهدَ الإيمانِ سببٌ لزيادةِ سكينةِ أهله إضافةً إلى السكينةِ التي تنزلتْ عليهم بتلاوةِ القرآنِ وتعلُّمِه.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ، فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون!
ورابعُ الفضائلِ وخيرُها ذكرُ اللهِ لأهلِ ذلك المجلسِ في الملأِ الأعلى عند ملائكتِه المقرَّبين؛ " وذكرَهم اللهُ فيمن عنده "؛ ثناءً عليهم، ومباهاةً بهم، وتنويهاً بذكرِهم؛ فذاكم أعظمُ الذكرِ وأشرفُه؛ ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45]. فلِأسماءِ أهلِ المجالسِ القرآنيةِ دويٌّ عالٍ في الملأِ الأعلى بذكرِ اللهِ لهم. ويا هناءَ مَن كان صيتُ اسمِه مُدَوِّياً في الملأِ الأعلى بذكرِ اللهِ له! فبذلك الثناءِ تكونُ المحبةُ الربانيةُ التي بها تُنشَرُ المحبةُ للعبدِ في أهلِ السماءِ، ويُوضَعُ له القبولُ في الأرضِ؛ فيستقرُّ له لسانُ الصدقِ الذي لا يَنالُ من جَنابِ ثنائِه ذمُّ الحاقدين وإفكُ الكاذبين وتشويهُ المتربِّصين. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إذا أحبّ اللهُ العبدَ نادَى جبريلُ: إنّ اللهَ يحبّ فلاناً فأحببْه، فيحبُّه جبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السماءِ: إنّ اللهَ يحبّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. قال كعبُ الأحبارِ: " واللهِ، ما استقرَّ لعبدٍ ثناءٌ في الأرضِ حتى يستقرَّ له في أهلِ السماءِ ". ويا للهِ كم مِن مجلسٍ مشهودٍ في السماءِ لا يَعلمُ به أهلُ الأرضِ، أو كانوا فيه من الزاهدين! ويا للهِ كم مِن مغمورٍ في الأرضِ لِذكرِ مجلسِه دويٌّ في الملأِ الأعلى عند ربِّ العالمين! وهل ثمَّ مجلسٌ أشرفُ من مجلسٍ هذه بعضِ فضائلِه؟!
عبادَ اللهِ!
إنَّ من أشدِّ الحرمانِ أنْ يَحرمَ العبدُ نفسَه من بركةِ المجلسِ القرآنيِّ الذي به صلاحُ دينِه ودنياه وآخرتِه، وألّا تكونَ له عنايةٌ بتلك المجالسِ؛ محبةً وحرصاً ودعماً وحضوراً وحثاً للغَيرِ. هذا، وإنَّ بيوتَنا أشدُّ ما تكونُ حاجةً إلى هذه المجالسِ القرآنيةِ، ولو دقائقَ معدودةً من الزمنِ، خاصةً في هذا الوقتِ؛ لتحلَّ بركتُها فيها، ويَنعمَ أهلُها بتلك البركةِ؛ فتسْلَمَ من داءِ الغفلةِ، وتسلُّطِ شياطينِ الجنِّ والإنسِ، وضيقِ النفوسِ ونفرتِها، وتغنمَ من بركةِ العيشِ وطِيبِ الرزقِ. قال أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه-:" إنَّ البيتَ لَيتسعُ على أهلِه، وتحضرُه الملائكةُ، وتهجرُه الشياطينُ، ويكثرُ خيرُه؛ أنْ يُقرأَ فيه القرآنُ، وإنَّ البيتَ لَيضيقُ على أهلِه، وتهجرُه الملائكةُ، وتحضرُه الشياطينُ، ويَقِلُّ خيرُه؛ أن لا يُقرأَ فيه القرآنُ ".
جلساتُ ذكرٍ بالكتابِ المُنْزَلِ
تسمو بمُرْتادٍ إلى النُّزلِ البَهي
فيها السكينةُ والهمومُ ترحَّلتْ
وتُطافُ بالرحماتِ والمَلَكِ العَلي
ولِذِكرِها ذِكرٌ عظيمٌ عاطرٌ
في مجلسِ الملأِ العليِّ الأَهْيَبِ
أما بعدُ. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]...
أيها المؤمنون!
