حكاية ناي ♔
02-23-2024, 08:24 AM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين والمسلمات، لقد جعل الله لكل شيء سببًا، فجعل للحياة أسبابًا، وللموت أسبابًا، وللمرض أسبابًا، وللصحة أسبابًا، ولا يخفى علينا ما يعيشه كثير من المسلمين في هذا الزمان من الأمراض الغريبة، والمستعصية. وسنقف في هذا اليوم مع سبب عظيم من أسباب كثير من الأمراض المنتشرة في أوساط المسلمين، وغيرهم، بل هو سبب كبير من أسباب الوفاة، وخروج الروح من جسدها.
حديثنا اليوم عن العين العائنة التي تدخل الرجل القبر، والجمل القدر، والتي هي أكثر أسباب موت الأمة، كما أخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم ولقد أخبرنا الله في كتابه الكريم: أن المشركين قد كادوا يزلقون النبي عليه الصلاة والسلام بأبصارهم فقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51]، قال ابن عباس، وغيره: «ليزلقونك أي: لينفذونك بأبصارهم أي: يعينوك بأبصارهم».
قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية دليل على أن العين حق، وإصابتها وتأثيرها بأمره - سبحانه وتعالى»[1].
ويقول جل وعلا عن نبي الله عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يرسل أبناءه إلى مصر ليأخذوا الميرة - أي: الطعام -: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف: 67]، قال ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره: «إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال، وهيئة حسنة، وبهاء، فخشي عليهم أن تصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق»[2].
وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: عن العين، وخطورتها، ومدى تأثيرها، وأمرنا أن نستعيذ بالله منها، فأخبر أنها تنزل الرجل القبر، والجمل القدر، وأنها حق، وأنها أكثر الأسباب في موت الأمة بعد قضاء الله، وقدره، فهيا لنسمع ما صح عن رسولنا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في العين، والتحذير منها.
روى ابن ماجه، وصححه الألباني رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعيذوا بالله من العين، فإن العين حق»[3].
وروى مسلم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر؛ لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا»[4] - أي إذا طُلب من أحدكم أن يغتسل لأخيه؛ لأنه أصابه بالعين، فليلبِ طلبه، وليغتسل لأخيه.
وروى الإمام أحمد، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العين لتُولَع بالرجل، حتى يصعد حالِقًا، فيتردى منه» [5]، - والمعنى أن العين تصيب الرجل فتؤثر فيه، حتى إنه ليصعد مكانًا مرتفعًا، ثم يسقط من أعلاه من أثر العين.
وروى أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني، عن جابر- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين تُدخل الرجل القبر، وتُدخل الجمل القدر!»[6]، والمعنى: أن العين تصيب الرجل فتقتله، فيموت، ويدفن في القبر، وتصيب الجمل، فيشرف على الموت فيذبح، ويطبخ في القدر.
وروى البخاري في التاريخ، وحسنه الألباني، - رحمهما الله - عن جابر- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله، وقدره، بالعين»[7].
ولنسمع إلى هذا الخبر العجيب، الذي يدل على عظيم ما تفعله العين من أثر في جسم الإنسان؛ روى الإمام أحمد والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني- رحمة الله عليهم أجمعين- عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار، - وهو واد بالمدينة - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، عذراء – أي: مثل الفتاة التي تختبئ في خدرها- فوعك سهل - أي أصيب بمرض شديد - في مكانه، واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكه، فقيل له: ما يرفع رأسه يا رسول الله! فقال: هل تتهمون له أحدا؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ له، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! هلا قلت: تبارك الله، اغتسل له؟!»، فغسل عامر وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وأدخل إزاره في قدح، ثم صُب عليه من ورائه، فبرئ سهل من ساعته[8].
لا إله إلا الله! العين حق أيها الناس، إنها لتصنع في الإنسان الأعاجيب، قد تمرضه، قد تهلكه، قد تهدم بيوتا، قد تدكدك جبالًا، قد تفعل ما لا تفعله الآلات، والقوات، والتأريخ مليء بالمواقف، والقصص، فلنسمع إلى بعضها، ولنعتبر بما فيها:
ذُكر أن امرأة معروفة بإصابة الناس بعينها، ينفر منها سكان العمارة بسبب ما يحدث لهم بعد رؤيتها، قالت عنها جارتها: زارتني ذات يوم ولم أكن أعرف شيئا عنها، وكنت لابسةً لعقد من لؤلؤ، فأخذته هذه المرأة، وقالت ما أجمل هذا العقد! ما أجمل هذا العقد! وبعد هذه الكلمات، خرجت من عندي، وجلست أشاهد التلفاز، فوجدت حبات العقد تنفرط قطعًا صغيرة، لكني ما شككت فيها لأني لا أعرفها، لكنها زارتني مرة ثانية، وكان في يدي خاتم، فأخذته، وأعجبت به، وقبل أن تخرج من بيتي تفتت أحجار الخاتم، فقلت: أعوذ بالله! فقالت:
لا تقولي إني حسِدته، وإن عيني حارة، كما يقول الجيران، عندها أيقنت أن عينها - فعلًا - حارة، وقطعت علاقتي بها!
أعوذ بالله من الغفلة عن ذكر الله، ومن الجهل بدين الله، فاذكروا الله - رحمكم الله - اذكرن الله أيتها النساء عندما ترين شيئًا يعجبكن، وليس شرطًا، ولازما ألا يذكر الإنسان ربه إلا إذا عرف بالحسد، والعين، فليس الحسد شرطًا في العين والإصابة؛ فقد تعين أيها المسلم بإعجابك من دون شعور، وإرادة، قد يعين الواحد بإعجابه وهو من أتقى الناس سيرة، وسريرة.
وهذه قصة أخرى: يقول أحد الناس: كنت أسكن في إحدى القرى، وكان هناك عِداء مستحكم بين رجلين من أهالي القرية، فجاء أحدهم إلى رجل مشهور بالعين، وأراد منه أن يصيب ويعين خصمه، وقبل أن يصلا إلى الخصم، وقفا سويًّا على شاطئ البحر، نظر الرجل إلى مركب في البحر على مسافة بعيدة، فقال لذلك العائن انظر إلى ذلك المركب- أي: من أجل أن يعينه، ويجرب إصابة عينه، فنظر هذا العائن إلى المركب ولم يره لبعده، فقال انظر إليه هناك، فقال العائن للرجل: معك عيون كالصقر، وما انتهى من هذا الكلام، وهذه الكلمات؛ إلا وعمي الرجل من ساعته!
أعوذ بالله من العين، ومن شر كل حاسد، فقد يصاب الواحد منا بأمراض، وبأشياء وهو لا يدري أن العين هي السبب في إصابته، قد يصاب الواحد بحادث سيارة، ويكون سببها العين، والناس لا يعلمون، قد يصاب الواحد منا بمرض خطير في جسده، ولا يجد له دواء، وقد تكون العين هي التي أصابته.
كم هي الأمراض المنتشرة التي عجز الأطباء عن مداواتها، وعجز الطب عن اكتشاف أدوية لها، السرطان بأنواعه، تليف الكبد، العقم، وما يسمى بالأمراض النفسية، وغير ذلك، وقد تكون سببها العين، والناس لا ينتبهون لذلك، سواء من الأمراض، أم من الأطباء، فقد يأتي المريض، ليشكو علته للطبيب، فيجيبه الطبيب: عندك مشكلة في القولون، أو زيادة في الدهون، أو ارتفاع، وانخفاض في كذا، وكذا، إلى غير ذلك.
ولا نقصد من وراء ذلك تعطيل كلام الأطباء، ولا ترغيبا عن أخذ العلاج، والدواء، معاذ الله أن نقصد أو نريد ذلك، كذلك لا يعد فتحا لباب الشكوك عند الناس، فكلما وُجِد مرضٌ، أو حدث حادث، وعرض، قيل عين، لكن المقصود هو التنبه لهذه المسألة التي غفل عنها كثير من الناس، والتي هي من أكثر أسباب موت الأمة بعد قضاء الله وقدره، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر العلماء للعين علامات، حتى نعرف، ونميز بين ما تصيبه العين، من غيره، فمن ذلك كثرة العرق، والنسيان، وشرود الذهن، والفتور، وكثرة التثاؤب، وغير ذلك مما هو مشاهد عند كثير من الناس.
أسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وأن يجعلنا من المحافظين على ذكر ربنا الذي هو أعظم حصن لنا من كل ما يضرنا ويسوؤنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم!
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون عباد الله، إن العين حق، وإن فعلها عظيم، ومع عِظَم فعلها، لا بد أن نعلم أنها لا تصيب، ولا تؤثر إلا بإذن خالقها، وهذه قضية عقدية لابد منها، نعم، لابد أن نعلم أنها سببٌ كغيرها من الأسباب، وأن الأمر بيد الله مسبب الأسباب، وما قدره الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا.
وقد أبطلت طائفة من الناس أمر العين، ممن قل نصيبهم من السمع والعقل، - كما قال ابن القيم قدس الله روحه - وقالوا: «إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها»، يقول ابن القيم رحمه الله: «وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم، ونحلهم، لا يدفعون أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه، ووجه تأثير العين.... ثم قال: وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشم، ويستحي منه، وكذلك يصفر صفرة شديدة عند نظر من يخاف منه»[9].
ثم قال رحمه الله: «والتأثير- أي: تأثير العين- تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بالوهم والتخيل، قال: ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها، على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشيء فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية....، قال: وهي سهام تخرج من نفس العائن فتصيب المعين تارة، وتخطئه تارة، فإذا صادفته مكشوفًا، لا وقاية له أثرت فيه ولا بد»[10].
وهنا مسألة لا بد أن ننتبه لها وهي: قول ابن القيم رحمه الله: «فإن صادفته مكشوفا لا وقاية له، فما هو الذي يقينا من العين؟ وما هو الذي يصرف عنا خطر وشر العين»[11]، إنها الأذكار اليومية، والرقى الشرعية، التي هي أعظم حاجزٍ، وواقٍ من شر كل ذي شر، وسيأتينا بعضٌ منها في نهاية حديثنا إن شاء الله.
قال رحمه الله: «وقد يصيب الرجل نفسه، وقد يعين غيره بغير إرادته»[12]، وقال الحافظ بن حجر رحمه الله في فتح الباري: «حقيقة العين هي نظر باستحسان مشوب بالحسد من خبيث الطبع، يحصل للمنظور فيه ضرر»[13].
ولنعلم أن الجن قد يعينون كما يعين الإنس، فلقد روى الشيخان عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارة في وجهها سفعة – أي: بقعة سوداء- فقال: «استرقوا لها؛ فإن بها النظرة – أي: من الجن- ».
فلذلك ينبغي لكل مسلم أن يذكر اسم الله عندما يخلع ثوبه، وعندما يجامع أهله، وعندما يدخل الحمام ليقضي حاجته، وهكذا... كي يدفع عن نفسه أذى الجن، من عين ومن غيرها.
ولا بد أن نعلم، ولابد أن يرتكز هذا أيضا في حسباننا، وأن نجعله نصب أعيننا أن العين وإن كانت داءً فتاكا، فما أنزل الله من داء إلا وجعل له دواءً.
فمن دواء العين: الاغتسال، فإذا عُرف العائن - ولا بد من معرفته، والتأكد من حقيقته - أما اتهام الناس في أعراضهم، وجرحهم في مشاعرهم، وسوء الظن بهم، فهذا حرام.
فإذا عُرف بذلك، واشتَهر بذلك، فيؤمر بالاغتسال، ثم يؤخذ هذا الماء الذي اغتسل فيه، ويصب على المحسود من خلفه، فيبرأ بإذن الله، تعالى كما حصل لسهل بن حنيف رضي الله عنه.
وصفة الغسل - كما قال الإمام الزهري رحمه الله: «أن يُؤتى للرجل العائن بقدَح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على كفه اليمنى في القدح صبة واحدة، واليسرى مثل ذلك، ثم يفعل ذلك على مرفقه، ثم على قدمه، ثم على ركبتيه، ثم يُصب على رأس الرجل من خلفه صبة واحدة»[14].
وينبغي لمن طُلب منه الاغتسال أن يغتسل، وهذا أمرٌ نرى خلافه عند كثير من الرجال، والنساء، فإذا حصل شيء، أو أصيبت امرأة من النساء وطلبت من أخواتها، وجيرانها الاغتسال، تظن بعض النساء أنها من المتهمات، وأنها هي التي أصابتها وأعانتها، فتأبى وترفض الاغتسال، وربما يحصل ما يحصل من المشاكل والشجار، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد وأمر بذلك بقوله: "وإذا استُغسِلتم فاغتسلوا"، وقال لعامر: "اغتسل له".
وأخيرًا أيها الإخوة الكرام، في ختام هذا الموضوع العظيم الذي طُرِقَ على مسامعكم، ينبغي بداية الأمر، على من رأى شيئًا وأعجب به، أن يذكر الله عز وجل، ويقول: تبارك الله، ما شاء الله، لماذا؟ لأن العين حق، كما سمعنا جميعًا: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [الكهف: 39].
ثم نقول، وآخر ما نقول: إن من أعظم الأسلحة التي يتسلح بها المرء، ويقي نفسه من الشر، والحسد، والعين، والضيق، وجميع الأمراض، هو المحافظة على الأذكار، وأن يعلق الإنسان قلبه، ولسانه بطاعة الملك الغفار: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]:
وأكثر ذكره في الأرض دأبا
لتُذكر في السماء إذا ذَكرتا
ونادِ إذا سجدت له اعترافا
بما ناداه ذو النون ابن متى
أسأل الله العظيم بمنه، وكرمه، أن يقينا شرَّ أعين الحاسدين، وأن يحفظنا قائمين، وقاعدين، وراقدين...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين والمسلمات، لقد جعل الله لكل شيء سببًا، فجعل للحياة أسبابًا، وللموت أسبابًا، وللمرض أسبابًا، وللصحة أسبابًا، ولا يخفى علينا ما يعيشه كثير من المسلمين في هذا الزمان من الأمراض الغريبة، والمستعصية. وسنقف في هذا اليوم مع سبب عظيم من أسباب كثير من الأمراض المنتشرة في أوساط المسلمين، وغيرهم، بل هو سبب كبير من أسباب الوفاة، وخروج الروح من جسدها.
حديثنا اليوم عن العين العائنة التي تدخل الرجل القبر، والجمل القدر، والتي هي أكثر أسباب موت الأمة، كما أخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم ولقد أخبرنا الله في كتابه الكريم: أن المشركين قد كادوا يزلقون النبي عليه الصلاة والسلام بأبصارهم فقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51]، قال ابن عباس، وغيره: «ليزلقونك أي: لينفذونك بأبصارهم أي: يعينوك بأبصارهم».
قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية دليل على أن العين حق، وإصابتها وتأثيرها بأمره - سبحانه وتعالى»[1].
ويقول جل وعلا عن نبي الله عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يرسل أبناءه إلى مصر ليأخذوا الميرة - أي: الطعام -: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف: 67]، قال ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره: «إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال، وهيئة حسنة، وبهاء، فخشي عليهم أن تصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق»[2].
وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: عن العين، وخطورتها، ومدى تأثيرها، وأمرنا أن نستعيذ بالله منها، فأخبر أنها تنزل الرجل القبر، والجمل القدر، وأنها حق، وأنها أكثر الأسباب في موت الأمة بعد قضاء الله، وقدره، فهيا لنسمع ما صح عن رسولنا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في العين، والتحذير منها.
روى ابن ماجه، وصححه الألباني رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعيذوا بالله من العين، فإن العين حق»[3].
وروى مسلم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر؛ لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا»[4] - أي إذا طُلب من أحدكم أن يغتسل لأخيه؛ لأنه أصابه بالعين، فليلبِ طلبه، وليغتسل لأخيه.
وروى الإمام أحمد، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العين لتُولَع بالرجل، حتى يصعد حالِقًا، فيتردى منه» [5]، - والمعنى أن العين تصيب الرجل فتؤثر فيه، حتى إنه ليصعد مكانًا مرتفعًا، ثم يسقط من أعلاه من أثر العين.
وروى أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني، عن جابر- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين تُدخل الرجل القبر، وتُدخل الجمل القدر!»[6]، والمعنى: أن العين تصيب الرجل فتقتله، فيموت، ويدفن في القبر، وتصيب الجمل، فيشرف على الموت فيذبح، ويطبخ في القدر.
وروى البخاري في التاريخ، وحسنه الألباني، - رحمهما الله - عن جابر- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله، وقدره، بالعين»[7].
ولنسمع إلى هذا الخبر العجيب، الذي يدل على عظيم ما تفعله العين من أثر في جسم الإنسان؛ روى الإمام أحمد والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني- رحمة الله عليهم أجمعين- عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار، - وهو واد بالمدينة - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، عذراء – أي: مثل الفتاة التي تختبئ في خدرها- فوعك سهل - أي أصيب بمرض شديد - في مكانه، واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكه، فقيل له: ما يرفع رأسه يا رسول الله! فقال: هل تتهمون له أحدا؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ له، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! هلا قلت: تبارك الله، اغتسل له؟!»، فغسل عامر وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وأدخل إزاره في قدح، ثم صُب عليه من ورائه، فبرئ سهل من ساعته[8].
لا إله إلا الله! العين حق أيها الناس، إنها لتصنع في الإنسان الأعاجيب، قد تمرضه، قد تهلكه، قد تهدم بيوتا، قد تدكدك جبالًا، قد تفعل ما لا تفعله الآلات، والقوات، والتأريخ مليء بالمواقف، والقصص، فلنسمع إلى بعضها، ولنعتبر بما فيها:
ذُكر أن امرأة معروفة بإصابة الناس بعينها، ينفر منها سكان العمارة بسبب ما يحدث لهم بعد رؤيتها، قالت عنها جارتها: زارتني ذات يوم ولم أكن أعرف شيئا عنها، وكنت لابسةً لعقد من لؤلؤ، فأخذته هذه المرأة، وقالت ما أجمل هذا العقد! ما أجمل هذا العقد! وبعد هذه الكلمات، خرجت من عندي، وجلست أشاهد التلفاز، فوجدت حبات العقد تنفرط قطعًا صغيرة، لكني ما شككت فيها لأني لا أعرفها، لكنها زارتني مرة ثانية، وكان في يدي خاتم، فأخذته، وأعجبت به، وقبل أن تخرج من بيتي تفتت أحجار الخاتم، فقلت: أعوذ بالله! فقالت:
لا تقولي إني حسِدته، وإن عيني حارة، كما يقول الجيران، عندها أيقنت أن عينها - فعلًا - حارة، وقطعت علاقتي بها!
أعوذ بالله من الغفلة عن ذكر الله، ومن الجهل بدين الله، فاذكروا الله - رحمكم الله - اذكرن الله أيتها النساء عندما ترين شيئًا يعجبكن، وليس شرطًا، ولازما ألا يذكر الإنسان ربه إلا إذا عرف بالحسد، والعين، فليس الحسد شرطًا في العين والإصابة؛ فقد تعين أيها المسلم بإعجابك من دون شعور، وإرادة، قد يعين الواحد بإعجابه وهو من أتقى الناس سيرة، وسريرة.
وهذه قصة أخرى: يقول أحد الناس: كنت أسكن في إحدى القرى، وكان هناك عِداء مستحكم بين رجلين من أهالي القرية، فجاء أحدهم إلى رجل مشهور بالعين، وأراد منه أن يصيب ويعين خصمه، وقبل أن يصلا إلى الخصم، وقفا سويًّا على شاطئ البحر، نظر الرجل إلى مركب في البحر على مسافة بعيدة، فقال لذلك العائن انظر إلى ذلك المركب- أي: من أجل أن يعينه، ويجرب إصابة عينه، فنظر هذا العائن إلى المركب ولم يره لبعده، فقال انظر إليه هناك، فقال العائن للرجل: معك عيون كالصقر، وما انتهى من هذا الكلام، وهذه الكلمات؛ إلا وعمي الرجل من ساعته!
أعوذ بالله من العين، ومن شر كل حاسد، فقد يصاب الواحد منا بأمراض، وبأشياء وهو لا يدري أن العين هي السبب في إصابته، قد يصاب الواحد بحادث سيارة، ويكون سببها العين، والناس لا يعلمون، قد يصاب الواحد منا بمرض خطير في جسده، ولا يجد له دواء، وقد تكون العين هي التي أصابته.
كم هي الأمراض المنتشرة التي عجز الأطباء عن مداواتها، وعجز الطب عن اكتشاف أدوية لها، السرطان بأنواعه، تليف الكبد، العقم، وما يسمى بالأمراض النفسية، وغير ذلك، وقد تكون سببها العين، والناس لا ينتبهون لذلك، سواء من الأمراض، أم من الأطباء، فقد يأتي المريض، ليشكو علته للطبيب، فيجيبه الطبيب: عندك مشكلة في القولون، أو زيادة في الدهون، أو ارتفاع، وانخفاض في كذا، وكذا، إلى غير ذلك.
ولا نقصد من وراء ذلك تعطيل كلام الأطباء، ولا ترغيبا عن أخذ العلاج، والدواء، معاذ الله أن نقصد أو نريد ذلك، كذلك لا يعد فتحا لباب الشكوك عند الناس، فكلما وُجِد مرضٌ، أو حدث حادث، وعرض، قيل عين، لكن المقصود هو التنبه لهذه المسألة التي غفل عنها كثير من الناس، والتي هي من أكثر أسباب موت الأمة بعد قضاء الله وقدره، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر العلماء للعين علامات، حتى نعرف، ونميز بين ما تصيبه العين، من غيره، فمن ذلك كثرة العرق، والنسيان، وشرود الذهن، والفتور، وكثرة التثاؤب، وغير ذلك مما هو مشاهد عند كثير من الناس.
أسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وأن يجعلنا من المحافظين على ذكر ربنا الذي هو أعظم حصن لنا من كل ما يضرنا ويسوؤنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم!
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون عباد الله، إن العين حق، وإن فعلها عظيم، ومع عِظَم فعلها، لا بد أن نعلم أنها لا تصيب، ولا تؤثر إلا بإذن خالقها، وهذه قضية عقدية لابد منها، نعم، لابد أن نعلم أنها سببٌ كغيرها من الأسباب، وأن الأمر بيد الله مسبب الأسباب، وما قدره الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا.
وقد أبطلت طائفة من الناس أمر العين، ممن قل نصيبهم من السمع والعقل، - كما قال ابن القيم قدس الله روحه - وقالوا: «إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها»، يقول ابن القيم رحمه الله: «وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم، ونحلهم، لا يدفعون أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه، ووجه تأثير العين.... ثم قال: وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشم، ويستحي منه، وكذلك يصفر صفرة شديدة عند نظر من يخاف منه»[9].
ثم قال رحمه الله: «والتأثير- أي: تأثير العين- تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بالوهم والتخيل، قال: ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها، على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشيء فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية....، قال: وهي سهام تخرج من نفس العائن فتصيب المعين تارة، وتخطئه تارة، فإذا صادفته مكشوفًا، لا وقاية له أثرت فيه ولا بد»[10].
وهنا مسألة لا بد أن ننتبه لها وهي: قول ابن القيم رحمه الله: «فإن صادفته مكشوفا لا وقاية له، فما هو الذي يقينا من العين؟ وما هو الذي يصرف عنا خطر وشر العين»[11]، إنها الأذكار اليومية، والرقى الشرعية، التي هي أعظم حاجزٍ، وواقٍ من شر كل ذي شر، وسيأتينا بعضٌ منها في نهاية حديثنا إن شاء الله.
قال رحمه الله: «وقد يصيب الرجل نفسه، وقد يعين غيره بغير إرادته»[12]، وقال الحافظ بن حجر رحمه الله في فتح الباري: «حقيقة العين هي نظر باستحسان مشوب بالحسد من خبيث الطبع، يحصل للمنظور فيه ضرر»[13].
ولنعلم أن الجن قد يعينون كما يعين الإنس، فلقد روى الشيخان عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارة في وجهها سفعة – أي: بقعة سوداء- فقال: «استرقوا لها؛ فإن بها النظرة – أي: من الجن- ».
فلذلك ينبغي لكل مسلم أن يذكر اسم الله عندما يخلع ثوبه، وعندما يجامع أهله، وعندما يدخل الحمام ليقضي حاجته، وهكذا... كي يدفع عن نفسه أذى الجن، من عين ومن غيرها.
ولا بد أن نعلم، ولابد أن يرتكز هذا أيضا في حسباننا، وأن نجعله نصب أعيننا أن العين وإن كانت داءً فتاكا، فما أنزل الله من داء إلا وجعل له دواءً.
فمن دواء العين: الاغتسال، فإذا عُرف العائن - ولا بد من معرفته، والتأكد من حقيقته - أما اتهام الناس في أعراضهم، وجرحهم في مشاعرهم، وسوء الظن بهم، فهذا حرام.
فإذا عُرف بذلك، واشتَهر بذلك، فيؤمر بالاغتسال، ثم يؤخذ هذا الماء الذي اغتسل فيه، ويصب على المحسود من خلفه، فيبرأ بإذن الله، تعالى كما حصل لسهل بن حنيف رضي الله عنه.
وصفة الغسل - كما قال الإمام الزهري رحمه الله: «أن يُؤتى للرجل العائن بقدَح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على كفه اليمنى في القدح صبة واحدة، واليسرى مثل ذلك، ثم يفعل ذلك على مرفقه، ثم على قدمه، ثم على ركبتيه، ثم يُصب على رأس الرجل من خلفه صبة واحدة»[14].
وينبغي لمن طُلب منه الاغتسال أن يغتسل، وهذا أمرٌ نرى خلافه عند كثير من الرجال، والنساء، فإذا حصل شيء، أو أصيبت امرأة من النساء وطلبت من أخواتها، وجيرانها الاغتسال، تظن بعض النساء أنها من المتهمات، وأنها هي التي أصابتها وأعانتها، فتأبى وترفض الاغتسال، وربما يحصل ما يحصل من المشاكل والشجار، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد وأمر بذلك بقوله: "وإذا استُغسِلتم فاغتسلوا"، وقال لعامر: "اغتسل له".
وأخيرًا أيها الإخوة الكرام، في ختام هذا الموضوع العظيم الذي طُرِقَ على مسامعكم، ينبغي بداية الأمر، على من رأى شيئًا وأعجب به، أن يذكر الله عز وجل، ويقول: تبارك الله، ما شاء الله، لماذا؟ لأن العين حق، كما سمعنا جميعًا: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [الكهف: 39].
ثم نقول، وآخر ما نقول: إن من أعظم الأسلحة التي يتسلح بها المرء، ويقي نفسه من الشر، والحسد، والعين، والضيق، وجميع الأمراض، هو المحافظة على الأذكار، وأن يعلق الإنسان قلبه، ولسانه بطاعة الملك الغفار: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]:
وأكثر ذكره في الأرض دأبا
لتُذكر في السماء إذا ذَكرتا
ونادِ إذا سجدت له اعترافا
بما ناداه ذو النون ابن متى
أسأل الله العظيم بمنه، وكرمه، أن يقينا شرَّ أعين الحاسدين، وأن يحفظنا قائمين، وقاعدين، وراقدين...