مشاهدة النسخة كاملة : العلم نور والجهل ظلام


حكاية ناي ♔
02-23-2024, 08:25 AM
الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.



معاشر المسلمين والمسلمات، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله - جل وعلى- وأن نقدم لأنفسنا أعمالًا تبيض وجوهنا يوم نلقى الله: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].



أيها المسلمون عباد الله، حديثي معكم في هذا اليوم المبارك بإذن الله عن أمر عظيم؛ عظمه الله من فوق سماواته، وأشهد أهله ومن أخذه على وحدانيته، هذا الأمر من صار من أهله رفع الله قدره، وأعظم أجره، وجعله وارثا لأنبيائه، ورسله هذا الأمر من صار من أهله عرف الله وقدره حق قدره، ولا يوفق له إلا من أراد الله به خيرًا. -كما قال عليه الصلاة والسلام «من يرد الله به خيرًا، يفقهه في الدين»[1].



إنه العلم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، إنه العلم الشرعي الذي يحتاج إليه الإنسان أكثر من حاجته إلى طعامه، وشرابه؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة، أو مرتين؛ والعلم إليه يحتاج بعدد الأنفاس، كما قال الإمام أحمد عليه رحمه الله.



إنه العلم الذي امتن الله به على أنبيائه، ورسله؛ حيث جعله من نعمه، ومننه عليهم، فقال سبحانه وتعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].



وقال في حق نبي الله يوسف عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22]، وقال في حق عيسى عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 110].


أمة الإسلام: إن العلم نور، وإن الجهل ظلام، وإن العلم الشرعي من أعظم ما يُتقرب به إلى العليم العلام.
العلم نور وضياء يقتبس
مكرم صاحبه حيث جلس
هل يستوي ضوء النهار والغلس
شتان ما بين الحمار والفرس



ومع هذا الفضل العظيم، وهذا الشرف الكريم، إلا أن الناظر المتأمل إلى حال الناس في هذا الزمان ليتعجب عجبا ممزوجا بالحسرة والندم؛ يوم يرى كثيرا من الناس يعرفون عن أمور دنياهم ومعاشهم، ويعرفون عن مأكلهم ومشربهم، وربما عن جميع متطلبات حياتهم، ويجهلون شرع الله ودينه الذي ارتضاه لهم، وصدق الله - سبحانه وتعالى - إذ يقول: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7].



إنك لتعجب من رجل قد أمضى حياته، وذهب معظم عمره وهو يتعلم عن أمور دنياه؛ وربما إذا قام ليصلي لا يعرف كيف يصلي، كما قال الحسن البصري رحمه الله عند قوله -سبحانه: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]، قال: «إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره، فيذكر وزنه ولا يخطئ، وهو لا يحسن يصلي!»[2].



إنك لتعجب من رجل قد قضى عشرات السنوات في غربته من أجل أن يبني له بيتًا، أو- كما يقول -: شيئًا لمستقبله، لكنه قد هدم نفسه، وتربية وتعليم أولاده الذي هو مستقبله، وشرفه الحقيقي!



يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبغض كل عالم بأمور الدنيا جاهلٍ بأمور الآخرة».



أليس عيبًا عليك يا عبد الله؟ أليس عيبًا عليك أن تعرف عن أمور الدنيا أكثر مما تعرف عن أمور الدين؟! أليس عيبًا عليك أن تملك السيارة، والعمارة ولا تحسن قراءة الفاتحة؟ أليس عيبًا عليك، ونقصًا في حقك أن تعرف كيف تقرأ لغة أعجمية؛ وإذا جئت لتقرأ القرآن صدعت الرؤوس من كثرة الأخطاء الخفية، والجلية؟ أما تستحي من الله أن تعرف عن تفاصيل دنياك الدنيئة ولا تعرف كيف تصلي كما أمرك الله رب البرية.



والله إن القلب ليحزن يوم ترى أستاذًا، أو مديرًا، أو تاجرًا، أو شيخًا في قبيلة، أو صاحب منصب في قرية، أو مدينة، ومع ذلك يتعدى حدود الله وهو لا يعلم، ولا يدري، إما بجمع الصلوات من أجل القات، وإما بالحلف بالطلاق، وإما بغير ذلك مما يندى له الجبين، ألا تبًّا وأُفٍّ لدنيا شغلتني عن تعلم أمور ديني!



لماذا -أيها الناس- لماذا وصل كثير من الناس إلى هذا المستوى بالجهل بشرع الله؟ لماذا أصبحوا يعيرون من جهل واقعه -كما يقولون- ولا يعيرون من جهل الله وشرع الله، وعبادته كما أراد؟! لماذا انقلبت الموازين، وأصبحنا نرى أصحاب كرة القدم، والفن والعفن يقدمون، ويكرمون بالملايين؛ وحملة كتاب الله، وسنة رسول الله ربما لا يسمح لهم بنشر شرع الله رب العالمين؟!



لماذا نرى بعض الآباء يجري على الدنيا جري الوحوش من أجل تيسير عمل دنيوي لولده؛ من وظيفة، أو ما أشبه ذلك، ولا لوم في ذلك.



بينما تراه لا يدري هل يصلي ولده أم لا؟ وإذا قام يصلي هل يعرف كيف يصلي أو لا؟ لماذا نرى بعض الآباء قد قذف الله حب الخير في قلوب أولادهم؛ من حفظ كتاب الله، أو حرصهم على ما ينفعهم في أمور دينهم؛ لكن آباءهم يقفون لهم بالمرصاد، ويحاربونهم، ويتهمونهم بضياعهم، أو فراغهم، أو عدم رجولتهم، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تنبيك عن غياب الهوية، وضياع المسئولية عند بعض الآباء؛ نسأل الله أن يهدينا وإياهم!



لماذا هذا كله؟ هذا كله – وربي - بسبب الجهل بشرع الله، وبسبب الجهل بالمقصد الأسمى بوجودنا في هذه الحياة، أليس كذلك أيها الناس؟



فهيا قف وعِ، واسمع معي بعض أخبار أصحاب الهمم العالية؛ فهي -والله- من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفع النفوس الضعيفة إلى تحمل الشدائد، والمصاعب في سبيل الغايات النبيلة، والمقاصد الجليلة: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، حدث حديثهم لله درهمُ!



دعونا نقلب صفحات قليلهْ من أخبار أصحاب الهمم الجليلة، ونعيش مع أولئك الذين عرفوا قدر العلم، وعرفوا منزلته عند الله سبحانه وتعالى؛ فبذلوا الغالي والنفيس، وقطعوا الفيافي والقفار، وفعلوا ما فعلوا - مما ستسمعون وتعجبون - من أجل العلم، ومكانته؛ ومن أجل أن يرفعوا عن أنفسهم الجهل، ومذمته.



ذكر الذهبي رحمه الله في سيره: «أن بقية بن مخلد الأندلسي كان جلُّ بغيته ملاقاةَ الإمام أحمد رحمه الله، فخرج من الأندلس ماشيًا على قدميه، قال: فلما اقتربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة الذي دار على الإمام أحمد، وعلمت أنه ممنوع من الاجتماع معه، والسماع عنه، فاغتممت لذلك غمًّا شديدًا، ولم أعرج على شيء، بل أنزلت متاعي في بيت اشتريته، ثم أتيت الجامع الكبير وحضرت بعض الحِلَق، ثم خرجت أستدل على منزل الإمام أحمد فدللت عليه، وقرعت بابه، فخرج ونظر إليَّ نظرة رجل غريب لا يعرفه، قلت: يا أبا عبد الله؛ رجل غريب، وهذا أول قدومي البلد، وأنا طالب حديث وجامع سنة، ولم تكن -والذي لا إله إلا هو- رحلتي إلا إليك يا إمام, فقال الإمام أحمد: ادخل الممر ولا تقع عليك عين، فدخلت الممر، فجاء إليَّ وقال: من أين؟ قلت: من المغرب الأقصى من الأندلس، فقال: إن موطنك لبعيد، وما كان من شيء أحبُّ إليَّ من أن أُحسن عون مثلك؛ غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك؟



قلت: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك بعد أن قطعت ما قطعت مقبلا نحوك، لكن يا أبا عبد الله هذا أول دخولي البلد، وأنا مجهول عندكم، فإذا أذنت لي أن آتيك في زي سائل وأقول ما يقول السائلون: الأجر رحمكم الله، الأجر رحمكم الله، فتخرج إلى هذا الممر فلو لم تحدثني كل يوم إلا بحديث لكان فيه خير عظيم، فقال الإمام أحمد: نعم؛ على شرط ألا تظهر في حلق أصحاب الحديث، فكنت آخذ عودا في يدي، وألُف رأسي بخرقة، وأضع ورقتي في كمي ثم آتي وأصيح: الأجر رحمكم الله، الأجر رحمكم الله، فيخرج إليَّ في الممر، ويغلق باب الدار ثم يحدثني بالحديثين، والثلاثة، حتى اجتمع لي نحو ثلاثمائة حديث، والتزمت تلك الطريقة حتى زالت المحنة على الإمام أحمد، ثم بعدها مات المبتدع- أي الذي كان يكرهه ويلزمه بالقول بخلق القرآن - وتولى من كان على السنة، وظهر الإمام أحمد، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، فكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكنت أحضر له فيعرف لي حق صبري، ويعرف لي حق تجلدي في طلب العلم، فإذا رآني هش، وبش، وقال تعالى إليَّ! وأفسح لي في مجلسه، وأدناني من نفسه، ثم يقول لطلبة العلم: هذا هو الذي يستحق أن يطلق عليه اسم طالب علم! ثم يقص عليهم قصتي، قال: ثم إني مرضت يومًا من الأيام فزارني الإمام أحمد، فما بقي أحد بعد ذلك إلا زارني، وأجلني الناس لزيارته، وخدموني فواحد يأتيني بفراش، وآخر يأتيني بلحاف، وآخر بأطايب الأغذية، وكانوا في تمريضي – والله - أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم».


فلا إله إلا الله ما أعظم العلم، والعلماء، وما أعلى، وأرقى منزلتهم عند أهل الأرض، وأهل السماء، «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير!»[3]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].



إن الشرف كل الشرف هو بالعلم، وإن قدرك يا طالب العلم عند العقلاء هو: بدينك وعلمك، لا بجاهك ومالك، فتعلم - رحمك الله - واطلب العلم وكن حريصًا عليه، كلما رأيت معلمًا، كلما سمعت درسا، حتى وأنت في عملك، وأنت في متجرك، وفوق سيارتك، وإياك أن ترضى بالجهل لنفسك، إياك أن تكون جاهلًا لا تعرف كيف تتقرب إلى ربك!



وهذا موقف آخر ذكره الذهبي -أيضًا- في سيره: أن هشام بن عمار رحمه الله كان شغوفًا بطلب العلم وهو صغير، وكان معاصرًا للإمام مالك
رحمه الله جاءه، وقطع إليه المسافات، ورحل إليه الرحلات، فلنسمعها لعل لنا فيها عظة، وعبرة بإذن الله -سبحانه- يقول محمد بن الفيض الغساني: سمعت هشام بن عمار يقول: باع أبي بيته بعشرين دينارًا، وجهزني للحج، وطلب العلم، قال: فتوجهت من دمشق تاركًا أهلي، ووطني؛ رغبة في الحج إلى بيت الله، ولقاء الأئمة أمثال رحمه الله، قال: فلما جئت المدينة أتيت مجلس الإمام مالك رحمه الله ومعي مسائل -أي: أنه أعد مسائل يريد أن يسأل عنها الإمام مالكًا، قال- وأريد مع ذلك أن يحدثني، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام حوله، والناس يسألونه فيجيبهم، ويتدفق في جوابه كالبحر، قال فلما انقضى المجلس قمت لأسأله، وأطلب أن يحدثني، فاستصغرني ورآني لست أهلًا للرواية، فقال: حصلنا على الصبيان! أي لم يبق إلا الصبيان، فقال لأحد غلمانه الذين حواليه: احمله، فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك، يقول ابن جزرة ودخل هشام ذات يوم على الإمام مالك بغير إذن، وقال: حدثني، فرفض الإمام ما لك، قال هشام: فكررت عليه، وراجعته، وراددته، فقال لغلامه: خذ هذا واضربه خمسة عشر سوطًا، فأخذه، وذهب به، وضربه خمسة عشر سوط، فوقف هشام يبكي على الباب، فخرج الإمام مالك فرأه يبكي، فقال: ما يبكيك يا هشام؟ أو أوجعتك؟ فقال هشام: إن أبي باع بيته بعشرين دينار، ووجهني إليك لأتشرف بالسماع منك، فضربتني، وظلمتني بغير جرم فعلته سوى أني أطلب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام والله لا جعلتك في حل، لأسائلنك بين يدي الله!



فتأثر الإمام مالك، وعلم أنه طالب علم، وأنه طالب حديث، وجامع سنة بحق، فقال يا بني، ما يرضيك؟ ما كفارة ذلك؟ فقال هشام: أن تحدثني بكل صوت ضربتنيه حديثًا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فجلس الإمام مالك وقال: حدثنا فلان، عن فلان عن فلان، وسرد له خمسة عشر حديثًا، فقال بعدها: يا إمام: زد في الضرب وزدني من الحديث، فضحك الإمام مالك -رحمه الله - وقال: اذهب.



فانظروا - رحمكم الله - انظروا كيف عرفوا العلم، وقترة، واستعذبوا العذاب في سبيل الحصول عليه، باعوا بيوتهم، قطعوا الفيافي والقفار حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه؛ لأنهم يعرفون أنه بواسطة العلم يعبد الله على بصيرة، بواسطة العلم، ينشر الدين، ويعلو أمر المسلمين، وينقاد العباد لرب العالمين.



ثم انظروا أيها الآباء إلى أولئك الذين كانوا يعرفون حقيقة المسئولية، انظر يا من استرعاك الله على رعية، انظر في أبنائك، انظر في أوقات فلذات كبدك، انظر في جلسائهم، وانظر في أوقاتهم، واشغل نفسك بتعليمهم، وتربيتهم قبل أن تأتيك المزعجات من أخبارهم، عرفهم بحق خالقهم لكي يتعرفوا على حقوق آبائهم، وإلا تفعل كنت أنت أيها الأب أول ضحيتهم.



فقد جاء أحد عوام الناس إلى بعض العلماء، فقال: إن أبني ضربني، ومد يده في وجهي! فقال له العالم: هل علمته؟ قال: لا، قال: أنت الذي جنيت على نفسك! نعم أنت الذي جنيت على نفسك؛ فلو أنك عرفته بالله لعرفك، ولو أطاع الله لأطاعك!



وها هو الحافظ ابن عساكر رحمه الله لاقى في تحصيل العلم ما لاقى من الشدائد، كما ذكر ذلك الذهبي وغيره، هجر من دمشق إلى نيسابور، وكانت ذات ثلج شديد، وبرد زمهرير لم يألفه في موطنه دمشق، وفي ذات ليلة تحت وطأة الغربة، وفراق الأحبة، وشدة برد البلدة، قال وهو يصور معاناته، ويذكر لأهله أنه لا يزال على عهده في طلب العلم ثم العودة إليهم، فكان مما قال:
لولا الجحيم الذي في القلب من حرقِ
لفرقة الأهل والأحباب والوطن
لمُتُّ من شدة البرد الذي ظهرت
آثار شدته في ظاهر البدن
يا قوم دوموا على عهد الهدى وثقوا
أني على العهد لم أغدر ولم أخنِ



ثم ذكر ما كان له من أسفار متواصلة، ورحلات في الأرض متباعدة في طلب العلم، فقال رحمه الله:
وأنا الذي سافرت في طلب الهدى
سفرين بين فدافد وتنائف
وأنا الذي طوفت غير مدينة
من أصبهان إلى حدود الطائف
الشرق قد عاينت أكثر مُدْنه
بعد العراق وشامنا المتعارف
وجمعت في الأسفار كل نفيسة
ولقيت كلَّ مخالف ومؤالفِ
وسمعت سنة أحمد من بعد ما
أنفقت فيها تالدي مع طائفي



لله درهم، ما أمضى عزائمهم!، وما أشد جلدهم، وشوقهم، وشغفهم، ولهفهم لطلب العلم، وما أقواهم على الدخول فيما يريدون حين يريدون.



