مشاهدة النسخة كاملة : رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالعالمين


حكاية ناي ♔
12-23-2022, 09:19 AM
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالعالمين، قال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ولا يتسع المقام ههنا للوقوف عند كل القصص التي وردت في رحمته عليه السلام؛ إذ إننا سنفرد بالذكر قصصًا مختارة مما نرى أن التواصل قد تحقق بها بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كطرف، وبعض الحيوانات أو الجمادات في الطرف الآخر، وسنرى كيف أن التواصل في قصصنا هذه من نوع خاص؛ إذ سنعرض لقصة تواصُل النبي عليه السلام والجَمَل، والشجرة، والحَصَى، وطائر الحُمَّرة، والجِذْع، وقد أوردت ذكر بعض القصص لأجل إغناء البحث بنماذج تواصلية لرسول الله مع الكون، وإلا فإن دراستي للموضوع ترتكز على نموذجين اثنين هما التواصل من خلال قصتي طائر الحُمَّرة والجِذْع.

قد يستغرب العقل حقيقة هذه القصص؛ ولكننا كمسلمين نُسلِّم بها، فعن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؛ إِلَّا عَاصِيَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)).[1]


وفي تعبيره صلى الله عليه وسلمعلى حُبِّه للجمادات:
عن أبي حميد رضي الله عنه: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه سلم من غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: ((هذه طابةُ، وهذا أُحُدٌ جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه))[2]، كما لدينا في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44].

وقد استأثر الله بعلم لغات الكون في تعظيمهم له جَلَّ جلالُه؛ وإنما هي نماذج خصَّ اللهُ نبيَّه بفقه لغاتها، كما سيأتي معنا في النماذج كما ذكرت.

ننتقل الآن للأركان:
أركان التواصل:
أركان أو أطراف التواصل، وسنأتي عليها من باب عرضها فقط، وإلا فإن تفصيل القصة يأتي معنا بأثر التواصل، ولدينا إذًا:

رسول الله صلى الله عليه وسلم كطرف أول، والجمل كطرف ثانٍ:
عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفَه ذاتَ يوم، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أُحدِّث به أحدًا من النَّاس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفًا أو حائشَ نخلٍ، قال: فدخل حائطًا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرَفَتْ عيناه، فأتاه النَّبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفْراه، فسكت، فقال: ((مَنْ رَبُّ هذا الجمل؟)) لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكَكَ اللهُ إيَّاها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُه وتُدْئبُه))[3].


رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبل أُحُد:
وقد تحرَّك الجبل فرحًا به صلى الله عليه وسلم، عن أنس رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: ((اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ))[4].


رسول الله صلى الله عليه وسلم والشجرة أو السَّلَمة أو العِذْق:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي فلما دنا منه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين تريد؟)) قال: إلى أهلي قال: ((هل لك في خير؟))، قال: وما هو؟ قال: ((تشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه))، فقال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: ((هذه السَّلَمةُ)) فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي فأقبلت تَخُدُّ الأرضَ خَدًّا حتى قامت بين يديه، فاستشهَدَها ثلاثًا، فشهِدتْ ثلاثًا أنه كما قال، ثم رَجَعَتْ إلى مَنْبِتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: إنِ اتَّبَعُوني أتَيْتُكَ بهم، وإلا رجعتُ، فكنتُ معَكَ.[5]

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بِمَ أعرف أنك نبيٌّ؟ قال: ((إنْ دَعَوْتُ هذا العِذْقَ من هذه النخلةِ تَشْهدُ أني رسولُ الله؟» فدعاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يَنزلُ من النخلة حتى سقَطَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((ارْجِعْ))، فعادَ، فأسلمَ الأعرابيُّ[6].
رسول الله صلى الله عليه والسبع حصيات (أو التسع):
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: (كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه سلم سبع حصيات، أو قال: تسعُ حصيات، فأخذهن في كفِّه، فسبَّحن حتى سمعتُ لهن حنيًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في كفِّ أبي بكر فسبَّحْنَ، حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبَّحْن حتى سمعتُ لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبَّحْن حتى سمعتُ لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن)، وقال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات وفي بعضهم ضعف، قلت: وقد تقدَّم في الخلافة له طريق عن أبي ذرٍّ أيضًا، وقال الزهري فيها- يعني الخلافة- رواه الطبراني في الأوسط وزاد في إحدى طريقيه (يسمع تسبيحهن في الحلقة في كل واحدة) وقال: (ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا)[7].

رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجر بمكة:
عن جابر بن سَمُرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: ((إني لأعرفُ حَجَرًا كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبْعَث، إنِّي لأعرِفُه الآنَ))[8].

رسول الله صلى الله عليه وسلم والجذع:
عن جابر رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَال: ((إِنْ شِئْتُمْ))، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: ((كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا))[9].

وحديث حنين الجذع ثابت من طرق كثيرة:
روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الجِذْعُ، فَأَتَاهُ، فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ"[10].

وروى البخاري أيضًا عن جَابِر بْن عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: "كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ"[11].

وفي رواية: ((إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ[12]...)).

