حكاية ناي ♔
03-11-2024, 09:08 AM
تمهيد:
إنه من الأهمية قبل أن نختِم هذه الرحلة، مع هذه الرسالة ومع صاحبها بأن نشير إلى سيرته العَطِرة.
ولو مجرَّد إشارات لوقفاتٍ عابرة على أهم ملامح ومحطات هذه السيرة العطرة.
ولكن وقبل أن نخوض في ذلك سنُقدِّم بين يديها أقوالاً لبعض مَن حاولوا الإنصاف ممن لم يتبِعوه ولم يَرتَدُوا عباءة الإسلام، ولكنهم قالوا شهادة حق سطَّروها في كتبهم أو من خلال أحاديث لهم.
ولذلك نعقِد هذا الباب وهو خاتمة المطاف وعلى فصلين:
أحدهما بمثابة المقدمة: شهادة بين يدي القطوف.
والآخر: مع القطوف.
شهادة بين يدي القطوف:
إنه لمن المسلَّم به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بحاجة لشهادة أحد من البشر أيًّا ما كان، فيكفيه شهادة الله له؛ حيث قال تعالى: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166].
إلا أنه من باب قول القائل: "الحق ما شهِدت به الأعداء" نسوق بين يديك جملةً من أقوال بعض المستشرقين الذين أُعجِبوا بشخصيَّة الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - ومع كونهم لم يَرتَدُوا عباءة الإسلام، فإنهم قالوا كلمة حقٍّ سطَّرها التاريخ على ألسنتهم وفي كتبهم وتُراثهم، وهذا جزء من بعض ما قالوا في عظيم شخصه وصفاته الجليلة - صلى الله عليه وسلم.
1- فهذا غاندي يقول في حديث لجريدة (يونج إنديا): "أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملِك بدون نزاع قلوب ملايين البشر، لقد أصبحت مُقتنِعًا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسَب الإسلام مكانتَه، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقَّته وصِدْقه في الوعود، وتَفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المُطلَقة في ربه وفي رسالته.
2- المفكِّر الفرنسي لا مارتين في كتابة (تاريخ تركيا)[1] يقول: لو أن عِظَم الغاية وصِغَر الوسائل وقلة الموارد والنتائج المدهِشة هي ثلاثة معايير لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ على مقارنة أي رجل عظيم في التاريخ الحديث بمحمد[2].
إن أشهر الرجال صنعوا الأسلحة وشرعوا القوانين ووضعوا النظريات وأسسوا الإمبراطوريات فقط، فهم لم يؤسِّسوا - لو اعتبرنا أنهم أسَّسوا شيئًا يُذكَر - أكثر من قوى مادية أو سلطات مادية كثيرًا ما انهارت وزالت أمام أعينهم.
أما هذا الرجل محمد فإنه لم يُحرِّك ويؤثِّر في الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر الحاكمة فقط، ولكنه حرَّك وأثَّر في ملايين الرجال، بل الأكثر من ذلك أنه أزاح الأنصاب[3]، والمذابح والآلهة الزائفة، وأثَّر في الأديان، وغيَّر الأفكار والاعتقادات والأنفس.
ويقول: إذا كانت الضوابط التي نَقيس بها عبقرية الإنسان هي سموَّ الغاية والنتائج المُذهِلة لذلك رُغم قلة الوسيلة، فمَن ذا الذي يجرؤ أن يُقارِن أيًّا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد في عبقريته، انتهى.
فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسَنُّوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات، فلم يجنوا إلا أمجادًا بالية لم تلبَث أن تَحطَّمت بين ظهرانَيهم، لكن هذا الرجل (محمدًا) لم يَقُدِ الجيوش ويَسُن التشريعات ويُقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروِّض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يُعَد ثلث العالم حينئذ، ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقَدات الباطِلة.
لقد صبر النبي وتجلَّد حتى نال النصرَ من الله، وكان طموح النبي - صلى الله عليه وسلم - مُوجَّهًا بالكلية إلى هدف واحد، فلم يطمح إلى تكوين إمبراطورية أو ما إلى ذلك، حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربه ووفاته - صلى الله عليه وسلم - وانتصاره حتى بعد موته، كل ذلك لا يَدُل على الغش والخداع، بل يدل على اليقين الصادق الذي أعطى النبيَّ الطاقة والقوة لإرساء عقيدة ذات شِقَّين: الإيمان بوحدانية الله، والإيمان بمخالَفته تعالى للحوادث.
فالشق الأول يُبيِّن صفة الله (ألا وهي الوحدانية)، بينما الآخر يوضِّح ما لا يتَّصِف به الله تعالى (وهو المادية والمماثَلة للحوادث)، لتحقيق الأول كان لا بد من القضاء على الآلهة المُدَّعاة من دون الله بالسيف، أما الثاني فقد تطلَّب ترسيخ العقيدة بالكلمة، بالحكمة الحسنة.
ويستطرد لا مارتين فيقول:
"هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الفيلسوف، الخطيب، النبي، المُشرِّع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسِّس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقَّة، بلا أنصابٍ ولا أزلام، هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية رُوحانية واحدة[4]، هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنظر لكل مقاييس العظمة البشريَّة، أودُّ أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم؟!
3- بينما نظر إليه المستشرق السويسري إدوار مونتيه (1810 - 1882م) مدير جامعة جنيف ومدرس اللغة الشرقية - في مؤلَّفه (المدنيَّة الشرقية)، نظرته إلى الأنبياء التوراتيين القدماء بقوله: كان محمد نبيًّا بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصةٍ لا صِلة لها بالوثنية، وأخذ يسعى لانتشال قومه من ديانة جافَّة لا اعتبار لها بالمرة، وليُخرِجهم من حالة الأخلاق المنحطَّة كل الانحطاط، ولا يمكن أن يُشكَّ في إخلاصه، ولا في الحَمِيَّة الدينية التي كان قلبه مُفعَمًا بها.
ويقول مونتيه نفسه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن: "كان محمد نبيًّا صادقًا، كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكِّنتين به كما كانتا متمكِّنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتُحدِثان فيه كما كانتا تُحدِثان فيهم ذلك الإلهام النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية، اللذين يُحدِثان في العقل البشري المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية.
وقال: عُرِف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفِكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره[5]، وأشدهم حفاظًا على الزمام، فقد وجَّههم إلى حياة لم يَحلُموا بها من قبل، وأسَّس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم.
4- برناردشو[6] في كتابه (محمد): "إن العالم أحوجُ ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضَع دينه دائمًا موضِع الاحترام والإجلال؛ فإنه أقوى دين على هضْم جميع المدنيَّات، خالد خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بيِّنة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا)، إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورةً قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنني اطَّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصَّلت إلى أنه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أن يُسمَّى مُنقِذ البشرية! وفي رأيي أنه لو تولَّى أمرَ العالم اليوم، لوُفِّق في حل مشكلاتنا بما يؤمِّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
5- مايكل هارت في كتابه (الخالدون مائة) يقول: "إن اختياري محمدًا، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يُدهِش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي، فهناك رسُل وأنبياء وحكماء بدؤوا رسالاتٍ عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شارَكهم فيها غيرهم، أو سبَقهم إليها سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمدًا هو الوحيد الذي أتمَّ رسالته الدينية، وتحدَّدت أحكامها، وآمنتْ بها شعوب بأسْرها في حياته.
ولأنه أقام جانِبَ الدِّينِ دولةً جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضًا وحَّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسسِ حياتها، ورسَم أمور دنياها، ووضعها في موضِع الانطلاق إلى العالم، أيضًا في حياته فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية وأتمها"[7].
6- ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" يقول: "يبدو أن أحدًا لم يُعنَ بتعليم محمد القراءة والكتابة، ولم يُعرَف عنه أنه كتب شيئًا بنفسه، ولكن هذا لم يَحُلْ بينه وبين قدرته على تعريف شؤون الناس تعريفًا قلَّما يصل إليه أرقى الناس تعليمًا".
وقال: "كان النبي من مَهَرة القواد، ولكنه كان إلى هذا سياسيًّا مُحنَّكًا، يعرف كيف يواصِل الحربَ بطريق السِّلم".
وقال: "إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثرٍ في الناس قلنا: "إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الرُّوحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجيَّة حرارة الجو وجَدْب الصحراء".
وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يُدانِه فيه أي مُصلِح آخر في التاريخ كله، وقَلَّ أن تجد إنسانًا غيره حقَّق ما كان يحلُم به، ولم يكن ذلك؛ لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثَمَّة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلَكوه، وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تَسكُنها قبائل من عبدة الأوثان قليلٌ عددُها، متفرِّقة كلمتُها، وكانت عند وفاته أمةً موحَّدة متماسِكة، وقد كبح جماحَ التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهوديَّة والمسيحية ودين بلاده القديم دينًا سهلاً واضحًا قويًّا، وصرْحًا خُلُقيًّا قِوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع في جيل واحد أن ينتصِر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن يُنشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطرٍ عظيم في نصف العالم.
وقال: لسنا نجد في التاريخ كله مُصلِحًا فرض على الأغنياء من الضرائب[8]، ما فرضه عليهم محمد لإعانة الفقراء.
وقال: تدل الأحاديث النبوية على أن النبي كان يَحُث على طلب العلم ويعجَب به، فهو من هذه الناحية يختلف عن معظم المُصلحين الدينيين[9].
8- هنري دي كاستري يقول: "إن أشد ما نتطلَّع إليه بالنظر إلى الديانة الإسلامية ما اختُصَّ منها بشخص النبي؛ ولذلك قصَدت أن يكون بحثي أولاً في تحقيق شخصيته وتقرير حقيقته الأدبيَّة؛ علَّني أجد في هذا البحث دليلاً جديدًا على صدقه وأمانته المُتفَق - تقريبًا - عليها بين جميع مؤرخي الديانات وأكبر المتشيِّعين للدين المسيحي، وقال: ثبت إذًا أن محمدًا لم يقرأ كتابًا مقدَّسًا، ولم يَسترشِد في دينه بمذهب متقدِّم عليه".
وقال: "ولقد نعلم أن محمدًا مرَّ بمتاعب كثيرة، وقاسى آلامًا نفسيَّة كبرى قبل أن يُخبر برسالته، فقد خلَقه الله ذا نفسٍ تمحَّضت للدين؛ ومن أجل ذلك احتاج إلى العُزْلة عن الناس؛ لكي يهرب من عبادة الأوثان ومذهب تَعدُّد الآلهة الذي ابتدَعه المسيحيون، وكان بُغضهما متمكِّنًا من قلبه، وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة في جسمه، وليت شعري فيمَ كان يفكِّر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء؟! ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحِدَّة التخيُّل وقوة الإدراك؟ إلا أن يقول مِرارًا ويُعيد تَكرارًا هذه الكلمات: "الله أحد، الله أحد"، كلمات ردَّدها المسلمون أجمعون من بعده، وغاب عنا معشر المسيحيين مغزاها؛ لبُعدنا عن فكرة التوحيد".
وقال: لو رجعنا إلى ما وضَّحه الحكماء عن النبوة ولم يقبله المتكلِّمون من المسيحيين، لأمكننا الوقوف على حالة مشيِّد دعائم الإسلام، وجزمنا بأنه لم يكن من المُبتدِعين، ومن الصعب أن تقف على حقيقة سماعه لصوت جبريل، إلا أن معرفة هذه الحقيقة لا تُغيِّر موضوع المسألة؛ لأن الصدقَ حاصلٌ في كل حال".
وقال: "لا يمكن أن نُنكِر على محمد في الدور الأول من حياته كمالَ إيمانه وإخلاص صدْقه، فأما الإيمان فلن يتزعزع مثقالَ ذرة من قلبه، وفي الدَّور الثاني - الدَّور المَدَني - وما أُوتيه من نصرٍ كان من شأنه أن يُقوِّيه على الإيمان، لولا أن الاعتقاد كله قد بلغ منه مبلغًا لا مَحَل للزيادة فيه، وما كان يميل إلى الزخارف، ولم يكن شحيحًا، وكان قنوعًا خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير مرة في حياته، تجرَّد من الطمع وتمكَّن من نوال المَقام الأعلى في بلاد العرب، ولكنه لم يَجنَح إلى الاستبداد فيها، فلم يكن له حاشية، ولم يتَّخِذ وزيرًا ولا حشمًا، وقد احتقرَ المال[10].
9- سبريت وآرنولد يقولان: "لعله من المتوقَّع بطبيعة الحال أن تكون حياة مؤسِّس الإسلام ومُنشئ الدعوة الإسلاميَّة، هي الصورة الحقة لنشاط الدعوة إلى هذا الدين، وإذا كانت حياة النبي هي مقياس سلوك عامة المؤمنين، فإنها كذلك بالنسبة إلى سائر دُعاة الإسلام؛ لذلك نرجو من دراسة هذا المَثَل أن نعرف شيئًا عن الرُّوح التي دفعت الذين عمِلوا على الاقتداء به، وعن الوسائل التي ينتظر أن يتَّخذوها، وذلك أن رُوح الدعوة إلى الإسلام لم تجئ في تاريخ الدعوة متأخرة بعد أناة وتفكُّر، وإنما هي قديمة قِدَم العقيدة ذاتها".
وفي هذا الوصف الموجَز سنبيِّن كيف حدث ذلك، وكيف كان النبي محمد يُعَدُّ نموذجًا للداعي إلى الإسلام.
وقال: "وقبيل وفاة محمد نرى جميع أنحاء الجزيرة العربية تقريبًا تَدين له بالطاعة، وإذا ببلاد العرب التي لم تخضع إطلاقًا لأمير من قبل، تظهر في وَحدة سياسيَّة وتَخضع لإدارة حاكم مُطلَق، ومن تلك القبائل المتنوِّعة، صغيرها وكبيرها، ذات العناصر المختلفة التي قد تبلُغ المائة والتي لم تنقطِع عن التنازع والتناحر خَلَقت رسالة محمد أمة واحدة، وقد جمعتْ فكرةُ الدين المشترك تحت زعامةٍ واحدة شتى القبائل في نظامٍ سياسيٍّ واحد، ذلك النظام الذي سَرَتْ مزاياه في سرعة تَبعثُ على الدَّهشة والإعجاب، وإن فكرة واحدة كبرى هي التي حقَّقت هذه النتيجة، تلك هي مبدأ الحياة القومية في جزيرة العرب الوثنيَّة، وهكذا كان النظام القَبَلي لأول مرة، وإن لم يُقض عليه نِهائيًّا؛ إذ كان ذلك مستحيلاً بالنسبة للشعور بالوَحدة الدينية".
وتكلَّلت المهمة الضخمة بالنجاح، فعندما انتقل محمد إلى جوارِ ربه كانت السكينة تُرفرِف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية، بصورة لم تكن القبائل العربيَّة تعرفها من قبل، مع شدة تعلُّقها بالتدمير وأخذ الثأر، وكان الدين الإسلامي هو الذي مهَّد السبيل إلى هذا الائتلاف.
وقال: "من الخطأ أن نفترِض أن محمدًا في المدينة قد طرَح مهمَّة الداعي إلى الإسلام والمُبلِّغ لتعاليمه، أو أنه عندما سيطر على جيش كبير يأتَمِر بأمره، انقطع عن دعوة المشركين إلى اعتناق الدين".
وقال: "إن المعاملة الحسنة التي تعوَّدتها وفود العشائر المختلفة من النبي واهتمامه بالنظر في شِكاياتهم، والحكمة التي كان يُصلِح بها ذاتَ بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قِطعٍ من الأرض مكافأة لكل مَن بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه مألوفًا لديهم، كما جعل صيتَه ذائعًا في كافة أنحاء شبه الجزيرة سيدًا عظيمًا ورجلاً كريمًا، وكثيرًا ما كان يَفِد أحد أفراد القبيلة على النبي بالمدينة، ثم يعود إلى قومه داعيًا إلى الإسلام جادًّا في تحويل إخوانه إليه" [11].
9- يقول أستاذ اللغات الشرقية ورئيس مجمع البحوث والآداب في باريس المستشرق الفرنسي كليمان هوار (1854 - 1927 م) في الجزء الأول من كتابه (تاريخ العرب): "اتفقت الأخبار على أن محمدًا كان في الدرجة العُليا من شرف النفْس، وكان يلقَّب بالأمين؛ أي بالرجل الثقة المُعتَمد عليه إلى أقصى درجة، إذ كان المَثَل الأعلى في الاستقامة".
10- ويتحدَّث الباحث الأرجنتيني دون بايرون (1839 - 1900 م) في مؤلَّفه: (أتِح لنفسكَ فرصةً)، فيقول: "اتَّفق المؤرخون على أن محمد بن عبدالله كان ممتازًا بين قومه بأخلاق حميدة، من صدْق الحديث والأمانة والكرم وحُسْن الشمائل والتواضع، حتى سماه أهل بلده (الأمين)، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يُودِعون عنده ودائعَهم وأمانتَهم، وكان لا يشرب الأشربة المُسكِرة، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً، وكان يعيش مما يُدره عليه عملُه من خير".
11- ويقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه صاحب كتابَي (الحروب الصليبية) و(مدنيَّات من الشرق) في مؤلَّفه الأخير: "كان محمد لما قام بهذه الدعوة شابًّا كريمًا نجدًا، ملآن حماسة لكل قضيَّة شريفة، وكان أرفع جدًّا من الوسط الذي يعيش فيه، وقد كان العرب يوم دعاهم إلى الله منغمسين في الوثنيَّة وعبادة الحجارة، فعزم على نقْلهم من تلك الوثنيَّة إلى التوحيد الخالص البحت، وكانوا يهتِفون بالفوضى وقتال بعضهم بعضًا، فأراد أن تؤسَّس لهم حكومة ديموقراطية موحَّدة، وكانت لهم عادات وحشية همجية صِرفة، فأراد أن يلطِّف أخلاقهم ويُهذِّب من خشونتهم".
12- ويقول المستشرق الإيطالي ميخائيل إيماري في كتابه (تاريخ المسلمين): "وحسْب محمد ثناءً عليه أنه لم يُساوِم، ولم يقبل المساومةَ لحظة واحدة في موضوع رسالته على كَثْرة فنون المساومات واشتداد المِحَن، وهو القائل: ((لو وضعوا الشمس في يمينِي والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه))، عقيدة راسخة، وثبات لا يُقاس بنظير، وهمَّة تركت العرب مدِينين لمحمد بن عبدالله؛ إذ ترَكهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر".
13- وعقد المستشرق ميشون مقارنةً بين تسامُح الإسلام وتعصُّب الصليبيين، في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية) قائلاً: "إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامِح نحو أتباع الأديان الأخرى، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدَمَهم من الضرائب، وحرَّم قتْل الرهبان - على الخصوص - لعكوفهم على العبادات، ولم يَمَس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدسَ، وقد ذبح الصليبيون المسلمين وحرَّقوا اليهود عندما دخلوها".
ويَزيد الباحث نفسه في كتابه (سياحة دينيَّة في الشرق) متحدِّثًا عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، وكيف أن المسيحيين تعلَّموا الكثير من المسلمين في التسامح وحُسْن المعاملة، فيقول: "وإنه لمن المُحزِن أن يتلقَّى المسيحيون عن المسلمين رُوح التعامل وفضائل حُسْن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيِّهم محمد".
14- يقول إدوارد جيبسون أوكلي في كتاب (تاريخ إمبراطورية الشرق - لندن 1870، ص 54): "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي عقيدة الإسلام البسيطة والثابتة، إن التصور الفكري للإله في الإسلام لم يَنحدِر أبدًا إلى وثنٍ مرئي أو منظور، ولم يتجاوز توقير المسلمين للرسول أبدًا حدَّ اعتباره بشرًا، وقيدت أفكاره النابضة بالحياة شعور الصحابة بالامتنان والعرفان تُجاهه، داخل حدود العقل والدين".
15- يقول ديوان شند شرمة في كتابه "أنبياء الشرق": "لقد كان محمد رُوح الرأفة والرحمة، وكان الذين حوله يلمسون تأثيره ولم يَغِب عنهم أبدًا".
16- يقول جون وليان دريبر الحاصل على دكتوراه في الطب والحقوق في كتابه "تاريخ التطور الفكري الأوروبي": "وُلِد في مكة بجزيرة العرب عام (569 م)، بعد أربع سنوات من موت (جوستنيان الأول) [12] الرجل الذي كان له - من دون جميع الرجال - أعظم تأثير على الجنس البشري وهو محمد".
17- يقول ر. ف. س. بودلي في كتاب "الرسول": "إنني أشك أن أي إنسان لا يتغيَّر لكيلا يلائم ويُوافِق التغيرات الكثيرة جدًّا في ظروفه الخارجية، كما لم يتغيَّر محمد".
18- يقول هـ. أ. ر. جب في كتاب "المحمدية": "إنه من المسلَّم به عالميًّا بصفة عامة أن إصلاحاته رفعت من قدْرِ المرأة ومنزلتها ووضعها الاجتماعي والشرعي"[13].
لقد كان محمد غير مُتباهٍ وغير مُتفاخِر إلى أبعد الحدود، وكان مُنكِرًا لذاته إلى أقصى درجة، وما الألقاب التي اتَّخذها لنفسه؟ إنهما لقبان فقط: عبد الله ورسوله، عبده أولاً، ثم رسوله، رسول نبي مِثل كثير من الأنبياء في كل مكان من هذا العالم بعضهم معروف لنا وكثير منهم لا نعرفهم.
وبعد، فلا يسعنا إلا أن نقول بعدما عرضنا بعض أقوال الغرب عن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: يكفي شريعة الإسلام فخرًا وفضلاً أن شهِد الخصوم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما يقال: الحق ما شهِدت به الأعداء.
إنه من الأهمية قبل أن نختِم هذه الرحلة، مع هذه الرسالة ومع صاحبها بأن نشير إلى سيرته العَطِرة.
ولو مجرَّد إشارات لوقفاتٍ عابرة على أهم ملامح ومحطات هذه السيرة العطرة.
ولكن وقبل أن نخوض في ذلك سنُقدِّم بين يديها أقوالاً لبعض مَن حاولوا الإنصاف ممن لم يتبِعوه ولم يَرتَدُوا عباءة الإسلام، ولكنهم قالوا شهادة حق سطَّروها في كتبهم أو من خلال أحاديث لهم.
ولذلك نعقِد هذا الباب وهو خاتمة المطاف وعلى فصلين:
أحدهما بمثابة المقدمة: شهادة بين يدي القطوف.
والآخر: مع القطوف.
شهادة بين يدي القطوف:
إنه لمن المسلَّم به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بحاجة لشهادة أحد من البشر أيًّا ما كان، فيكفيه شهادة الله له؛ حيث قال تعالى: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166].
إلا أنه من باب قول القائل: "الحق ما شهِدت به الأعداء" نسوق بين يديك جملةً من أقوال بعض المستشرقين الذين أُعجِبوا بشخصيَّة الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - ومع كونهم لم يَرتَدُوا عباءة الإسلام، فإنهم قالوا كلمة حقٍّ سطَّرها التاريخ على ألسنتهم وفي كتبهم وتُراثهم، وهذا جزء من بعض ما قالوا في عظيم شخصه وصفاته الجليلة - صلى الله عليه وسلم.
1- فهذا غاندي يقول في حديث لجريدة (يونج إنديا): "أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملِك بدون نزاع قلوب ملايين البشر، لقد أصبحت مُقتنِعًا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسَب الإسلام مكانتَه، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقَّته وصِدْقه في الوعود، وتَفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المُطلَقة في ربه وفي رسالته.
2- المفكِّر الفرنسي لا مارتين في كتابة (تاريخ تركيا)[1] يقول: لو أن عِظَم الغاية وصِغَر الوسائل وقلة الموارد والنتائج المدهِشة هي ثلاثة معايير لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ على مقارنة أي رجل عظيم في التاريخ الحديث بمحمد[2].
إن أشهر الرجال صنعوا الأسلحة وشرعوا القوانين ووضعوا النظريات وأسسوا الإمبراطوريات فقط، فهم لم يؤسِّسوا - لو اعتبرنا أنهم أسَّسوا شيئًا يُذكَر - أكثر من قوى مادية أو سلطات مادية كثيرًا ما انهارت وزالت أمام أعينهم.
أما هذا الرجل محمد فإنه لم يُحرِّك ويؤثِّر في الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر الحاكمة فقط، ولكنه حرَّك وأثَّر في ملايين الرجال، بل الأكثر من ذلك أنه أزاح الأنصاب[3]، والمذابح والآلهة الزائفة، وأثَّر في الأديان، وغيَّر الأفكار والاعتقادات والأنفس.
ويقول: إذا كانت الضوابط التي نَقيس بها عبقرية الإنسان هي سموَّ الغاية والنتائج المُذهِلة لذلك رُغم قلة الوسيلة، فمَن ذا الذي يجرؤ أن يُقارِن أيًّا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد في عبقريته، انتهى.
فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسَنُّوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات، فلم يجنوا إلا أمجادًا بالية لم تلبَث أن تَحطَّمت بين ظهرانَيهم، لكن هذا الرجل (محمدًا) لم يَقُدِ الجيوش ويَسُن التشريعات ويُقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروِّض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يُعَد ثلث العالم حينئذ، ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقَدات الباطِلة.
لقد صبر النبي وتجلَّد حتى نال النصرَ من الله، وكان طموح النبي - صلى الله عليه وسلم - مُوجَّهًا بالكلية إلى هدف واحد، فلم يطمح إلى تكوين إمبراطورية أو ما إلى ذلك، حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربه ووفاته - صلى الله عليه وسلم - وانتصاره حتى بعد موته، كل ذلك لا يَدُل على الغش والخداع، بل يدل على اليقين الصادق الذي أعطى النبيَّ الطاقة والقوة لإرساء عقيدة ذات شِقَّين: الإيمان بوحدانية الله، والإيمان بمخالَفته تعالى للحوادث.
فالشق الأول يُبيِّن صفة الله (ألا وهي الوحدانية)، بينما الآخر يوضِّح ما لا يتَّصِف به الله تعالى (وهو المادية والمماثَلة للحوادث)، لتحقيق الأول كان لا بد من القضاء على الآلهة المُدَّعاة من دون الله بالسيف، أما الثاني فقد تطلَّب ترسيخ العقيدة بالكلمة، بالحكمة الحسنة.
ويستطرد لا مارتين فيقول:
"هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الفيلسوف، الخطيب، النبي، المُشرِّع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسِّس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقَّة، بلا أنصابٍ ولا أزلام، هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية رُوحانية واحدة[4]، هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنظر لكل مقاييس العظمة البشريَّة، أودُّ أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم؟!
3- بينما نظر إليه المستشرق السويسري إدوار مونتيه (1810 - 1882م) مدير جامعة جنيف ومدرس اللغة الشرقية - في مؤلَّفه (المدنيَّة الشرقية)، نظرته إلى الأنبياء التوراتيين القدماء بقوله: كان محمد نبيًّا بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصةٍ لا صِلة لها بالوثنية، وأخذ يسعى لانتشال قومه من ديانة جافَّة لا اعتبار لها بالمرة، وليُخرِجهم من حالة الأخلاق المنحطَّة كل الانحطاط، ولا يمكن أن يُشكَّ في إخلاصه، ولا في الحَمِيَّة الدينية التي كان قلبه مُفعَمًا بها.
ويقول مونتيه نفسه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن: "كان محمد نبيًّا صادقًا، كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكِّنتين به كما كانتا متمكِّنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتُحدِثان فيه كما كانتا تُحدِثان فيهم ذلك الإلهام النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية، اللذين يُحدِثان في العقل البشري المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية.
وقال: عُرِف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفِكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره[5]، وأشدهم حفاظًا على الزمام، فقد وجَّههم إلى حياة لم يَحلُموا بها من قبل، وأسَّس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم.
4- برناردشو[6] في كتابه (محمد): "إن العالم أحوجُ ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضَع دينه دائمًا موضِع الاحترام والإجلال؛ فإنه أقوى دين على هضْم جميع المدنيَّات، خالد خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بيِّنة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا)، إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورةً قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنني اطَّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصَّلت إلى أنه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أن يُسمَّى مُنقِذ البشرية! وفي رأيي أنه لو تولَّى أمرَ العالم اليوم، لوُفِّق في حل مشكلاتنا بما يؤمِّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
5- مايكل هارت في كتابه (الخالدون مائة) يقول: "إن اختياري محمدًا، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يُدهِش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي، فهناك رسُل وأنبياء وحكماء بدؤوا رسالاتٍ عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شارَكهم فيها غيرهم، أو سبَقهم إليها سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمدًا هو الوحيد الذي أتمَّ رسالته الدينية، وتحدَّدت أحكامها، وآمنتْ بها شعوب بأسْرها في حياته.
ولأنه أقام جانِبَ الدِّينِ دولةً جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضًا وحَّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسسِ حياتها، ورسَم أمور دنياها، ووضعها في موضِع الانطلاق إلى العالم، أيضًا في حياته فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية وأتمها"[7].
6- ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" يقول: "يبدو أن أحدًا لم يُعنَ بتعليم محمد القراءة والكتابة، ولم يُعرَف عنه أنه كتب شيئًا بنفسه، ولكن هذا لم يَحُلْ بينه وبين قدرته على تعريف شؤون الناس تعريفًا قلَّما يصل إليه أرقى الناس تعليمًا".
وقال: "كان النبي من مَهَرة القواد، ولكنه كان إلى هذا سياسيًّا مُحنَّكًا، يعرف كيف يواصِل الحربَ بطريق السِّلم".
وقال: "إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثرٍ في الناس قلنا: "إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الرُّوحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجيَّة حرارة الجو وجَدْب الصحراء".
وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يُدانِه فيه أي مُصلِح آخر في التاريخ كله، وقَلَّ أن تجد إنسانًا غيره حقَّق ما كان يحلُم به، ولم يكن ذلك؛ لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثَمَّة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلَكوه، وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تَسكُنها قبائل من عبدة الأوثان قليلٌ عددُها، متفرِّقة كلمتُها، وكانت عند وفاته أمةً موحَّدة متماسِكة، وقد كبح جماحَ التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهوديَّة والمسيحية ودين بلاده القديم دينًا سهلاً واضحًا قويًّا، وصرْحًا خُلُقيًّا قِوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع في جيل واحد أن ينتصِر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن يُنشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطرٍ عظيم في نصف العالم.
وقال: لسنا نجد في التاريخ كله مُصلِحًا فرض على الأغنياء من الضرائب[8]، ما فرضه عليهم محمد لإعانة الفقراء.
وقال: تدل الأحاديث النبوية على أن النبي كان يَحُث على طلب العلم ويعجَب به، فهو من هذه الناحية يختلف عن معظم المُصلحين الدينيين[9].
8- هنري دي كاستري يقول: "إن أشد ما نتطلَّع إليه بالنظر إلى الديانة الإسلامية ما اختُصَّ منها بشخص النبي؛ ولذلك قصَدت أن يكون بحثي أولاً في تحقيق شخصيته وتقرير حقيقته الأدبيَّة؛ علَّني أجد في هذا البحث دليلاً جديدًا على صدقه وأمانته المُتفَق - تقريبًا - عليها بين جميع مؤرخي الديانات وأكبر المتشيِّعين للدين المسيحي، وقال: ثبت إذًا أن محمدًا لم يقرأ كتابًا مقدَّسًا، ولم يَسترشِد في دينه بمذهب متقدِّم عليه".
وقال: "ولقد نعلم أن محمدًا مرَّ بمتاعب كثيرة، وقاسى آلامًا نفسيَّة كبرى قبل أن يُخبر برسالته، فقد خلَقه الله ذا نفسٍ تمحَّضت للدين؛ ومن أجل ذلك احتاج إلى العُزْلة عن الناس؛ لكي يهرب من عبادة الأوثان ومذهب تَعدُّد الآلهة الذي ابتدَعه المسيحيون، وكان بُغضهما متمكِّنًا من قلبه، وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة في جسمه، وليت شعري فيمَ كان يفكِّر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء؟! ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحِدَّة التخيُّل وقوة الإدراك؟ إلا أن يقول مِرارًا ويُعيد تَكرارًا هذه الكلمات: "الله أحد، الله أحد"، كلمات ردَّدها المسلمون أجمعون من بعده، وغاب عنا معشر المسيحيين مغزاها؛ لبُعدنا عن فكرة التوحيد".
وقال: لو رجعنا إلى ما وضَّحه الحكماء عن النبوة ولم يقبله المتكلِّمون من المسيحيين، لأمكننا الوقوف على حالة مشيِّد دعائم الإسلام، وجزمنا بأنه لم يكن من المُبتدِعين، ومن الصعب أن تقف على حقيقة سماعه لصوت جبريل، إلا أن معرفة هذه الحقيقة لا تُغيِّر موضوع المسألة؛ لأن الصدقَ حاصلٌ في كل حال".
وقال: "لا يمكن أن نُنكِر على محمد في الدور الأول من حياته كمالَ إيمانه وإخلاص صدْقه، فأما الإيمان فلن يتزعزع مثقالَ ذرة من قلبه، وفي الدَّور الثاني - الدَّور المَدَني - وما أُوتيه من نصرٍ كان من شأنه أن يُقوِّيه على الإيمان، لولا أن الاعتقاد كله قد بلغ منه مبلغًا لا مَحَل للزيادة فيه، وما كان يميل إلى الزخارف، ولم يكن شحيحًا، وكان قنوعًا خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير مرة في حياته، تجرَّد من الطمع وتمكَّن من نوال المَقام الأعلى في بلاد العرب، ولكنه لم يَجنَح إلى الاستبداد فيها، فلم يكن له حاشية، ولم يتَّخِذ وزيرًا ولا حشمًا، وقد احتقرَ المال[10].
9- سبريت وآرنولد يقولان: "لعله من المتوقَّع بطبيعة الحال أن تكون حياة مؤسِّس الإسلام ومُنشئ الدعوة الإسلاميَّة، هي الصورة الحقة لنشاط الدعوة إلى هذا الدين، وإذا كانت حياة النبي هي مقياس سلوك عامة المؤمنين، فإنها كذلك بالنسبة إلى سائر دُعاة الإسلام؛ لذلك نرجو من دراسة هذا المَثَل أن نعرف شيئًا عن الرُّوح التي دفعت الذين عمِلوا على الاقتداء به، وعن الوسائل التي ينتظر أن يتَّخذوها، وذلك أن رُوح الدعوة إلى الإسلام لم تجئ في تاريخ الدعوة متأخرة بعد أناة وتفكُّر، وإنما هي قديمة قِدَم العقيدة ذاتها".
وفي هذا الوصف الموجَز سنبيِّن كيف حدث ذلك، وكيف كان النبي محمد يُعَدُّ نموذجًا للداعي إلى الإسلام.
وقال: "وقبيل وفاة محمد نرى جميع أنحاء الجزيرة العربية تقريبًا تَدين له بالطاعة، وإذا ببلاد العرب التي لم تخضع إطلاقًا لأمير من قبل، تظهر في وَحدة سياسيَّة وتَخضع لإدارة حاكم مُطلَق، ومن تلك القبائل المتنوِّعة، صغيرها وكبيرها، ذات العناصر المختلفة التي قد تبلُغ المائة والتي لم تنقطِع عن التنازع والتناحر خَلَقت رسالة محمد أمة واحدة، وقد جمعتْ فكرةُ الدين المشترك تحت زعامةٍ واحدة شتى القبائل في نظامٍ سياسيٍّ واحد، ذلك النظام الذي سَرَتْ مزاياه في سرعة تَبعثُ على الدَّهشة والإعجاب، وإن فكرة واحدة كبرى هي التي حقَّقت هذه النتيجة، تلك هي مبدأ الحياة القومية في جزيرة العرب الوثنيَّة، وهكذا كان النظام القَبَلي لأول مرة، وإن لم يُقض عليه نِهائيًّا؛ إذ كان ذلك مستحيلاً بالنسبة للشعور بالوَحدة الدينية".
وتكلَّلت المهمة الضخمة بالنجاح، فعندما انتقل محمد إلى جوارِ ربه كانت السكينة تُرفرِف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية، بصورة لم تكن القبائل العربيَّة تعرفها من قبل، مع شدة تعلُّقها بالتدمير وأخذ الثأر، وكان الدين الإسلامي هو الذي مهَّد السبيل إلى هذا الائتلاف.
وقال: "من الخطأ أن نفترِض أن محمدًا في المدينة قد طرَح مهمَّة الداعي إلى الإسلام والمُبلِّغ لتعاليمه، أو أنه عندما سيطر على جيش كبير يأتَمِر بأمره، انقطع عن دعوة المشركين إلى اعتناق الدين".
وقال: "إن المعاملة الحسنة التي تعوَّدتها وفود العشائر المختلفة من النبي واهتمامه بالنظر في شِكاياتهم، والحكمة التي كان يُصلِح بها ذاتَ بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قِطعٍ من الأرض مكافأة لكل مَن بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه مألوفًا لديهم، كما جعل صيتَه ذائعًا في كافة أنحاء شبه الجزيرة سيدًا عظيمًا ورجلاً كريمًا، وكثيرًا ما كان يَفِد أحد أفراد القبيلة على النبي بالمدينة، ثم يعود إلى قومه داعيًا إلى الإسلام جادًّا في تحويل إخوانه إليه" [11].
9- يقول أستاذ اللغات الشرقية ورئيس مجمع البحوث والآداب في باريس المستشرق الفرنسي كليمان هوار (1854 - 1927 م) في الجزء الأول من كتابه (تاريخ العرب): "اتفقت الأخبار على أن محمدًا كان في الدرجة العُليا من شرف النفْس، وكان يلقَّب بالأمين؛ أي بالرجل الثقة المُعتَمد عليه إلى أقصى درجة، إذ كان المَثَل الأعلى في الاستقامة".
10- ويتحدَّث الباحث الأرجنتيني دون بايرون (1839 - 1900 م) في مؤلَّفه: (أتِح لنفسكَ فرصةً)، فيقول: "اتَّفق المؤرخون على أن محمد بن عبدالله كان ممتازًا بين قومه بأخلاق حميدة، من صدْق الحديث والأمانة والكرم وحُسْن الشمائل والتواضع، حتى سماه أهل بلده (الأمين)، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يُودِعون عنده ودائعَهم وأمانتَهم، وكان لا يشرب الأشربة المُسكِرة، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً، وكان يعيش مما يُدره عليه عملُه من خير".
11- ويقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه صاحب كتابَي (الحروب الصليبية) و(مدنيَّات من الشرق) في مؤلَّفه الأخير: "كان محمد لما قام بهذه الدعوة شابًّا كريمًا نجدًا، ملآن حماسة لكل قضيَّة شريفة، وكان أرفع جدًّا من الوسط الذي يعيش فيه، وقد كان العرب يوم دعاهم إلى الله منغمسين في الوثنيَّة وعبادة الحجارة، فعزم على نقْلهم من تلك الوثنيَّة إلى التوحيد الخالص البحت، وكانوا يهتِفون بالفوضى وقتال بعضهم بعضًا، فأراد أن تؤسَّس لهم حكومة ديموقراطية موحَّدة، وكانت لهم عادات وحشية همجية صِرفة، فأراد أن يلطِّف أخلاقهم ويُهذِّب من خشونتهم".
12- ويقول المستشرق الإيطالي ميخائيل إيماري في كتابه (تاريخ المسلمين): "وحسْب محمد ثناءً عليه أنه لم يُساوِم، ولم يقبل المساومةَ لحظة واحدة في موضوع رسالته على كَثْرة فنون المساومات واشتداد المِحَن، وهو القائل: ((لو وضعوا الشمس في يمينِي والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه))، عقيدة راسخة، وثبات لا يُقاس بنظير، وهمَّة تركت العرب مدِينين لمحمد بن عبدالله؛ إذ ترَكهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر".
13- وعقد المستشرق ميشون مقارنةً بين تسامُح الإسلام وتعصُّب الصليبيين، في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية) قائلاً: "إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامِح نحو أتباع الأديان الأخرى، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدَمَهم من الضرائب، وحرَّم قتْل الرهبان - على الخصوص - لعكوفهم على العبادات، ولم يَمَس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدسَ، وقد ذبح الصليبيون المسلمين وحرَّقوا اليهود عندما دخلوها".
ويَزيد الباحث نفسه في كتابه (سياحة دينيَّة في الشرق) متحدِّثًا عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، وكيف أن المسيحيين تعلَّموا الكثير من المسلمين في التسامح وحُسْن المعاملة، فيقول: "وإنه لمن المُحزِن أن يتلقَّى المسيحيون عن المسلمين رُوح التعامل وفضائل حُسْن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيِّهم محمد".
14- يقول إدوارد جيبسون أوكلي في كتاب (تاريخ إمبراطورية الشرق - لندن 1870، ص 54): "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي عقيدة الإسلام البسيطة والثابتة، إن التصور الفكري للإله في الإسلام لم يَنحدِر أبدًا إلى وثنٍ مرئي أو منظور، ولم يتجاوز توقير المسلمين للرسول أبدًا حدَّ اعتباره بشرًا، وقيدت أفكاره النابضة بالحياة شعور الصحابة بالامتنان والعرفان تُجاهه، داخل حدود العقل والدين".
15- يقول ديوان شند شرمة في كتابه "أنبياء الشرق": "لقد كان محمد رُوح الرأفة والرحمة، وكان الذين حوله يلمسون تأثيره ولم يَغِب عنهم أبدًا".
16- يقول جون وليان دريبر الحاصل على دكتوراه في الطب والحقوق في كتابه "تاريخ التطور الفكري الأوروبي": "وُلِد في مكة بجزيرة العرب عام (569 م)، بعد أربع سنوات من موت (جوستنيان الأول) [12] الرجل الذي كان له - من دون جميع الرجال - أعظم تأثير على الجنس البشري وهو محمد".
17- يقول ر. ف. س. بودلي في كتاب "الرسول": "إنني أشك أن أي إنسان لا يتغيَّر لكيلا يلائم ويُوافِق التغيرات الكثيرة جدًّا في ظروفه الخارجية، كما لم يتغيَّر محمد".
18- يقول هـ. أ. ر. جب في كتاب "المحمدية": "إنه من المسلَّم به عالميًّا بصفة عامة أن إصلاحاته رفعت من قدْرِ المرأة ومنزلتها ووضعها الاجتماعي والشرعي"[13].
لقد كان محمد غير مُتباهٍ وغير مُتفاخِر إلى أبعد الحدود، وكان مُنكِرًا لذاته إلى أقصى درجة، وما الألقاب التي اتَّخذها لنفسه؟ إنهما لقبان فقط: عبد الله ورسوله، عبده أولاً، ثم رسوله، رسول نبي مِثل كثير من الأنبياء في كل مكان من هذا العالم بعضهم معروف لنا وكثير منهم لا نعرفهم.
وبعد، فلا يسعنا إلا أن نقول بعدما عرضنا بعض أقوال الغرب عن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: يكفي شريعة الإسلام فخرًا وفضلاً أن شهِد الخصوم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما يقال: الحق ما شهِدت به الأعداء.