مشاهدة النسخة كاملة : عظمة الله جل جلاله


حكاية ناي ♔
04-21-2024, 10:50 AM
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه.



﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.



أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يُقرِّب إلى النار، اللهم آمين.


عباد الله، فلنتفكَّر في عظمة الله، ولنتدبَّر في آيات الله جَلَّ جلاله، ولنتفهَّم ما في خلق الله جل جلاله، وما نشاهده من عظمة لا تُوازيها عظمةٌ، ومن قدرة لا تُضاهيها قدرة، ولنتفكَّر كيف خلق اللهُ الملائكة من نور، وهل يستطيع البشر في هذا الزمان مهما وصلوا من العلوم أن يخلقوا من النور ملكًا؟ وخلق الجنَّ من النار، هل يستطيع البشر في هذا الزمان وفي غيره من الأزمان أن يخلقوا جنًّا من نار؟



وخلق سبحانه وتعالى البشر من تراب ﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [السجدة: 7، 8]، فهل أحد يستطيع في هذا الزمان أن يخلقَ بشرًا سويًّا من طين أو من غير طين؟



إنهم ﴿ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾ [الحج: 73]؛ أي: الإنس والجن، فانظر إلى نفسك أيُّها البشر مما خلقت؟ وانظر ما حولك من الزروع والأشجار، والماء والنار، هذه بعض الآيات التي ذكرها الله في سورة الواقعة تُبيِّن لنا عظمةَ الله عز وجل، التي تُحرِّك العقلَ وتُغذِّيه وتَحثُّه لأن يُفكِّرَ أن هناك يومًا آخر، هناك ساعة ستقوم القيامة فيها، ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4- 6].



فلذلك يا عباد الله، هذه الأمور تذكِّرُنا باليوم الآخر، هذه الأمور تُذكِّرنا بيوم البعث والنشور، فعلينا أن ننظر في تلك الآيات، وأن ننظرَ في ملك الله، وفيما بين أيدينا؛ مما يدلُّ على عظمة الله، ننظرُ ونتفكَّرُ في آلاء الله، وفي البشر، وخلق النبات، وخلق الماء، وخلق النار، وكلُّها تذكرنا باليوم الآخر، وتذكرنا بالبعث والنشور.



ولا يجوز لنا أن نتفَكَّرَ في ذات الله سبحانه وتعالى، فقد ثبت عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ -يَعْنِي عَظَمَته- وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ))، (طس) (6456)، انظر الصَّحِيحَة: (1788).



ويأتي الله سبحانه وتعالى بما يدلُّ على أنَّ هناك يومًا آخر، وعلى إثبات البعث، وهذا من عظمةِ الله عزَّ وجلَّ وقدرته، والدليل من أنفسنا، ومما هو حولنا، فهذا دليلٌ عقليٌّ على إثبات البعث، دليلٌ من أنفسِكم أيها الناس، ومما حولكم، قال سبحانه: ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴾ [الواقعة: 57]؛ أي: إنَّ الله جلَّ جلاله بعظمتِه وقدرتِه، ومشيئته وإرادته، أوجدكم أيها الخلق بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، هكذا كان الإنسان، فقد مرَّ عليه ﴿ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، من غير عجْزٍ منه سبحانه وتعالى، فخلْقُكُم هذا وما فيه من آياتٍ لم يعجزه، ولا أتعَبَه سبحانه وتعالى، أفليسَ القادرُ على ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى؟! بلى إنه قادر.



بلى! إنه على كلِّ شيء قدير؛ ولهذا وبَّخ اللهُ سبحانه وتعالى الكافرين المنكرين؛ الذين ينكرون يومَ البعث، ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24]، يقولون: حياتُنا أكْلٌ وشُرْبٌ ومتاعٌ، ثم تبتَلِعُنا الأرضُ وانتهى الأمر!



لا والله! أنكر الربُّ سبحانه وتعالى عليهم، ووبَّخَهم على عدمِ تصديقهم بالبعث، وهم يشاهدون ما هو أعظمُ منه وأبلغ، كنتَ عدمًا، فصرت إنسانا سويًّا، وبعد أن تموتَ؛ ألا يستطيعُ الله جل جلاله ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27] ألا يقدر من بدأ نشأتك وخلْقَك أن يعيدك مرة أخرى؟ سبحانه!



فأنتم تشاهدون أنه خلقكم ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾ [النجم: 46]، قال سبحانه: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ﴾ [الواقعة: 58]؛ أي: أفرأيتم ابتداءَ خِلْقتِكم من الـمَنِيِّ الذي تمنون، الذي هو هذا الماء المهين، الذي خُلقنا منه أنا وأنت يا عبد الله، ﴿ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الواقعة: 59]، أي والله! هذا الماء مَن خَلَقه؟ إنه الله سبحانه! ليس بيدك خلقه، وكثير منا من رزقه الله من هذا الماء المهين أولادًا وبناتٍ، ومنَّا من لم يرزقه إلا الأولادَ الذكورَ فقط، وهو نفس الماء، ومنَّا من رزقَه منه البناتِ فقط، ومنَّا من لم يرزقْه شيئًا لا بنين ولا بنات، والماء موجود، ويراقُ في الأرحام؛ لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُقَدِّرُ ما يشاء سبحانه وتعالى، فهل أنتم خالقون لـذلك المنيِّ وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق؟ الذي خلقَ فيكم من الشهوة وآلتِها من الذكرِ والأنثى، وهدى كلًّا منهما لما هنالك، وحبَّبَ بين الزوجين، وجعلَ بينهما من المودَّةِ والرحمةِ ما هو سببٌ للتناسل!



فلا تنسوا أنكم راجعون إلى الله سبحانه، وأنه قدر عليكم ذلك ﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ﴾ [الواقعة: 60]؛ أَيْ: قَدَّرْنَا لِمَوْتِكُمْ آجَالًا مُخْتَلِفَةً، وَأَعْمَارًا مُتَفَاوِتَةً، الناسُ لا يموتون في عُمُرٍ واحد؛ بل منهم من يموت بعد المائة عام، ومنهم من يموت شابًّا أو كهلًا، ومنهم من يموت جنينًا في بطنِ أُمِّه، فليس للعمر حدٌّ معينٌ، ولا حَدٌّ يشملُ جميعَ الناس، وجميعَ المخلوقات، لا والله؛ بل قدَّر الموتَ لآجالنا، فآجالنا مختلفة، وأعمارنا متفاوتة، فَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ شَابًّا، وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ شَيْخًا هرمًا.



﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ [الواقعة: 60]، فلا أحدَ يفرُّ من الموت المقدَّر، لا والله، ولا أحد يسبق أجله؛ أَيْ: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَلَى مَا قَدَّرْنَا مِنْ آجَالِكُمْ، وَما حَدَّدْنَاهُ مِنْ أَعْمَارِكُمْ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّمَ أَجَلًا أَخَّرْنَاهُ، إنسان قد يوضع السلاح على رقبته، أو على رأسه، لكنْ لم يُقدر له الموت في تلك اللحظة، فيتوقَّف السلاح، السيفُ لا يقطع والبارود لا ينفع، الأجلُ لم يأتِ بعد، أي والله! وَلَا يُؤَخِّرَ أَجَلًا قَدَّمْنَاهُ، والأجل إذا كان مقدَّمًا مهما جئت بالأدوية لمريض جاء أجله، فلا تنفعه، والحصونُ الكبيرةُ المنيعةُ لا تمنع عنك الموتَ، فلا تستطيع يا عبد الله تقديم ما أخَّره الله، ولا تأخير ما قدَّمه.



﴿ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ﴾ [الواقعة: 61] إذا مِتُّمْ؛ تأتي ذراريكم من بعدكم، ويأتي أناس آخرون غيركم، ﴿ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الواقعة: 61]، في حياة البرزخ، ثم تتحوَّلون إلى اليوم الآخر؛ ولهذا أحالهم الله سبحانه وتعالى على الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104]، كما بدأَنَا أوَّلَ مرةٍ يعيدنا في المرة الثانية سبحانه، فقال: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 62] أنَّ القادر على ابتداءِ خَلْقكُم، قادرٌ على إعادتِكُم.

ولتتفكُّروا عباد الله في هذه الحبوبِ والبذورِ التي تبذرونها وتغرسونها في الأرض، من الذي يجعلها تنبُتُ وتعودُ زرعًا أخضرَ بعد جفافها ويُبْسِها؟ بذور القمح والشعير جافَّةٌ، فإذا وُضِعت في الأرض، واشتمت الرطوبة والماء، أخرج الله منها الحياة، زرعًا أخضر، وشجرًا ذا أغصان، تحمل الأوراق والأزهار والثمار! فما عليكم فِعلُه هو الحراثةُ والبَذْرُ، والله ينبتُ ما شاءَ إنباته، ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [الواقعة: 63 - 67].



وهذا امتنانٌ منه، وتفضُّل منه سبحانه وتعالى على عباده، يدعوهم به إلى توحيده، والإخلاص له في عبادتِه والإنابةِ إليه، حيثُ أنعمَ عليهم بما يسَّرَه لهم من الحرْثِ للزروع والثمار، فتخرجُ من ذلك؛ من الأقواتِ والأرزاقِ والفواكه، مما هو من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم، التي لا يقدرون أن يحصوها، فضلًا عن شكرها، وأداء حقِّها، فقررهم سبحانه بِمِنَّتِه، فقال: ﴿ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 64]؛ أي: أأنتم أخرجتموه نباتًا من الأرض؟ أم أنتم الذين نميتموه وجعلتموه يكبر؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبُلَه وثمرتَهُ حتى صارَ حبًّا حصيدًا، وثمرًا نضيجًا؟! أم اللهُ سبحانه، الذي انفرد بذلك وحده، وأنعَمَ به عليكم؟ وأنتم غايةُ ما تفعلونه؛ أن تحرثوا الأرضَ وتشقُّوها، وتلقوا فيها البَذْرَ، ثم بعد ذلك لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك، ولا قدرةَ لكم على أكثرَ من ذلك، ومع ذلك، فنبَّههم على أنَّ ذلك الحرثَ بعد أن ينمو ويخرج معرضٌ للأخطار، لولا حفظُ الله وإبقاؤه لكم؛ بُلْغَةً ومتاعًا إلى حين.



فقال: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ ﴾ [الواقعة: 65]؛ أي: لجعلَ اللهَ الزروعَ المحروثاتِ وما فيها من الثمارِ ﴿ حُطَامًا ﴾؛ أي: فُتَاتًا متحطِّمًا جافَّا يابسًا، لا نفعَ فيه ولا رزقَ، ﴿ فَظَلْتُمْ ﴾؛ أي: فصِرْتُم بسببِ جعْلِه حُطامًا، بعد أن تعبتُم فيه، وأنفقتم عليه النفقاتِ الكثيرةَ، ﴿ تَفَكَّهُونَ ﴾؛ أي: فصرتم تندمون، وتتحسَّرون على ما أصابكم، ويزولُ بذلك فرحُكم وسرورُكم وتفكُّهُكُم، فتقولون: ﴿ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴾ [الواقعة: 66]؛ أي: إنا قد نُقِصْنا أموالَنا، وأصابتنا مصيبةٌ اجتاحتنا.



ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم؟ وبأيِّ سببٍ دُهيتم؟ فتقولون: ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [الواقعة: 67]، والسببُ في الحرمان هم الذين حرثوا الأرض، ووضعوا فيها الحبوب، فبذنوبهم وخطاياهم وعدم توكُّلِهم على الله، حرموا تلك الأرزاق، فاحمدوا الله سبحانه وتعالى حيث زرعَه الله لكم وأنبتَه، ثم أبقاه لكمْ وكمَّلَه، ولم يرسل عليه من الآفاتِ ما به تُحرمون نفعَه وخيرَه.



لقد خلق الله سبحانه الإنسانَ من ماء، كذلك هذا النباتُ خرجَ بأمر الله بالماء، وتكلَّم اللهُ سبحانه وتعالى بعد ذلك عن الماء، وهذا الماء الذي قال الله في حقِّه: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30] من الذي أوجده؟ ومَن مِن السماء عذبًا فُراتًا أنزله؟ إنه الله جل جلاله.



﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 68 - 70].



فـلما ذكر سبحانه وتعالى نعمتَه على عباده بالطعام، ذكرَ نعمتَه عليهم بالشرابِ العذْبِ الذي منه؛ هم وأنعامهم يشربون، وأنهم لولا أن الله يسَّره وسهَّله؛ لما كان لكم سبيل إليه، وأنه الذي أنزله من المزن؛ وهو السحابُ والمطر، ينزله الله تعالى فيكون منه الأنهارُ الجارية على وجه الأرض وفي بطنها، ويكون منه الغدران المُتدفِّقة، والعيون النابعة، ومن نعمته أن جعله عذبًا فُراتًا تسيغه النفوس، ولو شاء لجعله مِلْحًا مُرًّا أُجَاجًا مكروهًا للنفوس، لا يُنتفَع به، ﴿ فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ﴾ الله تعالى على ما أنعم به عليكم، فاحمدوه على آلائه يبارك لكم، واشكروه على نعمه يزدكم.



وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.



الخطبة الآخرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، واهتدى بهُداه إلى يوم الدين، أما بعد:

بعد أن ذَكَّرنا الله عزَّ وجلَّ، وقَرَّرَنا بخلقنا العجيب، وبخلق ما حولنا من زروع وأشجار ومياه، تكلَّم عن النار، والعياذ بالله من النار، فهذه النار فيها النفع وفيها الضُّرُّ، فيها الخيرُ وفيها الشر، قال: وانظروا إلى خلق النار، التي خلق منها الجان، كيف يتمتع بها الإنسان، فيستخرجها بالاحتكاك، فالنار تخرج باحتكاك جسمين يحدثان شرارتَها، وأنها كامنةٌ في الوقود والأحطاب، مَن خلقها؟ ومن أوجدها غير الله العظيم؟



قال سبحانه: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾ [الواقعة: 71] وتقدحون الحجر على الحجر فتخرجُ لكم نار، ﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 72 - 74].



وهذه نعمةٌ تدخلُ في الضروريَّات، نعمة النار في الدنيا تدخل في الضروريَّات، التي لا غنى للخلق عنها، فإنَّ الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم، فقرَّرهم؛ أي: قرر الناس سبحانه وتعالى بالنار، وبما يرونه منها، فقد أوجدَها في الأشجار، وأنَّ الخلقَ لا يقدرون أن ينشئوا شجرها، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي أنشأها من الشجر الأخضر، فإذا هي نارٌ توقد بقدر حاجة العباد، لماذا قلنا بقدر حاجة العباد؟ لأنك تتملك في النار يا عبد الله، فإذا فرغوا من حاجتهم، أطفأوها وأخمدوها، تصوَّر أن الشجر كله احترق وتحوَّل نارًا لا تستطيع منعه، هل تطيب الحياة؟ وهل تكون هذه النار نعمة؟ لا والله؛ بل في تلك الحال نقمة.



فقال جلَّت عظمتُه، وعظمت قدرته: ﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾ للعباد بنعمةِ ربِّهم، وتذكرةً بنار جهنم التي أعدَّها الله للعاصين، وجعلها سوطًا يسوقُ به عبادَه إلى دار النعيم، فالنار والعياذ بالله؛ نارٌ في الدنيا يتمتَّع بها مَن يتحكَّم فيها، وهي العموم، ونار لا يتحكَّم فيها والعياذ بالله؛ النيران التي تخرج عن سيطرة العباد في الدنيا، أو نار الآخرة لا نفع فيها مطلقًا للمؤمنين.



﴿ وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾؛ إذنْ هي تذكرة؛ لأنَّ نارَ الدنيا هذه جزء من تسعة وستين جزءًا من نار الآخرة، فضِّلَت عليها نار الآخرة قدر نار الدنيا أكثر من تسعة وستين جزءًا، كما جاء في الحديث، ((نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ))، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً قَالَ: ((فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا))، (خ) (3265)، م) 30- (2843).



ومع ذلك هي متاع تذكِّرنا بالآخرة، ومتاع ﴿ وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾؛ أي: المنتفعين أو المسافرين، وخصَّ اللهُ المسافرين؛ لأن نفعَ المسافرِ بذلك أعظم من غيره، المسافر يستفيد من النار أكثر من غيره، ولعلَّ السببَ في ذلك؛ لأن الدنيا كلَّها دارُ سفر، والعبدُ من حين وُلدَ فهو مسافرٌ إلى ربِّه، فهذه النار، جعلها الله تعالى متاعًا للمسافرين في هذه الدار، وتذكرةً لهم بدار القرار، فلمَّا بيَّن من نعمه؛ نعمةَ الخلق والإيجاد، نعمةَ الطعامِ والشراب والأشجار، ونعمةِ النارِ هذه النعم التي في الدنيا، فلمَّا بيَّن من نعمه ما يوجب الثناءَ عليه من عبادِه، وشكرِه وعبادتِه، أمر بتسبيحِه وتحميده وتعظيمه، فقال: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾؛ أي: نِزِّه ربَّك العظيمَ، كاملَ الأسماءِ والصفات، كثيرَ الإحسان والخيرات، عميمَ الرحماتِ والبركات، واحمده بقلبك، ولسانِك، وجوارحِك سبحانه؛ لأنه أهلٌ لذلك، وهو المستحقُّ لأن يشكر في كلّ حين فلا يكفر، ويُذكر في كلِّ وقتٍ فلا يُنسى، ويُطاع في كلِّ أمرٍ فلا يُعصَى؛ بتصرُّف من تيسير الكريم الرحمن للسعدي: (ص: 834- 836) الآيات من سورة الواقعة: [الأحزاب: 57- 74 ].



فسبحانَه ما أعظمَ شانه! رحِمَنَا فأرسل إلينا رسولًا يذكِّرُنا ويرشدُنا ويهدينا، فـصلُّوا عليه، فقد صلى الله عليه في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].



اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.



اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِيننا وَدُنْيَانا وَأَهْلنا وَمَالِنا.



اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنا، اللَّهُمَّ احْفَظْنا مِنْ بَيْنِ أيدينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أيماننا وَعَنْ شمَائلنا، وَمِنْ فَوْقِنا، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتنا.



اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنا، اللهم يا ربَّنا اغفر وارحم المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.



اللهمَّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دَينا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مبتلًى إلا عافيته، ولا غائبًا إلا رددته إلى أهله سالمًا غانمًا يا رب العالمين.



﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].

مجنون بحبك
04-21-2024, 10:52 AM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته