نور
02-23-2024, 06:20 AM
• الحمد للهِ ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله إلهُ الأوَّلينَ والآخرين، ومالِكُ يومِ الدِّين، الذي لا فوزَ إلا في طاعتِه ولا عزَّ إلا في التذللِ لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته سبحانه إذا أُطيعَ شكر، وإذا عُصيَ تاب، وغفر وإذا دُعِيَ أجاب، وإذا عومل أثاب، سبحانه لا يؤدي حق شكرهِ الشاكرون، ولا يُحصي نعماءه الحامدون، بديع السمواتِ والأرض، وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، وصفيُّه وخليلُه، فتح اللهُ بهِ أعينًا عُميًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آل بيتهِ الطاهرين وصحابته المتقين وخلفائهِ الراشدين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، ثم أما بعد:
• اليوم إن شاء الله نتكلم عن أهمية العمل الصالح، إن من أعظم نعم اللهِ عزو جل أن يوفقَ الله تعالى العبدَ للعلمِ النافع، هذا من أعظم نعمِ الله والعلم كما تعلمون هو ميراثُ الأنبياء، والعلم يرفع صاحبَه في الدنيا وفي الآخرة ولكن العلم النافع لابد أن يُثمِر العمل،قال ابن رجب الحنبلي: "العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملاً"[1].
فالعلم شجرة والعمل ثمرة، يعني العلم ليس مقصودًا لذاته، ليس مقصودًا أن يحصِّل الإنسانُ العلمَ فحسب، يقول عندي علم، درستُ كتاب كذا وكذا وحصلت على شهادات كذا وكذا، ليس هذا المقصود ليس هذا غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة للعمل الصالح، لذلك النبي صل الله عليه وسلم يبيِّن لنا هذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلم:" لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟"[2].
(ماذا عمل به)، فالإنسان سيُسأل عن هذا العلم، فالعلم إن لم يعمل به الإنسان كان حُجةً عليهِ وليس حُجةً له، كما قالَ صل الله عليه وسلم:" والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ "[3].
ما هو العمل الصالح؟
والعمل الصالح من الإيمان، وعند أهل السنة يدخل في مسمى الإيمان؛ إذ الإيمان كما قال الأئمة: (قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالقلب والجوارح والأركان).
ويتنوع العمل الصالح وتتسع دائرته ليشمل أعمال القلب وأعمال الجوارح، أعمال القلب مثل: الحب والخوف والرجاء والتوكل والصبر والرضا والاستعانة والخشوع والخشية والإخلاص وغيرها، وأعمال الجوارح مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والتسبيح والتحميد والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ومساعدة المحتاجين والسعي على الأرامل والمساكين وبرِّ الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وإكرام الضيف وغيرها من الأعمال الصالحة.
فالعمل الصالح يشمل كل ما أمر الله به وجوبًا أو استحبابًا وكل عمل يُتقرب به إلى الله، ويدخل فيه المباح أيضا إذا كانت النية فيه التقرب إلى الله عز وجل مثل: النوم والأكل بنية التقوِّى على العبادة.
هل العلم هو المقدَّم أم العمل؟
يعني أعمل أولاً ثم أتعلم أم أتعلم أولا ثم أعمل؟
الجواب: أتعلم ثم أعمل.
لماذا العلم مقدم أولاً؟
الجواب: العلم أولا حتى يكون العمل صحيحًا، فلو عمل بلا علم قد يقع في البدع أو المحرمات وهو لا يدري، لابد من العلم حتى يعرف ما هو العمل الصالح المرضي عند الله عزو جل، ولذلك لا بد أن يتعلم الإنسان حتى يعبد الله على بصيرة، حتى يعرف ما الذي يحبه الله ويرضاه ويأتي به وما الذي يكرهه ويأباه فينتهي عنه، ولهذا ذكرَ الإمام البخاري رحمه الله بابًا في صحيحهِ سماه "باب العلم قبل القولِ والعمل" واستدلَّ على ذلك بقولهِ تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19].
فبدأ الله عز وجل بالعلم وثنَّى بالعمل، قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ ثم بعد ذلك قال: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾.
قال ابن المنير: "أراد أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح النية المصححة للعمل"[4].
فالإنسان يتعلم ثم يعمل، عندما يتعلم مسألة يعمل بها.
من علم ولم يعمل فقد شابهَ اليهود المغضوب عليهم ومن عمل بلا علم فقد شابَهَ النصارى الضالين:
فاليهود كانوا يعلمون أن في هذا الزمان سيأتي نبي وعندهم في التوراة صفات النبي صل الله عليه وسلم ولما ذهبوا إليهِ ورأوه تأكدوا أنه هو النبي، لكنهم لم يؤمنوا به حسدًا وحقدًا، لأنهم كانوا يريدون أن نبي آخر الزمان يكون من بني إسرائيل من ذرية إسحاق عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل فلم يؤمنوا بهِ ولذلك كل من علم ولم يعمل فيهِ شبه من اليهود.
وكذلك الذي عمل على جهل وعلى ضلالة ولم يتعلم يشبه النصارى، يعبدون الله على ضلال وعلى جهالة، اتبعوا الرهبان الذين حرّفوا الدين، قالوا لهم الله ثالث ثلاثة والمسيح هو الله والمسيح ابن الله اتبعوهم على الضلال وعلى الشرك وعلى الكفر وعبدوا الله على هذه الضلالات وأعرضوا عن الحق.
ولذلك نحن أُمرنا في كل صلاة أن ندعو الله بهذا الدعاء الواجب: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 6، 7].
من هم الذين أنعم اللهٌ عليهم؟
قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:" صراط الذين أنعمت عليهم: عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [النساء: 69]، ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، [ وهم ] الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق"[5] انتهى.
ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم خشية الله:
العالم هو: من يخشى الله عز وجل، ويعمل بمقتضى علمه.
قال الحسن البصري: "العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه"، ثم تلا الحسن: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
قال شيخ الإسلام عن الآية: " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ. وَهُوَ حَقٌّ، وَلا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ "[6].
قال ابن مسعود رحمه الله:" ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم خشية الله"[7].
وعن الحسن قال: " العالم: الذي وافق علمَه عملُه، ومن خالف علمَه عملُه فذلك راويةُ حديث، سمع شيئاً فقاله"[8].
التحذير من ترك العمل بالعلم:
فإن الله تعالى ذمَّ هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب الذين لم يعملوا بما جاءهم من العلم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
قال بعض السلف: معنى: "فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ" يعني تركوا العمل به.
وقال الله تعالى-في ذم اليهود أيضًا -: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5].
قال الإمام الطبري-رحمه الله في تفسيره:" يقول تعالى ذكره: مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى، فحملوا العمل بها ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ يقول: ثم لم يعملوا بما فيها، وكذّبوا بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ يقول: كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبًا من كتب العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارًا فيها علم، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها" انتهى.
قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: "وهذه الآية مما ينبغي الحذر منها وخاصة لطلاب العلم وحملته. كما قال الله تعالى" بئس مثل القوم " أي تشبيههم في هذا المثل بهذا الحيوان المعروف، فإن العالم لا يسمى عالم إلا بعد العمل بعلمه"[9].
وأول من تسعر به النار يوم القيامة الذين لا يعملون بعلمهم، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه......وذكر منهم:" ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ"[10].
ولذلك قال الناظم:
وعالم بعلمه لم يعملن ♦♦♦ معذب من قبل عباد الوثن
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ"[11].
قال ابن مسعود: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا"[12].
ونقل عن علي رضي الله عنه قوله: "يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعدوا أعمالهم في مجالسهم إلى الله تعالى"[13].
على الإنسان أن يحذر أن يتعلم ثم يترك العمل ولا يعمل ولا يهتم بالعمل والله عزو جل ذَمَّ ذلك، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
وكذلك يحذر أن يدعو ولا يعمل هو في نفسه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو يترك المعروف ويقع في المنكر، وإنما الإنسان يدعوا في نفس الوقت يعمل، وليس معنى ذلك أن نترك الدعوة إلى الله ولو كنا مقصرين في العمل، لأن بعض الناس يظن أنه لو كان مقصرًا مثلاً في قيام الليل إذاً يدعوا لقيام الليل أو إلى صيام النهار، علينا أن نجتهد في العمل وفي الدعوة، لكن ما هي الصورة المذمومة؟
إن الإنسان يترك العمل بالكلية ويقع في المحرمات وينتهك محارم الله وفي نفس الوقت يأمر الناس وينهاهم، ويكون كلامه في جانب وأفعاله في جانب آخر، الصحيح أن الإنسان يحاول أن يعمل يحاول أن يجاهد وفي نفس الوقت يذكِّر غيره ويذكر نفسه، أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يعفو عن تقصيرنا.
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي
مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
فَما لي حِيلَةٌ إِلا رَجائي
بِعَفوِكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنِ ظَنّي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي
لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عَنّي
فنسألٌ الله عز وجل أن يعفو عنا وأن يغفرَ لنا تقصيرنا في حقهِ وأن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح والعلمَ النافع وأن يفتح لنا أبواب الدعوةِ إليه في كلِ مكان، الداعية جدير به أن يعمل بعلمه، أن يكونَ هو أول العاملين بما يدعو إليهِ، حتى لا يكون هذا العلم حجةً عليه يومَ القيامة، قالَ مالكُ ابنُ دينار رحمه الله:" إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزَلُّ الْقَطْرُ عَنِ الصَّفَا"[14].
الصفا يعني الحجر الأملس، مثل الرخام، يعني لو هناك مطر ينزل على حجر أملس هل يستقر فيه؟ هل الحجر الأملس يستفيد من هذا القطر؟
الجواب: لا، كذلك العالم إذا كان يعظ الناس ولكنه لا يعمل بما يقول، موعظتُه لا تؤثر في القلوب، كما يقولون (ما يخرج من القلب يصل إلى القلب)، فكم من مذكرٍ بالله وهو ناسٍ لله، وكم من مخوِّف من الله وهو جريء على الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلِخ عن آيات الله، نسأل اللهَ العفوَ والعافية.
قال أبو الأسود الدؤليُّ رحمه الله:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ
هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى
كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَأَرَاكَ تُصْلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا
أَبَدًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَقِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى
بِالعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
قال تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
قال الفضيل:" لا يزالُ المرء جاهلاً بما علم حتى يعملَ به"[15].
عن الشعبي-رحمه الله-قال: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"[16].
قال الشافعيُّ رحمهُ الله تعالى: (لَيْسَ العِلْمُ مَا حُفِظَ، إِنَّما العِلْمُ مَا نَفَعَ).
قال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجَزمي (ت104هـ) -وهو من أعلام التابعين-يخاطب أحد تلاميذه؛ واسمه أيوب: " يا أيوب – يعني ابن أبي تميمة السختياني (ت131هـ)، إذا أحدثَ الله لك علمًا، فأحدِثْ لله عبادةً ولا تكن إنما همّكَ أن تُحدِّثَ به الناسَ"[17].
يعني اجعل همّكَ أن تعمل بهذا العلم ولا يكن همُّكَ أن تحدَّثَ بهِ الناس بعضِ الناس ممكن يجلس في مجلس العلم، يجلس لماذا؟ ليتعلم، ماذا يستفيد من هذا العلم؟ يكون همُّه أن يخبِر به الناس و ينقله للناس، وكأن هذا العلم الذي سمعه ما مرَّ على قلبه، ولا أثَّر في عمله، فقط سمعه بِأنيهِ وبلغَّه بلسانهِ فقط، هذا هو الغرض عنده من مجلس العلم، يسمع ثم ينقل، إذن أين العمل و أين العبادة، أبو قلابة رحمه الله يحذرنا من هذا الأمر الذي قد يقع فيه بعض الناس و ربما لا يشعر؛ أو يكون هذا حال البعض في أول طلبه للعلم، فعلينا طلبة العلم أن نعالج نوايانا و نجاهد على الإخلاص في طلب العلم و أن تكون نيتُنا في طلب العلم و التعلم هي إصلاح أنفسنا و إصلاح قلوبنا و تحسين أعمالنا، و لا تكون النية فقط هي تعليم الناس، تعليم الناس يأتي بعد أن نعمل نحن أولا ونصلح أنفسَنا أولا، حقيقة و ليس نتوهم ذلك، فإذا أصلحنا أنفسَنا و استفدنا مما تعلمناه وأحدث لنا عبادة وعمل صالح و خلق قويم علينا أن دعوا غيرَنا للعلم و للعمل.
وطبعا نحن نسير في هذه الأمور على التوازي، يعني لا نقول نتعلم كلَ العلم وبعد ذلك سوف نعمل كلَ العمل وبعد ذلك سوفِ ندعو إلى الله، هذا لا يصلح، أعمارنا لن تكفي، ولن يحصِّل أحدٌ العلمَ كلَّه ثم بعد ذلك يعمل كلَ الأعمالَ الصالحة وبعد ذلك يدعو، وإنما يسير في كلَ هذه المسارات على التوازي، ما معنى ذلك؟
يعني يتعلم ويعمل ويدعو في نفسِ الوقت، كل ما أتعلم مسألة، أفهمها، أقيدها، أحفظها أعمل بها، أبلغها غيري، هذه هي مراتب العلم: -فهم، تحصيل، حفظ، ثم عمل ثم نشر.
قال عبد الله بن المبارك-رحمه الله-(ت181هـ): (أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)[18].
عن عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله كانَ يقول:" إنَّا أخَذْنا هذا القُرْآنَ عن قَومٍ أخْبَرونا أنَّهم كانوا إذا تَعلَّموا عَشْرَ آياتٍ لم يُجاوِزوهنَّ إلى العَشْرِ الأُخَرِ حتى يَعلَموا ما فيهنَّ، فكُنا نتعلَّمُ القُرْآنَ، والعَمَلَ به، وإنَّه سيَرِثُ القُرْآنَ بعدَنا قَومٌ ليشربوهن شُربَ الماءِ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهم، بل لا يُجاوِزُ هاهنا، ووَضَعَ يَدَه على الحَلْقِ"[19].
يعني ماذا كان منهج الصحابة في أخذ القرآن وتعلم القرآن؟
كان منهجهم العمل كانوا، فقط يحفظون عشر آيات، يتعلمون فيها من علم وإيمان وعمل ويعملون بها.
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: "كنَّا نتعلَّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْر آيات فما نُعلَّم العشر التي بعدهن حتى نتعلَّم ما أُنزِل في هذه العَشْر من العمل"[20].
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ-رضي الله عنه-قَالَ: " لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا "[21].
نماذج من حرص السلف على العمل بالعلم:
وكانوا -رحمهم الله-حريصين على العمل بالعلم، ولهذا نماذج من السلف، عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-رأى رؤيا فقصّها على النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا قال له؟
♦ قال عبد الله بن عمر:" كانَ الرَّجُلُ في حَيَاةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَتَمَنَّيْتُ أنْ أرَى رُؤْيَا، فأقُصَّهَا علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا، وكُنْتُ أنَامُ في المَسْجِدِ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَرَأَيْتُ في النَّوْمِ كَأنَّ مَلَكَيْنِ أخَذَانِي، فَذَهَبَا بي إلى النَّارِ، فَإِذَا هي مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ وإذَا لَهَا قَرْنَانِ وإذَا فِيهَا أُنَاسٌ قدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أقُولُ: أعُوذُ باللَّهِ مِنَ النَّارِ، قالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا علَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَكانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا" [22] يعني بمجرد ما علّمه النبي صلى الله عليه و سلم و أرشده إلى هذا الأمر أخذ في التطبيق ولم يترك العمل.
♦ عن أبي هريرة-رضي الله عنه قال:" أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْرٍ"[23].
♦ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَن صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً في يَومٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ له بِهِنَّ بَيْتٌ في الجَنَّةِ" قالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقالَ عَنْبَسَةُ: فَما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن أُمِّ حَبِيبَةَ وَقالَ عَمْرُو بنُ أَوْسٍ: ما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن عَنْبَسَةَ وَقالَ النُّعْمَانُ بنُ سَالِمٍ: ما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن عَمْرِو بنِ أَوْسٍ[24].
اثنتين عشرة ركعة في يومٍ وليلة يعني غير الفريضة، أيْ: ما لَيسَ بفَريضةٍ وَهيَ السُّننُ الرَّاتبَةُ، وهِي: أربعٌ قبلَ الظُّهرِ، ورَكعتانِ بعدَها، ورَكعتانِ بعدَ المغربِ، ورَكعتانِ بعدَ العِشاءِ، وركعتانِ قبلَ الفَجرِ.
قال الإمام البخاري-رحمه الله-:"ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغِيبة تضر أهلها"[25].
♦ ومن عجائب الإمام أحمد -رحمه الله-أنه قال:" ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) -أصله في البخاري[26] -، فاحتجمتُ وأعطيتُ الحجّام دينارا “، الدينار أربعة جرام وربع من الذهب، يعني من القيمة، لو قلنا الآن جرام الذهب قيمته 500ج وهو الآن أكثر من ذلك، بحد أدني 500 جنيه يعني أكثر من 1000جنيه، يريد أن يطبق السُّنة، من مِنَّا يستطيع أن يفعل ذلك.
♦ اليوم كثير من الناس مشغولين بالواتس، ومواقع التواصل، يرسلونَ الرسائل لو نظرنا كثير من الناس وجدنا همَّهم إرسال الرسائل عبر مواقع التواصل وفي هذه الرسائل تحفيز للعمل الصالح، رسائل تذكرك بصيام الاثنين والخميس كثير جداً أو بالصدقة وغيرها من الأعمال، فهذا يرسل وهذا يرسل وهذا يرسل وتدور الرسائل بين الناس، فإذا نظرنا؛ كم عدد من يعمل بهذه الرسائل؟ قليل يُوفق للعمل، إذاً عندنا مشكلة في العمل وفي التطبيق.
شروط العمل الصالح:
العمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ولا يكون كذلك إلا إذا توفر فيه شرطان:
الأول: الإخلاص لله تعالى:
قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5].
قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى في الحديث القدسي: "أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ" في الحديث القدسي:" أنا أغنى الشركاءَ عنِ الشرك من عمل عملاً أشرك فيهِ معيَ غيري تركتهٌ وشركه"[27].
وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ"[28].
الشرط الثاني: المتابعة للنبي صل الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
وقالَ النبي صل الله عليه وسلم:" مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ"[29].
"ليسَ عليهِ أمرنا": يعني ديننا، أي عمل عملاً ليس من الدين، ليس فيه إتباع للنبي صل الله عليه وسلم، ابتدع بدعة، تقرب إلى اللهِ بالبدع هذا مردود، غير مقبول.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اتَّبِعُوا وَلَا تبتدعوا فَقَدْ كُفِيتُمْ)[30].
أي: أن الشريعة كاملة، ومنهج السلف الصالح الذين طبقوا هذه الشريعة كان منهجاً كاملاً، فلسنا بحاجة إلى أن نخترع أشياء جديدة في الدين، صلوات مخترعة مثل الصلاة الألفية، أو أذكار مخترعة مثل أذكار وأوراد أصحاب الطرق الصوفية، تقرأ كذا و كذا ألف مرة و ألفين مرة مما لم يرد عن النبي صلى الله عليه و سلم، لقد كفينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد أكمل الشريعة، وأكمل التبليغ، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وقال الأوزاعيُّ: (لا يستقيمُ الإيمانُ إلَّا بالقَولِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ إلَّا بالعَمَلِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ والعَمَلُ إلَّا بنِيَّةٍ مُوافِقةٍ للسُّنَّةِ)[31].
قال ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (لَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إِلَّا بِمَا وَافَقَ السُّنَّةَ).
فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين-الإخلاص والاتباع-كان مرفوضًا مردودًا، غير مقبول، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
وقال سبحانه: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2]، قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالىَ: ﴿ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾، «هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ»، قَالُوا: «يَا أَبَا عَليٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وُأَصْوَبُهُ؟»، فَقَالَ: «إِنَّ العَمَلَ إِذاَ كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ َيَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. الخَالِصُ أَنْ يَكُونَ للهِ، وَالصَّوابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ»[32]، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى:﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
هذا بالنسبة للصلاح. أما بالنسبة للقبول فيزيد شرط ثالث ألا وهو الإسلام. فالكفار في كل زمان، وكل من لم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا قيمة لعمله مهما عمل؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم -شيء; وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله.
فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ"[33]انتهى.
وقال جل شأنه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح; فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها، فقال تعالى: ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم ) أي: مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى; لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء، فلم يجدوا شيئا، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة ( في يوم عاصف ) أي: ذي ريح عاصفة قوية، فلا [ يقدرون على شيء من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا إلا كما ] يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم "[34].انتهى.
وقد اشترط الله في كتابه الإيمان كشرط لقبول العمل الصالح، فقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]. فقال: وهو مؤمن.
فشرط القبول هو الإيمان-التوحيد، قال اللهٌ عز وجل: " ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [الزمر: 65].
لأن الكافر لا يُقبَل عملُه، المشرك لا يُقبَل عملُه، لو إنسان مشرك نصراني أو يهودي أو إنسان يعبد النار أو يعبد الشمس أو يعبد صنم لو هذا النسان تصدق بصدقة هل الله يقبلها؟
الجواب: لا صدقة الكافر غير مقبولة، لو كانَ برًّا بوالديهِ، أو خلقه حسن مع الناس، أثقل شئ في الميزان هو حسن الخلق، لكن كل هذا غير مقبول من الكافر، لماذا لأنه أصلاً كافر، أو مشرك، فشرط قبول العمل الإيمان، التوحيد، أن يكونَ من أهل التوحيد، أن يكونَ مؤمنًا.
فهذا الكافر يأخذ حظه ونصيبه في الدنيا، الله عز وجل يدفع عنه شرور يدفع عنه بلاءات، يرزقه بالصحة، يرزقه بالأولاد، يرزقه بالمال، لكن ليس له عند اللهِ شيء، ما له في الآخرةِ من نصيب، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88].
عن عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها قالت:" قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعانَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، فَهلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قالَ: لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ"[35].
كان عبدُ الله بنُ جُدْعانَ من ساداتِ قُريْشٍ وكان يُكثِر من أعمالِ الخيرِ في الجاهِليَّةِ، أي: كان مِن أفعالِ ابنِ جُدعانَ قبلَ الإسلامِ أنَّه: يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطعِم المِسكينَ؛ فسألت عائشة-رضي الله عنها-: فهل ذاك نافِعُه؟ أي: هل سَتنفعُهُ أعمالُه الصالِحةُ تلك في آخِرَتِه وهو لم يُؤمنْ بالله؟ فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: لا يَنفعُه، أي: لا تَنفعُه كُلُّ تلك الأعمالِ؛ وذلك لأنَّه لم يَقُلْ يومًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يومَ الدِّينِ، أي: لم يَكُنْ يُؤمِن بالله ولا باليومِ الآخِرِ، ولا يصدق بالبعث، لم يَكُنْ يعبد الله أصلاً وكانَ يعبد الأصنام، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه لو أسْلَمَ لنَفَعَه ما عَمِلَه في الكُفرِ من الأعمال الصالحة، فالحديث يدل أنَّ مَن ماتَ على الكُفرِ لا يَنفعُه عَمل.
فهذا دليل على أن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح.
لو أردنا آية من كتاب الله تجمع لنا هذه الشروط الثلاثة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
"أرادالآخرة " هذا شرط الإخلاص ماذا يريد من العمل؟ التقرب إلى الله الفوز بالجنة، النجاة عند الله عز وجل، هذا شرط الإخلاص أراد الآخرة لم يرد الدنيا لم يرد ما عند الناس، لم يرد المدح، لم يرد الوظيفة لم يرد أن الناس تشير إليه، لم يرد مالًا، ولا جاهًا وإنما أراد الآخرة.
"وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا." "سَعْيَهَا “شرط الإتباع، السعي الصحيح المناسب الذي فيه الإتباع لسُنَّة النبي صل الله عليه وسلم.
"وَهٌوَ مٌؤْمِنٌ "هذا شرط الإيمان.
إذاً الآية هذه جامعة الشروط الثلاثة، ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19] نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا الإخلاص.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يعفو عنَّا.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خيرُ من زكاها أنت وليُّها ومولاها. اللهم طهِّرْ قلوبَنا، اللهم طهِّرْ قلوبَنا، اللهم طهِّرْ قلوبَنا، اللهم أحسن أعمالنا اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
اللهم اهْدِنَا واهدِ بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
اللهم اقبل منا صلاتَنا وصيامَنا وصالحَ أعمالِنا يا ربَّ العالمين.
اللهم اغفر لنا واغفر للمسلمين والمسلمات.
اللهم اغفر لآبائِنا وأمَّهاتِنا ومشايخِنا وعلمائِنا يا رب العالمين.
اللهم اغفر لموتانَا ولموتى المسلمين اللهم يا رب العالمين.
اللهم اهْدِ أولادَنا وأولادِ المسلمين، يا ربِّ واجعلهم صالحين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهدُ أن لآ إلهَ إلا أنت أستغفركَ وأتوبُ إليك.
[1] كتاب " اقتضاء العلم العمل" للإمام الحافظ؛ أبو بكر الخطيب البغدادي، ص14،
نقلا عن موقع صيد الفوائد، 50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل “-أيمن الشعبان، 50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل "
[2] صحيح الترغيب (3592).
[3] صحيح مسلم (223).
[4] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (ج2-ص39).
[5] تفسير ابن كثير (ج1-ص42).
[6] "مجموع الفتاوى" (7/539).
[7] أخرجه الإمام أحمد في " الزهد " (185)، وأبو داود في " الزهد " رقم (182)، والطبراني في " الكبير " رقم (8534).
[8] رواه ابن عبد البر في " الجامع " رقم (1241).
[9] أضواء البيان (5/346).
[10] صحيح مسلم (1905)
[11] رواه البخاري: 3267، ومسلم: 2989.
[12] [مصنف بن أبي شيبة: 34547، وسنن الدارمي: 378].
[13] [جامع بيان العلم وفضله، ص: 698].
[14] كتاب " الزهد " لأحمد بن حنبل، ص 261، رابط المادة: http://iswy.co/e28ae9
[15] كتاب " اقتضاء العلم العمل" للإمام الحافظ؛ أبو بكر الخطيب البغدادي، ص37، نقلا عن موقع صيد الفوائد،
50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل “-أيمن الشعبان.
50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل "
[16] [جامع بيان العلم وفضله، ص: 712]، نقلا عن "طالب العلم والعمل"-محمد صالح المنجد.
https://almunajjid.com/courses/lessons/304
[17] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/188, 2/10)، واقتضاء العلم العمل للخطيب ص34-35 رقم38،
نقلا عن" أسس منهج طلب العلم عند السلف"-أبو خطاب العوضي.
أسس منهج طلب العلم عند السلف
[18] جامع بيان العلم وفضله (1/118).
[19] تخريج مشكل الآثار (4/ 83)، إسناده قوي.
[20] تخريج مشكل الآثار (1450)، حسن لغيره.
[21] رواه الدارمي في " السنن " (1/ 88).
[22] رواه البخاري (1122)، ومسلم (2479).
[23] صحيح البخاري (1178).
[24] صحيح مسلم (728).
[25] سير أعلام النبلاء (12/ 441).
[26] عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:" احْتَجَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ،
وأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ" – رواه البخاري (2279)، ومسلم (1202).
[27] صحيح مسلم (2985).
[28] صحيح البخاري (1).
[29] صحيح مسلم (1718).
[30] رواه الدارمي (1/ 288، تحت رقم 211)، وأبو خيثمة في كتاب العلم (ص: 16)،
وللألائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 96، تحت رقم 104)، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (3/ 506، تحت رقم 2024).
[31] رواه ابن بطة في: الإبانة الكبرى (1097) وأبو نعيم: في حلية الأولياء (6/ 144)، نقلا عن موقع الدرر السنية https://dorar.net/aqadia/3195/
[32] [«مدارج السّالكين» لابن القيّم: (2/ 93)].
[33] تفسير ابن كثير (ج6-ص9).
[34] تفسير ابن كثير (ج4-ص284).
[35] صحيح مسلم (214).
• اليوم إن شاء الله نتكلم عن أهمية العمل الصالح، إن من أعظم نعم اللهِ عزو جل أن يوفقَ الله تعالى العبدَ للعلمِ النافع، هذا من أعظم نعمِ الله والعلم كما تعلمون هو ميراثُ الأنبياء، والعلم يرفع صاحبَه في الدنيا وفي الآخرة ولكن العلم النافع لابد أن يُثمِر العمل،قال ابن رجب الحنبلي: "العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملاً"[1].
فالعلم شجرة والعمل ثمرة، يعني العلم ليس مقصودًا لذاته، ليس مقصودًا أن يحصِّل الإنسانُ العلمَ فحسب، يقول عندي علم، درستُ كتاب كذا وكذا وحصلت على شهادات كذا وكذا، ليس هذا المقصود ليس هذا غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة للعمل الصالح، لذلك النبي صل الله عليه وسلم يبيِّن لنا هذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلم:" لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟"[2].
(ماذا عمل به)، فالإنسان سيُسأل عن هذا العلم، فالعلم إن لم يعمل به الإنسان كان حُجةً عليهِ وليس حُجةً له، كما قالَ صل الله عليه وسلم:" والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ "[3].
ما هو العمل الصالح؟
والعمل الصالح من الإيمان، وعند أهل السنة يدخل في مسمى الإيمان؛ إذ الإيمان كما قال الأئمة: (قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالقلب والجوارح والأركان).
ويتنوع العمل الصالح وتتسع دائرته ليشمل أعمال القلب وأعمال الجوارح، أعمال القلب مثل: الحب والخوف والرجاء والتوكل والصبر والرضا والاستعانة والخشوع والخشية والإخلاص وغيرها، وأعمال الجوارح مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والتسبيح والتحميد والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ومساعدة المحتاجين والسعي على الأرامل والمساكين وبرِّ الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وإكرام الضيف وغيرها من الأعمال الصالحة.
فالعمل الصالح يشمل كل ما أمر الله به وجوبًا أو استحبابًا وكل عمل يُتقرب به إلى الله، ويدخل فيه المباح أيضا إذا كانت النية فيه التقرب إلى الله عز وجل مثل: النوم والأكل بنية التقوِّى على العبادة.
هل العلم هو المقدَّم أم العمل؟
يعني أعمل أولاً ثم أتعلم أم أتعلم أولا ثم أعمل؟
الجواب: أتعلم ثم أعمل.
لماذا العلم مقدم أولاً؟
الجواب: العلم أولا حتى يكون العمل صحيحًا، فلو عمل بلا علم قد يقع في البدع أو المحرمات وهو لا يدري، لابد من العلم حتى يعرف ما هو العمل الصالح المرضي عند الله عزو جل، ولذلك لا بد أن يتعلم الإنسان حتى يعبد الله على بصيرة، حتى يعرف ما الذي يحبه الله ويرضاه ويأتي به وما الذي يكرهه ويأباه فينتهي عنه، ولهذا ذكرَ الإمام البخاري رحمه الله بابًا في صحيحهِ سماه "باب العلم قبل القولِ والعمل" واستدلَّ على ذلك بقولهِ تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19].
فبدأ الله عز وجل بالعلم وثنَّى بالعمل، قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ ثم بعد ذلك قال: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾.
قال ابن المنير: "أراد أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح النية المصححة للعمل"[4].
فالإنسان يتعلم ثم يعمل، عندما يتعلم مسألة يعمل بها.
من علم ولم يعمل فقد شابهَ اليهود المغضوب عليهم ومن عمل بلا علم فقد شابَهَ النصارى الضالين:
فاليهود كانوا يعلمون أن في هذا الزمان سيأتي نبي وعندهم في التوراة صفات النبي صل الله عليه وسلم ولما ذهبوا إليهِ ورأوه تأكدوا أنه هو النبي، لكنهم لم يؤمنوا به حسدًا وحقدًا، لأنهم كانوا يريدون أن نبي آخر الزمان يكون من بني إسرائيل من ذرية إسحاق عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل فلم يؤمنوا بهِ ولذلك كل من علم ولم يعمل فيهِ شبه من اليهود.
وكذلك الذي عمل على جهل وعلى ضلالة ولم يتعلم يشبه النصارى، يعبدون الله على ضلال وعلى جهالة، اتبعوا الرهبان الذين حرّفوا الدين، قالوا لهم الله ثالث ثلاثة والمسيح هو الله والمسيح ابن الله اتبعوهم على الضلال وعلى الشرك وعلى الكفر وعبدوا الله على هذه الضلالات وأعرضوا عن الحق.
ولذلك نحن أُمرنا في كل صلاة أن ندعو الله بهذا الدعاء الواجب: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 6، 7].
من هم الذين أنعم اللهٌ عليهم؟
قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:" صراط الذين أنعمت عليهم: عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [النساء: 69]، ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، [ وهم ] الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق"[5] انتهى.
ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم خشية الله:
العالم هو: من يخشى الله عز وجل، ويعمل بمقتضى علمه.
قال الحسن البصري: "العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه"، ثم تلا الحسن: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
قال شيخ الإسلام عن الآية: " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ. وَهُوَ حَقٌّ، وَلا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ "[6].
قال ابن مسعود رحمه الله:" ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم خشية الله"[7].
وعن الحسن قال: " العالم: الذي وافق علمَه عملُه، ومن خالف علمَه عملُه فذلك راويةُ حديث، سمع شيئاً فقاله"[8].
التحذير من ترك العمل بالعلم:
فإن الله تعالى ذمَّ هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب الذين لم يعملوا بما جاءهم من العلم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
قال بعض السلف: معنى: "فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ" يعني تركوا العمل به.
وقال الله تعالى-في ذم اليهود أيضًا -: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5].
قال الإمام الطبري-رحمه الله في تفسيره:" يقول تعالى ذكره: مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى، فحملوا العمل بها ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ يقول: ثم لم يعملوا بما فيها، وكذّبوا بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ يقول: كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبًا من كتب العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارًا فيها علم، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها" انتهى.
قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: "وهذه الآية مما ينبغي الحذر منها وخاصة لطلاب العلم وحملته. كما قال الله تعالى" بئس مثل القوم " أي تشبيههم في هذا المثل بهذا الحيوان المعروف، فإن العالم لا يسمى عالم إلا بعد العمل بعلمه"[9].
وأول من تسعر به النار يوم القيامة الذين لا يعملون بعلمهم، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه......وذكر منهم:" ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ"[10].
ولذلك قال الناظم:
وعالم بعلمه لم يعملن ♦♦♦ معذب من قبل عباد الوثن
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ"[11].
قال ابن مسعود: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا"[12].
ونقل عن علي رضي الله عنه قوله: "يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعدوا أعمالهم في مجالسهم إلى الله تعالى"[13].
على الإنسان أن يحذر أن يتعلم ثم يترك العمل ولا يعمل ولا يهتم بالعمل والله عزو جل ذَمَّ ذلك، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
وكذلك يحذر أن يدعو ولا يعمل هو في نفسه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو يترك المعروف ويقع في المنكر، وإنما الإنسان يدعوا في نفس الوقت يعمل، وليس معنى ذلك أن نترك الدعوة إلى الله ولو كنا مقصرين في العمل، لأن بعض الناس يظن أنه لو كان مقصرًا مثلاً في قيام الليل إذاً يدعوا لقيام الليل أو إلى صيام النهار، علينا أن نجتهد في العمل وفي الدعوة، لكن ما هي الصورة المذمومة؟
إن الإنسان يترك العمل بالكلية ويقع في المحرمات وينتهك محارم الله وفي نفس الوقت يأمر الناس وينهاهم، ويكون كلامه في جانب وأفعاله في جانب آخر، الصحيح أن الإنسان يحاول أن يعمل يحاول أن يجاهد وفي نفس الوقت يذكِّر غيره ويذكر نفسه، أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يعفو عن تقصيرنا.
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي
مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
فَما لي حِيلَةٌ إِلا رَجائي
بِعَفوِكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنِ ظَنّي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي
لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عَنّي
فنسألٌ الله عز وجل أن يعفو عنا وأن يغفرَ لنا تقصيرنا في حقهِ وأن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح والعلمَ النافع وأن يفتح لنا أبواب الدعوةِ إليه في كلِ مكان، الداعية جدير به أن يعمل بعلمه، أن يكونَ هو أول العاملين بما يدعو إليهِ، حتى لا يكون هذا العلم حجةً عليه يومَ القيامة، قالَ مالكُ ابنُ دينار رحمه الله:" إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزَلُّ الْقَطْرُ عَنِ الصَّفَا"[14].
الصفا يعني الحجر الأملس، مثل الرخام، يعني لو هناك مطر ينزل على حجر أملس هل يستقر فيه؟ هل الحجر الأملس يستفيد من هذا القطر؟
الجواب: لا، كذلك العالم إذا كان يعظ الناس ولكنه لا يعمل بما يقول، موعظتُه لا تؤثر في القلوب، كما يقولون (ما يخرج من القلب يصل إلى القلب)، فكم من مذكرٍ بالله وهو ناسٍ لله، وكم من مخوِّف من الله وهو جريء على الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلِخ عن آيات الله، نسأل اللهَ العفوَ والعافية.
قال أبو الأسود الدؤليُّ رحمه الله:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ
هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى
كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَأَرَاكَ تُصْلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا
أَبَدًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَقِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى
بِالعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
قال تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
قال الفضيل:" لا يزالُ المرء جاهلاً بما علم حتى يعملَ به"[15].
عن الشعبي-رحمه الله-قال: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"[16].
قال الشافعيُّ رحمهُ الله تعالى: (لَيْسَ العِلْمُ مَا حُفِظَ، إِنَّما العِلْمُ مَا نَفَعَ).
قال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجَزمي (ت104هـ) -وهو من أعلام التابعين-يخاطب أحد تلاميذه؛ واسمه أيوب: " يا أيوب – يعني ابن أبي تميمة السختياني (ت131هـ)، إذا أحدثَ الله لك علمًا، فأحدِثْ لله عبادةً ولا تكن إنما همّكَ أن تُحدِّثَ به الناسَ"[17].
يعني اجعل همّكَ أن تعمل بهذا العلم ولا يكن همُّكَ أن تحدَّثَ بهِ الناس بعضِ الناس ممكن يجلس في مجلس العلم، يجلس لماذا؟ ليتعلم، ماذا يستفيد من هذا العلم؟ يكون همُّه أن يخبِر به الناس و ينقله للناس، وكأن هذا العلم الذي سمعه ما مرَّ على قلبه، ولا أثَّر في عمله، فقط سمعه بِأنيهِ وبلغَّه بلسانهِ فقط، هذا هو الغرض عنده من مجلس العلم، يسمع ثم ينقل، إذن أين العمل و أين العبادة، أبو قلابة رحمه الله يحذرنا من هذا الأمر الذي قد يقع فيه بعض الناس و ربما لا يشعر؛ أو يكون هذا حال البعض في أول طلبه للعلم، فعلينا طلبة العلم أن نعالج نوايانا و نجاهد على الإخلاص في طلب العلم و أن تكون نيتُنا في طلب العلم و التعلم هي إصلاح أنفسنا و إصلاح قلوبنا و تحسين أعمالنا، و لا تكون النية فقط هي تعليم الناس، تعليم الناس يأتي بعد أن نعمل نحن أولا ونصلح أنفسَنا أولا، حقيقة و ليس نتوهم ذلك، فإذا أصلحنا أنفسَنا و استفدنا مما تعلمناه وأحدث لنا عبادة وعمل صالح و خلق قويم علينا أن دعوا غيرَنا للعلم و للعمل.
وطبعا نحن نسير في هذه الأمور على التوازي، يعني لا نقول نتعلم كلَ العلم وبعد ذلك سوف نعمل كلَ العمل وبعد ذلك سوفِ ندعو إلى الله، هذا لا يصلح، أعمارنا لن تكفي، ولن يحصِّل أحدٌ العلمَ كلَّه ثم بعد ذلك يعمل كلَ الأعمالَ الصالحة وبعد ذلك يدعو، وإنما يسير في كلَ هذه المسارات على التوازي، ما معنى ذلك؟
يعني يتعلم ويعمل ويدعو في نفسِ الوقت، كل ما أتعلم مسألة، أفهمها، أقيدها، أحفظها أعمل بها، أبلغها غيري، هذه هي مراتب العلم: -فهم، تحصيل، حفظ، ثم عمل ثم نشر.
قال عبد الله بن المبارك-رحمه الله-(ت181هـ): (أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)[18].
عن عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله كانَ يقول:" إنَّا أخَذْنا هذا القُرْآنَ عن قَومٍ أخْبَرونا أنَّهم كانوا إذا تَعلَّموا عَشْرَ آياتٍ لم يُجاوِزوهنَّ إلى العَشْرِ الأُخَرِ حتى يَعلَموا ما فيهنَّ، فكُنا نتعلَّمُ القُرْآنَ، والعَمَلَ به، وإنَّه سيَرِثُ القُرْآنَ بعدَنا قَومٌ ليشربوهن شُربَ الماءِ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهم، بل لا يُجاوِزُ هاهنا، ووَضَعَ يَدَه على الحَلْقِ"[19].
يعني ماذا كان منهج الصحابة في أخذ القرآن وتعلم القرآن؟
كان منهجهم العمل كانوا، فقط يحفظون عشر آيات، يتعلمون فيها من علم وإيمان وعمل ويعملون بها.
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: "كنَّا نتعلَّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْر آيات فما نُعلَّم العشر التي بعدهن حتى نتعلَّم ما أُنزِل في هذه العَشْر من العمل"[20].
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ-رضي الله عنه-قَالَ: " لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا "[21].
نماذج من حرص السلف على العمل بالعلم:
وكانوا -رحمهم الله-حريصين على العمل بالعلم، ولهذا نماذج من السلف، عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-رأى رؤيا فقصّها على النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا قال له؟
♦ قال عبد الله بن عمر:" كانَ الرَّجُلُ في حَيَاةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَتَمَنَّيْتُ أنْ أرَى رُؤْيَا، فأقُصَّهَا علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا، وكُنْتُ أنَامُ في المَسْجِدِ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَرَأَيْتُ في النَّوْمِ كَأنَّ مَلَكَيْنِ أخَذَانِي، فَذَهَبَا بي إلى النَّارِ، فَإِذَا هي مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ وإذَا لَهَا قَرْنَانِ وإذَا فِيهَا أُنَاسٌ قدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أقُولُ: أعُوذُ باللَّهِ مِنَ النَّارِ، قالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا علَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَكانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا" [22] يعني بمجرد ما علّمه النبي صلى الله عليه و سلم و أرشده إلى هذا الأمر أخذ في التطبيق ولم يترك العمل.
♦ عن أبي هريرة-رضي الله عنه قال:" أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْرٍ"[23].
♦ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَن صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً في يَومٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ له بِهِنَّ بَيْتٌ في الجَنَّةِ" قالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقالَ عَنْبَسَةُ: فَما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن أُمِّ حَبِيبَةَ وَقالَ عَمْرُو بنُ أَوْسٍ: ما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن عَنْبَسَةَ وَقالَ النُّعْمَانُ بنُ سَالِمٍ: ما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن عَمْرِو بنِ أَوْسٍ[24].
اثنتين عشرة ركعة في يومٍ وليلة يعني غير الفريضة، أيْ: ما لَيسَ بفَريضةٍ وَهيَ السُّننُ الرَّاتبَةُ، وهِي: أربعٌ قبلَ الظُّهرِ، ورَكعتانِ بعدَها، ورَكعتانِ بعدَ المغربِ، ورَكعتانِ بعدَ العِشاءِ، وركعتانِ قبلَ الفَجرِ.
قال الإمام البخاري-رحمه الله-:"ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغِيبة تضر أهلها"[25].
♦ ومن عجائب الإمام أحمد -رحمه الله-أنه قال:" ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) -أصله في البخاري[26] -، فاحتجمتُ وأعطيتُ الحجّام دينارا “، الدينار أربعة جرام وربع من الذهب، يعني من القيمة، لو قلنا الآن جرام الذهب قيمته 500ج وهو الآن أكثر من ذلك، بحد أدني 500 جنيه يعني أكثر من 1000جنيه، يريد أن يطبق السُّنة، من مِنَّا يستطيع أن يفعل ذلك.
♦ اليوم كثير من الناس مشغولين بالواتس، ومواقع التواصل، يرسلونَ الرسائل لو نظرنا كثير من الناس وجدنا همَّهم إرسال الرسائل عبر مواقع التواصل وفي هذه الرسائل تحفيز للعمل الصالح، رسائل تذكرك بصيام الاثنين والخميس كثير جداً أو بالصدقة وغيرها من الأعمال، فهذا يرسل وهذا يرسل وهذا يرسل وتدور الرسائل بين الناس، فإذا نظرنا؛ كم عدد من يعمل بهذه الرسائل؟ قليل يُوفق للعمل، إذاً عندنا مشكلة في العمل وفي التطبيق.
شروط العمل الصالح:
العمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ولا يكون كذلك إلا إذا توفر فيه شرطان:
الأول: الإخلاص لله تعالى:
قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5].
قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى في الحديث القدسي: "أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ" في الحديث القدسي:" أنا أغنى الشركاءَ عنِ الشرك من عمل عملاً أشرك فيهِ معيَ غيري تركتهٌ وشركه"[27].
وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ"[28].
الشرط الثاني: المتابعة للنبي صل الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
وقالَ النبي صل الله عليه وسلم:" مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ"[29].
"ليسَ عليهِ أمرنا": يعني ديننا، أي عمل عملاً ليس من الدين، ليس فيه إتباع للنبي صل الله عليه وسلم، ابتدع بدعة، تقرب إلى اللهِ بالبدع هذا مردود، غير مقبول.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اتَّبِعُوا وَلَا تبتدعوا فَقَدْ كُفِيتُمْ)[30].
أي: أن الشريعة كاملة، ومنهج السلف الصالح الذين طبقوا هذه الشريعة كان منهجاً كاملاً، فلسنا بحاجة إلى أن نخترع أشياء جديدة في الدين، صلوات مخترعة مثل الصلاة الألفية، أو أذكار مخترعة مثل أذكار وأوراد أصحاب الطرق الصوفية، تقرأ كذا و كذا ألف مرة و ألفين مرة مما لم يرد عن النبي صلى الله عليه و سلم، لقد كفينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد أكمل الشريعة، وأكمل التبليغ، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وقال الأوزاعيُّ: (لا يستقيمُ الإيمانُ إلَّا بالقَولِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ إلَّا بالعَمَلِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ والعَمَلُ إلَّا بنِيَّةٍ مُوافِقةٍ للسُّنَّةِ)[31].
قال ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (لَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إِلَّا بِمَا وَافَقَ السُّنَّةَ).
فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين-الإخلاص والاتباع-كان مرفوضًا مردودًا، غير مقبول، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
وقال سبحانه: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2]، قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالىَ: ﴿ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾، «هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ»، قَالُوا: «يَا أَبَا عَليٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وُأَصْوَبُهُ؟»، فَقَالَ: «إِنَّ العَمَلَ إِذاَ كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ َيَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. الخَالِصُ أَنْ يَكُونَ للهِ، وَالصَّوابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ»[32]، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى:﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
هذا بالنسبة للصلاح. أما بالنسبة للقبول فيزيد شرط ثالث ألا وهو الإسلام. فالكفار في كل زمان، وكل من لم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا قيمة لعمله مهما عمل؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم -شيء; وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله.
فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ"[33]انتهى.
وقال جل شأنه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح; فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها، فقال تعالى: ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم ) أي: مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى; لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء، فلم يجدوا شيئا، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة ( في يوم عاصف ) أي: ذي ريح عاصفة قوية، فلا [ يقدرون على شيء من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا إلا كما ] يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم "[34].انتهى.
وقد اشترط الله في كتابه الإيمان كشرط لقبول العمل الصالح، فقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]. فقال: وهو مؤمن.
فشرط القبول هو الإيمان-التوحيد، قال اللهٌ عز وجل: " ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [الزمر: 65].
لأن الكافر لا يُقبَل عملُه، المشرك لا يُقبَل عملُه، لو إنسان مشرك نصراني أو يهودي أو إنسان يعبد النار أو يعبد الشمس أو يعبد صنم لو هذا النسان تصدق بصدقة هل الله يقبلها؟
الجواب: لا صدقة الكافر غير مقبولة، لو كانَ برًّا بوالديهِ، أو خلقه حسن مع الناس، أثقل شئ في الميزان هو حسن الخلق، لكن كل هذا غير مقبول من الكافر، لماذا لأنه أصلاً كافر، أو مشرك، فشرط قبول العمل الإيمان، التوحيد، أن يكونَ من أهل التوحيد، أن يكونَ مؤمنًا.
