حكاية ناي ♔
04-17-2024, 07:19 PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
أيها المسلمون، يحرص العارفون بالسِّيَر البشرية للعظماء على تدوينها، ويُعنى عدد من الناس بقراءتها أو سماعها؛ لما تحتوي عليه من جوانب العظمة التي تدعو إلى الإعجاب والثناء، والمحاكاة والاقتداء.
غير أن المتأمل في تلك السِّيَر يلحظ في بعض فصولها شيئًا من الكذب والمغالاة، والمبالغة والزيادة على الحقيقة.
وكذلك يرى أن تلك السِّيَر تبقى محصورة في جوانب معينة من الحياة، وتترك جوانب كثيرة منها، فتكون ناقصة ومجتزأة.
إلا أن هناك سيرةً سمت على كل السِّيَر، واختصت بالفضل على جميع سير عظماء البشر، شهد لها بهذا السموِ المتابعُ الموافق، والمخالف المفارق، مرت القرون تلو القرون، والعظماء وراء العظماء، ولم تزل في سماء العظمة تلك السيرة العطرة غير نازلة عن سمائها، بل تزداد بمرور الأيام علواً ومحبة لصاحبها، حتى صارت مصدراً من مصادر الهداية المستمرة عبر الزمان.
تلك السيرة هي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال ابن حزم الأندلسي: " سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى"[2].
هذه السيرة السامية سيرة صادقة، قد وصلت إلى الناس نقية من الكذب والخرافة، سليمة من الدجل والمثالية الزائفة، مرت عليها يد التنقيب والتمحيص والنقد والدقة العلمية في دراستها ومعرفة صحيحها من عليلها فازدادت وهجًا وألقا.
وهذه السيرة النبوية النضرة سيرة كاملة غير ناقصة، جامعة لجميع أطوار الحياة النبوية في مراحلها الثلاث: من المولد إلى المبعث، ومن المبعث إلى الهجرة، ومن الهجرة إلى الوفاة، في البيت والمسجد، وفي السوق والطريق، وفي السفر والحضر، وفي السلم والحرب، وفي الليل والنهار، وفي جميع أحوال النفس البشرية: من فرح وحزن، ورضا وغضب، مع الأهل والأصحاب، والأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء، في شؤون الدين وفي شؤون الدنيا.
يقول المستشرق مونتييه -في وصف وضوح حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولقد ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق، وتطهير المجتمع يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية"[3].
وقال مستشرق آخر:" لا نعرف إلا شذرات عن حياة المسيح، أما في سيرة محمد فنعرف الشيء الكثير، ونجد التاريخ بدَلَ الظلالِ والغموض"[4].
إذا تأملتم -معشر المسلمين- في سيرة خير البشر فستجدونها تحكي صورة رجل كامل في إنسانيته في جميع الجوانب التي بلغ فيها كمال الرقي البشري النقي في بيته وخارج بيته، حتى أثنى عليه بسيرته المشرقة أقرب الناس إليه وأبعدهم منه، ومسلمهم له وكافرهم به.
هذا الكمال الإنساني الطاهر لم يخرج بنبي الله عن بشريته.
يقول بعض أهل العلم " سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة، فلم تخرجه عن إنسانيته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تضف عليه من الألوهية قليلاً ولا كثيرًا، وإذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيون عن سيرة عيسى عليه السلام، وما يرويه البوذيون عن بوذا، والوثنيون عن آلهتهم المعبودة؛ اتضح لنا الفرق جليًا بين سيرته عليه السلام وسيرة هؤلاء؛ ولذلك أثر بعيد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي لاتباعهم، فادعاء الألوهية لعيسى عليه السلام ولبوذا جعلهما أبعد منالاً من أن يكونا قدوة نموذجية للإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، بينما ظل وسيظل محمد صلى الله عليه وسلم المثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيدًا كريماً في نفسه وأسرته وبيئته"[5].
