مشاهدة النسخة كاملة : الآثار الإيجابية لموقف قريش من النبي والمسلمين على الدعوة الإسلامية (2)


حكاية ناي ♔
02-15-2024, 07:38 AM
الآثار الإيجابية:

أولًا: ظهور دين الحق على الرغم من معارضة قريش ومحاربتها له:

إن سنة الله تعالى في نصر المؤمنين لا تتخلف أبدًا، لأنها إخبار من الله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾[1]، وهذا النصر لا يأتي عادة دون جهد عظيم يبذلونه، وتضحية يقدمونها في مدافعتهم لأهل الباطل، وأذى شديد يلحقهم، وبعض غلبة هؤلاء المبطلين عليهم، وهذا لا يتعارض مع سنة الله تعالى في نصر المؤمنين؛ لأن الأمور بخواتيمها وعاقبتها.



ولكن قد يتأخر النصر أحيانًا؛ لأن الله تعالى يريد لهم النصر الأكبر والأعظم والأدوم والأكثر تأثيرًا في واقع الحياة، فنصر الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين، لم يحصل في يوم وليلة، ولا في سنة واحدة، وإنما تأخر- لحكمة يعلمها تعالى -فلم يحصل إلا بعد مضي أكثر مدة نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وقد حصل هذا النصر بالغلبة والانتصار على قريش، وبفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، ودخول الناس بسبب هذا النصر في دين الله أفواجًا[2].



ومن هذا النصر أن تجد أشد الناس عداوة للدعوة وللمسلمين، وقد أراد الله لهم الخير وهداهم للإسلام، تراهم قد انقلبت عداوتهم للإسلام جهادًا في سبيله والدعوة إليه، فتلقي مكة بأفلاذ كبدها -بعد صلح الحديبية- مسلمين، فيسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد[3] وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم، ويدخل زعماء قريش في الإسلام بعد الفتح، وينضمون إلى ركب المجاهدين في سبيل الله، ويساهمون في ظهور دين الإسلام (ومن سنَّة الله أنَّه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه، فيُحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)[4]، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾[5].



ثانيًا: اكتساب الدعوة لمدافعين ومناصرين من المشركين:

مكة بيئة قبلية تتميز بالحميَّة، وبالنخوة العربية، التي تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس منهم[6]، وقد تأثر بعض المشركين لما يلقاه المسلمون من اضطهاد ومعاناة، وناصروا المسلمين، وذلك مثل معارضة ابن الدُغُنَّة هجرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى الحبشة وعرض جواره وحمايته عليه، وكان ذلك منه لفضل أبي بكر رضي الله عنه وكرم أخلاقه.



كما كان غضب حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه[7] إظهارًا لمكنون إيمانه، وحمية لابن أخيه، حين مرّ أبو جهل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا، فآذاه وشتمه، وبلغ ذلك حمزة رضي الله عنه، فاحتمله الغضب،وخرج يسعى إلى أبي جهل وشجَّه في رأسه شجَّةً منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرُد ذلك عليَّ إن استطعت[8].



بل أن بعضهم قد يكون عونا للمسلمين في بلوغهم مطلبهم، كما فعل عثمان ابن طلحة رضي الله عنه[9] في مرافقته لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها[10] في هجرتها إلى المدينة - وكان آنذاك مشركا-حتى أوصلها إلى مشارف المدينة[11].



ولما صدت قريش المسلمين عن الحرم في غزوة الحديبية، وأرسلت قريش الحُلَيْس بن عَلْقَمة[12] سيد الأحَابِيش[13]، استعظم ذلك، وقال لهم: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصد عن بيت الله من جاء معظمًا له، والذي نفس الحُليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: مه، كف عنا يا حُليس حتى نأخذ لنفسنا ما نرضى به [14].



وهناك كثير من النفوس تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تَملِك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة السانحة لمواجهته، وواجب الدعوة إلى الله، أن ترصد هذه النوعيات، وتنفذ إلى أعماقها، وتفضح الحقد الذي يحرك خصومها، فقد تستطيع من خلالها أن تهيئ للدعاة إلى الله وللدعوة أمنًا وحرية وقوة[15].



ثالثًا: ظهور التخلخل في صفوف المشركين:

لقد واجه المسلمون المشركين بصفوف متراصة قوية، فقد كانوا على قلب رجل واحد، بينما كانت صفوف المشركين متخلخلة ضعيفة، وتباينت مواقفهم من الدعوة الإسلامية، وذلك لتفاوت دوافعهم في حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحصل شيء من الخلاف بين قادة المشركين وأفرادهم، في بعض معاركهم مع المسلمين، مما أوهن عزائمهم وأضعف قوتهم، وقَوّى الشك في نفوسهم ضد الأهداف والدوافع التي يقاتلون من أجلها.



وقد ظهر ذلك جليًا في غزوة بدر [16]، لما رجع الأخنس بن شريق ببني زهرة جميعا، فلم يشهدوا المعركة، وذلك لعدم اقتناعهم بسبب القتال[17]. وكان في جيش قريش طالب بن أبي طالب، فجرى بينه وبين بعض قريش محاورة، فقالوا له: والله لقد علمنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع محمد، فرجع طالب مكة مع من رجع.[18]



هنا وفي الغزوة ذاتها، حاول حكيم بن حزام [19] وعتبة بن ربيعة [20]، أن يثنيا الجيش عن القتال، ويعودوا به إلى مكة، وقام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلّوا بين محمد وسائر العرب، فان أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرّضوا له ما تريدون.[21] إلا أن أبا جهل أثار الحمية في نفوس المشركين، فصمموا على القتال.



وإن من المعلوم (أن من عوامل الانتصار لأي فريق أن يدب الخلاف في صفوف الفريق المقابل، فتتزعزع جبهته الداخلية، وتتفرق كلمته، فيصبح خائر القوى، يمكن تحقيق النصر على حسابه، وهذا الذي كان وهو من فضل الله على المسلمين في بدر).[22]



وقد حذر الله تعالى المؤمنين من التنازع وتفرق الكلمة، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾[23].



رابعًا: إعداد قادة ودعاة مؤهلين لحمل الدعوة الإسلامية، يبذلون في سبيلها النفس والنفيس:

أنتجت عداوة قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولدعوة الإسلام جيلًا قويًا من الصحابة، يتولى الله ورسوله والمؤمنين، ويبذل النفس والنفيس لنصرة دين الله، يحارب الكفار ويعاديهم، ويلتمس الفرص لجهادهم، بسبب صدهم عن الحق، وأذاهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، ويرفع لواء الموالاة لله ولرسوله وللمؤمنين، والبغض والمعاداة للكافرين، يوضح ذلك دعاء سعد بن معاذ رضي الله عنه: (اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظنّ أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك..)[24]



ولما أسلم ثمامة ابن أثال[25] رضي الله عنه، وقدم إلى مكة معتمرا، (قال له قائل: أصبوت؟ قال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله! لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)[26].



ولقد تحمل المسلمون من المشركين أشد أنواع الأذى والابتلاء المادي والمعنوي، وقد كان لتحملهم وصبرهم وكفاحهم أعظم الآثار في انتشار الإسلام، ونجاح الدعوة، بعد أن علَّمهم إيمانهم القوي وعقيدتهم الثابتة، اقتضاء حكمة الله تعالى امتحان النفوس وابتلاءها، ليظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ولتقوية تلك النفوس على القيام بأمر الدعوة وواجباتها، فكان ما أصابهم من الأذى والمشقة تمحيصًا لإيمانهم ودافعًا لهم إلى التضحية والجهاد في سبيل الدعوة ونشرها[27].



وكانت هذه الروح المعنوية العالية عند المؤمنين، تهوّن عليهم الشدائد، وتمدهم بالصبر والثبات في الأزمات، وبهذا الولاء للمسلمين وحبهم والبراء من المشركين وبغضهم، فتح الصحابة البلاد، ونشروا دين الله في أنحاء الأرض.



خامسًا: إيجاد قواعد للدعوة خارج مكة:

على الرغم من موقف قريش العدواني من الدعوة الإسلامية، فإنها لم تتوقف أبدًا، ولم يستطع موقفهم العدائي أن يحول دون تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرسالة ربه، ولم يثن الصحابة عن دينهم أو عن نصرة رسولهم والجهاد معه، بل أنّ تكذيب قريش وصدّهم عن سبيل الله، كان سببا لعرض الرسول نفسه على القبائل، بحثا عمن يحميه وينصره ليبلغ الدعوة.



ولما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، سخّر له رهط الخزرج، الذين صدقوه وآمنوا بدعوته، وحملوها إلى قومهم، فدخلوا في الإسلام[28]، وكسبت الدعوة الكثير من المؤمنين والمدافعين عنها، وكانت المدينة هي القاعدة التي آوى إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون، ومنها انطلق الدعاة حاملين دعوة الإسلام، وفيها عقدت ألوية الجيوش الإسلامية.



وقبل ذلك كان أذى قريش دافعًا لهجرة المسلمين إلى الحبشة، وسببا في تمكين المسلمين من تبليغ رسالة الإسلام خارج جزيرة العرب، فهذا جعفر بن أبي طالب[29] رضي الله عنه يقف في بلاط النجاشي، ويشرح أصول الإسلام للنجاشي وبطارقته، وذلك لما حاولت قريش إعادة المهاجرين إلى مكة.[30]



وقد قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، عشرون رجلا من نصارى الحبشة لما بلغهم خبره، فكلموه وسألوه، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، ويقال: إنه نزل فيهم قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾.[31]



سادسًا: تنوع أساليب الدعوة ووسائلها تبعًا لمراحل الدعوة:

لما اصطفى الله تعالى نبيّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، (وأنزل عليه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۞ قُمْ فَأَنْذِرْ ۞ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ۞ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ۞ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ۞ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ۞ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾[32]، شمّر عليه الصلاة والسلام عن ساق الجد لحمل أمانة الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، ولما نزل عليه قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾[33] صدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم)[34].



وخاض النبي - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته معارك قاسية لتبليغ الرسالة، استمرّت سنين طويلة، ولم يكن جهادهم مع قريش كله جهاد حرب وقتال، بل كان ابتداء جهاد دعوة ومجاهدة وقد تميزت الدعوة في العهد المكي بالحكمة وضبط النفس والصبر على الأذى، والكف عن القتال، مع الصدع بكلمة الحق، والجهر بالدعوة بالحجة والبيان.



وبعد هجرة المسلمين لتكوين نواة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، شُرع الجهاد بالسيف لإعلاء كلمة الله، فتميزت الدعوة في العهد المدني -وإن كانت مبنية على بعض الأسس السابقة- بانطلاق جيوش المسلمين يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وبإرسال الرسل، لنشر دعوة الإسلام داخل جزيرة العرب وخارجها.

احساس
02-15-2024, 07:41 AM
جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله