مشاهدة النسخة كاملة : أساليب المشركين في محاربة الدعوة (5) طلب المعجزات


حكاية ناي ♔
02-19-2024, 09:21 AM
الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضلَ رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:

فقد تحدثنا في آخر خطبة عن أسلوبين من أساليب المشركين في الصدِّ عن الدعوة؛ وهما: سب القرآن ومُنْزله وعلى من أنزل، ولا يزال القرآن يُحرَق من طرف مشركي العصر وملاحدته؛ كما وقع مؤخرًا في دولة السويد: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]، والأسلوب الثاني: الاتصال باليهود للإتيان منهم بأسئلة تعجيزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا الحدث، وأهم الأسئلة التي جاؤوا بها من اليهود، ولا يزال حديثنا في هذه الخطبة[1]عن بعض تلكم الأساليب.



عباد الله: من الأساليب الأخرى للمشركين في محاربة الدعوة نذكر ما يلي:

الأسلوب العاشر: طلب المعجزات:

بعد فشل قريش في الحوار والمساومات، والإتيان بالأسئلة التعجيزية وغيرها من أساليبهم، بدؤوا يطلبون المعجزات؛ كي يعجِزوا بها النبي صلى الله عليه وسلم في زعمهم؛ قال تعالى في تحديد مطالبهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 90 - 93]، فمجمل طلبات المشركين تتجلى فيما يلي:

الطلب الأول: قال المشركون: لن نؤمن بك حتى تُخرِج لنا من أرض مكة عينًا جارية.



الطلب الثاني: قالوا: لن نؤمن بك حتى يكون لك بستانٌ كثير الأشجار، فتجري فيه الأنهار بغزارة.



الطلب الثالث: قالوا: لن نؤمن بك حتى تُسقِطَ علينا السماء - كما ذكرت - قطعًا من العذاب؛ وهم يشيرون إلى قوله تعالى في سورة سبأ: ﴿ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [سبأ: 9]، فلماذا لم يأتِهِمُ العذاب رغم أنهم يطلبونه؟ الرد في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 53]؛ أي: لولا أن الله قدَّر لعذابهم وقتًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، لَجَاءهم ما طلبوا من العذاب، وليأتينهم فجأة وهم لا يتوقعونه.



الطلب الرابع: قالوا: لن نؤمن بك حتى تجيء بالله والملائكة عِيانًا، حتى يشهدوا لك بصحة ما تَدَّعِيه.



الطلب الخامس: قالوا: لن نؤمن بك حتى يكون لك بيت مزخرف بالذهب وغيره.



الطلب السادس: قالوا: لن نؤمن بك حتى تصعد في السماء، في سُلَّمٍ، ونحن ننظر إليك، ولن نؤمن بأنك مرسَل إن صعدت إليها، إلا إذا نزلت بكتاب من عند الله مسطورٍ، نقرأ فيه أنك رسول الله، وفي تفسير مجاهد: "كتاب من رب العالمين إلى فلان بن فلان، لكل رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها".



فأمر الله رسوله بالرد عليهم وقال له: قل لهم أيها الرسول: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 93]، كسائر الرسل، لا أملك الإتيان بشيء، فكيف لي أن أجيء بما اقترحتموه؟ لكن هل الله يعجزه ما ذكروا، لو أراد أن يحققه لنبيه؟ أبدًا، وتأملوا فيما طلبه الحواريون من عيسى عليه السلام؛ قال الله حكاية عنهم: ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 112 - 115]، فحقَّق الله لهم وعده، فأنزلها عليهم.



وكذلك بالنسبة لهؤلاء، ولو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادًا لأُجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرًا وعنادًا، ويؤكد هذا ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، ونؤمن بك، قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال: فدعا، فأتاه جبريل، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبتُه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة، قال: بل باب التوبة والرحمة))[2]، وعند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: ((عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة[3] ذهبًا، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا - أو قال ثلاثًا أو نحو هذا - فإذا جُعْتُ تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبِعت شكرتك وحمدتك))[4].



ونفهم من هذا في واقعنا الأدب في السؤال؛ فالتلميذ يحتاج سؤال أستاذه، والمستفتي يحتاج طلب الفتوى من العلماء؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، فالواجب السؤال سؤالَ الجاهل الذي يريد معرفة الجواب، لا سؤال العارف بالجواب ويريد الاختبار، أو التعجيز، أو الإحراج، فهذا لا يبارك الله في تعلمه لفساد النية، والله المستعان.



فاللهم إنا نعوذ بك من سبيل المشركين، ربنا آمنا واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.



الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلى الله على عبده المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى؛ أما بعد عباد الله:

فقد رأينا في الخطبة الأولى محاولة قريش تعجيزَ النبي صلى الله عليه وسلم من خلال طلب المعجزات، ورأينا أن الله قادرٌ على تمكين نبيه منها كما مكَّنه من غيرها، لولا أنهم يسألون سؤال المتعنِّت، لا سؤال المسترشد.



ومما يدل على قدرة الله عز وجل، وأنه لا يعجزه شيء: معجزةُ انشقاق القمر؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمكة في ليلة قمراء، ومعه نفر من أصحابه، فاجتاز بنفر من المشركين، فقالوا له: يا محمد، إن كنت رسول الله كما تزعم، فاسأل ربك أن يشق هذا القمر، فسأل الله ذلك، فشقَّه نصفين؛ نصف فوق الجبل ونصف دونه، فقال لهم: ((اشهدوا))، فلما تأكد لهم وقوعه، فقال أبو جهل: هذا سحر، فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ينظروا: أرَأَوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقًّا، فقالوا (يعني الكفار): هذا سحر مستمر.



فتبين - إذًا - تكبرهم وأنهم لا يريدون المعجزات – وها هي قد بانت لهم المعجزات - وإنما يريدون التعجيز؛ كي لا يؤمنوا.



وفي ذلك أنزل الله سبحانه سورة القمر؛ فقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [القمر: 1 - 5].



فاللهم اجعلنا من المعترفين بآلائك، ونعمك، وقدرتك، ونعوذ بك من جحودها والتكذيب بها، آمين.

صمتي شموخي
02-19-2024, 09:21 AM
اسأل الله العظيم
أن يرزقك الفردوس الأعلى من الجنان.
وأن يثيبك البارئ خير الثواب .
دمت برضى الرحمن