مشاهدة النسخة كاملة : أساليب المشركين في محاربة الدعوة (4)


حكاية ناي ♔
02-19-2024, 09:20 AM
الخطبة الأولى

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رُسُلك، وأنزلت علينا خير كُتُبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهُمَّ لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون، تحدَّثْنا في الخطبة الماضية عن أسلوب المشركين للصدِّ عن دعوة الحق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم،وهو أسلوب المساومات والمفاوضات، ورأينا الحوار الذي دار بين عتبة بن ربيعة، والنبي صلى الله عليه وسلم، ثم العرض الذي عرضه بعض صناديد قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا بدون استحياء: "تعبد آلهتنا سنةً ونعبد إلهَك سنةً"، فكان سببًا في نزول سورة الكافرون، فتعلمنا الاعتزاز بالدين، وعدم التنازُل قيد أُنْمُلة عنه، ولا يزال حديثنا مستمرًّا عن بعض تلكم الأساليب في خطبتنا اليوم[1].


عباد الله،من الأساليب الأخرى للمشركين في محاربة الدعوة نذكر ما يلي:

الأسلوب الثامن: سب القرآن ومُنْزِله ومَنْ جاء به:

عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبُّوا القرآن، ومن جاء به، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُخفي القرآن فما يسمعه أصحابه، فأنزل الله: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110]، والمعنى: لا تعلن بالقراءة بالقرآن إعلانًا شديدًا يسمعه المشركون فيؤذونك، ولا تخفض صوتك حتى لا تسمع أذنيك أو أصحابك، ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾؛ أي: اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقًا، لا جهرًا شديدًا، ولا خفضًا لا تسمع أذنيك، فذلك القدر، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله، يفعل الآن أي ذلك شاء.



لكن السؤال لماذا المشركون يسبُّون القرآن؟ يسبُّونه؛ لأنهم يرفضون أحكامه والوقوف عند حدوده، وجاء على خلاف أهوائهم، ومن يأتي في زماننا يرفض شريعة الرحمن، ويرفض التحاكُم إليه، في حين يرضى بقوانين تخالف أحكامه، فلا يختلف إذن مع هؤلاء، ووجد في زماننا من يكرهون القرآن، ويكرهون أهل القرآن؛ فلذلك هجروه، سواء:

• هجر التلاوة، فلا يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار.



• وسواء هجر الفهم والتدبُّر، فهم يقرأونه نعم؛ ولكن لا يفهمون شيئًا، ولايسألون من يفهم.



• أو هجر الاحترام فنجد من تلاميذنا من يقطعون الآيات من الكتاب المدرسي لأجل استعمالها في الغش، فإذا أتم جريمته شفعها بجريمة أخرى؛ فيُلقيها على الأرض تدوسها الأقدام.



• أو هجر العمل، فالقرآن عندهم فقط للتبرُّك أو القراءة على الأموات؛ لكن أن يعمل به ليحيا حياةً جديدةً فهو بعيد عنه، ويوم القيامة يشكو الرسول إلى ربِّه هذا الهجر، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].



الأسلوب التاسع: الاتصال باليهود للإتيان منهم بأسئلة تعجيزيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم:

ذكر ابن هشام أن قريشًا أرسلت النَّضْر بن الحارث وابن أبي مُعَيْطٍ إلى أحبار يهود يسألانهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكِتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فَرَوا فيه رأيَكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟



فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبي، وإن لم يفعل، فهو رجل متقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.



لكن قبل تتمة هذا الحدث إخواني نقف وقفةً: الذي يدعو للتأمُّل، أنه إذا كانت قريش تعلم أن أهل الكتاب عندهم علم الأنبياء، فلماذا لم يتبعوهم، فيدخلوا في دين اليهودية أو النصرانية، ودينهم أحسن من الشرك على كل حال؟ وهذا القصد إليهم إنما هو قصد مصلحي نفعي، فهم يتحالفون مع أيٍّ كان؛ لأجل إسقاط دين محمد صلى الله عليه وسلم وهيهات، ولماذا لم يدخل أهل الكتاب في الدين لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا وتبيَّن صِدْقه، هذ ييين أن مِلَل الكُفْر بمختلف نحلها تتفق بينها إذا كان العدوُّ هو الإسلام، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32].



فاللهُمَّ، أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزُقنا اجتنابه، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:

رأينا في الخطبة الأولى أن من أساليب قريش سبَّ القرآن ومُنْزِله، ومن جاء به، ثم ذهبوا عند اليهود للإتيان بأسئلة تعجيزية - وقد سمعتم ما قالته اليهود- فلما أقبل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيْطٍ، حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فَرَوا فيه رأيَكم.



فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوَّافًا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدًا فانصرفوا عنه، ولم يستثن (أي: لم يقل، إن شاء الله)، ولنا هنا وقفة:

قال الإمام النووي: يستحب للإنسان إذا قال: سأفعل كذا أن يقول: إن شاء الله تعالى على جهة التبرُّك والامتثال؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، وقالها موسى عليه السلام للخضر: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69]، وقالها الذبيح في قوله عليه السلام: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]؛ ولذلك مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم-فيما يذكرون-خمس عشرة ليلةً لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة (أي: خاضوا في الأخبار السيئة)، وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة ليلةً، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وهذا يُبيِّن أن الداعي إلى الله عليه التبليغ والسعي بغاية ما يمكنه، مع التوكُّل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف.



وفيها خبر ما سألوه عنه من أمر الله الفتية، والرجل الطوَّاف، وأما الروح فنزل فيها قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، فاللهُمَّ اهدنا، واهْدِ بنا، واجعلنا هداةً مهتدين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين؛

بلسم الروح
02-19-2024, 09:21 AM
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك