حكاية ناي ♔
12-23-2022, 09:23 AM
يمثل خبر أسامة بن زيد مثارَ اندهاش عند الناس، ولعله؛ ولعدم القدرة على تصور أن شابًّا، وإذ لا يزال يافعًا، وها هو يوليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم قيادة جيش الفتح المبين، ومواجهة صناديد الكفر والقتال يومهم هذا، وحين كانت الروم مضرِب مثل من قوتها، وعنفوانها، وكبرها، واستكبارها، وعتوها، وعددها، وعتادها.
وأعالجه في ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: شيخان تحت إمرة مولى
وهذا هو أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف له، وإنما كان به جديرًا؛ ولصحبته لهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنه كان قد تربَّى في بيت النبوة، وعلى عَينٍ منه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جعله محطَّ ثقته، وهذا الذي جعله محل عنايته واهتمامه، ويوم أن جعله قائدَ جيشه إلى الشام فتحًا مبينًا يومًا، وإذ كان مَن تحت إمرته فيه أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، رضي الله تعالى عنهما، وحين كان عمر الفاروق هذا هو أمير المؤمنين يومًا، ومن بعد أن كان محلًّا لمواقفه الخالدة، تجاه نزول القرآن المجيد، وعلى لسانه، ورضي الله تعالى عنهم أجمعين، ويوم أن استَطْلَقَ أبو بكر عمرَ الفاروق هذا من أسامة، وليستضيء برأيه، أمة عرَفت الشورى، لها قيمة، ومبدأً، ومنهاجًا، وسبيلًا.
وإذ كان تحت إمرة أسامة هذا يوم الجيش هذا شيخ وقور، ومن وقار أبي بكر، أمة هذا كان شأنها، وحين يعمل، ومَن مثل أبي بكر وعمر؟ سيدين وتحت إمرة مولى؟! كان هو هذا أسامة بن زيد، ولأن المسلم ليس يهمه أن يكون في المقدمة، أو في الساقة، وحيث كانت الوجهة هي مرضاة الله تعالى مولانا الحق المبين سبحانه.
وأعِدِ النظر: وإذ كيف كان أسامة قائدًا، وكيف كان أبو بكر جنديًّا مخلصًا، وانظر كيف كان أبو بكر، ولما صار خليفة المسلمين، ومن بعد وفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ها هو لا يمثل دور الخليفة وحين يستأذن أسامة السماح له أن يعيد إليه عمر؛ ليعينه استرشادًا، ومشورة في أمر هذه الخلافة الراشدة.
المسألة الثانية:
أسامة قائد جيش فتح الإسلام كان عمره ثمانية عشر عامًا
وهذا هو أسامة بن زيد، ويوم أن أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش الشام، وإن كان عمره يومها لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا الذي جعل أبا بكر مصرًّا على إنفاذه؛ ولإنفاذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أسامة هذا كان أهلًا لهكذا إمارة على جيش الفتح المبين.
وهذه رسالة إلى أمتنا؛ وكيما تنهض من جديد، وحين يعرف الناس أن قائدًا لجيش فتحها قد كان صغيرًا عمره، ولئن كان قد بلغ شأوًا عظيمًا؛ فكره، وخبره، وتقواه، وصلاحه، وورعه، ولأنه من هذه الأمة، وإنما كان من إلفها هكذا تربية أبنائها، وعلى محضنة هذا الدين؛ الإسلام الحنيف الخالد.
وقد كان أسامة بن زيد هذا محط عناية؛ ولتاريخه الناصع الكريم، ويوم راح بجيشه هذا، ومن أمره هذا، وليرجع منصورًا، سالمًا، غانمًا، ويومها عرف الناس، وكيف كان أبو بكر صائبًا، ومن صواب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وبعد أيضًا، وحين أنفذ جيشًا كان قد قلَّده النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولاءً لقائد سابق، واحتفاء بسيرة نبي لقِيَ ربه تعالى.
المسألة الثالثة: السلام عليك أيها الأمير
وهذا قول عمر الفاروق رضي الله تعالى، حق أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما وحين كان يلقاه ومن بعد إمرته صلى الله عليه وسلم لهذا أسامة، وتعبيرًا عن العبودية لله تعالى، وفي أدق معانيها، وحين كان إلفًا منه، وهكذا كان راضيًا بقرارٍ كان قد اتخذه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول ينبض حبًّا في الله تعالى، وهذا قول يسيل منه سيلَ ولاءٍ جارف، وهذا قول يعين منه مَعين تواضع شارف، ومن هذا الفاروق رضي الله تعالى، شيخًا كان، وحين قد وافقه القرآن المجيد غير مرة؛ ومن ثَمَّ فإن شهادته هكذا لهذا أسامة بن زيد هذا، وإنما تكون محل عناية، ومحط اهتمام، وموجب اكتراث، ومورد رعاية، ولأنه قد جُعل الحق على لسانه وقلبه، رضي الله تعالى عنه، وإنما كان يبين منه كم كان هذا الجيل قلبًا على قلب! وكم كان هذا الجيل ومن هذا التواضع الذي تنهمر أماراته، وإذ تتواتر لنا عنهم دلالاته! ومن قول عمر الفاروق هذا؛ فعن عبدالله بن عمر: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، وقال ابن عمر: ((ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر أو قال ابن الخطاب فيه - شكَّ خارجة - إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر))[1].
المسألة الرابعة: وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة
وعلى أن الطعن في إمارة أسامة بن زيد، وإنما كان، ومن يوم أن قلده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبرهان أن هذه الأمة كان مفتوحًا لها مجالها، أن تدليَ رأيًا، وأن تشاور تشاورًا ومشورة، وأنه هكذا كان لها سبيلًا ومنهاجًا، وعلى محضَرٍ من نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وما وجدناه يومًا ممتعضًا، بل سعيدًا مسرورًا، أن في هذه الأمة أمته، من يقول رأيًا، ويمنح رشدًا، ويسدد مشورة، وينطق سدادًا؛ وكيما يعلم الناس أن الأفكار والآراء السديدة، وإنما كانت محل اعتبار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه تتنشأ أمة رشدًا، يعلو صوتها؛ صوتُ الحق، والرشد، والهدى، والصلاح، والتقوى، والإيمان، والقسطاس المستقيم، والعدل، والنصفة، وهذا سَنَنٌ جارٍ، وهذا هديٌ باقٍ؛ ولتترقى من موجبه أمة خالدة، راشدة، سوية، منهج صلاح عملي، وصراط فلاح فعلي، لا من اكتفاء قولي؛ عن عبدالله بن عمر: ((أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله لقد كان خليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده))[2].
المسألة الخامسة: اللهم إني أحبهما، فأحبهما
وعلى أن هذا دعاؤه صلى الله عليه وسلم، وأن يحب الله تعالى أسامة، وكما أحبه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهذا نبي يدعو، وهذا رب كريم يجيب، وإن كان أسامة أهلًا للحُبين معًا: محبة الله تعالى له أولًا، ومن ثم محبة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم له ثانيًا، وليصير هذا الحب هكذا مركبًا مضاعفًا، وليصبح هذا الحب دلالة ولاء، وشارَةَ رعاية، وبرهان كرامة، وموجب سُؤْدُدٍ، وسبب شرف، وإذ تستشرف النفوس - كل النفوس - جانبه، كله، وأجمعه، وكمن سموُّ أسامة، وكمن علو أسامة بن زيد هذا أيضًا.
وعلى أن هذا كان شأن أسامة بن زيد، وحين كان من مساواة محبة بينه وبين الحسن، سبط نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وحين روى أسامة بن زيد هذا نفسه، وعن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان يأخذه والحسن، ويقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما، أو كما قال))[3].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان قد أفرده ببعض مزية، كانت له، وحين قال قوله هذا: ((من أحب الله ورسوله، فليحبَّ أسامة بن زيد)).
وهذا رجل كان قد تربى على مائدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكيف لا يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وشابٌّ كان قد تضلع الهدى، ومن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة؟ وكيف ليس يكون هكذا شأنه؟ وإلا وكأنه الخلق الرشيد، والرأي السديد، وحين يجعل حب أسامة بن زيد هذا، ومن محبة الله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القول الذي لم يرنا من مثله، وعن غيره، ومن أصحابه البررة الغر الميامين، أولياء، أحباء، كرماء، أتقياء، أنقياء، أوفياء، نصحاء، رفقاء، وإلا كبضعة أصابع معدودة ومن مثل ما أنف توًّا عن الحسن.
وهذا حبه لعلي رضي الله تعالى عنه؛ فعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فبات الناس يَدُوكُون ليلتهم: أيهم يُعطَاها؟ فلما أصبح الناس غدَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو - يا رسول الله - يشتكي عينيه، قال: فأرسِلوا إليه، فأُتِيَ به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه؛ فوالله لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَمِ))[4].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ فعن عبدالله بن مسعود: ((لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلًا))[5].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فعن عمرو بن العاص: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالًا))[6].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ وفيه حديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى آنفًا.
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله تعالى عنه؛ فعن عائشة أم المؤمنين: ((يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم))[7].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ فعن عائشة أم المؤمنين: ((ما غِرْتُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة، فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة، قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رُزقت حبَّها))، وفي رواية بهذا الإسناد نحو حديث أبي أسامة إلى قصة الشاة، ولم يذكر الزيادة بعدها[8].
وفيه أن المحبة أمر كسبي.
المسألة السادسة: إنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك
وهذا الذي جعل عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه يمنحه، وأكثر من منحته ولده عبدالله، ويكأنه عبدالله وقد رأى رأيًا آخر، وليسكته والده عمر الفاروق ومن قوله هذا الذي أنف.
فعن عمر بن الخطاب: ((أنه فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة، وفرض لعبدالله بن عمر في ثلاثة آلاف، فقال عبدالله بن عمر لأبيه: لمَ فضَّلت أسامة عليَّ؛ فوالله ما سبقني إلى مشهد؟ قال: لأن زيدًا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي))[9].
المسألة السابعة: أقتلتَه بعدما قال: لا إله إلا الله؟
ولكنَّ هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد كان من حق أنه وليس تأخذه في الله تعالى لومة لائم، وحين كان الحق له منهجًا رشدًا، وحين لم يكن لأحد في الحق محابيًا، وحين كان للنصفة حاديًا، وهاديًا، وحين كان لغير من ذلك مباعدًا مجافيًا، وحين كان من أسامة قتله لرجل من الحرقة من جُهينة، ويوم أن ولى مدبرًا، وهو الذي استكشف منه أسامة تقيَّتَه، وهو الذي أوجب مما رآه قتلته، وبعد أن قال شهادة الحق والتوحيد، ويوم أن كان هذا الجيل، وكان الناس يعرفون معناها وحقها، وإنما لم يكن أحدهم ليقولها، وإلا وقد عاين حقها ولازمها، أو على الأقل كانت سبب عصمة، ولما كانت موجب دخول في هذا الدين، ولأنها عنوان الإسلام، وبرهان الإيمان، وأساس الهدى، ورابطة الرشد، ودالة الاستمساك بالأوامر، ولأنها برهان مجانبة النواهي والزواجر، ولأنه قائلها وإذ يعلم أن من موجب هذه الشهادة أنها للدم عاصمة، وأنها للدين وعليه شاهدة، ومن ثَمَّ فمن دخل هذا الدين بيقين، وليس يخرج منه وإلا بيقين أيضًا.
وعلى أن ما خالط ذهنَ وعقل وتفكير أسامة، ومن أن الرجل كان قد قالها تقية، وخوفًا، ووجلًا، ونفاقًا، أو أي وجه وعلى شاكلة من ذلك، وإنه لذلك ليعد مجتهدًا، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه، ولم يفرض له حدًّا؛ ولأنه قتل مسلمًا، ولأن الاجتهاد هنا موجب عفوٍ، لا قصاص، وهذا فقه نبوي كريم، ودين سماوي مبين.
فعن أسامة بن زيد: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَة من جُهَينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم))[10].
المسألة الثامنة: الاجتهاد باقٍ إلى يوم القيامة
وإنما كان منه إطلاق مَلَكَة اجتهاد الأمة، وإن أخطأ بعض من منتسبيها، وإنه ولئن قِيس خطأ واحد، أو أكثر منه، ومقابلة إعمال هذا المنهج الاجتهادي، ومن أهله، وإنما يكون هو الآخر موجب تقدم الأمة، وعلاجها لقضاياها المتجددة، وحين يُرَدُّ ذلك إلى أولي الأمر من العلماء المجتهدين الخُلَّص منهم، وإذ ليس يخلو زمان من أولئك الجهابذة، وحين كانوا يحملون لواء هذا الدين، عالين به، وعاليًا دينهم، ومن مقتضى ما كتب الله تعالى؛ وحين قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، ولأنه فيها، ومن أمثال أهل الحق، وما به تقوم لها القائمة، وما منه يكون منها التقدم، والهيمنة، والحكم، والسلطان، وعلى منهج خالقها، وعلى هديِ نبيها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة التاسعة: من شروط الاجتهاد
وعلى أن شرط هذا الاجتهاد، وإنما شرطه أن يكون من أهله، وكما أنف، ومن كمثل هكذا أسامة بن زيد، وهو تلميذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى أن شرط هذا الاجتهاد: ومن علم، وورع، وخوف، وتقوى، وعدالة؛ وكيما يصيب الحق ما أمكنه ذلك، ومن بعد استفراغ وسعه في المسألة.
ومن شرطه: إحاطته بمدارك الشريعة وأحكامها، ومن مسألته التي يجري اجتهاده فيها.
المسألة العاشرة: أهمية الاجتهاد
ومنه كان بقاء هذا الاجتهاد سندًا للأمة، ولإعمال منهج ربها ودينه وطريقته وسبيله، وعلى الوجه الشرعي، وحين جدَّت مسائل عظام، وحين لم يترك لها هذا الدين خللًا وإلا عالجه، ومن أصوله وكلياته وبراهينه وقواعده، والتي يمكن أن تكون من المرونة واليسر والسماحة، ما يؤهلها أن تكون زادًا على الطريق، ولكل باحث صادق مخلص متجرد عن الحق، ويكأنه قد كتب الله تعالى منه له نصيب؛ ومن علمه، وصلاحه، وتقواه، وملاءته، وزهده، وورعه، وحرصه، وعدالته.
المسألة الحادية عشرة: العاصمة القاصمة
وعلى أن هذا الشهادة الكريمة شهادة الحق؛ شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، وإنما كانت هي العاصمة، ويوم قالها ومن قالها وحين أولاها حقها، ومعناها، ولازمها، ومن إفراده تعالى بربوبيته، ولما كان خالقًا رازقًا محييًا مميتًا ممطرًا وحده، ومن إفراده تعالى بألوهيته، ولما كان آمرًا ناهيًا وحده، ومن إفراده في أسمائه وصفاته، وعلى الوجه الذي يليق به تعالى وهو الذي يسمونه بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا نفي، بل إثبات وعلى وجهه؛ وكما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ومن مقتضى كل ذلك اختصاصه تعالى بالأمر والنهي، وكذا نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنما كانت هي القاصمة، ويوم أعرض عنها، ومن أعرض أيضًا إشراكًا به تعالى في ربوبيته، ويوم يقولون خالقًا سواه أو في ألوهيته، ويوم يعبدون سواه، أو في أسمائه وصفاته، ويوم ينكرون له اسمًا أو صفة، أو يُلْحِدون فيها.
