حكاية ناي ♔
04-04-2024, 07:54 PM
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ المرسلين وخاتمُ النبيين وقائدُ الغُرِّ المحجلين، صلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].
معاشر المؤمنين، نُكِب المسلمون في غزوة أُحُد بعد أن حقَّقوا نصرًا مبينًا في الجولة الأولى، ولكن بعد أن خالف الرماةُ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعدم ترك مواقعهم على جبل الرماة وعاتبهم ربُّنا جلَّ وعلا ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
استشهد من الصحابة الكِرام سبعون، ومثَّل الكفار ببعضهم، وحَزنَ النَّبيُ صلى الله عليه وسلم حزنًا عظيمًا، بكى وهو يرى ما حلَّ بأصحابه، وأمر أن يدفن الشهداء في موقع المعركة، النساء يبكين أزواجهن وآباءهن وأبناءهن، والرجال يبكون أبناءهم وآباءهم وأقاربهم، ولكن أتدرون ما حدث بعد ذلك عباد الله، أمام هذا المشهد المؤلم؟ موقفٌ مؤثر يشهد بعظمة هذا النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وعظيم إيمانه ويقينه بربِّه وتوقيره له جلَّ وعلا، صَلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بأصحابه الظهر قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصَلَّى المسلمون خلفه قعودًا، ثم توجَّه النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء، فقال لأصحابه: ((استووا حتى أثني على ربي عز وجل))، فصفوا خلفه صفوفًا فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مُقرِّب لما بعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من فضلك ورحمتك وبركتك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رُسُلَك ويصدُّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق"؛ (رواه أحمد).
هكذا يتعامل المؤمنون مع الجراح والآلام والمصائب، اللجوء إلى الله تعالى بالحمد والثناء والتوقير والدعاء، أليس هذا عباد الله ما نسمعه اليوم من ذلك الشعب الصابر المحتسب في غزة مع بطش الصهاينة وسفك الدماء والتدمير؟ يردِّد الرجال والنساء والصغار والكبار عبارات الصبر والحمد والثناء والاحتساب، في صورٍ أبهرت العالم بأسره، عباراتٍ جدَّدت ما كان يردِّدُه الصحابة رضوان الله عليهم، في ثبات وصبرٍ تنوء عن حمل مصائبه الجبال الرواسي، ولكنه تثبيتٌ وسكينةٌ من الله جلَّ وعلا.
لم يردد الصحابةُ الكرام، ولا هؤلاء الصابرون، ما يردده المرجفون المخذِّلون اليوم من عبارات اللوم والتخذيل والإرجاف والتشكيك، وحاشاهم، كما لم يردد شعبُ غزة تلك العبارات تجاه المجاهدين وقادتهم، محتسبين في ذلك قول الحقِّ جلَّ وعلا ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
معاشر المؤمنين، وفي صبيحة اليوم التالي ولا زالت جراح المسلمين تنزف وإذا بنداء النبي صلى الله عليه وسلم يستنفرُ للخروجِ في أعقاب جيش الكفار، بجيشٍ مثقلٍ بالجراح، في رسالةٍ واضحةٍ جليةٍ للأعداء بأن المسلمين لا زالوا أعزةً قادرين على المواجهة، وأن جراحَهم وآلامهم لا يمكن أن تعوقهم عن مواصلة الجهاد والقتال، ولم يكن الأمر عامًّا للجميع بل كان مقصورًا على أولئك الذين شهدوا معركة أُحُد بالأمس.. وما كاد بلالٌ- رضي الله عنه- يؤذن في الناس بالخروج للجهاد مرة أخرى، حتى هبَّ الصحابةُ الكرام على الرغم من الجروح والآلام، وانطلقوا جميعًا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلبًا للنصر أو الشهادة في سبيل الله.
هذه هي أمَّة الإسلام تتجاوز جراحاتها وآلامها، وتتمسَّك بالخيار الوحيد لعِزَّتها وكرامتها، الجهاد في سبيل الله، أما التخاذُل والاستسلام والمهادنة والتطبيع فليس من هذا الدين بشيء، وليست للكرامة والعِزَّة سبيلًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 104].
عن عائشة- رضي الله عنها-: في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172]، قالت لعروة: "يا بن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أُحُد، فانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"؛ رواه البخاري.
نسأل الله تعالى نصرًا مؤزرًا مبينًا للمجاهدين في غزة، وهلاكًا ومحقًا وهزيمةً للصهاينة وأعوانهم، ونسأله بكرمه ورحمته ولطفه فرجًا قريبًا لشعب غزة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
معاشر المؤمنين، حاول أبو سفيان أن يغطي انسحابه هذا بشنِّ حرب نفسية دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كَفِّ هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، كما يفعل الصهاينة اليوم مع شعب غزة، مرَّ به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالةً، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم، قال: فأبلغوا محمدًا أنا قد أجمعنا الكرة (الرجعة)، لنستأصله ونستأصل أصحابه، فمَرَّ هذا الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون: "حسبنا الله ونِعْم الوكيل".
وأشار القرآن الكريم لهذا الموقف الإيماني في قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 172- 175].
وأوقع الله الرعب في قلوب المشركين فسارعوا بالانسحاب والرجوع إلى مكة وقد خُرم انتصارهم ذاك بخرمٍ كبير.
وعاد المسلمون أعِزَّةً منتصرين فرحين بما آتاهم الله من فضله، ليضعوا للأمة منهجًا وسبيلًا للعِزَّة والكرامة، والنصر والتمكين ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ المرسلين وخاتمُ النبيين وقائدُ الغُرِّ المحجلين، صلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].
معاشر المؤمنين، نُكِب المسلمون في غزوة أُحُد بعد أن حقَّقوا نصرًا مبينًا في الجولة الأولى، ولكن بعد أن خالف الرماةُ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعدم ترك مواقعهم على جبل الرماة وعاتبهم ربُّنا جلَّ وعلا ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
استشهد من الصحابة الكِرام سبعون، ومثَّل الكفار ببعضهم، وحَزنَ النَّبيُ صلى الله عليه وسلم حزنًا عظيمًا، بكى وهو يرى ما حلَّ بأصحابه، وأمر أن يدفن الشهداء في موقع المعركة، النساء يبكين أزواجهن وآباءهن وأبناءهن، والرجال يبكون أبناءهم وآباءهم وأقاربهم، ولكن أتدرون ما حدث بعد ذلك عباد الله، أمام هذا المشهد المؤلم؟ موقفٌ مؤثر يشهد بعظمة هذا النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وعظيم إيمانه ويقينه بربِّه وتوقيره له جلَّ وعلا، صَلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بأصحابه الظهر قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصَلَّى المسلمون خلفه قعودًا، ثم توجَّه النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء، فقال لأصحابه: ((استووا حتى أثني على ربي عز وجل))، فصفوا خلفه صفوفًا فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مُقرِّب لما بعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من فضلك ورحمتك وبركتك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رُسُلَك ويصدُّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق"؛ (رواه أحمد).
هكذا يتعامل المؤمنون مع الجراح والآلام والمصائب، اللجوء إلى الله تعالى بالحمد والثناء والتوقير والدعاء، أليس هذا عباد الله ما نسمعه اليوم من ذلك الشعب الصابر المحتسب في غزة مع بطش الصهاينة وسفك الدماء والتدمير؟ يردِّد الرجال والنساء والصغار والكبار عبارات الصبر والحمد والثناء والاحتساب، في صورٍ أبهرت العالم بأسره، عباراتٍ جدَّدت ما كان يردِّدُه الصحابة رضوان الله عليهم، في ثبات وصبرٍ تنوء عن حمل مصائبه الجبال الرواسي، ولكنه تثبيتٌ وسكينةٌ من الله جلَّ وعلا.
لم يردد الصحابةُ الكرام، ولا هؤلاء الصابرون، ما يردده المرجفون المخذِّلون اليوم من عبارات اللوم والتخذيل والإرجاف والتشكيك، وحاشاهم، كما لم يردد شعبُ غزة تلك العبارات تجاه المجاهدين وقادتهم، محتسبين في ذلك قول الحقِّ جلَّ وعلا ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
معاشر المؤمنين، وفي صبيحة اليوم التالي ولا زالت جراح المسلمين تنزف وإذا بنداء النبي صلى الله عليه وسلم يستنفرُ للخروجِ في أعقاب جيش الكفار، بجيشٍ مثقلٍ بالجراح، في رسالةٍ واضحةٍ جليةٍ للأعداء بأن المسلمين لا زالوا أعزةً قادرين على المواجهة، وأن جراحَهم وآلامهم لا يمكن أن تعوقهم عن مواصلة الجهاد والقتال، ولم يكن الأمر عامًّا للجميع بل كان مقصورًا على أولئك الذين شهدوا معركة أُحُد بالأمس.. وما كاد بلالٌ- رضي الله عنه- يؤذن في الناس بالخروج للجهاد مرة أخرى، حتى هبَّ الصحابةُ الكرام على الرغم من الجروح والآلام، وانطلقوا جميعًا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلبًا للنصر أو الشهادة في سبيل الله.
هذه هي أمَّة الإسلام تتجاوز جراحاتها وآلامها، وتتمسَّك بالخيار الوحيد لعِزَّتها وكرامتها، الجهاد في سبيل الله، أما التخاذُل والاستسلام والمهادنة والتطبيع فليس من هذا الدين بشيء، وليست للكرامة والعِزَّة سبيلًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 104].
عن عائشة- رضي الله عنها-: في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172]، قالت لعروة: "يا بن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أُحُد، فانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"؛ رواه البخاري.
نسأل الله تعالى نصرًا مؤزرًا مبينًا للمجاهدين في غزة، وهلاكًا ومحقًا وهزيمةً للصهاينة وأعوانهم، ونسأله بكرمه ورحمته ولطفه فرجًا قريبًا لشعب غزة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
معاشر المؤمنين، حاول أبو سفيان أن يغطي انسحابه هذا بشنِّ حرب نفسية دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كَفِّ هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، كما يفعل الصهاينة اليوم مع شعب غزة، مرَّ به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالةً، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم، قال: فأبلغوا محمدًا أنا قد أجمعنا الكرة (الرجعة)، لنستأصله ونستأصل أصحابه، فمَرَّ هذا الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون: "حسبنا الله ونِعْم الوكيل".
وأشار القرآن الكريم لهذا الموقف الإيماني في قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 172- 175].
وأوقع الله الرعب في قلوب المشركين فسارعوا بالانسحاب والرجوع إلى مكة وقد خُرم انتصارهم ذاك بخرمٍ كبير.
وعاد المسلمون أعِزَّةً منتصرين فرحين بما آتاهم الله من فضله، ليضعوا للأمة منهجًا وسبيلًا للعِزَّة والكرامة، والنصر والتمكين ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].