حكاية ناي ♔
04-02-2024, 07:51 PM
كانت "خيبر" مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على بُعد ثمانين ميلاً من المدينة في جهة الشمال.
سبب الغزوة:
لما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة، وهو قريش، وأَمِن منه تمامًا بعد صلح الحديبية، أراد أن يحاسب الجَنَاحين الباقيين - اليهود وقبائل نجد - حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه.
ولما كانت "خيبر" هي وكر الدس والتآمر، ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولاً.
أما كون "خيبر" بهذه الصفة، فلا ننسَ أن أهل "خيبر" هم الذين حزَّبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قُرَيظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين - الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي - وبغطفان وأعراب البادية "الجناح الثالث من الأحزاب"، وكانوا هم أنفسهم يتهيؤون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متواصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين؛ مثل: سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطؤوا في القيام بهذا الواجب؛ لأن قوةً أكبرَ وأقوى وألدَّ وأعندَ منهم - وهي قريش - كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب.
الخروج إلى "خيبر":
قال ابن إسحاق: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى "خيبر".
قال المفسرون:
إن "خيبر" كانت وعدًا وعدها الله - تعالى - بقوله: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ﴾ [الفتح: 20]؛ يعني: صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة "خيبر".
عدد الجيش الإسلامي:
ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية، أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم قائلاً: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الفتح: 15].
فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج إلى "خيبر" أعلن ألا يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة، وهم ألف وأربعمائة.
واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق: نُمَيْلَة بن عبدالله الليثي، والأول أصح عند المحققين.
وبعد خروجه - صلى الله عليه وسلم - قدم أبو هريرة المدينة مسلمًا، فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي سباعًا فزوده، حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلَّم المسلمين فأشركوه وأصحابَه في سُهْمَانِهم.
اتصال المنافقين باليهود:
وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبدالله بن أُبَي إلى يهود "خيبر": إن محمدًا قصد قصدكم، وتوجَّه إليكم، فخذوا حِذْركم، ولا تخافوا منه؛ فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزَّل، لا سلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل "خيبر"، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق، وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود "خيبر"، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم نصف ثمار "خيبر" إن هم غلبوا المسلمين.
الجيش الإسلامي إلى أسوار "خيبر":
وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من "خيبر"، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهل "خيبر" بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله، محمد والخَمِيس، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أكبر، خَرِبت "خيبر"، الله أكبر، خربت "خيبر"، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحُ المنذَرين)).
حصون "خيبر":
وكانت "خيبر" منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون:
1- حصن ناعم.
2- حصن الصَّعْب بن معاذ.
3- حصن قلعة الزبير.
4- حصن أُبَي.
5- حصن النِّزَار.
والحصون الثلاثة الأولى منها كانت تقع في منطقة يقال لها (النَّطاة)، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشِّقِّ.
أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط:
1-حصن القَمُوص [وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير].
2-حصن الوَطِيح.
3- حصن السُّلالم.
وفي "خيبر" حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها.
والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني، فحصونها الثلاثة - مع كثرة المحاربين فيها - سلمت دونما قتالٍ.
معسكر الجيش الإسلامي:
وتقدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاه حُبَاب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: ((بل هو الرأي))، فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًّا من حصن نَطَاة، وجميع مقاتلي "خيبر" فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خالٍ عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الرأي ما أشرت))، ثم تحول إلى مكان آخر.
التهيؤ للقتال وبشارة الفتح:
ولما كانت ليلة الدخول - وقيل: بل بعد عدة محاولات ومحاربات - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه))، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟))، فقالوا: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، قال: ((فأرسِلوا إليه))، فأتي به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: ((انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأَنْ يهديَ الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم)).
بَدْء المعركة وفتح حصن ناعم:
أما اليهود، فإنهم لما رأوا الجيش وفرُّوا إلى مدينتهم، تحصَّنوا في حصونهم، وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال، وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم، وكان خطَّ الدفاع الأول لليهود لمكانه الإستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف.
خرج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مَرْحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سَلَمة بن الأكوع: فلما أتينا "خيبر" خرج ملكهم مَرْحب يخطِرُ بسيفه يقول:
قد عَلِمتْ "خيبر" أني مَرْحَب
شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب
فبرز له عمي عامر، فقال:
قد عَلِمت "خيبر" أني عامر
شاكي السلاح بطل مُغَامِر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحب في تُرس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مشى بها مثلَه)).