طافوا الدنيا لتحصيل العلم، ذرعوها بالأقدام، يوم لم تكن هناك لا كمبيوترات، ولا سيارات، ولا طيارات، وإنما ذرعوها ذرعًا بأقدامهم، حتى قال ابن حبان: « لقد بُلت الدم مرتين في طلب العلم؛ مرة ببغداد، ومرة في مكة».



ويقول بعضهم: «لقد شربت بولي أكثر من مرة في طلب العلم».



وبعضهم يقول: «لقد مشيت في طلب العلم أكثر من ألف فرسخ - أي: ما يقرب من خمسة آلاف كيلو متر مربع-. خمسة آلاف كيلو متر طافها بقدمه!



قال: ثم تركت العد بعد ذلك؛ -أي: أنه لم يعد المسافات بعد أن وصل وجاوز الخمسة الآلاف فرسخ».



وهذا أبو بكر بن سالم بن سليمان رحمه الله قال: رحل أبي من نيسابور؛ ليكتب عن ابن المبارك؛ فلما وصل إليه أنشده هذه الأبيات فقال:
خلفت عرسي يوم السير باكية
يا بن المبارك تبكيني برنات
خلفتها سحرا في النوم لم أرها
ففي فؤادي منها شبه كيات
أهلي، وعرسي، وصبياني رفضتهم
وسرت نحوك في تلك المفازات
أخاف والله قطاع الطريق بها
وما أمنت بها من لدغ حياتِ
مستوفزات بها رقش مشوهة
أخاف صولتها في كل ساعات
اجلس لنا كل يوم ساعةً بكرًا
إن خف ذاك وإلا بالعشيات
يا أهل مرو أعينونا بكفكم
عنا وإلا رميناكم بأبيات
لا تضجرونا فإنا معشرٌ صبرٌ
وليس نرجو سوى رب السماوات



هكذا كانوا رحمهم الله! باعوا بيوتهم، ابتعدوا عن نسائهم، وعن أعز ما لديهم؛ من أجل أن يرفعوا الجهل عن أنفسهم.
فليس يضرك الإعسار شيئا
إذا ما أنت ربك قد عرفت
وما يغنيك تشييد المباني
إذا بالجهل نفسك قد هدمت



ليس عيبًا عليك أن تكون فقيرًا، أو أن تكون ذميمًا، أو مريضًا، إن العيب كل العيب أن تكون غافلًا، وبدين الله جاهلًا.
فمن لم يذق مر التعلم ساعة
تجرع ذل الجهل طول حياته.

فمن شرف العلم وفضله أن كل من نسب إليه فرح بذلك، وأن من نسب إلى غيره ساءه ذلك.



وها هو الإمام الزمخشري رحمه الله كان يعبر عن راحته، ولذته في سهر الليالي في طلب العلم فيقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من وصل غانية وطيب عِناق
وصرير أقلامي على صفحاتها
أحلى من الدُكَّاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها
نقري لألقي الرمل عن أوراقي
وتمايلي طربا لحل عويصة
في الدرس أشهى من مدامة ساقي
وأبيت سهران الدجى وتبيته
نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي



شتان شتان بين من يجد، ويجتهد، ويتعب، وبين من ينام، ويلهو، ويلعب، أيها الناس: إن للعلم لذةً لا يعرفها إلا من ذاقها، وطعم حلاوتها، حتى قال قائلهم -مرغبا ولده بذلك -:
ما لذة الناس في الدنيا بأجمعهم
ولا الملوك ولا أهل اللهو والطرب
كلذتي في طلب العلم يا ولدي
فالعلم معتمدي حقا ومكتسبي



ووالله لولا جهل الناس بحلاوة هذه اللذة، وعظم قدرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، لكنها حُفت بحجاب من المكاره، وحجبوا عنها بحجاب من الجهل؛ ليختص الله بالعلم من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.



نعم - والله- لولا جهل العالَم بالعلم لأصبح العالَم علماء، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.