أيها المؤمنون، إن دراسة سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام دراسة واعية، ومعرفة حياته في جوانبها المختلفة معرفةً صحيحة؛ يوصل إلى خير كثير في العاجل والآجل، فمن ذلك:
أنها تعين على فهم القرآن الكريم، وفهم حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فأسباب نزول بعض الآيات، أو تفسيرها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها لا تتأتى إلا بمعرفة السيرة، وبيان بعض الأحاديث النبوية لا يكون إلا بدراية السيرة؛ إذ هناك أحاديث لها أسباب ورود، وقصص تبينها.
فقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران:128] وضحته السيرة النبوية، فعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: (اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ)، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128])[6].
وفي رواية: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟)، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128])[7].
والحديث المشهور على الألسنة الذي صار مثلاً وهو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)[8] وضّحت مناسبته ومعناه السيرة النبوية: فسَببه أَنه لما أسر أَبُو عزَّة الجُمَحِي القرشي الشَّاعِر ببدر فَشَكا عائلة وفقرًا، فَمنّ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأطْلقهُ بِغَيْر فدَاء. ثمَّ ظفر بِهِ بِأحد فَقَالَ: منّ عَليّ، وَذكر فقرًا وعائلة، فَقَالَ: (لَا تمسح عَارِضَيْك بِمَكَّة تَقول: سخرت بِمُحَمد مرَّتَيْنِ! وَأمر بِهِ فَقُتل.
قَالَ ابْن هِشَام فِي تَهْذِيب السِّيرَة عَن سعيد بن الْمسيب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حِينَئِذٍ:(لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)[9].
ومن فوائد دراسة السيرة النبوية ومعرفتها: اكتساب العلوم والمعارف النافعة في الدين والدنيا، قال بعض العلماء: "فغير جميل بمن تصدر للتدريس والإفتاء، وجلس للحكم بين الناس وفصل القضاء؛ أن يجهل من أحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونسبه وجميل سيرته ورفيع منصبه، وما كان له من الأمور الذاتية والعرضية ما لا غنى لمن صدقه وآمن به عن معرفته، ولا بد لكل من اتسم بالعلم من درايته"[10].
وعن الإمام الزُّهْرِيِّ قال: "فِي عِلْمِ الْمَغَازِي عِلْمُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا"[11].
معشر المسلمين، من كان منكم مربيًا ومعلمًا فإنه يحتاج احتياجًا كبيراً إلى معرفة السيرة النبوية، ودراستها؛ ليعرف الطرق والوسائل الناجحة في التربية والتعليم والدعوة.
فالسيرة النبوية هي المعين الدفاق النقي الذي يزخر بتلك الطرق والوسائل، وعلى العلماء والدعاة والمربين والمعلمين أن يجعلوا السيرة النبوية هي المصدر الثالث بعد القرآن والحديث في تعليم الناس وتربيتهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم.
وانظروا هذا المثال: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)[12].
وأنت-أيها المسلم- عندما تعرف السيرة النبوية فإنها ستفيدك منها دروسًا وعبراً وفوائد لكل مراحل حياة الإنسان: طفلاً وشابًا ورجلاً وشيخاً.
وفي كل علاقاته الاجتماعية: أبًا، وابنًا، وأخًا، وقريبًا، وزوجًا، وجاراً، وصديقًا.
وفي كل وظائفه الحياتية: قائداً وحاكمًا ومجاهداً وقاضيًا، ومعلمًا ومربيًا.
فالسيرة النبوية كشفت بجلاء المعارف المتصلة بهذه الأمور من حياة خير البشر عليه الصلاة والسلام، فلا توجد سيرة مخلوق سجلت كل دقائق حياته الخاصة والعامة، وبلغت النهاية في الشرف والنقاء، وكمال الاقتداء، وروتها الأجيال جيلاً بعد جيل؛ إلا سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الكرام، إن السيرة النبوية تمثل المثل الأعلى، والنموذج الأسمى، والصورة الإنسانية الحسنى في العمل بالإسلام في جميع شؤون الحياة.
يقول بعض المستشرقين: "والذي يريد أن يتعرف على الإسلام أدعوه ليتعرف على سيرة المصطفى الذي تم اختياره وتدريبه وتأديبه من السماء؛ ليكون أهلاً للرسالة التي تم صنعه من الله لها منذ الأزل"[13].
وقال آخر: "لقد أخذت سيرة الرسول العربي صلّى الله عليه وسلم بألباب أتباعه، وسمت شخصيته لديهم إلى أعلى علّيين، فآمنوا برسالته إيمانًا جعلهم يتقبلون ما أوحي به إليه، وأفعاله- كما سجّلتها السنة- مصدر للقانون، لا يقتصر على تنظيم حياة الجماعة الإسلامية وحدها، بل يرتب كذلك علاقات المسلمين الفاتحين برعاياهم غير المسلمين الذين كانوا في بداية الأمر يفوقونهم عددا"[14].
نقول -يا عباد الله-: كيف يمكن العمل بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21] إلا بمعرفة السيرة النبوية؛ إذ هي:" تجسيد حي لتعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الواقع،.. فالمبدأ النظري يُرى ماثلًا قائمًا في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية، حيث كان رسول صلى الله عليه وسلم يُجسِّد تعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نومًا ويقظة، سِلْمًا وحربًا، جِدًا ومداعبة، غَضَبًا ورضا، فردًا وجماعة"[15].
فالناظر بعين الاقتداء إلى تلك السيرة الكاملة يصلح باطنه وظاهره من خلال ذلك المعين العذب الرقراق.
أيها الأحباب الكرام، إن معرفة حياة النبي عليه الصلاة والسلام بقلوب مهتدية تعين على زيادة الإيمان، والتفاؤل في أوقات البلاء والشدائد، والثبات في مواقف التزعزع، والتفكير في الخروج من المحن، وتعين على كمال الاتباع والبعد عن الابتداع، وكذلك توصل إلى سعادة الدارين.
قال ابن القيم رحمه الله: " وَإِذَا كَانَتْ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ مُعَلَّقَةً بِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَحَبَّ نَجَاتَهَا وَسَعَادَتَهَا أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْجَاهِلِينَ بِهِ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَحِزْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"[16].
ومن فوائد معرفة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أنها تزيد من محبة النبي عليه الصلاة وتعظيمه.
وذلك حين ترى الكمال والبهاء، والسمو والنقاء في تلك الحياة النبوية، رغم تقلب الأحوال، وتبدل الأطوار، إلا أن تمامها وأخذها بمجامع الحسن ظل هو المميز لها على كل سيرة من سير عظماء الدنيا، والنفوس مفطورة على حب العظمة والجمال والكمال.
ومن فوائد معرفة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أنها تكشف عن المكانة السامية التي كان عليها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين ربّاهم رسول الله بيده ورعاهم بعينه، وكيف كان تعظيمهم له، ومسارعتهم في طاعته، وتضحياتهم من أجله، ولرفع راية الإسلام حتى وصل إلينا نقياً كاملا، قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:100].
نسأل الله أن يرزقنا تمام حب رسول الله وكمال اتباعه، وحسن الاقتداء به في جميع الأقوال والأفعال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون، لقد كان لعلماء الإسلام جهود كبيرة في جمع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتدوينها وشرحها وبيانها، وحسن تقسيم موضوعاتها، وكثرة الأعمال العلمية في استخراج دروسها وعبرها وفوائدها؛ حتى تصل إليك-أيها المسلم-تامة نقية، واضحة جلية، مفيدة نافعة، في شؤون الدنيا والدين.
حتى إن علم السيرة النبوية كان من أوائل ما دون من علوم الإسلام، ابتداء من التابعي الجليل: عروة بن الزبير رحمه الله (المتوفى سنة:93هـ)، ومن تلاه بعد ذلك.
لهذا نجد -يا عباد الله- كثرة المؤلفات في سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وتعدد طرق المؤلفين في عرضها والعناية بها:
فنجد من ذلك:
كتب السِّيَر والمغازي، التي اعتنت ببيان حياة النبي عليه الصلاة والسلام مرتّبةَ الأحداث من مولده إلى وفاته، مع ذكر مغازيه وأحواله مع أهله وأصحابه وأعدائه من الكفار.
