حكاية ناي ♔
02-19-2024, 09:34 AM
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هــادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـــــريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورســــــــولُه القائل:((كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ))، وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يقول: إِذَا أمْسَيتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ))[1].
يا شاكيًا همَّ الحياة وضيقها
أبشِر فربُّك قد أبان المنهجا
من يتقِ الرحمنَ جلَّ جلالُه
يجعل له من كلِّ ضيقٍ مَخْرَجا
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ سيدنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.
أيها المسلم الكريم، هذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذات يوم دخل على زوجته أم كُلْثُوم، فشمَّ رائحة طيبة في خمارها، فسألها من أين لك هذه الرائحة الطيبة؟
فقالت: يا أمير المؤمنين، دخلت علينا نعيمة العطارة- وهذه المرأة مشهورة ببيع وشراء العطور في المدينة- وقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه قد كلَّف زوجته أم كلثوم بأن تتولى بيع عطور بيت المال، ولا تأخذ أجرة على هذا العمل- يعني: تعمل ابتغاء وجه الله عز وجل-.
فتقول أم كلثوم: دخلت علينا نعيمة العطارة، فبعتها من عطور بيت المال، فلما كنت أفتح العطور وأسدها، وأكسر من البخور تعَلَّق بيدي شيء منها، فمسحته بخماري، فعندما سمع سيدنا عمر رضي الله عنه كلامها أتدرون ماذا فعل؟!
نزع خمارها، ووضعه في الماء، وقام بعصره، ثم وضعه في الماء وقام بعصره، ثم شَمَّه فوجد الرائحة ما زالت موجودة، فوضعه في الماء ثم عصره، وظل هكذا حتى ذهبت رائحته، ثم قال لزوجته: يا أم كلثوم، (لا تطعمينا نارًا في أجوافنا يوم القيامة)[2].
الله أكبر، أي ورع هذا يا بن الخطاب! آثار متبقية من العمل الذي تعمل به مسحت به خمارها، والعمل الذي تعمل به لا تأخذ عليه أجرة؛ وإنما لوجه الله تعالى، ومع ذلك يقول لها: (يا أم كلثوم، لا تطعمينا نارًا في أجوافنا يوم القيامة)، فإذا كان عمر رضي الله عنه لم يرض على هذه الآثار، فكيف بمن يسرق من عطور المسلمين؟! كيف بمن ينهب من ممتلكات المسلمين؟! كيف بمن يسرق أموال المسلمين؟!
فهذا التصرف من سيدنا عمر رضي الله عنه ورع وتقوى، وزيادة في الحيطة، والحذر من الشبهة، وإلا فإن غسل الخمار لن يعيد الطيب إلى المسلمين؛ ولكنه أتلف رائحته على امرأته زجرًا وردعًا وخوفًا أن يتعدى هذا إلى غيره، هذا هو الورع عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فأين الأمة اليوم من هذا الورع؟
الوَرَعُ أيها الأحبة هو: (اجتنابُ الشُّبُهاتِ خوفًا من الوقوعِ في المحرَّماتِ)[3]، وعرَّفه القَرافيُّ بقَولِه: (تَركُ ما لا بأسَ به؛ حذَرًا ممَّا به البأسُ)[4].
ولأهمية الورع في ديننا جاء في السنة النبوية الترغيب في التورع عن الشبهات، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[5].
المسلم من السهولة بمكانٍ أنْ يكون مُصَلِّيًا أو صَوَّامًا أو قوَّامًا، أو خَطيبًا أو مُعَلِّمًا، أو داعيةً، أو عالِمًا؛ ولكن من الصعوبة بمكانٍ أنْ يكون وَرِعًا؛ لأنَّ الوَرَعَ رُتْبةٌ عَزِيزة المنال.
ولذلك يقول التابعي الجليل حبيبُ بنُ أبي ثابتٍ رحمه الله: (لا يُعْجِبُكُمْ كَثْـــــرَةُ صَلَاةِ امْرِئٍ وَلَا صِيَامِهِ؛ وَلَكِنِ انْظُـــــرُوا إِلَى وَرَعِهِ، فَإِنْ كَانَ وَرِعًا مَعَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ؛ فَهُــــوَ عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا)[6]. ويقول سيدنا الْحَسَـــــنُ البصريُّ رحمه الله: (مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)[7].
الوَرَع ليس هو الكفُّ عن المحارم، والتَّحرُّج منها فقط؛ بل هو بمعنى الكَفِّ عن كثيرٍ من المُباح، والانقباض عن بعضِ الحلالِ؛ خشيةَ الوقوع في الحرام.
لذلك يقول سيدنا أبو بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه: (كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلَالِ؛ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ)[8]، ويقول الحسَنُ البصريُّ رحمه الله: (مَا زَالَت التَّقْوَى بالمُتَّقين حَتَّى تَرَكُوا كثيرًا من الْحَلَال؛ مَخَافَة الْحَرَام)[9].
ومِنْ أعْظَمِ مَجالاتِ الوَرَع أنْ يَتْرُكَ المُؤمِنُ ما لا يَعْنِيه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))[10]، قال ابنُ القيِّم رحمه الله: (جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَقَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ»، فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ)[11].
فتأمَّلوا حالَ الناس اليوم، فإنَّ كثيرًا منهم يَنْشَغِلُ بالأمور التي لا تَعْنِيهم، ومَنْ تأمَّل مجالسَهم ومحادثاتهم عَرَفَ ذلك جَيِّدًا، واللهُ تعالى نَفَى الخيرَ عن كثيرٍ مِمَّا يتناجى به الناسُ بينهم، فقال: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114].
ومن أجمل ما قرأت عن قصص أهل الورع، ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((إِنِّي لأَنْقَلِبُ -أي: أنصرف وأرجع- إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْفِيَهَا!))[12].
نبينا صلى الله عليه وسلم يرى التمرة على فراشه؛ يعني: في بيته، لم يجدها في بستان، ولا في طريق، ولا في سوق، ومع ذلك لا يأكلها؛ خشية أن تكون من الصدقة، فأي ورع أبلغ من هذا الورع؟!
وعلى ذات الطريق سار سلفنا الصالح رضي الله عنهم؛ فلم تكن الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ طموحهم؛ بل كانوا يرونها فتنة ومتاعًا إلى حين؛ فأخذوا حيطتهم وحذرهم، حتى قال قائلهم -وهو ابن المبارك-: "لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائة أَلْفٍ"[13]، وقال: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا اتَّقَى مِائَةَ شَيْءٍ وَلَمْ يَتَوَرَّعْ عَن شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ وَرِعًا"[14].
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم الحق تجاه الشبهات.
في ذات يوم دخل سيدنا الجنيد البغدادي رحمه الله بيته، فرأى جارية جاره ترضع ولده، فعندما رأى هذا المنظر غضب سيدنا الجنيد، وصاح بها: ماذا تفعلين يا جارية؟! فمباشرة انتزع الطفلَ منها، ووضع أصبعه في فمه، وجعله يتقيأ كل اللبن الذي شربه، فقالوا له: ما بك يا إمام؟ لماذا فعلت ذلك؟
فقال لهم- واسمعوا إلى جوابه-: قال لهم: جاري يتعامل بالربا، ويأكل الحرام، وهذه الجارية تعمل عند جاري، وتأكل من طعامه، فهي تأكل الحرام، وهذه الجارية رأيتها ترضع ولدي، فهي تدخل الحرام إلى جوف ولدي، وأنا لا أرضى أن يتغذَّى واحد من أولادي على الحرام[15]، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ))[16].
فما أحوج الناس اليوم إلى الورع، في زمن قل وغاب فيه الورع، في زمن أصبح فيه الإنسان في غاية الجشع والطمع، لا يميز بين ما ينفع أو يضر، بين حلال أو حرام!
اللهم ارزقنا الورع، واملأ قلوبَنا بتقواك، واكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، وارزقنا الحلال، وبارك لنا فيه، وجنبنا الحرام وبغضنا فيه، اللهم آمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
أيها المسلم الكريم، من قصص أهــــــل الورع ما نُقِـــل عن الشيخ علَّامة العراق الشيخ الفذ المحقق عبدالكريم بيارة -الملقب بالشيخ عبدالكريم المدرس-، هذا العالم الذي كان مقيمًا في الحضرة القادرية في بغداد، كان موسوعيًّا في معظم العلوم، ومحققًا ومدققًا في علوم الشريعة، ومصلحًا اجتماعيًّا يصلح بين الناس، وعالمًا ربانيًّا زاهدًا عن الدنيا، ناسكًا عن متاعها، محبوبًا لدى الناس، متواضعًا، اجتمعت عليه كلمة علماء العراق، ترك ثروة كبيرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون الإسلامية بلغت أكثر من 150 كتابًا، توزعت على أمور العقيدة وعلم الكلام والتفسير والفقه، والنحو والصرف والبلاغة، والمنطق وغيرها. هذا العالم تُوفي سنة (2008)، ودُفن في مقبرة الحضرة القادرية الشريفة ببغداد عن عمر جاوز المائة.
كان الشيخ عبدالكريم رحمه الله من ورعه يجمع تراب المسجد الذي يُكنس، ثم يضع عليه الماء، ويُرجعه إلى الحائط، فيُقال له: لماذا تفعل ذلك؟ يقول: أخشى أن يسألني الله عنه؛ (لأنه يقول: التراب وقف للمسجد وليس لي) الله أكبر.
وفي ذات يوم أهدت له الحكومة سيارة حديثة، ومالًا عظيمًا؛ إعانة له وتوسعة، فرد المبعوث وقال له: عبدالكريم غير محتاج. وكانت تأتيه الأموال، فيفرقها على طلبة العلم المحتاجين.
هكذا كان سلطان العلماء يخاف من الله تعالى، فأين علماء السلاطين من مثل هؤلاء العلماء؟!
ومع الأسف الشديد نجد اليوم من يخرج عبر الفضائيات ليتجاوز على مقام هذا الشيخ الجليل علامة العراق المفتي عبدالكريم بيارة رحمه الله، والعلماء كما وصفهم نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماء ورثة الأنبياء))، فالإساءة لمقام العلماء إساءة لمقام الأنبياء، وإن لحوم العلماء لا يجرؤ عليها إلا عامي، لا يفقه من الدين شيئًا. والله إن علَّامة العراق الشيخ عبدالكريم بيارة لم يكن يومًا من علماء السلاطين؛ وإنما كان من سلاطين العلماء.
لذلك وقف علماء العراق يدينون هذه الإساءة، ويطالبون المؤسسات الشرعية، والمؤسسات المعنية، وعلى رأسها ديوان الوقف السني باتخاذ موقف حازم من كل من يتجاوز على رموز الأمة الإسلامية، كما طالب بتطبيق القانون العراقي لكونه يجرم الإساءة للرموز الإسلامية، فمثل هذه الإساءة هي إساءة لكل العلماء وطلبة العلم، وتهديد للأمن المجتمعي، وتشجيع للمتطرفين الذين تعودنا منهم الإساءة للعلماء والرموز الإسلامية.
اللهم من أراد الإسلام وأراد المسلمين وعلماء المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء، اللهم عليك بالمفسدين في الأرض فإنهم لا يعجزونك، اللهم اكشف أمرهم، واهتك سرهم، وانشر خبرهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.
يا شاكيًا همَّ الحياة وضيقها
أبشِر فربُّك قد أبان المنهجا
من يتقِ الرحمنَ جلَّ جلالُه
يجعل له من كلِّ ضيقٍ مَخْرَجا
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ سيدنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.
أيها المسلم الكريم، هذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذات يوم دخل على زوجته أم كُلْثُوم، فشمَّ رائحة طيبة في خمارها، فسألها من أين لك هذه الرائحة الطيبة؟
فقالت: يا أمير المؤمنين، دخلت علينا نعيمة العطارة- وهذه المرأة مشهورة ببيع وشراء العطور في المدينة- وقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه قد كلَّف زوجته أم كلثوم بأن تتولى بيع عطور بيت المال، ولا تأخذ أجرة على هذا العمل- يعني: تعمل ابتغاء وجه الله عز وجل-.
فتقول أم كلثوم: دخلت علينا نعيمة العطارة، فبعتها من عطور بيت المال، فلما كنت أفتح العطور وأسدها، وأكسر من البخور تعَلَّق بيدي شيء منها، فمسحته بخماري، فعندما سمع سيدنا عمر رضي الله عنه كلامها أتدرون ماذا فعل؟!
نزع خمارها، ووضعه في الماء، وقام بعصره، ثم وضعه في الماء وقام بعصره، ثم شَمَّه فوجد الرائحة ما زالت موجودة، فوضعه في الماء ثم عصره، وظل هكذا حتى ذهبت رائحته، ثم قال لزوجته: يا أم كلثوم، (لا تطعمينا نارًا في أجوافنا يوم القيامة)[2].
الله أكبر، أي ورع هذا يا بن الخطاب! آثار متبقية من العمل الذي تعمل به مسحت به خمارها، والعمل الذي تعمل به لا تأخذ عليه أجرة؛ وإنما لوجه الله تعالى، ومع ذلك يقول لها: (يا أم كلثوم، لا تطعمينا نارًا في أجوافنا يوم القيامة)، فإذا كان عمر رضي الله عنه لم يرض على هذه الآثار، فكيف بمن يسرق من عطور المسلمين؟! كيف بمن ينهب من ممتلكات المسلمين؟! كيف بمن يسرق أموال المسلمين؟!
فهذا التصرف من سيدنا عمر رضي الله عنه ورع وتقوى، وزيادة في الحيطة، والحذر من الشبهة، وإلا فإن غسل الخمار لن يعيد الطيب إلى المسلمين؛ ولكنه أتلف رائحته على امرأته زجرًا وردعًا وخوفًا أن يتعدى هذا إلى غيره، هذا هو الورع عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فأين الأمة اليوم من هذا الورع؟
الوَرَعُ أيها الأحبة هو: (اجتنابُ الشُّبُهاتِ خوفًا من الوقوعِ في المحرَّماتِ)[3]، وعرَّفه القَرافيُّ بقَولِه: (تَركُ ما لا بأسَ به؛ حذَرًا ممَّا به البأسُ)[4].
ولأهمية الورع في ديننا جاء في السنة النبوية الترغيب في التورع عن الشبهات، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[5].
المسلم من السهولة بمكانٍ أنْ يكون مُصَلِّيًا أو صَوَّامًا أو قوَّامًا، أو خَطيبًا أو مُعَلِّمًا، أو داعيةً، أو عالِمًا؛ ولكن من الصعوبة بمكانٍ أنْ يكون وَرِعًا؛ لأنَّ الوَرَعَ رُتْبةٌ عَزِيزة المنال.
ولذلك يقول التابعي الجليل حبيبُ بنُ أبي ثابتٍ رحمه الله: (لا يُعْجِبُكُمْ كَثْـــــرَةُ صَلَاةِ امْرِئٍ وَلَا صِيَامِهِ؛ وَلَكِنِ انْظُـــــرُوا إِلَى وَرَعِهِ، فَإِنْ كَانَ وَرِعًا مَعَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ؛ فَهُــــوَ عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا)[6]. ويقول سيدنا الْحَسَـــــنُ البصريُّ رحمه الله: (مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)[7].
الوَرَع ليس هو الكفُّ عن المحارم، والتَّحرُّج منها فقط؛ بل هو بمعنى الكَفِّ عن كثيرٍ من المُباح، والانقباض عن بعضِ الحلالِ؛ خشيةَ الوقوع في الحرام.
لذلك يقول سيدنا أبو بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه: (كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلَالِ؛ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ)[8]، ويقول الحسَنُ البصريُّ رحمه الله: (مَا زَالَت التَّقْوَى بالمُتَّقين حَتَّى تَرَكُوا كثيرًا من الْحَلَال؛ مَخَافَة الْحَرَام)[9].
ومِنْ أعْظَمِ مَجالاتِ الوَرَع أنْ يَتْرُكَ المُؤمِنُ ما لا يَعْنِيه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))[10]، قال ابنُ القيِّم رحمه الله: (جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَقَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ»، فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ)[11].
فتأمَّلوا حالَ الناس اليوم، فإنَّ كثيرًا منهم يَنْشَغِلُ بالأمور التي لا تَعْنِيهم، ومَنْ تأمَّل مجالسَهم ومحادثاتهم عَرَفَ ذلك جَيِّدًا، واللهُ تعالى نَفَى الخيرَ عن كثيرٍ مِمَّا يتناجى به الناسُ بينهم، فقال: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114].
ومن أجمل ما قرأت عن قصص أهل الورع، ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((إِنِّي لأَنْقَلِبُ -أي: أنصرف وأرجع- إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْفِيَهَا!))[12].
نبينا صلى الله عليه وسلم يرى التمرة على فراشه؛ يعني: في بيته، لم يجدها في بستان، ولا في طريق، ولا في سوق، ومع ذلك لا يأكلها؛ خشية أن تكون من الصدقة، فأي ورع أبلغ من هذا الورع؟!
وعلى ذات الطريق سار سلفنا الصالح رضي الله عنهم؛ فلم تكن الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ طموحهم؛ بل كانوا يرونها فتنة ومتاعًا إلى حين؛ فأخذوا حيطتهم وحذرهم، حتى قال قائلهم -وهو ابن المبارك-: "لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائة أَلْفٍ"[13]، وقال: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا اتَّقَى مِائَةَ شَيْءٍ وَلَمْ يَتَوَرَّعْ عَن شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ وَرِعًا"[14].
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم الحق تجاه الشبهات.
في ذات يوم دخل سيدنا الجنيد البغدادي رحمه الله بيته، فرأى جارية جاره ترضع ولده، فعندما رأى هذا المنظر غضب سيدنا الجنيد، وصاح بها: ماذا تفعلين يا جارية؟! فمباشرة انتزع الطفلَ منها، ووضع أصبعه في فمه، وجعله يتقيأ كل اللبن الذي شربه، فقالوا له: ما بك يا إمام؟ لماذا فعلت ذلك؟
فقال لهم- واسمعوا إلى جوابه-: قال لهم: جاري يتعامل بالربا، ويأكل الحرام، وهذه الجارية تعمل عند جاري، وتأكل من طعامه، فهي تأكل الحرام، وهذه الجارية رأيتها ترضع ولدي، فهي تدخل الحرام إلى جوف ولدي، وأنا لا أرضى أن يتغذَّى واحد من أولادي على الحرام[15]، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ))[16].
فما أحوج الناس اليوم إلى الورع، في زمن قل وغاب فيه الورع، في زمن أصبح فيه الإنسان في غاية الجشع والطمع، لا يميز بين ما ينفع أو يضر، بين حلال أو حرام!
اللهم ارزقنا الورع، واملأ قلوبَنا بتقواك، واكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، وارزقنا الحلال، وبارك لنا فيه، وجنبنا الحرام وبغضنا فيه، اللهم آمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
أيها المسلم الكريم، من قصص أهــــــل الورع ما نُقِـــل عن الشيخ علَّامة العراق الشيخ الفذ المحقق عبدالكريم بيارة -الملقب بالشيخ عبدالكريم المدرس-، هذا العالم الذي كان مقيمًا في الحضرة القادرية في بغداد، كان موسوعيًّا في معظم العلوم، ومحققًا ومدققًا في علوم الشريعة، ومصلحًا اجتماعيًّا يصلح بين الناس، وعالمًا ربانيًّا زاهدًا عن الدنيا، ناسكًا عن متاعها، محبوبًا لدى الناس، متواضعًا، اجتمعت عليه كلمة علماء العراق، ترك ثروة كبيرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون الإسلامية بلغت أكثر من 150 كتابًا، توزعت على أمور العقيدة وعلم الكلام والتفسير والفقه، والنحو والصرف والبلاغة، والمنطق وغيرها. هذا العالم تُوفي سنة (2008)، ودُفن في مقبرة الحضرة القادرية الشريفة ببغداد عن عمر جاوز المائة.
كان الشيخ عبدالكريم رحمه الله من ورعه يجمع تراب المسجد الذي يُكنس، ثم يضع عليه الماء، ويُرجعه إلى الحائط، فيُقال له: لماذا تفعل ذلك؟ يقول: أخشى أن يسألني الله عنه؛ (لأنه يقول: التراب وقف للمسجد وليس لي) الله أكبر.
وفي ذات يوم أهدت له الحكومة سيارة حديثة، ومالًا عظيمًا؛ إعانة له وتوسعة، فرد المبعوث وقال له: عبدالكريم غير محتاج. وكانت تأتيه الأموال، فيفرقها على طلبة العلم المحتاجين.
هكذا كان سلطان العلماء يخاف من الله تعالى، فأين علماء السلاطين من مثل هؤلاء العلماء؟!
ومع الأسف الشديد نجد اليوم من يخرج عبر الفضائيات ليتجاوز على مقام هذا الشيخ الجليل علامة العراق المفتي عبدالكريم بيارة رحمه الله، والعلماء كما وصفهم نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماء ورثة الأنبياء))، فالإساءة لمقام العلماء إساءة لمقام الأنبياء، وإن لحوم العلماء لا يجرؤ عليها إلا عامي، لا يفقه من الدين شيئًا. والله إن علَّامة العراق الشيخ عبدالكريم بيارة لم يكن يومًا من علماء السلاطين؛ وإنما كان من سلاطين العلماء.
لذلك وقف علماء العراق يدينون هذه الإساءة، ويطالبون المؤسسات الشرعية، والمؤسسات المعنية، وعلى رأسها ديوان الوقف السني باتخاذ موقف حازم من كل من يتجاوز على رموز الأمة الإسلامية، كما طالب بتطبيق القانون العراقي لكونه يجرم الإساءة للرموز الإسلامية، فمثل هذه الإساءة هي إساءة لكل العلماء وطلبة العلم، وتهديد للأمن المجتمعي، وتشجيع للمتطرفين الذين تعودنا منهم الإساءة للعلماء والرموز الإسلامية.
اللهم من أراد الإسلام وأراد المسلمين وعلماء المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء، اللهم عليك بالمفسدين في الأرض فإنهم لا يعجزونك، اللهم اكشف أمرهم، واهتك سرهم، وانشر خبرهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.