ومن عجائب ما ورد في ذلك: ما جاء في ترتيب المدارك: أن ابن القاسم -عليه رحمة الله- تزوج ابنة عمه، ثم حملت منه، وكان رحمه الله شغوفا بطلب العلم، فقرر أن يرتحل لطلب العلم، ثم خيرها عند سفره بين صبرها، أو طلاقها، فاختارت البقاء إعانة منها لزوجها، فسافر حتى أتى المدينة وترك زوجته في بلده حاملا، فاسمع ماذا يقول عن نفسه:

كنت آتي كل يوم الإمام مالك رحمه الله في آخر الليل فأسأله عن مسألتين، أو ثلاث، أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراحًا، فكنت أستغل ذلك الانشراح فآتيه كل سحر، ثم جئته يومًا فتوسدت عتبة بابه، فغلبتني عيناي فنمت، وخرج الإمام مالك إلى المسجد ولم أشعر به، قال: فخرجت جارية سوداء فركظتني برجلها وقالت: إن الإمام قد خرج إلى المسجد ليس يغفل كما تغفل، إن له الآن تسعًا وأربعين سنة قلما صلى الصبح إلا بوضوء العشاء، يصلي الصبح بوضوء العشاء لمدة تسع وأربعين سنة!



يقول ابن القاسم: فأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة أطلب العلم، والله ما بعت فيها ولا اشتريت شيئًا، وإنما أطلب العلم، قال: وبينما أنا عنده إذ أقبل حجاج مصر، وإذ بشاب ملثم دخل علينا فسلم على الإمام مالك وقال: أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إليَّ، قال: فأقبل عليَّ يقبلني بين عيني، ويدي، فوجدت منه رائحة طيبة، وإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ولدي الذي ذهبت وهو في بطن أمه، قد أصبح شابًّا يافعًا.



فلا إله إلا الله! ما أعظم أخبارهم، وما أعجب قصصهم، وهممهم، تركوا كل شيء، وأعطوا العلم كلَّ شيء؛ ففتح الله عليهم فتحا لا يخطر بالبال، ولا يدور بالخيال، وقصة ابن القاسم أعظم مثال، ترك زوجته وهي حامل ولم يفاجئ إلا وابنه يسلم عليه، ويقبله وما قد رآه طوال حياته، لماذا؟ لأن كل شيء يهون أمام العلم، ومن يعرف المطلوب يحقر ما بذل، وإن العالم وجوده في الأمة يضيئها وينورها؛ كالقمر يضيء الدنيا كلها.



إخواني الكرام هذه بعض أخبارهم في نصبهم، وفي تعبهم، وهجرهم لراحتهم، وترك نسائهم، في الصبر على شغف العيش، ومرارة الفقر، في ذهاب أموالهم ونفقاتهم وأعز ما لديهم، فهلا كانت مجلاة للقلوب من الصدا ولكسل، ومدعاة لتحريك الهمة للجد والعمل، فأنتم كهم، ومن يشابه أبه فما ظلم:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم!



(الخطبة الثانية)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أيها المسلمون عباد الله، بعد أن سمعنا ما سمعنا من الأخبار، ومن قصص همم سلفنا الأخيار، في قطعهم الفيافي والقفار، وتركهم النساء، وبيعهم الديار.


نعم ذرعوا الأرض على أقدامهم، وآثروا العلم عن متعتهم، وراحتهم؛ كل ذلك من أجل أن يرفعوا الجهل عن أنفسهم؛ ولكي يكونوا ضياءً، وسراجًا، ونورًا لأمتهم، نعم تعبوا، وسافروا، واجتهدوا، ثم بعد ذلك أصبحوا نعم الرجال، وخير من تستنير بهم الأجيال، بل صاروا ملوكًا، وأعظم والله من الملوك، وإن أردت أن تعرف حقيقة ذلك فدونك بعض النماذج على ذلك:

هذا عبد الله بن المبارك - عالم أهل خراسان - حين كان الناس مجتمعين حول هارون الرشيد؛ إذ أقبل عبد الله بن المبارك، فما إن رآه الناس إلا وتركوا هارون الرشيد، وأقبلت إليه قلوبهم وأجسادهم، وعلَت أصواتهم، وتقطعت نعالهم، وارتفع غبارهم من شدة الشغف واللهف إلى لقاء العلماء أمثال عبد الله ابن المبارك، وفي هذا المشهد الرهيب، خرجت من أعلى القصر جارية لهارون الرشيد، فقالت: ما هذا؟! ما الذي حصل؟! وما هذه الضجة، ما هذا الصياح وما هذه الجلبة؟ قالوا: هذا عالم من أهل خراسان!