ومن الكتب في هذا الجانب: السيرة النبوية لابن إسحاق وتهذيبها لابن هشام، والمختصرات لهذا الكتاب بعد ذلك.
ونجد كذلك: كتب آيات النبوة ودلائلها، وهي الكتب التي عنيت بجمع البراهين والدلائل على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولعل أوفى كتاب في هذا القسم وأحسنه: كتاب أبي بكر البيهقي رحمه الله: "دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة". عليه الصلاة والسلام.
ونجد في ذلك أيضًا: كتب أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي الكتب التي تعنى بالجانب الشخصي لنبينا عليه الصلاة والسلام؛ حيث تذكر الصفات الخَلقية، والخُلقية والأمور المتصلة بالحياة الخاصة للنبي عليه الصلاة والسلام.
ومن الكتب في ذلك: الشمائل المحمدية للترمذي، ومختصره للألباني. والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض اليحصبي، رحمهم الله أجمعين.
ونجد من ذلك كذلك: كتب فقه السيرة وتحليلها، وهي الكتب التي اعتنت بسرد أحاديث السيرة النبوية والتأمل الدقيق فيها، واستخراج الدروس والعبر والفوائد منها.
ومما في ذلك: كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية.
ونجد من ذلك أيضًا: كتب تراجم الصحابة، التي تضمنت الحديث عن مواقف الصحابة، ومشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهادهم ومشاركاتهم المختلفة في عصر النبوة وبعدها.
ومن أشهر كتب تراجم الصحابة: كتاب الإِصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، رحمه الله.
ونجد من ذلك كذلك: كتب الخصائص، وهي الكتب التي اعتنت ببيان خصائص النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن الكتب في ذلك: الخصائص الكبرى، للسيوطي.
ونجد من ذلك أيضًا: كتب التاريخ العام، التي تتحدث عن تاريخ الناس أفراداً وجماعات، فقد خصصت جزءاً كبيراً منها للحديث عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن الكتب في ذلك: تاريخ الرسل والملوك للطبري، والبداية والنهاية لابن كثير، عليهما رحمة الله.
إن هذا التصنيف المتنوع -أيها الفضلاء- لسيرة نبينا عليه الصلاة والسلام يدل على مدى عناية الأمة برسولها الكريم، فأي سيرة لأحد من البشر نالت مثل هذه العناية والدراسة الشاملة؟!
وصدق الله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح:4].
أيها المؤمنون، ولا ننسى أن أعظم مصدر تستمد منه سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم، ثم الأحاديث الصحيحة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
فالقرآن يقصّ علينا بعض مناحي السيرة النبوية، وطرفًا من حياته صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة، فيذكر لنا يتمه، وفقره، وتحنثه، كما يذكر لنا شؤونه بعد النبوة؛ من هبوط الوحي الإلهي عليه، وتبليغه إيّاه، والإسراء والعروج به، وعداوة الأعداء، وهجرته، وغزواته، وفي القرآن الكريم ذكر أخلاقه صلّى الله عليه وسلم[17].
وكذلك نجد أن كتب السنة قد تضمنت كثيراً من الأحاديث التي تخص سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
فيا أيها المسلمون، إننا اليوم بحاجة كبيرة للعودة إلى النبع الصافي، والقدوة الحسنة للعمل بالإسلام، ولا طريق لنا إلى ذلك إلا قراءة سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام وتمثلها في الواقع تمثلاً صادقًا؛ فإن سلفنا الصالحين لما علموا فضل السيرة النبوية اعتنوا بها اعتناء كبيراً، وحثوا على تعلمها؛ فعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ بن أبي وقاص، قَالَ: " كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعُدُّهَا عَلَيْنَا، وَسَرَايَاهُ وَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ، هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا "[18].
وقال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: "كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ"[19].
نسأل الله أن يجعلنا برسوله من المقتدين، وبهديه من العاملين.
هذا وصلوا وسلموا على خير البشر...