فهذا الكافر يأخذ حظه ونصيبه في الدنيا، الله عز وجل يدفع عنه شرور يدفع عنه بلاءات، يرزقه بالصحة، يرزقه بالأولاد، يرزقه بالمال، لكن ليس له عند اللهِ شيء، ما له في الآخرةِ من نصيب، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88].
عن عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها قالت:" قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعانَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، فَهلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قالَ: لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ"[35].
كان عبدُ الله بنُ جُدْعانَ من ساداتِ قُريْشٍ وكان يُكثِر من أعمالِ الخيرِ في الجاهِليَّةِ، أي: كان مِن أفعالِ ابنِ جُدعانَ قبلَ الإسلامِ أنَّه: يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطعِم المِسكينَ؛ فسألت عائشة-رضي الله عنها-: فهل ذاك نافِعُه؟ أي: هل سَتنفعُهُ أعمالُه الصالِحةُ تلك في آخِرَتِه وهو لم يُؤمنْ بالله؟ فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: لا يَنفعُه، أي: لا تَنفعُه كُلُّ تلك الأعمالِ؛ وذلك لأنَّه لم يَقُلْ يومًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يومَ الدِّينِ، أي: لم يَكُنْ يُؤمِن بالله ولا باليومِ الآخِرِ، ولا يصدق بالبعث، لم يَكُنْ يعبد الله أصلاً وكانَ يعبد الأصنام، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه لو أسْلَمَ لنَفَعَه ما عَمِلَه في الكُفرِ من الأعمال الصالحة، فالحديث يدل أنَّ مَن ماتَ على الكُفرِ لا يَنفعُه عَمل.
فهذا دليل على أن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح.
لو أردنا آية من كتاب الله تجمع لنا هذه الشروط الثلاثة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
"أرادالآخرة " هذا شرط الإخلاص ماذا يريد من العمل؟ التقرب إلى الله الفوز بالجنة، النجاة عند الله عز وجل، هذا شرط الإخلاص أراد الآخرة لم يرد الدنيا لم يرد ما عند الناس، لم يرد المدح، لم يرد الوظيفة لم يرد أن الناس تشير إليه، لم يرد مالًا، ولا جاهًا وإنما أراد الآخرة.
"وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا." "سَعْيَهَا “شرط الإتباع، السعي الصحيح المناسب الذي فيه الإتباع لسُنَّة النبي صل الله عليه وسلم.
"وَهٌوَ مٌؤْمِنٌ "هذا شرط الإيمان.
إذاً الآية هذه جامعة الشروط الثلاثة، ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19] نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا الإخلاص.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يعفو عنَّا.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خيرُ من زكاها أنت وليُّها ومولاها. اللهم طهِّرْ قلوبَنا، اللهم طهِّرْ قلوبَنا، اللهم طهِّرْ قلوبَنا، اللهم أحسن أعمالنا اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
اللهم اهْدِنَا واهدِ بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
اللهم اقبل منا صلاتَنا وصيامَنا وصالحَ أعمالِنا يا ربَّ العالمين.
اللهم اغفر لنا واغفر للمسلمين والمسلمات.
اللهم اغفر لآبائِنا وأمَّهاتِنا ومشايخِنا وعلمائِنا يا رب العالمين.
اللهم اغفر لموتانَا ولموتى المسلمين اللهم يا رب العالمين.
اللهم اهْدِ أولادَنا وأولادِ المسلمين، يا ربِّ واجعلهم صالحين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهدُ أن لآ إلهَ إلا أنت أستغفركَ وأتوبُ إليك.
[1] كتاب " اقتضاء العلم العمل" للإمام الحافظ؛ أبو بكر الخطيب البغدادي، ص14،
نقلا عن موقع صيد الفوائد، 50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل “-أيمن الشعبان، 50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل "
[2] صحيح الترغيب (3592).
[3] صحيح مسلم (223).
[4] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (ج2-ص39).
[5] تفسير ابن كثير (ج1-ص42).
[6] "مجموع الفتاوى" (7/539).
[7] أخرجه الإمام أحمد في " الزهد " (185)، وأبو داود في " الزهد " رقم (182)، والطبراني في " الكبير " رقم (8534).
[8] رواه ابن عبد البر في " الجامع " رقم (1241).
[9] أضواء البيان (5/346).
[10] صحيح مسلم (1905)
[11] رواه البخاري: 3267، ومسلم: 2989.
[12] [مصنف بن أبي شيبة: 34547، وسنن الدارمي: 378].
[13] [جامع بيان العلم وفضله، ص: 698].
[14] كتاب " الزهد " لأحمد بن حنبل، ص 261، رابط المادة: http://iswy.co/e28ae9
[15] كتاب " اقتضاء العلم العمل" للإمام الحافظ؛ أبو بكر الخطيب البغدادي، ص37، نقلا عن موقع صيد الفوائد،
50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل “-أيمن الشعبان.
50 مقولة منتقاة من كتاب " اقتضاء العلم العمل "
[16] [جامع بيان العلم وفضله، ص: 712]، نقلا عن "طالب العلم والعمل"-محمد صالح المنجد.
https://almunajjid.com/courses/lessons/304
[17] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/188, 2/10)، واقتضاء العلم العمل للخطيب ص34-35 رقم38،
نقلا عن" أسس منهج طلب العلم عند السلف"-أبو خطاب العوضي.
أسس منهج طلب العلم عند السلف
[18] جامع بيان العلم وفضله (1/118).
[19] تخريج مشكل الآثار (4/ 83)، إسناده قوي.
[20] تخريج مشكل الآثار (1450)، حسن لغيره.
[21] رواه الدارمي في " السنن " (1/ 88).
[22] رواه البخاري (1122)، ومسلم (2479).
[23] صحيح البخاري (1178).
[24] صحيح مسلم (728).
[25] سير أعلام النبلاء (12/ 441).
[26] عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:" احْتَجَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ،
وأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ" – رواه البخاري (2279)، ومسلم (1202).
[27] صحيح مسلم (2985).
[28] صحيح البخاري (1).
[29] صحيح مسلم (1718).
[30] رواه الدارمي (1/ 288، تحت رقم 211)، وأبو خيثمة في كتاب العلم (ص: 16)،
وللألائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 96، تحت رقم 104)، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (3/ 506، تحت رقم 2024).
[31] رواه ابن بطة في: الإبانة الكبرى (1097) وأبو نعيم: في حلية الأولياء (6/ 144)، نقلا عن موقع الدرر السنية https://dorar.net/aqadia/3195/
[32] [«مدارج السّالكين» لابن القيّم: (2/ 93)].
[33] تفسير ابن كثير (ج6-ص9).
[34] تفسير ابن كثير (ج4-ص284).
[35] صحيح مسلم (214).