فقالت الجارية قولتها الخالدة: هذا -والله- هو الملك، لا ملك هارون الذي ما يأتيه الناس إلا بالشرطة والمال!



إي وربي، إن هذا هو الملك، وهذه هي السيادة، وهذا هو الشرف وهذه هي الريادة!


ورحم الله الألبيري حين قال:
لئن جلس الغني على الحشايا
لأنت على الكواكب قد جلستا
لئن ركب الجياد مسومات
لأنت مراكب التقوى جلستا



وها هو الخليفة المأمون كان قد وكل الفراء أن يعلم ابنيه النحو؛ فلما أراد الفراء أن يقوم يومًا إلى بعض حوائجه، ابتدره إلى نعله أبنا الخليفة يقدمان له الحذاء، ويتنازعان على تقديمه، ثم اصطلحا أن يقدم كل واحد منهم فردة من أحذيته، وكان للمأمون على كل شيء صاحب خبر- أي من يوصل له الخبر- فوجه إلى الفراء يوما فاستدعاه، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أحدا أعز من أمير المؤمنين، قال: بلى، من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، حتى رضي كل واحد منهم أن يقدم فردة من أحذيته!



سبحان الله العظيم! أولاد أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين يتنازعان في تقديم أحذية العالم الفراء رحمه الله:
إن الأكابر يحكمون على الورى
وعلى الأكابر تحكم العلماء.

وقيل لأبي جعفر المنصور - الخليفة العباسي -: يا أمير المؤمنين، هل بقي من اللذات شيء لم تنله؟ قال: شيء واحد، قالوا ما هو؟ قال: قول المحدث للشيخ: من ذكرت رحمك الله؟ فما كان من وزرائه إلا أن اجتمعوا، وجلسوا حوله وقالوا ليملي علينا أمير المؤمنين - أي من أجل أن ينال هذا الشرف - قالوا: ليملِ علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث، فقال: لست منهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق، تارة بالشام، وتارة بالعراق، وتارة باليمن، وتارة بالحجاز، هؤلاء هم نقلة الحديث.



الله أكبر!
رضينا قسمة الجبار فينا
لنا علم وللجهال مال
فعز المال يفنى عن قريبٍ
وعز العلم باقٍ لا يزال



وهذا علي بن الحسين بن علي بن طالب رضي الله عنهما دخل مكة يومًا وأراد أن يزور الكعبة، فلما رآه الناس أفسحوا له الطريق، ثم دخل وقَبَّل الحجر الأسود ثم خرج، وكان هشام بن عبد الملك قد دخل قبل ذلك وما أوسع له أحد، وما استطاع من الزحام أن يقبل الحجر الأسود، فلما رأى رجلٌ من الشام هذا الموقف الذي حصل لزين العابدين قال متعجبًا من هذا؟! - أي من هذا الذي أوسع الناس له وما أوسعوا للخليفة - قال هشام بن عبد الملك متنكرًا وحاسدًا: لا أعرفه، فقال الفرزدق قصيدته العصماء سلني عنه يا شامي:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا النقي التقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره
العُرْبُ تعرف من أنكرت والعجم



إي – والله - إن العلماء هم الملوك حقًّا، وهم أصحاب السيادة، والريادة صدقًا، حتى ولو لم يملكوا شيئًا من الأموال والحشم، ولو لم يكن لهم شيء من الزعامة والخدم.



أدرك هذه المنزلة، وهذه الرفعة والمكانة، بعض الأمهات فكن يربين أولادهن على هذا الشرف، لا على العطالة، والبطالة، والترف!



