مشاهدة النسخة كاملة : رحمة للعالمين


حكاية ناي ♔
03-11-2024, 09:10 AM
كان النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أرحمَ الناس على الإطلاق، فكان لا يشق على أحد، ولا ينهر جليسًا، وقد رُوي عن خادمه أنس أنه قال: خدمت رسولَ الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - عشر سنين، فما قال لي قط لشيء عملتُه: لِمَ عملتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟ وقد أكثر النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - من نشر الرحمة في أتباعه، فكان يلح عليهم ويطلبها منهم ويقول: ((ارحموا مَن في الأرض، يرحَمْكم من في السماء))، ((إن اللَه رفيقٌ يحب الرِّفق، أتدرون من يَحرُم على النار يوم القيامة؟ كل هيِّن ليِّن، قريبٍ سهلٍ)).



وقد قال الله - تعالى - في وصفه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، وامتنَّ الله على المؤمنين بقوله - جل ثناؤه -: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وكانت هذه الرحمة تغرس حبَّه في قلوب الناس، وقد كان أثر هذه الرحمة باديًا في أعماله وأقواله، روى القاضي عياض في كتابه: الشِّفا أن رسولَ الله غزا غزوة حنين، فأعطى صفوان بن أمية مائةً من النَّعم، ثم مائة، ثم مائة، فحدَّث سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله قد أعطاني ما أعطاني وإنه لأبغض خَلق الله إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحبُّ خَلق الله إليَّ.



وروي أن أعرابيًّا جاءه يطلب منه شيئًا، فأعطاه إياه، ثم قال: ((أحسنتُ إليك؟))، قال الأعرابي: لا ولا أجملتَ، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - إليهم أنْ كفُّوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه وزاده، ثم قال: ((أحسنتُ إليك؟))، قال: نعم، فجزاك الله به من أهل وعشيرة خيرًا، فقال له النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم -: ((إنك قلتَ ما قلت، وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببتَ فقل بين أيديهم ما قلت بين يديَّ؛ حتى يذهبَ ما في صدورهم عليك))، قال: نعم، فلما كان الغد جاء الأعرابي فقال - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟((إن صاحبَكم هذا كان جاء فسألنا، فأعطيناه، وقال ما قال، وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، أكذلك؟))، قال: نعم، فجزاك اللهُ من أهل وعشيرة خيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحبها: خلُّوا بيني وبين ناقتي؛ فإني أرفق بها منكم، وأعلم بحالها وطبعها، فتوجه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل النار))، فكان حسن ملاطفته - صلى الله عليه وسلم - وزيادة عطيته سببًا لإرضائه، وباعثًا لتوبته، فهو أرفق بأمته، وأعلم بحالهم منهم؛ فإنه بهم رحيم، وبدوائهم حكيم، جاء في شرح الشفا لعلي القاري - رحمه الله -: ومما يناسب المقام، ويلائم المرام، ما رُوي عن خوات بن جبير من الصحابة الكرام، أنه قال: نزلت مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بمر الظهران، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبتني، وأخرجت حلة من عيبتي، وجلست إليهن، فمرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهِبْتُه، فقلت: يا رسول الله، جملٌ لي شرود، وأنا أبتغي له قيدًا، فمضى وتبعتُه، فألقى عليَّ رداءه ودخل الأراك، فتوضأ ثم جاء فقال: يا أبا عبدالله، ((ما فعل شراد جملك؟))، ثم ارتحلنا، فجعل كلما لحقني قال: ((السلام عليك يا أبا عبدالله، ما فعل شراد جملك؟))، فتعجلت المدينة، وتركت مجالسته والمسجد، فطال ذلك علي، فانتظرت خلو المسجد، ثم دخلت، فطفقت أصلي فخرج من بعض حُجره، فصلى ركعتين خففهما، وطوَّلت؛ رجاء أن يذهب عني، فقال: ((طوِّل يا أبا عبدالله ما شئت، فلستُ ببارح حتى تنصرف))، فقلت: والله لأعتذرنَّ إليه، فقال: ((السلام عليك يا أبا عبدالله، ما فعل شراد الجمل؟))، فقلت: والذي بعثك بالحق، ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: ((رحمك الله)) مرتين أو ثلاثًا، ثم لم يعد.



ورُوي عنه من طريق أبي داود أنه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - قال: ((لا يبلِّغني أحدٌ منكم عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرجَ إليكم وأنا سليم الصدر)).



ومن شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته تخفيفُه وتسهيله عليهم، وكراهة أشياء مخافة أن تفرضَ عليهم؛ فقد روى الشيخان قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء))، وكل هذا التخفيف من رحمته بأمته هو مصداق قوله -تعالى-: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].



وقد قال الشيخ قاسم بن قطلوبغا في تخريجه لأحاديث الشفا: عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: احتجر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - حجيرة بخصفة أو حصير في المسجد في رمضان، فخرج يصلي فيها، قال: فسمع رجال وجاؤوا يصلون بصلاته، فأبطأ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، فخرج إليهم مغضبًا، فقال لهم: ((ما زال بكم صنيعكم، حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة)).



وهذا من كمال رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته؛ لئلا يفرض عليهم قيام الليل، وقد أكد ذلك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((خذوا من العمل ما تطيقون، إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم)).



وبما رُوي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص حيث قال: ((وأما أنا، فأرقد وأقوم وأصلي))، ومنعه عن قيام الليل كله.



وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة في شهر رمضان، فصلى بالقوم عشرين ركعة، واجتمع الناس الليلة الثانية، فخرج فصلى بهم، فلما كانت الليلة الثالثة كثُر الناس فلم يخرج، وقال: ((عرفت اجتماعكم، ولكن خشيت أن تُفرَض عليكم)).



وقد نهى النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أتباعه عن صوم الوصال؛ شفقة بهم ورحمة، ومما يدل على أنه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - كان أرحمَ بأمته من أب رحيم على أولاده، وأرعى لمصالحهم من راعٍ شفيق على إبله: ما روي عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة، فإما ذكرت للنبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وإما أرسل إليَّ فأتيته، فقال لي: ((ألم أُخبَرْ أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟))، فقلت: بلى يا نبي الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير، قال: ((فإن بحسبك أن تصومَ من كل شهر ثلاثة أيام))، قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: ((فإن لزوجِك عليك حقًّا، ولزَوْرك - أي: زائرك - عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا، فصُمْ صوم داود نبي الله؛ فإنه كان أعبدَ الناس))، قلت: يا نبي الله، وما صوم داود؟ قال: ((كان يصوم يومًا ويُفطِر يومًا، واقرأ القرآن في كل شهر))، قلت: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: ((فاقرأْه كل عشرين))، قلت: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: ((فاقرأه في كل عَشر))، قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: ((فاقرأه في كل سبعٍ، ولا تَزِدْ على ذلك؛ فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا))، فشدَّدت فشدِّد عليَّ، وقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر))، فصرتُ إلى الذي قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كبِرتُ وددتُ أني كنت قبِلت رخصةَ نبي الله - صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ رواه البخاري ومسلم.



هذه هي الرحمة التي أودعها اللهُ في قلب رسوله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لأمته وللناس، بل وللخلق أجمعين، وألهمه أن يرشدهم إليها، ويأخذ بأيديهم إلى طريقها؛ لئلا يشقوا على أنفسهم، ويتعبوها بحمل أعباء الحياة التي يزيدها ثقلاً ذلك العنتُ والمشقة، مما يلاقي الإنسان في كل يوم وفي كل مكان، وقد أوصاهم جميعًا بأن يتراحموا فيما بينهم، وأن يكونوا رحماء بمن يُولَّون عليهم/ بمن يَلُون أمرهم، وما يملكون من كل ذي روح، فهو الذي يقول: ((أنا وسفعاء الخدين الحانية على ولدها يوم القيامة كهاتين))، وضم إصبعيه.



ففكر - رعاك الله - في هذا الحديث ومداه وأثره في نظام الأسرة، والتراحم بين الأم وولدها، وما يجب أن يسكن قلبَها من الرحمة والرأفة؛ لتربي ولدها على هذه الصفة الكريمة، والولد يورثها ذريته، وينتهي أمر الناس بأن يكونوا رحماء بينهم، متحابين، يحدب بعضهم على بعض، ويمسح كل منهم وعثاء الشقاء عن أهله، إن في هذا لعبرة لقوم يعقلون.



وليس ذلك عجيبًا على النبي الذي يوصي بالرحمة بالحيوان، ويغرس في الناس أنبلَ شعور وأكرمَه؛ ليكونوا رحماء بما وهبهم الله من نَعم وشاء، ويكونوا شاكرين نعمة الله التي جعلهم فيها فاكهين، ألم تر إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - يقول للناس: ((لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسيَّ))، حين يجلس أحدكم عليها من غير حاجة إلا الشعور بالعظمة الكاذبة، يهز قدميه، يثني عطفيه، وكأنه يقول للناس: انظروا ما أنا فيه من نعمة، وما أتمتع به من متاع، فهو يؤذي الناس، ويغرس في قلوبهم الحقد، ويؤذي دابته من غير طائل، وهو الذي يقول: ((في كل كبد رطبة صدقة))، يوصي الناس ألا يحرموا ما يحمل كبدًا رطبة من نعيم الحياة، وأن يعيش كل حيوان في بحبوحة حتى ينتهي إلى مداه، وما أنبل ذلك الشعور الذي يقول: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض))! فلا تعجب أيها العاقل بعد ذلك أن يقول الله لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

مجنون بحبك
03-11-2024, 09:14 AM
اسأل الله العظيم
أن يرزقك الفردوس الأعلى من الجنان.
وأن يثيبك البارئ خير الثواب .
دمت برضى الرحمن

ناطق العبيدي
03-11-2024, 10:10 AM
اسعد الله اوقاتكم بكل خير
دائما تبهرونا بمواضيعك
التي تفوح منها عطر الابداع والتميز
لك الشكر من كل قلبي