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البِراز مرة أخرى وجعل يرتجز بقوله:
قد علمت "خيبر" أني مرحب... إلخ، فبرز له علي بن أبي طالب، قال سلمة بن الأكوع: فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَة
كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَة
أُوفيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَة
فضرب رأس مرحبٍ فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
ولما دنا علي - رضي الله عنه - من حصونهم، اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: عَلَوْتم وما أنزل على موسى.
ثم خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول: مَن يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالتْ صفيةُ أمه: يا رسول الله، يقتل ابني، قال: ((بل ابنُك يقتله))، فقتله الزبير.
ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا لاقى المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن ناعم.
فتح حصن الصعب بن معاذ:
وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لفتح هذا الحصن دعوة خاصة.
روى ابن إسحاق أن بَنِي سهم مِن "أَسْلَم" أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: ((اللهم إنك قد عَرَفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عندهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا))، فغدا الناس، ففتح الله - عز وجل - حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبرَ حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه.
ولما ندب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البِراز والقتال أمام الحصن، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات.
ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك نهى عن لحوم الحمر الإنسية.
فتح قلعة الزبير:
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحوَّل اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك، فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قُتِل فيه نفرٌ من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
فتح قلعة أُبي:
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أُبي، وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بَطَلانِ من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبا دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء، وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النِّزار آخر حصن في الشطر الأول.
فتح حصن النِّزَار:
كان هذا الحصن أمنَعَ حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل؛ ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربع السابقة.
وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلاً للاقتحام فيه.
أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة.
وعندما استعصى حصن النِّزار على قوات المسلمين، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة؛ وذلك لأنهم لم يتمكَّنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى، بل فرُّوا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم.
وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتحُ الشطر الأول من "خيبر"، وهي ناحية النَّطَاة والشقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى، إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة "خيبر".
فتح الشطر الثاني من "خيبر":
ولما أتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح ناحية النطاة والشق، تحوَّل إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير، وحصن الوَطِيح والسلالم، وجاءهم كل فلٍّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن.
واختلف أهل المغازي: هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟
فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام.
أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاثَ إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال.
ومهما كان، فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الناحية "الكتيبة"؛ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح.
المفاوضة:
وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل فأكلمك؟ قال: ((نعم))، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتِلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من "خيبر" وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء - أي الذهب والفضة - والكُرَاع والحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئًا))، فصالحوه على ذلك، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح "خيبر".
قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:
وعلى رغم هذه المعاهدة غيَّب ابنا أبي الحقيق مالاً كثيرًا، غيَّبَا مَسْكًا فيه مال وحُلي لحُيَي بن أخطب، كان احتمله معه إلى "خيبر" حين أُجليت النضير.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكِنَانة الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة: ((أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟))، قال: نعم، فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عمَّا بقي، فأبى أن يؤديه، فدفعه إلى الزبير، وقال: عذِّبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة، وكان محمود قُتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحى، وهو يستظل بالجدار فمات.
وذكر ابنُ القيِّم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة.
وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفيَّة بنت حُيَي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول.
قسمة الغنائم:
وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلي اليهود من "خيبر"، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم "خيبر" على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرَّهم، وكان عبدالله بن رواحة يخرصه عليهم.
وقسم أرض "خيبر" على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم؛ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر - وهو ألف وثمانمائة سهم - لنوائبه، وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم؛ لأنها كانت طُعْمةً من الله لأهل الحديبية؛ مَن شهد منهم ومَن غاب، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد.
ويدل على كثرة مغانم "خيبر" ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا "خيبر"، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت "خيبر" قلنا: الآن نشبع من التمر، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ردَّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مالٌ ونخيل.
قتلى الفريقين في معارك "خيبر":
وجملة مَن استُشهد من المسلمين في معارك "خيبر" ستة عشر رجلاً، أربعة من قريش، وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل "خيبر"، والباقون من الأنصار.
ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً.
وذكر العلامة المنصورفوري 91 رجلاً، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 32 اسمًا، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو "خيبر"، والصحيح أنه قتل في بدر.
أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً.
(المصدر: الرحيق المختوم)
سبب الغزوة:
لما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة، وهو قريش، وأَمِن منه تمامًا بعد صلح الحديبية، أراد أن يحاسب الجَنَاحين الباقيين - اليهود وقبائل نجد - حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه.
ولما كانت "خيبر" هي وكر الدس والتآمر، ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولاً.
أما كون "خيبر" بهذه الصفة، فلا ننسَ أن أهل "خيبر" هم الذين حزَّبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قُرَيظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين - الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي - وبغطفان وأعراب البادية "الجناح الثالث من الأحزاب"، وكانوا هم أنفسهم يتهيؤون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متواصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين؛ مثل: سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطؤوا في القيام بهذا الواجب؛ لأن قوةً أكبرَ وأقوى وألدَّ وأعندَ منهم - وهي قريش - كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب.
الخروج إلى "خيبر":
قال ابن إسحاق: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى "خيبر".
قال المفسرون:
إن "خيبر" كانت وعدًا وعدها الله - تعالى - بقوله: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ﴾ [الفتح: 20]؛ يعني: صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة "خيبر".
عدد الجيش الإسلامي:
ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية، أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم قائلاً: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الفتح: 15].
فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج إلى "خيبر" أعلن ألا يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة، وهم ألف وأربعمائة.
واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق: نُمَيْلَة بن عبدالله الليثي، والأول أصح عند المحققين.
وبعد خروجه - صلى الله عليه وسلم - قدم أبو هريرة المدينة مسلمًا، فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي سباعًا فزوده، حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلَّم المسلمين فأشركوه وأصحابَه في سُهْمَانِهم.
اتصال المنافقين باليهود:
وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبدالله بن أُبَي إلى يهود "خيبر": إن محمدًا قصد قصدكم، وتوجَّه إليكم، فخذوا حِذْركم، ولا تخافوا منه؛ فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزَّل، لا سلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل "خيبر"، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق، وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود "خيبر"، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم نصف ثمار "خيبر" إن هم غلبوا المسلمين.
الجيش الإسلامي إلى أسوار "خيبر":
وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من "خيبر"، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهل "خيبر" بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله، محمد والخَمِيس، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أكبر، خَرِبت "خيبر"، الله أكبر، خربت "خيبر"، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحُ المنذَرين)).
حصون "خيبر":
وكانت "خيبر" منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون:
1- حصن ناعم.
2- حصن الصَّعْب بن معاذ.
3- حصن قلعة الزبير.
4- حصن أُبَي.
5- حصن النِّزَار.
والحصون الثلاثة الأولى منها كانت تقع في منطقة يقال لها (النَّطاة)، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشِّقِّ.
أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط:
1-حصن القَمُوص [وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير].
2-حصن الوَطِيح.
3- حصن السُّلالم.
وفي "خيبر" حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها.
والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني، فحصونها الثلاثة - مع كثرة المحاربين فيها - سلمت دونما قتالٍ.
معسكر الجيش الإسلامي:
وتقدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاه حُبَاب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: ((بل هو الرأي))، فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًّا من حصن نَطَاة، وجميع مقاتلي "خيبر" فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خالٍ عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الرأي ما أشرت))، ثم تحول إلى مكان آخر.
التهيؤ للقتال وبشارة الفتح:
ولما كانت ليلة الدخول - وقيل: بل بعد عدة محاولات ومحاربات - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه))، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟))، فقالوا: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، قال: ((فأرسِلوا إليه))، فأتي به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: ((انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأَنْ يهديَ الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم)).
بَدْء المعركة وفتح حصن ناعم:
أما اليهود، فإنهم لما رأوا الجيش وفرُّوا إلى مدينتهم، تحصَّنوا في حصونهم، وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال، وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم، وكان خطَّ الدفاع الأول لليهود لمكانه الإستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف.
خرج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مَرْحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سَلَمة بن الأكوع: فلما أتينا "خيبر" خرج ملكهم مَرْحب يخطِرُ بسيفه يقول:
قد عَلِمتْ "خيبر" أني مَرْحَب
شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب
فبرز له عمي عامر، فقال:
قد عَلِمت "خيبر" أني عامر
شاكي السلاح بطل مُغَامِر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحب في تُرس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مشى بها مثلَه)).
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البِراز مرة أخرى وجعل يرتجز بقوله:
قد علمت "خيبر" أني مرحب... إلخ، فبرز له علي بن أبي طالب، قال سلمة بن الأكوع: فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَة
كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَة
أُوفيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَة
فضرب رأس مرحبٍ فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
ولما دنا علي - رضي الله عنه - من حصونهم، اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: عَلَوْتم وما أنزل على موسى.
ثم خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول: مَن يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالتْ صفيةُ أمه: يا رسول الله، يقتل ابني، قال: ((بل ابنُك يقتله))، فقتله الزبير.
ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا لاقى المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن ناعم.
فتح حصن الصعب بن معاذ:
وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لفتح هذا الحصن دعوة خاصة.
روى ابن إسحاق أن بَنِي سهم مِن "أَسْلَم" أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: ((اللهم إنك قد عَرَفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عندهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا))، فغدا الناس، ففتح الله - عز وجل - حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبرَ حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه.
ولما ندب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البِراز والقتال أمام الحصن، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات.
ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك نهى عن لحوم الحمر الإنسية.
فتح قلعة الزبير:
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحوَّل اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك، فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قُتِل فيه نفرٌ من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
فتح قلعة أُبي:
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أُبي، وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بَطَلانِ من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبا دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء، وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النِّزار آخر حصن في الشطر الأول.
فتح حصن النِّزَار:
كان هذا الحصن أمنَعَ حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل؛ ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربع السابقة.
وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلاً للاقتحام فيه.
أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة.
وعندما استعصى حصن النِّزار على قوات المسلمين، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة؛ وذلك لأنهم لم يتمكَّنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى، بل فرُّوا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم.
وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتحُ الشطر الأول من "خيبر"، وهي ناحية النَّطَاة والشقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى، إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة "خيبر".
فتح الشطر الثاني من "خيبر":
ولما أتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح ناحية النطاة والشق، تحوَّل إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير، وحصن الوَطِيح والسلالم، وجاءهم كل فلٍّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن.
واختلف أهل المغازي: هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟
فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام.
أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاثَ إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال.
ومهما كان، فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الناحية "الكتيبة"؛ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح.
المفاوضة:
وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل فأكلمك؟ قال: ((نعم))، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتِلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من "خيبر" وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء - أي الذهب والفضة - والكُرَاع والحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئًا))، فصالحوه على ذلك، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح "خيبر".
قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:
وعلى رغم هذه المعاهدة غيَّب ابنا أبي الحقيق مالاً كثيرًا، غيَّبَا مَسْكًا فيه مال وحُلي لحُيَي بن أخطب، كان احتمله معه إلى "خيبر" حين أُجليت النضير.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكِنَانة الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة: ((أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟))، قال: نعم، فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عمَّا بقي، فأبى أن يؤديه، فدفعه إلى الزبير، وقال: عذِّبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة، وكان محمود قُتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحى، وهو يستظل بالجدار فمات.
وذكر ابنُ القيِّم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة.
وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفيَّة بنت حُيَي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول.
قسمة الغنائم:
وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلي اليهود من "خيبر"، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم "خيبر" على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرَّهم، وكان عبدالله بن رواحة يخرصه عليهم.
وقسم أرض "خيبر" على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم؛ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر - وهو ألف وثمانمائة سهم - لنوائبه، وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم؛ لأنها كانت طُعْمةً من الله لأهل الحديبية؛ مَن شهد منهم ومَن غاب، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد.
ويدل على كثرة مغانم "خيبر" ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا "خيبر"، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت "خيبر" قلنا: الآن نشبع من التمر، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ردَّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مالٌ ونخيل.
قتلى الفريقين في معارك "خيبر":
وجملة مَن استُشهد من المسلمين في معارك "خيبر" ستة عشر رجلاً، أربعة من قريش، وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل "خيبر"، والباقون من الأنصار.
ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً.
وذكر العلامة المنصورفوري 91 رجلاً، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 32 اسمًا، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو "خيبر"، والصحيح أنه قتل في بدر.
أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً.
(المصدر: الرحيق المختوم)