فكانت أم عبد الرحمن بن الأوقص تقول لولدها - وقد كان مشوهًا في خلقته؟ أسود في بشرته، أفطس في وجهه، أنيابه بارزة، كتفاه ناتئتان، - كانت تقول له: يا بني -والله- ما كنت في قوم إلا كنت المسخور به، المضحوك عليه؛ فاطلب العلم يا ولدي عل الله أن يرفعك! رفعكِ الله يا أم عبد الرحمن في الدنيا والآخرة، فطلب العلم ولدها؛ فكان إذا جلس إليه خصمان ليتحاكما إليه يرتعدان من المهابة قبل أن يتكلما بين يديه.



ومثله عطاء بن أبي رباح، ذكر الذهبي: أنه كان مشوهًا في خلقته، أفطس الوجه، مقطوع اليد، وأسود اللون، قال: وكان يحدث الناس بمكة ويحضر مجلسه الملوك.



ومن جميل ما يذكر، ما ذكره ابن حجر في الجواهر والدرر: أن الإمام الكسائي رحمه الله كان قد بلغ الأربعين من عمره ولايزال يرعى الغنم، وبينما هو يسير في طريقه يومًا من الأيام، رأى أمًا تحث ولدها على الذهاب إلى حلقة العلم والقرآن، وهو لا يريد أن يذهب، فقالت له: يا بني اذهب، حتى إذا كبرت لا تكون مثل هذا الذي يرعى الغنم، فتأثر الإمام الكسائي من كلام هذه المرأة وقال: أنا الذي يضرب به المثل بالجهل!



فذهب فباع غنمه وانطلق إلى طلب العلم وتحصيله؛ فأصبح إمامًا في القراءة واللغة، ومضرب المثل في العلم والهمة!



ما أجمل هذه الأخبار العجيبة! وما أعظم هذه الهمم العالية! نسأل الله الكريم من فضله!



أيها الإخوة الكرام: هذا الموضوع الشريف الذي طُرق على مسامعكم، ينبغي لكم أن تجعلوه نصب أعينكم، ونبراسًا في حياتكم، ولتعلموا أن الجهل رأس كل بلية، وأصل كل رزية، فالجهل مع الفقر يجلب الإجرام، ومع الثراء يأتي الفساد ومع الحرية والسلطة يكون الفوضى والاستبداد، ولكن إذا كان مع الفقر علمٌ جاءت القناعة، وإذا كان مع الثراء تولد منها الإبداع، ومع الحرية السعادة الأبدية، وإذا صحب السلطان جاء من العدل لا الاستبداد والأنانية.



فلابد أن نعلم أن طلب العلم ليس مقصورًا على فئة معينة، أو في بيئة مخصصة، الحرص على طلب العلم ليس خاصًّا بمن كان فارغًا، أو مثقفًا، أو معلمًا، بل لا بد من تحصيل العلم، والاهتمام به على كل مسلم رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا.



فاغتنموا- رحمكم الله- أوقاتكم بما ينفعكم في أمور دينكم، واعلموا أن منزلتكم عند خالقكم هي بأعمالكم، وصلاح دينكم، ومعرفتكم بشرع ربكم.


اغتنم وقتك- يا عبد الله - بحضور الدرس الذي في مسجدك، احرص على سماع وقراءة المفيد وأنت في متجرك، وأنت تمشي بسيارتك، وأثناء سفرك، اغتنم وقتك وأنت في مقيلك مع أصحابك، ورفاقك، أو على نقاش مفيد مع جلسائك، أو على تسبيح، وتمجيد، لخالقك، فإن لم يكن هذا، ولا ذاك، فاعتزل تلك المجالس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ما من قوم اجتمعوا في مجلس ولم يذكروا الله فيه إلا كانت عليهم من الله تِرة -أي: حسرة- وفي رواية: إلا قاموا على مثل جيفة حمار!



نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا من الدعاة المصلحين لإخواننا، ولأمتنا! اللهم فقهنا في ديننا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علما! اللهم أجعلنا من علماء دينك، وحماة شريعتك، ومن المحسنين لعبادك يا رب العالمين!

سنينى معاك
02-23-2024, 08:28 AM
جزاك الله خيـر
وبارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما