حكاية ناي ♔
03-11-2024, 09:01 AM
الصد عن سبيل الله:
إن من سنن لله تعالى الماضية في خلقه، أن ينتدب من كل قرية أكابر مجرميها، يعادون دين الله والدعاة إليه، ( فأهل الباطل لا يكفيهم البقاء على باطلهم، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله، وإزالة هذا الحق بالقوة، وصد الناس عنه ببذل المال وبالقتال، وبكل ما يرون فيه من قوة وقدرة لتحقيق ما يريدون) [1]،كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [2]
وقد دأبت قريش على إقامة العقبات أمام انتشار الإسلام منذ أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته، وتنوعت وسائلها في الصد عن سبيل الله، ومن ذلك منعهم للناس من نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ومعاداة من قام بذلك.
وقد اشتد حنق قريش على الأنصار لإيوائهم المهاجرين، ونصرتهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأضمروا لهم العداوة، التي ظهرت جلية فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله من قصة سعد بن معاذ - رضي الله عنه -[3]، لما جاء مكة معتمرًا، وأخذه مضيفه أمية بن خلف[4] ليطوف بالبيت في نصف النهار، حين غفل الناس، ( فرآه أبو جهل وقال له: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه، قال: نعم. فتلاحيا بينهما...ثم قال سعد - رضي الله عنه -: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت، لأقطعن متجرك بالشام..)[5]
وكانت قريش تمنع الناس من الذهاب للمدينة، إلا بعد أخذ العهد عليهم أن لا ينصروا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم[6] رحمه الله في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -[7] قال: (ما منعني أن أشهد بدرا، إلا أني خرجت أنا وأبي: حُسَيْل[8]، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، قلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم))[9]. قال الإمام النووي[10]رحمه الله:( وقد كان الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة بدر، فأمرهما -صلى الله عليه وسلم- بالوفاء).[11]
(وقد أخبر الله تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن إتباع الحق، فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم عليهم حسرة وندامة، حيث لم تجُدِ شيئا، لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون)[12]، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾[13].
إعلان الحرب على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والتحالف مع كل من له مصلحة في القضاء على المسلمين:
لم ترض قريش عن هجرة المسلمين إلى المدينة، وأزعجها استقرارهم وأمنهم بها، وبذلت كافة المحاولات المتاحة لمنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اللحاق بهم، لأنهم يعلمون أن قيام الدولة المسلمة في المدينة فيه تهديد لكيان قريش، وفيه قضاء على دينهم وآلهتهم، وباءت محاولاتهم بالفشل، وهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ونظم المجتمع المسلم فيها، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب مع اليهود في المدينة معاهدات أمن، بين فيها قواعد مجتمع المدينة في السلم والحرب، ثم بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في إرسال السرايا والبعوث لمعاهدة من حول المدينة من القبائل تأميناً لحدودها، واستطلاعاً لأخبار قريش وتحركاتها.
ولمَّا رأت قريش ما حصل من التمكين للمسلمين، أخذت تُعد عدتها وتتحين الفرصة للقضاء على الإسلام والمسلمين، خاصة بعد أن حاصرها المسلمون اقتصادياً وأغلقوا عليها طريق تجارتها، فأعلنت الحرب عليهم، ولم تألُ جهداً في الاستعانة والتحالف مع من يضمر العداوة والحقد للمسلمين، فوجدت بغيتها في اليهود، الذين شرقوا ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكرهوا هجرته إلى المدينة. وقد أرسل لهم القرشيون يهددونهم بالحرب إن لم يقاتلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فاستجاب بنو النضير لتهديدهم، (وأجمعوا الغدر، فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف[14]، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك)[15]، وكان أن علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغدرهم، فأعد الكتائب لغزوهم وحاصرهم، وأسفر الحصار عن إجلائهم عن المدينة نهائياً.
وكانت غزوة بدر هي أول عدوان مسلح يقوم به المشركون على المسلمين، وفي هذه الغزوة نصر الله رسوله والمؤمنين على قلة عددهم وعدتهم.
وأما غزوة أحد فقد كان هدف قريش منها، الانتقام لقتلاهم في بدر، واستخلصت قريش النصر في هذه الغزوة بعد الخطأ الذي وقع فيه جيش المسلمين، ولولا مخالفة بعض المسلمين لأوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ظفرت قريش بهذه الغرَّة[16].
ومن أوجه استعانة قريش باليهود، أنهم كانوا يستدلون على عورات المسلمين من اليهود المقيمين بالمدينة، مثل ما فعل سلام بن مشكم[17] مع أبي سفيان[18] في غزوة السويق[19].