القرآنُ كتابٌ مباركٌ، ليس لبركتِه حدٌّ، ولا يبلغُ كُنْهَ بركتِه وصفٌ؛ فقد أطلقَ اللهُ وصفَ البركةِ عليه؛ تعظيماً لها، وبياناً لعدمِ حدِّها أو انتهائها؛ وذلك في أربعةِ مواضعَ من كتابِه العزيزِ؛ وكفى بتنويهِ الإلهِ وصفاً، سيَّما إنْ كان مكرراً! ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. هذا، وإنَّ من جوانبِ بركةِ القرآنِ التي أَوْلاها الشرعُ عنايتَه بركةَ المجالسِ التي يُتلى فيها الذِّكرُ الحكيمُ، وتُدْرَسُ فيها أحكامُه، وتُتَعلَّمُ طريقةُ تلاوتِه؛ تلاوةً واستماعاً وإنصاتاً، أياً كانت تلك المجالسُ، قلَّ زمنُها أو طالَ، أو كانت مجالسَ الكترونيةً متباعدةَ الأقطارِ. فقد حَبَاها مِن جُزَلِ الفضائلِ أربعاً، كلُّ فضيلةٍ منها لا تَعدِلُ الدنيا بأسْرِها أنَ تكونَ كِفَاءً لها؛ فكيف إنْ هيَ اجتمعتْ، بل أَرْبَتْ على ذلك؟! يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ " رواه مسلمٌ. وتقييدُ الاجتماعِ في المسجدِ قيدٌ أغلبيٌّ لا مفهومَ له، وقد وردتْ روايةٌ بالإطلاقِ دون تقييدٍ بالمسجدِ؛ فيعمُّ الفضلُ كلَّ اجتماعٍ بين اثنين فأكثرَ في أيِّ مكانٍ، بل رجا هذا الفضلَ بعضُ أهلِ العلمِ للمفردِ وإن لم يكن معه أحدٌ؛ وما ذاك عن فضلِ اللهِ ببعيدٍ!
عبادَ اللهِ!
إنَّ مجلسَ القرآنِ مَحلُّ نزولِ السكينةِ؛ " إلا نزلتْ عليهمُ السكينةُ "؛ فتَحُلُّ فيه ببركتِها التي من شأنِها طمأنينةُ القلبِ، وسكونُ اضطرابِه، وانشراحُه، وسرورُه وسُلُوُّهُ، وذهابُ حُزنِه وتَرحُّلُ شقائِه، وثباتُه والربطُ عليه؛ وذاك من أجلِّ مقاصدِ تنزُّلِ القرآنِ، ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 2]. مع مزادةِ الإيمانِ التي تكونُ بتلك السكينةِ وتلاوةِ آيِ الذكرِ الحكيمِ؛ فهما غِذاهُ الذي به يَزدادُ، كما قال -تعالى-: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]. ومن بركةِ المجلسِ القرآنيِّ أنْ تَعُمَّ سكينتُه التي تتنزلُ فيه كلَّ مَن حضرَه. وكفى شاهداً على ذلك تلكمُ الآيةُ التي كانت سكينتُها بلسماً لصحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين تَلاها عليهم أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه- إثْرَ وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]؛ فكانت مَسْلاةً للحزنِ، وتثبيتاً عند الاضطرابِ، وعزاءً في أعظمِ المصابِ.
أيها المسلمون!
والمجلسُ القرآنيُّ خيرُ ما استُجلِبتْ به رحمةُ اللهِ؛ " وغشيتهمُ الرحمةُ "؛ تغشيةَ مخالطةٍ وإسباغٍ؛ تعمُّ أهلَ ذلك المجلسِ المباركِ، وتغطِّيهم بكساءٍ سابغٍ، يحيطُ بكلِّ جانبٍ، وتشملُ كلَّ حاجةٍ لهمُ افتقرتْ إلى رحمةِ الرحيمِ -جلَّ وعلا-؛ دنيويةً كانت أو أخرويةً. وإذا سَترتِ الرحمةُ لم يبقَ للعذابِ موضعٌ؛ فلتلك المجالسِ عظيمُ شأنٍ في تكفيرِ السيئاتِ وإنْ عَظُمتْ، ودخولِ الجناتِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هلمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً، قال: يقولُ: فما يسألونني؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
عبادَ اللهِ!
والمجلسُ القرآنيُّ محلُّ احتفاءٍ ملائكيٍّ بالذكرِ الحكيمِ وأهلِه المكرمين؛ " وحفَّتهمُ الملائكةُ "؛ يَتباشرون بذلكمُ المجلسِ المَهيبِ، ويَتنادون لحضورِه، ويتراصُّون فيه، مُطيفينَ بأهلِه، يَحُفُّونَهم بأجنحتِهم، مُقتربين منهم، مُستديرين عليهم، مُحْدِقِين بهم؛ ليس ثمَّ في المجلسِ فُرْجةٌ إلا ويَسُدُّها مَلَكٌ كريمٌ؛ فلا مكانَ للشياطينِ في ذلك المجلسِ المحفوفِ بأجنحةِ الملائكةِ الكرامِ من موقعِ المجلسِ في الأرضِ صُعُدَاً في أجْوازِ الفضاءِ حتى السماءِ الدنيا، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ". وحضورُ الملائكةِ مَشاهدَ الإيمانِ سببٌ لزيادةِ سكينةِ أهله إضافةً إلى السكينةِ التي تنزلتْ عليهم بتلاوةِ القرآنِ وتعلُّمِه.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ، فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون!
ورابعُ الفضائلِ وخيرُها ذكرُ اللهِ لأهلِ ذلك المجلسِ في الملأِ الأعلى عند ملائكتِه المقرَّبين؛ " وذكرَهم اللهُ فيمن عنده "؛ ثناءً عليهم، ومباهاةً بهم، وتنويهاً بذكرِهم؛ فذاكم أعظمُ الذكرِ وأشرفُه؛ ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45]. فلِأسماءِ أهلِ المجالسِ القرآنيةِ دويٌّ عالٍ في الملأِ الأعلى بذكرِ اللهِ لهم. ويا هناءَ مَن كان صيتُ اسمِه مُدَوِّياً في الملأِ الأعلى بذكرِ اللهِ له! فبذلك الثناءِ تكونُ المحبةُ الربانيةُ التي بها تُنشَرُ المحبةُ للعبدِ في أهلِ السماءِ، ويُوضَعُ له القبولُ في الأرضِ؛ فيستقرُّ له لسانُ الصدقِ الذي لا يَنالُ من جَنابِ ثنائِه ذمُّ الحاقدين وإفكُ الكاذبين وتشويهُ المتربِّصين. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إذا أحبّ اللهُ العبدَ نادَى جبريلُ: إنّ اللهَ يحبّ فلاناً فأحببْه، فيحبُّه جبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السماءِ: إنّ اللهَ يحبّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. قال كعبُ الأحبارِ: " واللهِ، ما استقرَّ لعبدٍ ثناءٌ في الأرضِ حتى يستقرَّ له في أهلِ السماءِ ". ويا للهِ كم مِن مجلسٍ مشهودٍ في السماءِ لا يَعلمُ به أهلُ الأرضِ، أو كانوا فيه من الزاهدين! ويا للهِ كم مِن مغمورٍ في الأرضِ لِذكرِ مجلسِه دويٌّ في الملأِ الأعلى عند ربِّ العالمين! وهل ثمَّ مجلسٌ أشرفُ من مجلسٍ هذه بعضِ فضائلِه؟!
عبادَ اللهِ!
إنَّ من أشدِّ الحرمانِ أنْ يَحرمَ العبدُ نفسَه من بركةِ المجلسِ القرآنيِّ الذي به صلاحُ دينِه ودنياه وآخرتِه، وألّا تكونَ له عنايةٌ بتلك المجالسِ؛ محبةً وحرصاً ودعماً وحضوراً وحثاً للغَيرِ. هذا، وإنَّ بيوتَنا أشدُّ ما تكونُ حاجةً إلى هذه المجالسِ القرآنيةِ، ولو دقائقَ معدودةً من الزمنِ، خاصةً في هذا الوقتِ؛ لتحلَّ بركتُها فيها، ويَنعمَ أهلُها بتلك البركةِ؛ فتسْلَمَ من داءِ الغفلةِ، وتسلُّطِ شياطينِ الجنِّ والإنسِ، وضيقِ النفوسِ ونفرتِها، وتغنمَ من بركةِ العيشِ وطِيبِ الرزقِ. قال أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه-:" إنَّ البيتَ لَيتسعُ على أهلِه، وتحضرُه الملائكةُ، وتهجرُه الشياطينُ، ويكثرُ خيرُه؛ أنْ يُقرأَ فيه القرآنُ، وإنَّ البيتَ لَيضيقُ على أهلِه، وتهجرُه الملائكةُ، وتحضرُه الشياطينُ، ويَقِلُّ خيرُه؛ أن لا يُقرأَ فيه القرآنُ ".
جلساتُ ذكرٍ بالكتابِ المُنْزَلِ
تسمو بمُرْتادٍ إلى النُّزلِ البَهي
فيها السكينةُ والهمومُ ترحَّلتْ
وتُطافُ بالرحماتِ والمَلَكِ العَلي
ولِذِكرِها ذِكرٌ عظيمٌ عاطرٌ
في مجلسِ الملأِ العليِّ الأَهْيَبِ