وَفِي حَدِيث أنس عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (فحنَّت الْخَشَبَة حنين الوالدة)، وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى عِنْد الدَّارمِيِّ: (خار ذَلِك الْجِذْعُ كخوارِ الثور)[13]، وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب: (فَلَمَّا جاوزه خار الْجذع حَتَّى تصدَّع وَانْشَقَّ)[14].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وأَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ، ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ، فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ" [15]، فَقَالَ:((لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).[16]

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: ((إن شئتم))، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النَّبي صلى الله عليه وسلم فضمَّه إليه، تئنُّ أنين الصبي الذي يسكن، قال: ((كانَتْ تَبْكِي على ما كانَتْ تسمَعُ من الذكْرِ عندها))[17].
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائر الحُمَّرة:
- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تفرُشُ، فجاء النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَن فَجَعَ هذه بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها))[18].
أنماط التواصل:
ونقصد هنا الشكل الذي تحقَّق من خلاله التواصل؛ سواء من حيث اللغة، أو من حيث الطريقة، ولعلها لغات لم تصلها أقلام الدارسين، ولا شملتها اجتهاداتهم؛ إذ إنها بهدي ووحي ربَّاني فَهِمَها سيِّدُ الأوَّلين والآخرين؛ لكن لا بأس أن نصِفَها من خلال ما بدا لنا منها واضحًا، حسب ما نُقِل لنا، ففي تواصُل الجَمَل كانت حركات الجَمَل وحتى بكائه تعبيراتٍ دالَّةً على تحقُّق حوار، كأنه عليه السلام سأله عن حاله، فأخبرَه.

أيضًا في انقياد الشجرة لأمره وشهادتها، فذلك استجابه لأمر كان موجَّهًا أيضًا في قصة الجذع، فكأنه خطاب للجذع فَهِمَه رسول الله بألفاظه، وأدرك الحاضرون الأنِيْنَ منه فقط، أيضًا في رفرفة الحُمَّرة، فلعلها كانت تُحادِث رسول الله فكان شكل التواصل حواريًّا لم ير الصحابة رضوان الله عليهم منه إلا الرفرفة، وأمر رسول الله عليه السلام بعد ذلك إياهم من رد الفراخ.

كلها اجتهادات وتأويلات قاصرة عن فَهْم كُنْه الإفهام الرباني لرسول الله ونمطه، في التواصُل مع الكون، وليس لنا إلا التسليم والاعتبار بالرسائل الموجهة، من خلال القصص الواردة عن رسول الله في تواصُله هذا من رحمة وعطف.

أثر التواصل:
نقصد بذلك النتائج المترتبة على تواصل النبي صلى الله عليه وسلم بالكون، وهنا لدينا:
إسلام الأعرابي: قصة الشجرة، أو عذق النخلة، أو السَّلَمة.
التعظيم: في تسبيح الحصى.
المحبة والتقدير: في تسليم الحجر واهتزاز أُحُد.
الانتصار للحق ورفع الظلم: في قصة الجمل والحُمَّرة.
الرحمة والعطف: في قصة الجذع.

والأثر العام والنتيجة الأكيدة ههنا أن هذا التواصل دليل يقيني على نبوَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

قد لا يتضح موضع التواصُل في إحدى القصص المذكورة، فنقول: إن الحجر لا يسلم على الكل، وأن الجمل لا يشكو لأحدٍ لولا رسول الله، وأن الحُمَّرة طائر الرحمة عرف رحمة سيد الخلق، وأنه هو من يرد الفراخ، وأن الجبل لا يهتز إلا لزلزال، وهنا اهتزَّ محبةً وإجلالًا لرسول الله، وأن الشجر تحرَّك لطاعة، والجذع افتقد قُرْب خير ولد آدم صلى الله عليه وسلم.

عوائق التواصل:
فهمنا إذًا أن شكل التواصل كان بهدي رباني، والأكيد أنها أوامر ربِّ العزَّة لتلك المخلوقات؛ حيث أذِنَ لها في التواصُل مع رسول الله، وطاعة أمره، وهديًا لرسوله عليه السلام لفقه وفهم تواصلها، وتأييدًا له عليه السلام، كل ذلك تسخير من ربِّ العالمين الذي يقول للشيء كن فيكون، ولا رادَّ لأمر الله ولا عائق أمام إرادة الله.

خاتمة:
من كل ما سبق نخلص لحقيقة مفادها أن كل ما خلق الله في تواصُل مستمر مع رب العزة، تسبيحًا وإجلالًا، ومع بعضها باعتبار العلاقات بين كل الكائنات؛ سواء من الجنس الواحد لأجل التطوُّر، أو الأجناس المختلفة ممن اصطفى ربُّ العالمين كما مع سليمان عليه السلام، وأيضًا مع سيد ولد آدم عليه السلام، مما شاء الله أن يعلموه، ولا بأس أن نأتي على ذكر أهم ما سبق معنا:
• كل الخلائق في تواصل مستمر مع رب العالمين؛ عبادةً، وتسبيحًا، وتعظيمًا، وإجلالًا.
• صدق نبوَّته عليه السلام ومدى رحمته التي استوعبت الكل.
• لا عائق لأمر وهدي رباني شاء الله حدوثه.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلت وهو يهدي السبيل.

سيف
12-23-2022, 09:26 AM
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك

حكاية ناي ♔
12-28-2022, 07:44 AM
اسعدني حضوركم