وأرادت قريش حسم الصراع مع المسلمين واستئصالهم، فحشدت أكبر قوة ممكنة، ولجأت إلى التحالف مع اليهود، ووجدت أكبر ضالة لها في يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المدينة، ووجد اليهود ضالتهم كذلك في قريش، فقد التقت أهداف الفريقين في القضاء على المسلمين[20]، قال ابن اسحق رحمه الله: إن نفرا من اليهود خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا لهم: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فنشطت قريش لما دعوهم من حرب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وخرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان، فدعوهم كذلك إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكروا لهم اتفاقهم مع قريش، فاجتمعوا معهم فيه.
وسارت الأحزاب إلى المدينة، وفوجئوا هنالك بالخندق يحول بينهم وبين المسلمين، فحاصروهم، ووصفهم الله تعالى في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [21].
وانتهت المعركة بنصر الله لعباده المؤمنين، واندحار الأحزاب، وعودتهم لبلادهم خائبين[22].وقال -صلى الله عليه وسلم-:((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)) [23].
وتغيرّ الموقف بعد غزوة الأحزاب، فقد كان آخر هجوم تشنُّه قريش على المسلمين، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-(حين أجلى الأحزاب عنه:(( الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم))[24].
وقد حثَّ القرآن الكريم على قتالهم، وبيَّن عداوتهم وبدأهم بالقتال، في قوله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[25] [26].
ومن العدل في توضيح موقف قريش من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن المسلمين، القول بأن القرشيين كانوا على درجات متباينة، فقد كان بعضهم يضمر أشد العداء والحقد: كأبي جهل وأمية بن خلف وأبي لهب وأبي سفيان، وغيرهم ممن كانوا حربا على المسلمين، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة، سواء في العهد المكي أو المدني.
ومنهم من دفعته الرحمة والرأفة بحال المؤمنين، إلى أن يقف في صفهم وهو على شركه، كالرهط الذين سعوا في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة[27].
ومنهم من كان يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدافع عنه، حميّة وعصبية، كما كان الحال من بني هاشم، وقد خرج بعضهم مكرها في حرب قريش للمسلمين[28].
بل إن بعض القرشيين كان عونا للمسلمين في أول أمر الدعوة، من ذلك ما حدث من مرافقة العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -[29] -وهو مشرك-للرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيعة العقبة الكبرى، ليستوثق له من الأمر[30].
وكإجارة المُطْعِم بن عَدِيّ [31] النبي -صلى الله عليه وسلم- عند عودته من الطائف [32].
وإجارة ابن الدُّغُنَّة [33] لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة للحبشة[34].
وكذلك أجار الوليد بن المغيرة [35] عثمان بن مظعون رضي الله عنه [36].
إن من سنن لله تعالى الماضية في خلقه، أن ينتدب من كل قرية أكابر مجرميها، يعادون دين الله والدعاة إليه، ( فأهل الباطل لا يكفيهم البقاء على باطلهم، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله، وإزالة هذا الحق بالقوة، وصد الناس عنه ببذل المال وبالقتال، وبكل ما يرون فيه من قوة وقدرة لتحقيق ما يريدون) [1]،كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [2]
وقد دأبت قريش على إقامة العقبات أمام انتشار الإسلام منذ أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته، وتنوعت وسائلها في الصد عن سبيل الله، ومن ذلك منعهم للناس من نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ومعاداة من قام بذلك.
وقد اشتد حنق قريش على الأنصار لإيوائهم المهاجرين، ونصرتهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأضمروا لهم العداوة، التي ظهرت جلية فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله من قصة سعد بن معاذ - رضي الله عنه -[3]، لما جاء مكة معتمرًا، وأخذه مضيفه أمية بن خلف[4] ليطوف بالبيت في نصف النهار، حين غفل الناس، ( فرآه أبو جهل وقال له: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه، قال: نعم. فتلاحيا بينهما...ثم قال سعد - رضي الله عنه -: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت، لأقطعن متجرك بالشام..)[5]
وكانت قريش تمنع الناس من الذهاب للمدينة، إلا بعد أخذ العهد عليهم أن لا ينصروا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم[6] رحمه الله في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -[7] قال: (ما منعني أن أشهد بدرا، إلا أني خرجت أنا وأبي: حُسَيْل[8]، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، قلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم))[9]. قال الإمام النووي[10]رحمه الله:( وقد كان الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة بدر، فأمرهما -صلى الله عليه وسلم- بالوفاء).[11]
(وقد أخبر الله تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن إتباع الحق، فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم عليهم حسرة وندامة، حيث لم تجُدِ شيئا، لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون)[12]، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾[13].
إعلان الحرب على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والتحالف مع كل من له مصلحة في القضاء على المسلمين:
لم ترض قريش عن هجرة المسلمين إلى المدينة، وأزعجها استقرارهم وأمنهم بها، وبذلت كافة المحاولات المتاحة لمنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اللحاق بهم، لأنهم يعلمون أن قيام الدولة المسلمة في المدينة فيه تهديد لكيان قريش، وفيه قضاء على دينهم وآلهتهم، وباءت محاولاتهم بالفشل، وهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ونظم المجتمع المسلم فيها، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب مع اليهود في المدينة معاهدات أمن، بين فيها قواعد مجتمع المدينة في السلم والحرب، ثم بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في إرسال السرايا والبعوث لمعاهدة من حول المدينة من القبائل تأميناً لحدودها، واستطلاعاً لأخبار قريش وتحركاتها.
ولمَّا رأت قريش ما حصل من التمكين للمسلمين، أخذت تُعد عدتها وتتحين الفرصة للقضاء على الإسلام والمسلمين، خاصة بعد أن حاصرها المسلمون اقتصادياً وأغلقوا عليها طريق تجارتها، فأعلنت الحرب عليهم، ولم تألُ جهداً في الاستعانة والتحالف مع من يضمر العداوة والحقد للمسلمين، فوجدت بغيتها في اليهود، الذين شرقوا ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكرهوا هجرته إلى المدينة. وقد أرسل لهم القرشيون يهددونهم بالحرب إن لم يقاتلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فاستجاب بنو النضير لتهديدهم، (وأجمعوا الغدر، فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف[14]، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك)[15]، وكان أن علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغدرهم، فأعد الكتائب لغزوهم وحاصرهم، وأسفر الحصار عن إجلائهم عن المدينة نهائياً.
وكانت غزوة بدر هي أول عدوان مسلح يقوم به المشركون على المسلمين، وفي هذه الغزوة نصر الله رسوله والمؤمنين على قلة عددهم وعدتهم.
وأما غزوة أحد فقد كان هدف قريش منها، الانتقام لقتلاهم في بدر، واستخلصت قريش النصر في هذه الغزوة بعد الخطأ الذي وقع فيه جيش المسلمين، ولولا مخالفة بعض المسلمين لأوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ظفرت قريش بهذه الغرَّة[16].
ومن أوجه استعانة قريش باليهود، أنهم كانوا يستدلون على عورات المسلمين من اليهود المقيمين بالمدينة، مثل ما فعل سلام بن مشكم[17] مع أبي سفيان[18] في غزوة السويق[19].
وأرادت قريش حسم الصراع مع المسلمين واستئصالهم، فحشدت أكبر قوة ممكنة، ولجأت إلى التحالف مع اليهود، ووجدت أكبر ضالة لها في يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المدينة، ووجد اليهود ضالتهم كذلك في قريش، فقد التقت أهداف الفريقين في القضاء على المسلمين[20]، قال ابن اسحق رحمه الله: إن نفرا من اليهود خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا لهم: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فنشطت قريش لما دعوهم من حرب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وخرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان، فدعوهم كذلك إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكروا لهم اتفاقهم مع قريش، فاجتمعوا معهم فيه.
وسارت الأحزاب إلى المدينة، وفوجئوا هنالك بالخندق يحول بينهم وبين المسلمين، فحاصروهم، ووصفهم الله تعالى في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [21].
وانتهت المعركة بنصر الله لعباده المؤمنين، واندحار الأحزاب، وعودتهم لبلادهم خائبين[22].وقال -صلى الله عليه وسلم-:((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)) [23].
وتغيرّ الموقف بعد غزوة الأحزاب، فقد كان آخر هجوم تشنُّه قريش على المسلمين، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-(حين أجلى الأحزاب عنه:(( الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم))[24].
وقد حثَّ القرآن الكريم على قتالهم، وبيَّن عداوتهم وبدأهم بالقتال، في قوله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[25] [26].
ومن العدل في توضيح موقف قريش من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن المسلمين، القول بأن القرشيين كانوا على درجات متباينة، فقد كان بعضهم يضمر أشد العداء والحقد: كأبي جهل وأمية بن خلف وأبي لهب وأبي سفيان، وغيرهم ممن كانوا حربا على المسلمين، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة، سواء في العهد المكي أو المدني.
ومنهم من دفعته الرحمة والرأفة بحال المؤمنين، إلى أن يقف في صفهم وهو على شركه، كالرهط الذين سعوا في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة[27].
ومنهم من كان يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدافع عنه، حميّة وعصبية، كما كان الحال من بني هاشم، وقد خرج بعضهم مكرها في حرب قريش للمسلمين[28].
بل إن بعض القرشيين كان عونا للمسلمين في أول أمر الدعوة، من ذلك ما حدث من مرافقة العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -[29] -وهو مشرك-للرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيعة العقبة الكبرى، ليستوثق له من الأمر[30].
وكإجارة المُطْعِم بن عَدِيّ [31] النبي -صلى الله عليه وسلم- عند عودته من الطائف [32].
وإجارة ابن الدُّغُنَّة [33] لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة للحبشة[34].
وكذلك أجار الوليد بن المغيرة [35] عثمان بن مظعون رضي الله عنه [36].