أما بعد:
أيها المسلمون، يحرص العارفون بالسِّيَر البشرية للعظماء على تدوينها، ويُعنى عدد من الناس بقراءتها أو سماعها؛ لما تحتوي عليه من جوانب العظمة التي تدعو إلى الإعجاب والثناء، والمحاكاة والاقتداء.
غير أن المتأمل في تلك السِّيَر يلحظ في بعض فصولها شيئًا من الكذب والمغالاة، والمبالغة والزيادة على الحقيقة.
وكذلك يرى أن تلك السِّيَر تبقى محصورة في جوانب معينة من الحياة، وتترك جوانب كثيرة منها، فتكون ناقصة ومجتزأة.
إلا أن هناك سيرةً سمت على كل السِّيَر، واختصت بالفضل على جميع سير عظماء البشر، شهد لها بهذا السموِ المتابعُ الموافق، والمخالف المفارق، مرت القرون تلو القرون، والعظماء وراء العظماء، ولم تزل في سماء العظمة تلك السيرة العطرة غير نازلة عن سمائها، بل تزداد بمرور الأيام علواً ومحبة لصاحبها، حتى صارت مصدراً من مصادر الهداية المستمرة عبر الزمان.
تلك السيرة هي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال ابن حزم الأندلسي: " سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى"[2].
هذه السيرة السامية سيرة صادقة، قد وصلت إلى الناس نقية من الكذب والخرافة، سليمة من الدجل والمثالية الزائفة، مرت عليها يد التنقيب والتمحيص والنقد والدقة العلمية في دراستها ومعرفة صحيحها من عليلها فازدادت وهجًا وألقا.
وهذه السيرة النبوية النضرة سيرة كاملة غير ناقصة، جامعة لجميع أطوار الحياة النبوية في مراحلها الثلاث: من المولد إلى المبعث، ومن المبعث إلى الهجرة، ومن الهجرة إلى الوفاة، في البيت والمسجد، وفي السوق والطريق، وفي السفر والحضر، وفي السلم والحرب، وفي الليل والنهار، وفي جميع أحوال النفس البشرية: من فرح وحزن، ورضا وغضب، مع الأهل والأصحاب، والأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء، في شؤون الدين وفي شؤون الدنيا.
يقول المستشرق مونتييه -في وصف وضوح حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولقد ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق، وتطهير المجتمع يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية"[3].
وقال مستشرق آخر:" لا نعرف إلا شذرات عن حياة المسيح، أما في سيرة محمد فنعرف الشيء الكثير، ونجد التاريخ بدَلَ الظلالِ والغموض"[4].
إذا تأملتم -معشر المسلمين- في سيرة خير البشر فستجدونها تحكي صورة رجل كامل في إنسانيته في جميع الجوانب التي بلغ فيها كمال الرقي البشري النقي في بيته وخارج بيته، حتى أثنى عليه بسيرته المشرقة أقرب الناس إليه وأبعدهم منه، ومسلمهم له وكافرهم به.
هذا الكمال الإنساني الطاهر لم يخرج بنبي الله عن بشريته.
يقول بعض أهل العلم " سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة، فلم تخرجه عن إنسانيته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تضف عليه من الألوهية قليلاً ولا كثيرًا، وإذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيون عن سيرة عيسى عليه السلام، وما يرويه البوذيون عن بوذا، والوثنيون عن آلهتهم المعبودة؛ اتضح لنا الفرق جليًا بين سيرته عليه السلام وسيرة هؤلاء؛ ولذلك أثر بعيد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي لاتباعهم، فادعاء الألوهية لعيسى عليه السلام ولبوذا جعلهما أبعد منالاً من أن يكونا قدوة نموذجية للإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، بينما ظل وسيظل محمد صلى الله عليه وسلم المثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيدًا كريماً في نفسه وأسرته وبيئته"[5].
أيها المؤمنون، إن دراسة سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام دراسة واعية، ومعرفة حياته في جوانبها المختلفة معرفةً صحيحة؛ يوصل إلى خير كثير في العاجل والآجل، فمن ذلك:
أنها تعين على فهم القرآن الكريم، وفهم حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فأسباب نزول بعض الآيات، أو تفسيرها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها لا تتأتى إلا بمعرفة السيرة، وبيان بعض الأحاديث النبوية لا يكون إلا بدراية السيرة؛ إذ هناك أحاديث لها أسباب ورود، وقصص تبينها.
فقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران:128] وضحته السيرة النبوية، فعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: (اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ)، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128])[6].
وفي رواية: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟)، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128])[7].
والحديث المشهور على الألسنة الذي صار مثلاً وهو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)[8] وضّحت مناسبته ومعناه السيرة النبوية: فسَببه أَنه لما أسر أَبُو عزَّة الجُمَحِي القرشي الشَّاعِر ببدر فَشَكا عائلة وفقرًا، فَمنّ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأطْلقهُ بِغَيْر فدَاء. ثمَّ ظفر بِهِ بِأحد فَقَالَ: منّ عَليّ، وَذكر فقرًا وعائلة، فَقَالَ: (لَا تمسح عَارِضَيْك بِمَكَّة تَقول: سخرت بِمُحَمد مرَّتَيْنِ! وَأمر بِهِ فَقُتل.
قَالَ ابْن هِشَام فِي تَهْذِيب السِّيرَة عَن سعيد بن الْمسيب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حِينَئِذٍ:(لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)[9].
ومن فوائد دراسة السيرة النبوية ومعرفتها: اكتساب العلوم والمعارف النافعة في الدين والدنيا، قال بعض العلماء: "فغير جميل بمن تصدر للتدريس والإفتاء، وجلس للحكم بين الناس وفصل القضاء؛ أن يجهل من أحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونسبه وجميل سيرته ورفيع منصبه، وما كان له من الأمور الذاتية والعرضية ما لا غنى لمن صدقه وآمن به عن معرفته، ولا بد لكل من اتسم بالعلم من درايته"[10].
وعن الإمام الزُّهْرِيِّ قال: "فِي عِلْمِ الْمَغَازِي عِلْمُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا"[11].
معشر المسلمين، من كان منكم مربيًا ومعلمًا فإنه يحتاج احتياجًا كبيراً إلى معرفة السيرة النبوية، ودراستها؛ ليعرف الطرق والوسائل الناجحة في التربية والتعليم والدعوة.
فالسيرة النبوية هي المعين الدفاق النقي الذي يزخر بتلك الطرق والوسائل، وعلى العلماء والدعاة والمربين والمعلمين أن يجعلوا السيرة النبوية هي المصدر الثالث بعد القرآن والحديث في تعليم الناس وتربيتهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم.
وانظروا هذا المثال: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)[12].
وأنت-أيها المسلم- عندما تعرف السيرة النبوية فإنها ستفيدك منها دروسًا وعبراً وفوائد لكل مراحل حياة الإنسان: طفلاً وشابًا ورجلاً وشيخاً.
وفي كل علاقاته الاجتماعية: أبًا، وابنًا، وأخًا، وقريبًا، وزوجًا، وجاراً، وصديقًا.
وفي كل وظائفه الحياتية: قائداً وحاكمًا ومجاهداً وقاضيًا، ومعلمًا ومربيًا.
فالسيرة النبوية كشفت بجلاء المعارف المتصلة بهذه الأمور من حياة خير البشر عليه الصلاة والسلام، فلا توجد سيرة مخلوق سجلت كل دقائق حياته الخاصة والعامة، وبلغت النهاية في الشرف والنقاء، وكمال الاقتداء، وروتها الأجيال جيلاً بعد جيل؛ إلا سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الكرام، إن السيرة النبوية تمثل المثل الأعلى، والنموذج الأسمى، والصورة الإنسانية الحسنى في العمل بالإسلام في جميع شؤون الحياة.
يقول بعض المستشرقين: "والذي يريد أن يتعرف على الإسلام أدعوه ليتعرف على سيرة المصطفى الذي تم اختياره وتدريبه وتأديبه من السماء؛ ليكون أهلاً للرسالة التي تم صنعه من الله لها منذ الأزل"[13].
وقال آخر: "لقد أخذت سيرة الرسول العربي صلّى الله عليه وسلم بألباب أتباعه، وسمت شخصيته لديهم إلى أعلى علّيين، فآمنوا برسالته إيمانًا جعلهم يتقبلون ما أوحي به إليه، وأفعاله- كما سجّلتها السنة- مصدر للقانون، لا يقتصر على تنظيم حياة الجماعة الإسلامية وحدها، بل يرتب كذلك علاقات المسلمين الفاتحين برعاياهم غير المسلمين الذين كانوا في بداية الأمر يفوقونهم عددا"[14].
نقول -يا عباد الله-: كيف يمكن العمل بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21] إلا بمعرفة السيرة النبوية؛ إذ هي:" تجسيد حي لتعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الواقع،.. فالمبدأ النظري يُرى ماثلًا قائمًا في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية، حيث كان رسول صلى الله عليه وسلم يُجسِّد تعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نومًا ويقظة، سِلْمًا وحربًا، جِدًا ومداعبة، غَضَبًا ورضا، فردًا وجماعة"[15].
فالناظر بعين الاقتداء إلى تلك السيرة الكاملة يصلح باطنه وظاهره من خلال ذلك المعين العذب الرقراق.
أيها الأحباب الكرام، إن معرفة حياة النبي عليه الصلاة والسلام بقلوب مهتدية تعين على زيادة الإيمان، والتفاؤل في أوقات البلاء والشدائد، والثبات في مواقف التزعزع، والتفكير في الخروج من المحن، وتعين على كمال الاتباع والبعد عن الابتداع، وكذلك توصل إلى سعادة الدارين.
قال ابن القيم رحمه الله: " وَإِذَا كَانَتْ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ مُعَلَّقَةً بِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَحَبَّ نَجَاتَهَا وَسَعَادَتَهَا أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْجَاهِلِينَ بِهِ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَحِزْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"[16].
ومن فوائد معرفة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أنها تزيد من محبة النبي عليه الصلاة وتعظيمه.
وذلك حين ترى الكمال والبهاء، والسمو والنقاء في تلك الحياة النبوية، رغم تقلب الأحوال، وتبدل الأطوار، إلا أن تمامها وأخذها بمجامع الحسن ظل هو المميز لها على كل سيرة من سير عظماء الدنيا، والنفوس مفطورة على حب العظمة والجمال والكمال.
ومن فوائد معرفة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أنها تكشف عن المكانة السامية التي كان عليها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين ربّاهم رسول الله بيده ورعاهم بعينه، وكيف كان تعظيمهم له، ومسارعتهم في طاعته، وتضحياتهم من أجله، ولرفع راية الإسلام حتى وصل إلينا نقياً كاملا، قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:100].
نسأل الله أن يرزقنا تمام حب رسول الله وكمال اتباعه، وحسن الاقتداء به في جميع الأقوال والأفعال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون، لقد كان لعلماء الإسلام جهود كبيرة في جمع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتدوينها وشرحها وبيانها، وحسن تقسيم موضوعاتها، وكثرة الأعمال العلمية في استخراج دروسها وعبرها وفوائدها؛ حتى تصل إليك-أيها المسلم-تامة نقية، واضحة جلية، مفيدة نافعة، في شؤون الدنيا والدين.
حتى إن علم السيرة النبوية كان من أوائل ما دون من علوم الإسلام، ابتداء من التابعي الجليل: عروة بن الزبير رحمه الله (المتوفى سنة:93هـ)، ومن تلاه بعد ذلك.
لهذا نجد -يا عباد الله- كثرة المؤلفات في سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وتعدد طرق المؤلفين في عرضها والعناية بها:
فنجد من ذلك:
كتب السِّيَر والمغازي، التي اعتنت ببيان حياة النبي عليه الصلاة والسلام مرتّبةَ الأحداث من مولده إلى وفاته، مع ذكر مغازيه وأحواله مع أهله وأصحابه وأعدائه من الكفار.
ومن الكتب في هذا الجانب: السيرة النبوية لابن إسحاق وتهذيبها لابن هشام، والمختصرات لهذا الكتاب بعد ذلك.
ونجد كذلك: كتب آيات النبوة ودلائلها، وهي الكتب التي عنيت بجمع البراهين والدلائل على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولعل أوفى كتاب في هذا القسم وأحسنه: كتاب أبي بكر البيهقي رحمه الله: "دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة". عليه الصلاة والسلام.
ونجد في ذلك أيضًا: كتب أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي الكتب التي تعنى بالجانب الشخصي لنبينا عليه الصلاة والسلام؛ حيث تذكر الصفات الخَلقية، والخُلقية والأمور المتصلة بالحياة الخاصة للنبي عليه الصلاة والسلام.
ومن الكتب في ذلك: الشمائل المحمدية للترمذي، ومختصره للألباني. والشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض اليحصبي، رحمهم الله أجمعين.
ونجد من ذلك كذلك: كتب فقه السيرة وتحليلها، وهي الكتب التي اعتنت بسرد أحاديث السيرة النبوية والتأمل الدقيق فيها، واستخراج الدروس والعبر والفوائد منها.
ومما في ذلك: كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية.
ونجد من ذلك أيضًا: كتب تراجم الصحابة، التي تضمنت الحديث عن مواقف الصحابة، ومشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهادهم ومشاركاتهم المختلفة في عصر النبوة وبعدها.
ومن أشهر كتب تراجم الصحابة: كتاب الإِصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، رحمه الله.
ونجد من ذلك كذلك: كتب الخصائص، وهي الكتب التي اعتنت ببيان خصائص النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن الكتب في ذلك: الخصائص الكبرى، للسيوطي.
ونجد من ذلك أيضًا: كتب التاريخ العام، التي تتحدث عن تاريخ الناس أفراداً وجماعات، فقد خصصت جزءاً كبيراً منها للحديث عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن الكتب في ذلك: تاريخ الرسل والملوك للطبري، والبداية والنهاية لابن كثير، عليهما رحمة الله.
إن هذا التصنيف المتنوع -أيها الفضلاء- لسيرة نبينا عليه الصلاة والسلام يدل على مدى عناية الأمة برسولها الكريم، فأي سيرة لأحد من البشر نالت مثل هذه العناية والدراسة الشاملة؟!
وصدق الله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح:4].
أيها المؤمنون، ولا ننسى أن أعظم مصدر تستمد منه سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم، ثم الأحاديث الصحيحة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
فالقرآن يقصّ علينا بعض مناحي السيرة النبوية، وطرفًا من حياته صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة، فيذكر لنا يتمه، وفقره، وتحنثه، كما يذكر لنا شؤونه بعد النبوة؛ من هبوط الوحي الإلهي عليه، وتبليغه إيّاه، والإسراء والعروج به، وعداوة الأعداء، وهجرته، وغزواته، وفي القرآن الكريم ذكر أخلاقه صلّى الله عليه وسلم[17].
وكذلك نجد أن كتب السنة قد تضمنت كثيراً من الأحاديث التي تخص سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
فيا أيها المسلمون، إننا اليوم بحاجة كبيرة للعودة إلى النبع الصافي، والقدوة الحسنة للعمل بالإسلام، ولا طريق لنا إلى ذلك إلا قراءة سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام وتمثلها في الواقع تمثلاً صادقًا؛ فإن سلفنا الصالحين لما علموا فضل السيرة النبوية اعتنوا بها اعتناء كبيراً، وحثوا على تعلمها؛ فعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ بن أبي وقاص، قَالَ: " كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعُدُّهَا عَلَيْنَا، وَسَرَايَاهُ وَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ، هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا "[18].
وقال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: "كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ"[19].
نسأل الله أن يجعلنا برسوله من المقتدين، وبهديه من العاملين.
هذا وصلوا وسلموا على خير البشر...