ولما كانت هذه الشهادة؛ ومن عظمها سببًا لاستحلال الأنفس والأموال، وحين ذلكم الإعراض، والتولي، والإدبار، والاستكبار؛ ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله))[11].
وإلا أنهم قالوا: وإن من دخل هذا الدين بيقين، ومن ثَمَّ فلا يخرج منه وإلا بيقين آخر مثله، ومعادله، ونظيره، وقرينه أيضًا؛ ولأنها من ديننا هامة، ويكأنها ومن منهجنا قيمة وقامة وسبيل المؤمنين، وطريق المهتدين، وإنما هذا اليقين، ولما يتماثل أمام أسامة منه يقينه به أيضًا؛ ولأن هذا اليقين عمل قلبي، وإنما أماراته هو هذا الالتزام بمعنى الشهادة ولوازمها، وهذا أمر يحتاج إلى ترصُّد، وتبيُّن، وتثبت، وليس يمهره سرعة ظنٍّ بتقيَّة، ولو كانت.
المسألة الثانية عشرة: سبحان الله إن بعض هذه الأقدام لَمِن بعض
وهذا قول مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه، ومن حق أسامة بن زيد، وحين رآه أبيض، هاجعًا، مستلقيًا، نائمًا وجنبًا إلى جنب والده زيد بن حارثة وحين كان أسودَ، قائلًا، غافيًا، راقدًا، ولما كان لهذه العلامة من أثر في اعتبار علم القيافة في الأنساب، وهذا ملحظ جعل النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم به مسرورًا، وحين قد ألف وعن غير سابق إعداد لهذا الأمة، رصيدًا آخر مجيدًا، وكهذا؛ ولأهميته في إعمال ما منه يكون سببًا في استلهام طرائق تسد كيد الشيطان، فلا يعمل أثره في اختلاف الأُسَرِ، والأنساب، وتباينها، وتفرقها، وتشتتها، بل في اتحادها، وألفتها، ورشدها، وتضامها، وانسجامها، أو ولعله قد نزا منه عرق.
فعن أبي هريرة: ((أن أعرابيًّا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمُر، قال: هل فيها من أوْرقَ؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: فأنَّى ترى ذلك جاءها، قال: يا رسول الله، عرق نزعها، قال: ولعل هذا عرق نزعه، ولم يرخص له في الانتفاء منه))[12].
ومنه اعتبار ما يجدُّ من علوم موازية، وإذ أدت ما منه يكون الوصول إلى الحق، ولضبط المعاملات الإنسانية، وتنظيم المجتمعات البشرية، ومن كمثل ما يسمونه الحمض النووي، ومن شاكلة ما وسموه البصمة الوراثية أو الطبعة الوراثية.
فعن عائشة أم المؤمنين: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسرورًا تبرُق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؟))[13].
المسألة الثالثة عشرة:
علاج موقف أسامة بن زيد من مسألة المرأة المخزومية
وعلى أن الناس قد راحوا وهاجوا وماجوا، شأن شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت.
والقول: ومن مبدأ النظر الأوليِّ، ومن منتهى الاعتبار الانتهائي، ولعل هذا، وإنما يعالج ومن وجوه؛ منها:
الوجه الأول: وهو ذاك صغر عمر أسامة وقت هذا الحدث، وحين قالوا: إن عمره كان ثلاثة عشر عامًا، ومن ثَمَّ، ولعل فقهه، ولما لم يصل إلى استدراك ما كان من بيانه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس يجوز الشفاعة في الحدود، وإنما ولأن الشفاعة فيها، وإنما يعني تعطيلها؛ وهذا أولًا.
وإنما هو انفراط عقد المجتمع، ولما يجد طائفة منه، ومن حل من الأحكام الشرعية، ولا سيما الحدود، والذي منه سوف يجد كلٌّ مأربًا؛ وكيما يسطو على الحدود، ومنه كان مجتمعًا هشًّا، منفرطًا عقده، وإنما جاء هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد؛ ولضبط النظام العام والآداب، ومن خلال هكذا أحكام وحدود، وحين يكون مناط تنفيذها هم أولاء الرعية كل الرعية؛ وهذا ثانيًا.
وأما ثالثًا: فإن هكذا أمر، هو مطلق العدل، ومنتهى النصفة، ولا سيما أيضًا أن هذا الذي جاء، ويوم جاء، وفي بيئات كانت تجد من التحلل من الأحكام والعهود والمواثيق سبيلًا، وحين ليسوا يقيمون حدًّا على شريف وها هم أولاء يقيمونها على الضعيف ومن ظلم بالغ، ومن حيف ضالع.
الوجه الثاني: وهو هذا الإلحاح، وحين كانوا قد راحوا إلى عليٍّ، ولما كانوا قد استشفعوا من فاطمة بنت محمد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجدوا بدًّا من الاستشفاع بأسامة؛ ولقربه منه صلى الله عليه وسلم، ولأنه تربى في بيت النبوة، ومنه كان دَلاله، وعليه كان اختياره ومن خلال هذا الإلحاح، ولعله أراد إسكاتهم؛ ولعله كان يعلم موقف النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رفض قاطع بات، ولا سيما أنهم كانوا يعلمون القاعدة النصفية، وحين يرفع الأمر إلى الولي، فلا ثمة شفاعة وقتئذٍ، وهذا درس يُعالج، وهذا فقه وترياق في هذه المسألة.
فعن عائشة أم المؤمنين: ((أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حدٍّ من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[14].
وأعالجه في ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: شيخان تحت إمرة مولى
وهذا هو أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف له، وإنما كان به جديرًا؛ ولصحبته لهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنه كان قد تربَّى في بيت النبوة، وعلى عَينٍ منه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جعله محطَّ ثقته، وهذا الذي جعله محل عنايته واهتمامه، ويوم أن جعله قائدَ جيشه إلى الشام فتحًا مبينًا يومًا، وإذ كان مَن تحت إمرته فيه أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، رضي الله تعالى عنهما، وحين كان عمر الفاروق هذا هو أمير المؤمنين يومًا، ومن بعد أن كان محلًّا لمواقفه الخالدة، تجاه نزول القرآن المجيد، وعلى لسانه، ورضي الله تعالى عنهم أجمعين، ويوم أن استَطْلَقَ أبو بكر عمرَ الفاروق هذا من أسامة، وليستضيء برأيه، أمة عرَفت الشورى، لها قيمة، ومبدأً، ومنهاجًا، وسبيلًا.
وإذ كان تحت إمرة أسامة هذا يوم الجيش هذا شيخ وقور، ومن وقار أبي بكر، أمة هذا كان شأنها، وحين يعمل، ومَن مثل أبي بكر وعمر؟ سيدين وتحت إمرة مولى؟! كان هو هذا أسامة بن زيد، ولأن المسلم ليس يهمه أن يكون في المقدمة، أو في الساقة، وحيث كانت الوجهة هي مرضاة الله تعالى مولانا الحق المبين سبحانه.
وأعِدِ النظر: وإذ كيف كان أسامة قائدًا، وكيف كان أبو بكر جنديًّا مخلصًا، وانظر كيف كان أبو بكر، ولما صار خليفة المسلمين، ومن بعد وفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ها هو لا يمثل دور الخليفة وحين يستأذن أسامة السماح له أن يعيد إليه عمر؛ ليعينه استرشادًا، ومشورة في أمر هذه الخلافة الراشدة.
المسألة الثانية:
أسامة قائد جيش فتح الإسلام كان عمره ثمانية عشر عامًا
وهذا هو أسامة بن زيد، ويوم أن أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش الشام، وإن كان عمره يومها لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا الذي جعل أبا بكر مصرًّا على إنفاذه؛ ولإنفاذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أسامة هذا كان أهلًا لهكذا إمارة على جيش الفتح المبين.
وهذه رسالة إلى أمتنا؛ وكيما تنهض من جديد، وحين يعرف الناس أن قائدًا لجيش فتحها قد كان صغيرًا عمره، ولئن كان قد بلغ شأوًا عظيمًا؛ فكره، وخبره، وتقواه، وصلاحه، وورعه، ولأنه من هذه الأمة، وإنما كان من إلفها هكذا تربية أبنائها، وعلى محضنة هذا الدين؛ الإسلام الحنيف الخالد.
وقد كان أسامة بن زيد هذا محط عناية؛ ولتاريخه الناصع الكريم، ويوم راح بجيشه هذا، ومن أمره هذا، وليرجع منصورًا، سالمًا، غانمًا، ويومها عرف الناس، وكيف كان أبو بكر صائبًا، ومن صواب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وبعد أيضًا، وحين أنفذ جيشًا كان قد قلَّده النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولاءً لقائد سابق، واحتفاء بسيرة نبي لقِيَ ربه تعالى.
المسألة الثالثة: السلام عليك أيها الأمير
وهذا قول عمر الفاروق رضي الله تعالى، حق أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما وحين كان يلقاه ومن بعد إمرته صلى الله عليه وسلم لهذا أسامة، وتعبيرًا عن العبودية لله تعالى، وفي أدق معانيها، وحين كان إلفًا منه، وهكذا كان راضيًا بقرارٍ كان قد اتخذه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول ينبض حبًّا في الله تعالى، وهذا قول يسيل منه سيلَ ولاءٍ جارف، وهذا قول يعين منه مَعين تواضع شارف، ومن هذا الفاروق رضي الله تعالى، شيخًا كان، وحين قد وافقه القرآن المجيد غير مرة؛ ومن ثَمَّ فإن شهادته هكذا لهذا أسامة بن زيد هذا، وإنما تكون محل عناية، ومحط اهتمام، وموجب اكتراث، ومورد رعاية، ولأنه قد جُعل الحق على لسانه وقلبه، رضي الله تعالى عنه، وإنما كان يبين منه كم كان هذا الجيل قلبًا على قلب! وكم كان هذا الجيل ومن هذا التواضع الذي تنهمر أماراته، وإذ تتواتر لنا عنهم دلالاته! ومن قول عمر الفاروق هذا؛ فعن عبدالله بن عمر: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، وقال ابن عمر: ((ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر أو قال ابن الخطاب فيه - شكَّ خارجة - إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر))[1].
المسألة الرابعة: وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة
وعلى أن الطعن في إمارة أسامة بن زيد، وإنما كان، ومن يوم أن قلده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبرهان أن هذه الأمة كان مفتوحًا لها مجالها، أن تدليَ رأيًا، وأن تشاور تشاورًا ومشورة، وأنه هكذا كان لها سبيلًا ومنهاجًا، وعلى محضَرٍ من نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وما وجدناه يومًا ممتعضًا، بل سعيدًا مسرورًا، أن في هذه الأمة أمته، من يقول رأيًا، ويمنح رشدًا، ويسدد مشورة، وينطق سدادًا؛ وكيما يعلم الناس أن الأفكار والآراء السديدة، وإنما كانت محل اعتبار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه تتنشأ أمة رشدًا، يعلو صوتها؛ صوتُ الحق، والرشد، والهدى، والصلاح، والتقوى، والإيمان، والقسطاس المستقيم، والعدل، والنصفة، وهذا سَنَنٌ جارٍ، وهذا هديٌ باقٍ؛ ولتترقى من موجبه أمة خالدة، راشدة، سوية، منهج صلاح عملي، وصراط فلاح فعلي، لا من اكتفاء قولي؛ عن عبدالله بن عمر: ((أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله لقد كان خليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده))[2].
المسألة الخامسة: اللهم إني أحبهما، فأحبهما
وعلى أن هذا دعاؤه صلى الله عليه وسلم، وأن يحب الله تعالى أسامة، وكما أحبه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهذا نبي يدعو، وهذا رب كريم يجيب، وإن كان أسامة أهلًا للحُبين معًا: محبة الله تعالى له أولًا، ومن ثم محبة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم له ثانيًا، وليصير هذا الحب هكذا مركبًا مضاعفًا، وليصبح هذا الحب دلالة ولاء، وشارَةَ رعاية، وبرهان كرامة، وموجب سُؤْدُدٍ، وسبب شرف، وإذ تستشرف النفوس - كل النفوس - جانبه، كله، وأجمعه، وكمن سموُّ أسامة، وكمن علو أسامة بن زيد هذا أيضًا.
وعلى أن هذا كان شأن أسامة بن زيد، وحين كان من مساواة محبة بينه وبين الحسن، سبط نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وحين روى أسامة بن زيد هذا نفسه، وعن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان يأخذه والحسن، ويقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما، أو كما قال))[3].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان قد أفرده ببعض مزية، كانت له، وحين قال قوله هذا: ((من أحب الله ورسوله، فليحبَّ أسامة بن زيد)).
وهذا رجل كان قد تربى على مائدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكيف لا يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وشابٌّ كان قد تضلع الهدى، ومن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة؟ وكيف ليس يكون هكذا شأنه؟ وإلا وكأنه الخلق الرشيد، والرأي السديد، وحين يجعل حب أسامة بن زيد هذا، ومن محبة الله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القول الذي لم يرنا من مثله، وعن غيره، ومن أصحابه البررة الغر الميامين، أولياء، أحباء، كرماء، أتقياء، أنقياء، أوفياء، نصحاء، رفقاء، وإلا كبضعة أصابع معدودة ومن مثل ما أنف توًّا عن الحسن.
وهذا حبه لعلي رضي الله تعالى عنه؛ فعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فبات الناس يَدُوكُون ليلتهم: أيهم يُعطَاها؟ فلما أصبح الناس غدَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو - يا رسول الله - يشتكي عينيه، قال: فأرسِلوا إليه، فأُتِيَ به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه؛ فوالله لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَمِ))[4].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ فعن عبدالله بن مسعود: ((لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلًا))[5].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فعن عمرو بن العاص: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالًا))[6].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ وفيه حديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى آنفًا.
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله تعالى عنه؛ فعن عائشة أم المؤمنين: ((يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم))[7].
وهذا حبه صلى الله عليه وسلم لخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ فعن عائشة أم المؤمنين: ((ما غِرْتُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة، فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة، قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رُزقت حبَّها))، وفي رواية بهذا الإسناد نحو حديث أبي أسامة إلى قصة الشاة، ولم يذكر الزيادة بعدها[8].
وفيه أن المحبة أمر كسبي.
المسألة السادسة: إنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك
وهذا الذي جعل عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه يمنحه، وأكثر من منحته ولده عبدالله، ويكأنه عبدالله وقد رأى رأيًا آخر، وليسكته والده عمر الفاروق ومن قوله هذا الذي أنف.
فعن عمر بن الخطاب: ((أنه فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة، وفرض لعبدالله بن عمر في ثلاثة آلاف، فقال عبدالله بن عمر لأبيه: لمَ فضَّلت أسامة عليَّ؛ فوالله ما سبقني إلى مشهد؟ قال: لأن زيدًا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي))[9].
المسألة السابعة: أقتلتَه بعدما قال: لا إله إلا الله؟
ولكنَّ هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد كان من حق أنه وليس تأخذه في الله تعالى لومة لائم، وحين كان الحق له منهجًا رشدًا، وحين لم يكن لأحد في الحق محابيًا، وحين كان للنصفة حاديًا، وهاديًا، وحين كان لغير من ذلك مباعدًا مجافيًا، وحين كان من أسامة قتله لرجل من الحرقة من جُهينة، ويوم أن ولى مدبرًا، وهو الذي استكشف منه أسامة تقيَّتَه، وهو الذي أوجب مما رآه قتلته، وبعد أن قال شهادة الحق والتوحيد، ويوم أن كان هذا الجيل، وكان الناس يعرفون معناها وحقها، وإنما لم يكن أحدهم ليقولها، وإلا وقد عاين حقها ولازمها، أو على الأقل كانت سبب عصمة، ولما كانت موجب دخول في هذا الدين، ولأنها عنوان الإسلام، وبرهان الإيمان، وأساس الهدى، ورابطة الرشد، ودالة الاستمساك بالأوامر، ولأنها برهان مجانبة النواهي والزواجر، ولأنه قائلها وإذ يعلم أن من موجب هذه الشهادة أنها للدم عاصمة، وأنها للدين وعليه شاهدة، ومن ثَمَّ فمن دخل هذا الدين بيقين، وليس يخرج منه وإلا بيقين أيضًا.
وعلى أن ما خالط ذهنَ وعقل وتفكير أسامة، ومن أن الرجل كان قد قالها تقية، وخوفًا، ووجلًا، ونفاقًا، أو أي وجه وعلى شاكلة من ذلك، وإنه لذلك ليعد مجتهدًا، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه، ولم يفرض له حدًّا؛ ولأنه قتل مسلمًا، ولأن الاجتهاد هنا موجب عفوٍ، لا قصاص، وهذا فقه نبوي كريم، ودين سماوي مبين.
فعن أسامة بن زيد: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَة من جُهَينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم))[10].
المسألة الثامنة: الاجتهاد باقٍ إلى يوم القيامة
وإنما كان منه إطلاق مَلَكَة اجتهاد الأمة، وإن أخطأ بعض من منتسبيها، وإنه ولئن قِيس خطأ واحد، أو أكثر منه، ومقابلة إعمال هذا المنهج الاجتهادي، ومن أهله، وإنما يكون هو الآخر موجب تقدم الأمة، وعلاجها لقضاياها المتجددة، وحين يُرَدُّ ذلك إلى أولي الأمر من العلماء المجتهدين الخُلَّص منهم، وإذ ليس يخلو زمان من أولئك الجهابذة، وحين كانوا يحملون لواء هذا الدين، عالين به، وعاليًا دينهم، ومن مقتضى ما كتب الله تعالى؛ وحين قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، ولأنه فيها، ومن أمثال أهل الحق، وما به تقوم لها القائمة، وما منه يكون منها التقدم، والهيمنة، والحكم، والسلطان، وعلى منهج خالقها، وعلى هديِ نبيها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة التاسعة: من شروط الاجتهاد
وعلى أن شرط هذا الاجتهاد، وإنما شرطه أن يكون من أهله، وكما أنف، ومن كمثل هكذا أسامة بن زيد، وهو تلميذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى أن شرط هذا الاجتهاد: ومن علم، وورع، وخوف، وتقوى، وعدالة؛ وكيما يصيب الحق ما أمكنه ذلك، ومن بعد استفراغ وسعه في المسألة.
ومن شرطه: إحاطته بمدارك الشريعة وأحكامها، ومن مسألته التي يجري اجتهاده فيها.
المسألة العاشرة: أهمية الاجتهاد
ومنه كان بقاء هذا الاجتهاد سندًا للأمة، ولإعمال منهج ربها ودينه وطريقته وسبيله، وعلى الوجه الشرعي، وحين جدَّت مسائل عظام، وحين لم يترك لها هذا الدين خللًا وإلا عالجه، ومن أصوله وكلياته وبراهينه وقواعده، والتي يمكن أن تكون من المرونة واليسر والسماحة، ما يؤهلها أن تكون زادًا على الطريق، ولكل باحث صادق مخلص متجرد عن الحق، ويكأنه قد كتب الله تعالى منه له نصيب؛ ومن علمه، وصلاحه، وتقواه، وملاءته، وزهده، وورعه، وحرصه، وعدالته.
المسألة الحادية عشرة: العاصمة القاصمة
وعلى أن هذا الشهادة الكريمة شهادة الحق؛ شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، وإنما كانت هي العاصمة، ويوم قالها ومن قالها وحين أولاها حقها، ومعناها، ولازمها، ومن إفراده تعالى بربوبيته، ولما كان خالقًا رازقًا محييًا مميتًا ممطرًا وحده، ومن إفراده تعالى بألوهيته، ولما كان آمرًا ناهيًا وحده، ومن إفراده في أسمائه وصفاته، وعلى الوجه الذي يليق به تعالى وهو الذي يسمونه بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا نفي، بل إثبات وعلى وجهه؛ وكما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ومن مقتضى كل ذلك اختصاصه تعالى بالأمر والنهي، وكذا نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنما كانت هي القاصمة، ويوم أعرض عنها، ومن أعرض أيضًا إشراكًا به تعالى في ربوبيته، ويوم يقولون خالقًا سواه أو في ألوهيته، ويوم يعبدون سواه، أو في أسمائه وصفاته، ويوم ينكرون له اسمًا أو صفة، أو يُلْحِدون فيها.
ولما كانت هذه الشهادة؛ ومن عظمها سببًا لاستحلال الأنفس والأموال، وحين ذلكم الإعراض، والتولي، والإدبار، والاستكبار؛ ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله))[11].
وإلا أنهم قالوا: وإن من دخل هذا الدين بيقين، ومن ثَمَّ فلا يخرج منه وإلا بيقين آخر مثله، ومعادله، ونظيره، وقرينه أيضًا؛ ولأنها من ديننا هامة، ويكأنها ومن منهجنا قيمة وقامة وسبيل المؤمنين، وطريق المهتدين، وإنما هذا اليقين، ولما يتماثل أمام أسامة منه يقينه به أيضًا؛ ولأن هذا اليقين عمل قلبي، وإنما أماراته هو هذا الالتزام بمعنى الشهادة ولوازمها، وهذا أمر يحتاج إلى ترصُّد، وتبيُّن، وتثبت، وليس يمهره سرعة ظنٍّ بتقيَّة، ولو كانت.
المسألة الثانية عشرة: سبحان الله إن بعض هذه الأقدام لَمِن بعض
وهذا قول مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه، ومن حق أسامة بن زيد، وحين رآه أبيض، هاجعًا، مستلقيًا، نائمًا وجنبًا إلى جنب والده زيد بن حارثة وحين كان أسودَ، قائلًا، غافيًا، راقدًا، ولما كان لهذه العلامة من أثر في اعتبار علم القيافة في الأنساب، وهذا ملحظ جعل النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم به مسرورًا، وحين قد ألف وعن غير سابق إعداد لهذا الأمة، رصيدًا آخر مجيدًا، وكهذا؛ ولأهميته في إعمال ما منه يكون سببًا في استلهام طرائق تسد كيد الشيطان، فلا يعمل أثره في اختلاف الأُسَرِ، والأنساب، وتباينها، وتفرقها، وتشتتها، بل في اتحادها، وألفتها، ورشدها، وتضامها، وانسجامها، أو ولعله قد نزا منه عرق.
فعن أبي هريرة: ((أن أعرابيًّا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمُر، قال: هل فيها من أوْرقَ؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: فأنَّى ترى ذلك جاءها، قال: يا رسول الله، عرق نزعها، قال: ولعل هذا عرق نزعه، ولم يرخص له في الانتفاء منه))[12].
ومنه اعتبار ما يجدُّ من علوم موازية، وإذ أدت ما منه يكون الوصول إلى الحق، ولضبط المعاملات الإنسانية، وتنظيم المجتمعات البشرية، ومن كمثل ما يسمونه الحمض النووي، ومن شاكلة ما وسموه البصمة الوراثية أو الطبعة الوراثية.
فعن عائشة أم المؤمنين: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسرورًا تبرُق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؟))[13].
المسألة الثالثة عشرة:
علاج موقف أسامة بن زيد من مسألة المرأة المخزومية
وعلى أن الناس قد راحوا وهاجوا وماجوا، شأن شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت.
والقول: ومن مبدأ النظر الأوليِّ، ومن منتهى الاعتبار الانتهائي، ولعل هذا، وإنما يعالج ومن وجوه؛ منها:
الوجه الأول: وهو ذاك صغر عمر أسامة وقت هذا الحدث، وحين قالوا: إن عمره كان ثلاثة عشر عامًا، ومن ثَمَّ، ولعل فقهه، ولما لم يصل إلى استدراك ما كان من بيانه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس يجوز الشفاعة في الحدود، وإنما ولأن الشفاعة فيها، وإنما يعني تعطيلها؛ وهذا أولًا.
وإنما هو انفراط عقد المجتمع، ولما يجد طائفة منه، ومن حل من الأحكام الشرعية، ولا سيما الحدود، والذي منه سوف يجد كلٌّ مأربًا؛ وكيما يسطو على الحدود، ومنه كان مجتمعًا هشًّا، منفرطًا عقده، وإنما جاء هذا الدين الإسلام الحنيف الخالد؛ ولضبط النظام العام والآداب، ومن خلال هكذا أحكام وحدود، وحين يكون مناط تنفيذها هم أولاء الرعية كل الرعية؛ وهذا ثانيًا.
وأما ثالثًا: فإن هكذا أمر، هو مطلق العدل، ومنتهى النصفة، ولا سيما أيضًا أن هذا الذي جاء، ويوم جاء، وفي بيئات كانت تجد من التحلل من الأحكام والعهود والمواثيق سبيلًا، وحين ليسوا يقيمون حدًّا على شريف وها هم أولاء يقيمونها على الضعيف ومن ظلم بالغ، ومن حيف ضالع.
الوجه الثاني: وهو هذا الإلحاح، وحين كانوا قد راحوا إلى عليٍّ، ولما كانوا قد استشفعوا من فاطمة بنت محمد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجدوا بدًّا من الاستشفاع بأسامة؛ ولقربه منه صلى الله عليه وسلم، ولأنه تربى في بيت النبوة، ومنه كان دَلاله، وعليه كان اختياره ومن خلال هذا الإلحاح، ولعله أراد إسكاتهم؛ ولعله كان يعلم موقف النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رفض قاطع بات، ولا سيما أنهم كانوا يعلمون القاعدة النصفية، وحين يرفع الأمر إلى الولي، فلا ثمة شفاعة وقتئذٍ، وهذا درس يُعالج، وهذا فقه وترياق في هذه المسألة.
فعن عائشة أم المؤمنين: ((أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حدٍّ من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[14].