حكاية ناي ♔
12-23-2022, 09:32 AM
الحمد لله بمحامِدِه التي حَمِدَ بها نفسَه، وحَمِدَه بها الذين اصطفى من عباده، حمدًا طيِّبًا مُباركًا فيه كما يُحِبُّ ربُّنا ويرضى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وبعد: كانت بعثةُ النبي صلى الله عليه وسلم المنةَ الكبرى والنعمةَ العظمى التي امتنَّ بها وأنعم ليس على المؤمنين فحسب، وإنما على البشرية بأسرها؛ إذ أرسل إليهم هذا النبيَّ الكريم صاحبَ المقامِ المحمود والمنزلةِ الرفيعة من ربِّه، وصاحبَ الخُلقِ العظيم، والدِّينِ القويم الخاتم لجميع الأديان، والمهيمن على جميع الرسالات؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من الضلال إلى الهدى، ويحوِّلهم من الكفر والشرك إلى الإيمان، وينقذهم من النار، ويدخلهم إلى الجنة؛ بما أرسله الله به إليهم من الهدى ودين الحق، فاستحقَّ هذا الفضلُ وتلك النعمةُ أن يذكرها الله في كتابه ممتنًّا على المؤمنين بها، يتلونها إلى يوم القيامة في كتابه تبارك وتعالى بقوله: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: ١٦٤]، ففي هذه الآية الكريمة تظهر المِنَّةُ الكبرى ببعثته صلى الله عليه وسلم، وهي شاهدة أيضًا على أنه رسول الله حقًّا، وهو أعرف الخلق، وأكملهم، وأفضلهم، وأقواهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يُؤت عبد مثل ما أوتي صلى الله عليه وسلم، ولذا خُتمت به النبوات والرسالات[1]، وفي هذا تكريمٌ وتشريف للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ بذلك هيمن على الرسالات السابقة، فأصبحت رسالتُه هي الواجبة، ودِينه هو الدِّين الذي لا يرتضي اللهُ عنه بديلًا، وفي بِعثَتِه مِننٌ عُظمى شملت الخلقَ أجمعين.
فبعثةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إحسانٌ إلى كلِّ العالَمين؛ لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ﴾ [سبأ: ٢٨]، إلاَّ أنه لم ينتفع بهذا الإنعام إلاَّ أهل الإٍسلام، لذلك خصَّ الله تعالى بهذه المنة المؤمنين، ونظيره قوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، مع أنه هدًى للكل، كما قال تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ [النازعات: ٤٥][2].
وجْهُ الانتفاعِ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الرازي: (اعلم أنَّ بعثة الرسول إحسانٌ من الله إلى الخلق، ثم إنه لَمَّا كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجهُ الإنعامِ في بعثةِ الرسل أكثر، وبعثةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانت مشتملةً على الأمرين:
أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسبب ما فيه من الخِصال التي ما كانت موجودةً في غيره.
أمَّا المنفعة بسبب أصل البعثة: فهي التي ذَكَرَها الله تعالى في قوله: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾[النساء: ١٦٥]. قال أبو عبد الله الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلاَّ في طريق الدِّين، وهو من وجوه:
الأول: أنَّ الخلق جُبلوا على النقصان، وقلة الفهم، وعدم الدراية، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقَّحَها، وكلما خطر ببالهم شكٌّ أو شبهةٌ، أزالها وأجاب عنها.
والثاني: أنَّ الخلق وإن كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط، ومن الإقدام على ما لا ينبغي.
والثالث: أنَّ الخلق جُبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة، فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات؛ حتى إنه كلما عَرَض لهم كسل أو فتور نشَّطهم للطاعة، ورغَّبهم فيها.
الرابع: أنَّ أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلاَّ عند سطوع نور الشمس، ونورُه عقليٌّ إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيُقَوِّي العقولَ بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترًا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة.
ما تضمَّنته الآيةُ من المِنَنِ في صفاتِ النبي صلى الله عليه وسلم:
وأمَّا المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الصفات، فأمور ذَكَرَها اللهُ تعالى في هذه الآية)[3]، ونوجزها فيما يلي:
1- أنَّ بِعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مزيةٌ للعرب:
ولذلك قال اللهُ تعالى: ﴿ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ (يعني: من أصلهم، ونَسَبِهم من العرب، يعرفون نَسَبَه، ويقال: ﴿ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ يعني: من جنسهم من بني آدم، ولم يجعلْه من الملائكة، وإنما خاطَبَ بذلك المؤمنين خاصة؛ لأنَّ المؤمنين هم الذين صدَّقوه، فكأنه منهم، وقُرِئَ في الشَّاذ: (من أَنْفَسِهِم) بنصب الفاء، يعني: من أشرفِهم.
وقد كانت له [صلى الله عليه وسلم] فضيلةٌ في ثلاثة أشياء: أحدها: أنه كان من نَسَبٍ شريف؛ لأنهم اتفقوا أنَّ العرب أفضل، ثم من العرب قريش، ثم من قريش بنو هاشم، فجعله من بني هاشم. والثاني: أنه كان أَمِينًا فيهم قبل الوحي. والثالث: أنه كان أُمِّيًا؛ لكي لا يرتاب فيه الافتعال)[4]، وهذا شرفٌ للعرب خاصَّة لا يُقاربهم فيه جِنسٌ آخَر من البشر، ورغم هذا، فقد امتنَّ الله على البشر أنْ جعله صلى الله عليه وسلم من جنسهم، فلم يجعلْه مَلَكًا، كما أنه لم يجعلْه جِنًّا، بل بشرًا رسولًا إلى الثَّقلين الإنس والجن، ممَّا يُسهِّل لهم سُبلَ التواصل والتلقِّي، ويُعلي من شأن البشر جميعًا.
(فكونه [صلى الله عليه وسلم] من أهلِ نَسَبِهم، أي: كونه عربيًا يوجب أُنسهم به، والركون إليه، وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلَّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جارًا لهم وربيبًا فيهم يعجِّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبَروا أمرَه، وعلِموا فضلَه، وشاهدوا استقامتَه ومعجزاتِه...
وهذه المِنَّة خاصَّةٌ بالعرب ومزيَّةٌ لهم، زيادةً على المنَّة ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقَّوا الدعوةَ قبل الناس كلِّهم؛ لأنَّ الله أراد ظهورَ الدِّين بينهم؛ ليتلقُّوه التَّلقي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم، وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعوانًا على عموم الدعوة، ولمَنْ تخلَّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيَّة وهو معظمها، إذ لم يَفُتْهُ منها إلاَّ النَّسب والمَوْطِن، وما هما إلاَّ مُكَمِّلان لِحُسْنِ التَّلقي، ولذلك كان المؤمنون مدَّة حياةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصَّة، بحيث إنَّ تلقِّيهم الدعوة كان على سواءٍ في الفهم حتى استقرَّ الدِّين)[5].
ويزيد الرازي الأمر تفصيلًا بقوله: (واعلم أنَّ وجه الانتفاع بهذا من وجوه:
الأول: أنه - عليه السلام - وُلِدَ في بلدهم ونشأ فيما بينهم، وهم كانوا عارفين بأحواله، مطلعين على جميع أفعاله وأقواله، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلاَّ الصدق والعفاف، وعدم الالتفات إلى الدنيا، والبعد عن الكذب، والملازمة على الصدق، ومَنْ عَرَفَ من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة، وبعده عن الخيانة والكذب، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى.
الثاني: أنهم كانوا عالِمِين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابًا ولم يُمارس درسًا ولا تكرارًا، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق البتة بحديث النبوة والرسالة، ثم إنه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين، ثم إنه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودًا في كتبهم، فكلُّ مَنْ له عقل سليم عَلِمَ أن هذا لا يتأتَّى إلاَّ بالوحي السماوي والإلهام الإلهي.
الثالث: أنه بعد ادِّعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولمَّا علا أمرُه وعظُم شأنه وأخذ البلادَ وعظمت الغنائمُ لم يغيِّر طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله، والكاذب إنما يُقدم على الكذب ليجد الدنيا، فإذا وجدها تمتَّع بها وتوسَّع فيها، فلما لم يفعل شيئًا من ذلك عُلِم أنه كان صادقًا.
الرابع: أنَّ الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلاَّ تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أنَّ كمال الإنسان في أنْ يَعرف الحق لذاته، والخيرَ لأجل العمل به، ولمَّا كان كتابه ليس إلاَّ في تقرير هذين الأمرين عَلِم كلُّ عاقلٍ أنه صادق فيما يقوله.
الخامس: أن قبل مجيئه كان دينُ العربِ أرذلَ الأديان وهو عبادةُ الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة، ثم لمَّا بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مَقْدَمِه من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضلَ الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيِّباتها، ولا شك أن فيه أعظمَ المِنَّة.
إذا عُرِفَت هذه الوجوه فنقول: إنَّ محمدًا - عليه الصلاة والسلام - وُلِدَ فيهم، ونشأ فيما بينهم، وكانوا مشاهِدِين لهذه الأحوال، مُطَّلِعين على هذه الدلائل، فكان إيمانُهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهلَ ممَّا إذا لم يكونوا مُطَّلعين على هذه الأحوال، فلهذه المعاني مَنَّ اللهُ عليهم بكونه مبعوثًا منهم)[6].
وخلاصة المِنَّة على العرب ببعثته صلى الله عليه وسلم عدَّة أمور:
أ- كونه معروفَ النَّسب فيهم.
ب- كونهم قد خَبَروا أمرَه، وعلِموا صِدقَه، وأمانته، وعِفَّته، وطهارته.
ج- ليسهل عليهم التَّعلُّم منه؛ لموافقة لسانه للسانهم.
د- لأنَّ شَرَفَهم يتمُّ بظهور نبيٍّ منهم[7].
هـ- كونه سببَ رُقيِّهم وانتقالِهم من درجةٍ وضِيعَةٍ في العالمين إلى درجة الرِّيادة والقيادة؛ ليكونوا خيرَ أُمَّة أُخرجت للناس، ويستمر هذا الوصف ملازمًا لهم ولا ينفك عنهم، ولا ينتقل إلى غيرهم إلى قيام الساعة.
2- يُعلِّمهم القرآن الكريم:
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ أي: يعرض عليهم القرآن ويعلمهم ألفاظه ومعانيه بعد أن كانوا أهلَ جاهليةٍ لا يعرفون شيئًا من الشرائع، ولا عهد لهم بكتابة ولا قراءة، (وسُمِّيت جُمَلُ القرآن آياتٍ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها دليلٌ على صِدْقِ الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث بلاغةِ اللفظ، وكمال المعنى، فكانوا صالِحين لفَهْمِ ما يتلى عليهم من غير حاجةٍ لترجمان)[8].
3- أنه يُزكِّهم:
قال الله تعالى في هذه المِنَّة: ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ والتَّزكية: هي التطهير، أي: يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء، فيُطَهِّر نفوسَهم بهدي الإسلام، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ لتزكو نفوسهم، وتطهر من الدنس والخَبَث الذي كانوا مُتَلَبِّسين به في حال شركهم وجاهليتهم؛ لأن البشرية - قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - كانت تعيش في مرحلة من أحطِّ مراحل التاريخ البشري، ولا سيما العرب منهم[9].
ولذا ختم اللهُ تعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ أي: كانوا قبل مجيء محمدٍ صلى الله عليه وسلم لفي خطأ بيِّن، لا شبهة فيه، والمقصود: أنهم كانوا في غيٍّ، وجهلٍ ظاهرٍ جلي، بيِّن لكلِّ أحد.
ووَصْفُ الضلالِ بالمبين؛ لأنّه لشدَّته لا يلتبس على أحدٍ بشائبةِ هُدًى، أو شبهة، والمراد به: ضلال الشرك، والجهالة، والتَّقاتل، وأحكام الجاهلية؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الطريقَ المُوصِل إلى ربهم، ولا ما يُزكِّي النفوس ويُطهِّرها، بل ما يُزَيِّن لهم جهلُهم فعلوه، ولو ناقضَ ذلك عقولَ العالَمين[10].
نماذج من الضَّلال المبين:
والمتأمل في حال العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يُدرك المِنَّة العظيمة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وهاهو جعفر بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - يصف شيئًا من هذا الضلال المبين - وهو بين يدي النجاشي - إذْ يقول: (أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، ونُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا على ذلك، حتى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ ما كُنَّا نَحْنُ نعبدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ.
وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ)[11].
وقريبًا من ذلك الوصف ما خَطَبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصار، فعن عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ على رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ في النَّاسِ في الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، ولم يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لم يُصِبْهُمْ ما أَصَابَ الناسَ، فَخَطَبَهُمْ، فقال: (يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلًا، فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ، فَأَلَّفَكُمْ اللهُ بِي؟ وكنتم عَالَةً، فَأَغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ: شَيئًا، قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ...)[12].
قال ابن حجر: (والمراد هنا ضلالة الشرك، وبالهداية الإيمان، وقد رتَّب صلى الله عليه وسلم ما مَنَّ اللهُ عليهم على يَدِهِ من النِّعم ترتيبًا بالغًا، فبدأ بنعمةِ الإيمان التي لا يوازيها شيءٌ من أمر الدنيا، وثنَّى بنعمةِ الأُلفة، وهي أعظم من نعمةِ المال؛ لأنَّ الأموال تُبذل في تحصيلها، وقد لا تَحصل، وقد كانت الأنصارُ قبل الهجرة في غايةِ التَّنافر والتَّقاطع؛ لِمَا وقع بينهم من حَرْبِ بُعاثٍ وغيرها، فزال ذلك كلُّه بالإسلام)[13]، والمقصود: أن الله تعالى أزال كلَّ ذلك ببعثته صلى الله عليه وسلم.
4- يُعلِّمهم الكتاب والحكمة:
قال الله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ أي: القرآنَ والسُّنَّة، بعدما كانوا أجهلَ الناس وأبعدَهم من دراسة العلوم[14].
قال الإمام الشافعي: (فذَكَرَ اللهُ تعالى الكتابَ وهو القرآن، وذَكَرَ الحكمةَ، فسمعتُ مَنْ أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ: سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا يُشبه ما قال، والله أعلم؛ لأنَّ القرآن ذُكِرَ وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذَكَرَ الله مِنَّتَه على خلقِه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أنْ تُعَدَّ الحكمةُ هاهنا إلاَّ سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونةٌ مع كتاب الله)[15].
وقال الطبري: (ويعني بالحكمة: ما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السُّنة)[16]. وقيل: إنَّ تعليم الكتاب: هو تبيين مقاصد القرآن، وأمْرُهم بحفظ ألفاظه؛ لتكون معانيه حاضرةً عندهم.
والمراد بالحكمة: ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق، وتقنين الأحكام؛ لأنَّ ذلك كلَّه مانعٌ للأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة[17].
وقيل: المراد بالكتاب: الكتابة، فيكون قد امتن عليهم بتعليم الكتاب، والكتابة التي بها تدرك العلوم وتحفظ، والحكمة: هي: السنة التي هي شقيقة القرآن، ووضع الأشياء مواضعها، ومعرفة أسرار الشريعة، فجَمَعَ لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفيذ الأحكام، وما به تُدْرَك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميعَ المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين[18].
وقفة مهمة:
وهنا لا بد من وقفة نشير فيها إلى أنَّ الآية الكريمة بدأت بقوله تعالى: ﴿ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ فأيُّ آياتٍ هذه؟ إنها لا شك آيات الكتاب المُنزَّل، وهو القرآن الكريم، والتلاوة بالصوت، أي: يُسمعهم آياته ويعلِّمهم ويُحفِّظهم إيَّاها، فيكون بذلك قد بلَّغ ما أُوحي إليه من ربِّه من القرآن.
ثم تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة التعليم؛ أي: تعليم الكتاب، وهو القرآن الكريم، فيُعلِمهم بأحكامه وآدابه وأخباره، ويُعلِّمهم ذلك كلَّه؛ فيكون تعليم الكتاب مرَّ بمرحلتين؛ الأُولى: مرحلة التبليغ بالتلاوة والحِفظ. والثانية: مرحلة التعليم واستخراج الأحكام وتوضيحها.
وهذه مِنَّة عظمى، إذْ لم يتركهم يتخبَّطون في نصوص الوحي، ولا يدرون مقاصدها ولا غاياتها ولا أحكامها، بل أبانها لهم على أكمل وجه وأتمِّه، وعلَّمهم إياها، فاستغنوا به صلى الله عليه وسلم عن غيره.
ثم جعل الله سبحانه وتعالى لنبيِّه مزيَّة خاصة، وفضيلة لم يُشاركه فيها نبيٌّ أو رسول من قبل، وهي استقلاله بالتشريع عن الكتاب؛ من خلال السُّنة التي أجراها الله على لسانه، وأوحى إليه بها، تشريفًا وتكريمًا له صلى الله عليه وسلم.
فبعثةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إحسانٌ إلى كلِّ العالَمين؛ لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ﴾ [سبأ: ٢٨]، إلاَّ أنه لم ينتفع بهذا الإنعام إلاَّ أهل الإٍسلام، لذلك خصَّ الله تعالى بهذه المنة المؤمنين، ونظيره قوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، مع أنه هدًى للكل، كما قال تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ [النازعات: ٤٥][2].
وجْهُ الانتفاعِ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الرازي: (اعلم أنَّ بعثة الرسول إحسانٌ من الله إلى الخلق، ثم إنه لَمَّا كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجهُ الإنعامِ في بعثةِ الرسل أكثر، وبعثةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانت مشتملةً على الأمرين:
أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسبب ما فيه من الخِصال التي ما كانت موجودةً في غيره.
أمَّا المنفعة بسبب أصل البعثة: فهي التي ذَكَرَها الله تعالى في قوله: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾[النساء: ١٦٥]. قال أبو عبد الله الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلاَّ في طريق الدِّين، وهو من وجوه:
الأول: أنَّ الخلق جُبلوا على النقصان، وقلة الفهم، وعدم الدراية، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقَّحَها، وكلما خطر ببالهم شكٌّ أو شبهةٌ، أزالها وأجاب عنها.
والثاني: أنَّ الخلق وإن كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط، ومن الإقدام على ما لا ينبغي.
والثالث: أنَّ الخلق جُبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة، فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات؛ حتى إنه كلما عَرَض لهم كسل أو فتور نشَّطهم للطاعة، ورغَّبهم فيها.
الرابع: أنَّ أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلاَّ عند سطوع نور الشمس، ونورُه عقليٌّ إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيُقَوِّي العقولَ بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترًا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة.
ما تضمَّنته الآيةُ من المِنَنِ في صفاتِ النبي صلى الله عليه وسلم:
وأمَّا المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الصفات، فأمور ذَكَرَها اللهُ تعالى في هذه الآية)[3]، ونوجزها فيما يلي:
1- أنَّ بِعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مزيةٌ للعرب:
ولذلك قال اللهُ تعالى: ﴿ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ (يعني: من أصلهم، ونَسَبِهم من العرب، يعرفون نَسَبَه، ويقال: ﴿ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ يعني: من جنسهم من بني آدم، ولم يجعلْه من الملائكة، وإنما خاطَبَ بذلك المؤمنين خاصة؛ لأنَّ المؤمنين هم الذين صدَّقوه، فكأنه منهم، وقُرِئَ في الشَّاذ: (من أَنْفَسِهِم) بنصب الفاء، يعني: من أشرفِهم.
وقد كانت له [صلى الله عليه وسلم] فضيلةٌ في ثلاثة أشياء: أحدها: أنه كان من نَسَبٍ شريف؛ لأنهم اتفقوا أنَّ العرب أفضل، ثم من العرب قريش، ثم من قريش بنو هاشم، فجعله من بني هاشم. والثاني: أنه كان أَمِينًا فيهم قبل الوحي. والثالث: أنه كان أُمِّيًا؛ لكي لا يرتاب فيه الافتعال)[4]، وهذا شرفٌ للعرب خاصَّة لا يُقاربهم فيه جِنسٌ آخَر من البشر، ورغم هذا، فقد امتنَّ الله على البشر أنْ جعله صلى الله عليه وسلم من جنسهم، فلم يجعلْه مَلَكًا، كما أنه لم يجعلْه جِنًّا، بل بشرًا رسولًا إلى الثَّقلين الإنس والجن، ممَّا يُسهِّل لهم سُبلَ التواصل والتلقِّي، ويُعلي من شأن البشر جميعًا.
(فكونه [صلى الله عليه وسلم] من أهلِ نَسَبِهم، أي: كونه عربيًا يوجب أُنسهم به، والركون إليه، وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلَّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جارًا لهم وربيبًا فيهم يعجِّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبَروا أمرَه، وعلِموا فضلَه، وشاهدوا استقامتَه ومعجزاتِه...
وهذه المِنَّة خاصَّةٌ بالعرب ومزيَّةٌ لهم، زيادةً على المنَّة ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقَّوا الدعوةَ قبل الناس كلِّهم؛ لأنَّ الله أراد ظهورَ الدِّين بينهم؛ ليتلقُّوه التَّلقي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم، وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعوانًا على عموم الدعوة، ولمَنْ تخلَّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيَّة وهو معظمها، إذ لم يَفُتْهُ منها إلاَّ النَّسب والمَوْطِن، وما هما إلاَّ مُكَمِّلان لِحُسْنِ التَّلقي، ولذلك كان المؤمنون مدَّة حياةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصَّة، بحيث إنَّ تلقِّيهم الدعوة كان على سواءٍ في الفهم حتى استقرَّ الدِّين)[5].
ويزيد الرازي الأمر تفصيلًا بقوله: (واعلم أنَّ وجه الانتفاع بهذا من وجوه:
الأول: أنه - عليه السلام - وُلِدَ في بلدهم ونشأ فيما بينهم، وهم كانوا عارفين بأحواله، مطلعين على جميع أفعاله وأقواله، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلاَّ الصدق والعفاف، وعدم الالتفات إلى الدنيا، والبعد عن الكذب، والملازمة على الصدق، ومَنْ عَرَفَ من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة، وبعده عن الخيانة والكذب، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى.
الثاني: أنهم كانوا عالِمِين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابًا ولم يُمارس درسًا ولا تكرارًا، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق البتة بحديث النبوة والرسالة، ثم إنه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين، ثم إنه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودًا في كتبهم، فكلُّ مَنْ له عقل سليم عَلِمَ أن هذا لا يتأتَّى إلاَّ بالوحي السماوي والإلهام الإلهي.
الثالث: أنه بعد ادِّعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولمَّا علا أمرُه وعظُم شأنه وأخذ البلادَ وعظمت الغنائمُ لم يغيِّر طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله، والكاذب إنما يُقدم على الكذب ليجد الدنيا، فإذا وجدها تمتَّع بها وتوسَّع فيها، فلما لم يفعل شيئًا من ذلك عُلِم أنه كان صادقًا.
الرابع: أنَّ الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلاَّ تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أنَّ كمال الإنسان في أنْ يَعرف الحق لذاته، والخيرَ لأجل العمل به، ولمَّا كان كتابه ليس إلاَّ في تقرير هذين الأمرين عَلِم كلُّ عاقلٍ أنه صادق فيما يقوله.
الخامس: أن قبل مجيئه كان دينُ العربِ أرذلَ الأديان وهو عبادةُ الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة، ثم لمَّا بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مَقْدَمِه من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضلَ الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيِّباتها، ولا شك أن فيه أعظمَ المِنَّة.
إذا عُرِفَت هذه الوجوه فنقول: إنَّ محمدًا - عليه الصلاة والسلام - وُلِدَ فيهم، ونشأ فيما بينهم، وكانوا مشاهِدِين لهذه الأحوال، مُطَّلِعين على هذه الدلائل، فكان إيمانُهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهلَ ممَّا إذا لم يكونوا مُطَّلعين على هذه الأحوال، فلهذه المعاني مَنَّ اللهُ عليهم بكونه مبعوثًا منهم)[6].
وخلاصة المِنَّة على العرب ببعثته صلى الله عليه وسلم عدَّة أمور:
أ- كونه معروفَ النَّسب فيهم.
ب- كونهم قد خَبَروا أمرَه، وعلِموا صِدقَه، وأمانته، وعِفَّته، وطهارته.
ج- ليسهل عليهم التَّعلُّم منه؛ لموافقة لسانه للسانهم.
د- لأنَّ شَرَفَهم يتمُّ بظهور نبيٍّ منهم[7].
هـ- كونه سببَ رُقيِّهم وانتقالِهم من درجةٍ وضِيعَةٍ في العالمين إلى درجة الرِّيادة والقيادة؛ ليكونوا خيرَ أُمَّة أُخرجت للناس، ويستمر هذا الوصف ملازمًا لهم ولا ينفك عنهم، ولا ينتقل إلى غيرهم إلى قيام الساعة.
2- يُعلِّمهم القرآن الكريم:
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ أي: يعرض عليهم القرآن ويعلمهم ألفاظه ومعانيه بعد أن كانوا أهلَ جاهليةٍ لا يعرفون شيئًا من الشرائع، ولا عهد لهم بكتابة ولا قراءة، (وسُمِّيت جُمَلُ القرآن آياتٍ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها دليلٌ على صِدْقِ الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث بلاغةِ اللفظ، وكمال المعنى، فكانوا صالِحين لفَهْمِ ما يتلى عليهم من غير حاجةٍ لترجمان)[8].
3- أنه يُزكِّهم:
قال الله تعالى في هذه المِنَّة: ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ والتَّزكية: هي التطهير، أي: يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء، فيُطَهِّر نفوسَهم بهدي الإسلام، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ لتزكو نفوسهم، وتطهر من الدنس والخَبَث الذي كانوا مُتَلَبِّسين به في حال شركهم وجاهليتهم؛ لأن البشرية - قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - كانت تعيش في مرحلة من أحطِّ مراحل التاريخ البشري، ولا سيما العرب منهم[9].
ولذا ختم اللهُ تعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ أي: كانوا قبل مجيء محمدٍ صلى الله عليه وسلم لفي خطأ بيِّن، لا شبهة فيه، والمقصود: أنهم كانوا في غيٍّ، وجهلٍ ظاهرٍ جلي، بيِّن لكلِّ أحد.
ووَصْفُ الضلالِ بالمبين؛ لأنّه لشدَّته لا يلتبس على أحدٍ بشائبةِ هُدًى، أو شبهة، والمراد به: ضلال الشرك، والجهالة، والتَّقاتل، وأحكام الجاهلية؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الطريقَ المُوصِل إلى ربهم، ولا ما يُزكِّي النفوس ويُطهِّرها، بل ما يُزَيِّن لهم جهلُهم فعلوه، ولو ناقضَ ذلك عقولَ العالَمين[10].
نماذج من الضَّلال المبين:
والمتأمل في حال العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يُدرك المِنَّة العظيمة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وهاهو جعفر بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - يصف شيئًا من هذا الضلال المبين - وهو بين يدي النجاشي - إذْ يقول: (أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، ونُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا على ذلك، حتى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ ما كُنَّا نَحْنُ نعبدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ.
وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ)[11].
وقريبًا من ذلك الوصف ما خَطَبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصار، فعن عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ على رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ في النَّاسِ في الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، ولم يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لم يُصِبْهُمْ ما أَصَابَ الناسَ، فَخَطَبَهُمْ، فقال: (يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلًا، فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ، فَأَلَّفَكُمْ اللهُ بِي؟ وكنتم عَالَةً، فَأَغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ: شَيئًا، قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ...)[12].
قال ابن حجر: (والمراد هنا ضلالة الشرك، وبالهداية الإيمان، وقد رتَّب صلى الله عليه وسلم ما مَنَّ اللهُ عليهم على يَدِهِ من النِّعم ترتيبًا بالغًا، فبدأ بنعمةِ الإيمان التي لا يوازيها شيءٌ من أمر الدنيا، وثنَّى بنعمةِ الأُلفة، وهي أعظم من نعمةِ المال؛ لأنَّ الأموال تُبذل في تحصيلها، وقد لا تَحصل، وقد كانت الأنصارُ قبل الهجرة في غايةِ التَّنافر والتَّقاطع؛ لِمَا وقع بينهم من حَرْبِ بُعاثٍ وغيرها، فزال ذلك كلُّه بالإسلام)[13]، والمقصود: أن الله تعالى أزال كلَّ ذلك ببعثته صلى الله عليه وسلم.
4- يُعلِّمهم الكتاب والحكمة:
قال الله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ أي: القرآنَ والسُّنَّة، بعدما كانوا أجهلَ الناس وأبعدَهم من دراسة العلوم[14].
قال الإمام الشافعي: (فذَكَرَ اللهُ تعالى الكتابَ وهو القرآن، وذَكَرَ الحكمةَ، فسمعتُ مَنْ أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ: سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا يُشبه ما قال، والله أعلم؛ لأنَّ القرآن ذُكِرَ وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذَكَرَ الله مِنَّتَه على خلقِه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أنْ تُعَدَّ الحكمةُ هاهنا إلاَّ سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونةٌ مع كتاب الله)[15].
وقال الطبري: (ويعني بالحكمة: ما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السُّنة)[16]. وقيل: إنَّ تعليم الكتاب: هو تبيين مقاصد القرآن، وأمْرُهم بحفظ ألفاظه؛ لتكون معانيه حاضرةً عندهم.
والمراد بالحكمة: ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق، وتقنين الأحكام؛ لأنَّ ذلك كلَّه مانعٌ للأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة[17].
وقيل: المراد بالكتاب: الكتابة، فيكون قد امتن عليهم بتعليم الكتاب، والكتابة التي بها تدرك العلوم وتحفظ، والحكمة: هي: السنة التي هي شقيقة القرآن، ووضع الأشياء مواضعها، ومعرفة أسرار الشريعة، فجَمَعَ لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفيذ الأحكام، وما به تُدْرَك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميعَ المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين[18].
وقفة مهمة:
وهنا لا بد من وقفة نشير فيها إلى أنَّ الآية الكريمة بدأت بقوله تعالى: ﴿ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ فأيُّ آياتٍ هذه؟ إنها لا شك آيات الكتاب المُنزَّل، وهو القرآن الكريم، والتلاوة بالصوت، أي: يُسمعهم آياته ويعلِّمهم ويُحفِّظهم إيَّاها، فيكون بذلك قد بلَّغ ما أُوحي إليه من ربِّه من القرآن.
ثم تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة التعليم؛ أي: تعليم الكتاب، وهو القرآن الكريم، فيُعلِمهم بأحكامه وآدابه وأخباره، ويُعلِّمهم ذلك كلَّه؛ فيكون تعليم الكتاب مرَّ بمرحلتين؛ الأُولى: مرحلة التبليغ بالتلاوة والحِفظ. والثانية: مرحلة التعليم واستخراج الأحكام وتوضيحها.
وهذه مِنَّة عظمى، إذْ لم يتركهم يتخبَّطون في نصوص الوحي، ولا يدرون مقاصدها ولا غاياتها ولا أحكامها، بل أبانها لهم على أكمل وجه وأتمِّه، وعلَّمهم إياها، فاستغنوا به صلى الله عليه وسلم عن غيره.
ثم جعل الله سبحانه وتعالى لنبيِّه مزيَّة خاصة، وفضيلة لم يُشاركه فيها نبيٌّ أو رسول من قبل، وهي استقلاله بالتشريع عن الكتاب؛ من خلال السُّنة التي أجراها الله على لسانه، وأوحى إليه بها، تشريفًا وتكريمًا له صلى الله عليه وسلم.