حكاية ناي ♔
04-21-2024, 10:56 AM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رُسُلِك، وأنزلت علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، تحدَّثنا في الخطبة الماضية عن إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، تنفيذًا لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فدعا بطونهم، وأنذرهم، واعترض عليه عمُّه أبو لهب، فنزل في حقِّه قرآنٌ يُتْلى إلى يوم القيامة ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1 - 3]، وهذا عاقبة مَنْ يصدُّ عن الدعوة ويحاربها، وجزاء من يعين الظالمين على ظلمهم؛ كزوجته التي فعلت ما فعلت، قال تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 4، 5]، كما استفدنا غير ذلك من الفوائد.
وبعد إنذار النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا جهرًا، انتقل إلى الجهر بالدعوة لعامة من يأتي مكة من غير قريش، وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
عباد الله، لما نزل قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 94 - 97] أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم، وتبع الناس في أسواقهم ومواسمهم، فسَمِعَ القاصي والداني بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وتُرَّهاته، ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويُبيِّن بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلةً بينه وبين الله فهو في ضلال مبين.
انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وماجَتْ بالغرابة والاستنكار، حين سمعت صوتًا يجهر بتضليل المشركين وعُبَّاد الأصنام، كأنه صاعقةٌ قصفت السحاب، فرعدت وبرقت وزلزلت الجوَّ الهادئ، وقامت قريشٌ تستعدُّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتةً، ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها، ومن خلال هذا الحَدَث نستفيد فوائد جمَّة، نقتصر منها على فائدتين:
الفائدة الأولى: أن الدعوة الإسلامية دعوةٌ عالميةٌ:
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على دعوة الأقربين، ولا على دعوة قريش، وإنما اتجه بدعوته للناس كافةً، فالله أمره بالصدع بها، ولم يُحدِّد له جهة الصدع، فدَلَّ على عموميتها، وهذا هو المنطلق الصحيح للدعوة، وهناك أدلةٌ أخرى تدل على ذلك منها: قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمِ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبةً طهورًا ومسجدًا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة))[2]، وهكذا علينا معاشر الإخوة أن نكون سفراء للتعريف بهذا الدين، بأقوالنا وأفعالنا، فالكثير من الناس وخاصةً في الشرق والغرب من غير المسلمين لا يعرفون الإسلام إلا مشوهًا من خلال وسائل إعلامهم، والكثير منهم إذا سنحت له الفرصة ليعرف الإسلام من دُعاته الحقيقيين فإنهم يُعلِنون إسلامهم.
الآن في (مونديال) قطر الكثير ممن أسلموا، أسلموا بمجرد مناقشة بسيطة مع داعية من دُعاة الإسلام، باللغة التي يفهمون، أو من خلال سماعهم للآذان، أو من خلال رؤيتهم للمجتمع الإسلامي من خلال تماسُكه وتماسُك أسرته، والإحساس بالأمن والطُّمَأْنينة داخل المجتمع، كما يقول أحد السويديين (دولة السويد): قد تسمع بالأمن في السويد؛ لكن في قطر الأمر مختلفٌ، فقد تحجز الطاولة بوضع هاتفك عليها، وترجع لتجد هاتفك في مكانه، ويقول: وغالبية دعوات الشذوذ الجنسي قادمةٌ من أوروبا، إلا أن لهم قيمًا وتقاليدَ يعتزُّون بها ويحافظون عليها، وهذا كُلُّه محفِّزاتٌ للدخول في هذا الدين.
فهل قمنا بواجبنا لتقديم المشروع الإسلامي للعالم، والتعريف بعقائده وتشريعاته، وسمو أخلاقه؟ وهل مثلنا أخلاق الإسلام في تصرُّفاتنا وسلوكنا، فنصبح دعاةً بالقدوة؟
الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يقول ما قال، كان مضرب المَثَل لدى قريش قاطبةً بأخلاقه، فكانوا يُلقِّبُونه بالصادق الأمين؛ ولكن حملهم الكِبْر والغرور، فامتنعوا عن اتِّباع الحق الذي جاء به.
وأنا أتذكَّر قصةً لأحد الأشخاص في ديار المهجر، كان له صديقٌ نصرانيٌّ، فأعجب بصديقه المسلم حينما يدعوه يوم الجمعة إلى منزله فيكرمه، كما أعجب بلباسه يوم الجمعة، وبذلك الدفء الأسري؛ لكن للأسف هذا المسلم مسرفٌ على نفسه في المعاصي، فقد يعاقر خمرًا رفقة صديقه النصراني، وقد يفعل أشياء أخرى، ثم إنه عزم هذا النصراني على الدخول في الإسلام، فقال له صديقه المسلم: أذهب معك إلى بلدي في العطلة الصيفية، وأعلن إسلامك هناك، ولمَّا أتى به المسجد، لم يُحسِن الإمام عرض الإسلام عليه، فأعلمه بدايةً بجملة مُحرَّمات يجب عليه تركها، ومنها الخمر والزنا وغيرها؛ لكن النصراني لاحظ أن ما حذَّره منه الإمام فإن صديقه المسلم يقوم به! ليعتذر منه قائلًا: أريد مثل إسلام صديقي!
ومحل الشاهد من القصة أنه لو مثل المسلم الإسلام أحسن تمثيل فابتعد عما حرَّم الله، لما تفاجأ النصراني، ولَعَرَف الإسلام حقيقةً.
فاجتهدوا إخواني لتبليغ هذا الدين؛ فالعالم في حاجة إلى من ينقذه من الجاهلية الجديدة، ومن عبادة الهوى والمادة والشهوات إلى عبادة ربِّ الأرض والسموات.
فاللهم اهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا هُداةً مهتدين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه، ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة لكل الناس، وفهمنا من هذا عالمية الدعوة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا للناس كافةً، ونختم حديثنا بـ:
الفائدة الثانية: تحذير الدعاة بالانشغال بدعاة الباطل عن الدعوة:
فهمنا هذا من قوله تعالى: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 106] لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الوافدين على مكة جَنَّ جُنونُ قريش، وتحيَّروا في أمرهم، ماذا سيفعلون؟ كيف يقنعون الناس ببطلان دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مضرب المثل عندهم في الصدق والأمانة، فقرروا الذهاب إلى أبي طالب، قال ابن إسحاق - بعد أن ذهبوا إليه -: "فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإمَّا أن تكفَّه عنا، وإمَّا أن تُخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رفيقًا، وردهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه".
لاحظوا إخواني، لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وهو درس لنا جميعًا، ألا نشغل أنفسنا بكثرة الردود على دُعاة الباطل، فيشغلوننا عمَّا هو أهم؛ وهو الدعوة إلى الله، وكسب مسلمين جُدُد، ويكفي في الرد عليهم طائفةٌ من المتخصصين، لا أن تشتغل الأُمَّة بعمومها في إعطاء القيمة لمن يصنعون التفاهة ويحبُّون الشهرة من خلال القدح في ثوابت الدين الحنيف أو النيل من مقام الرسول الكريم.
قال ابن إسحاق:" (أي لما استمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ولم يلتفت إليهم)، قال: ثم شرى (كثر واشتد) الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا (تعادوا)، وأكثرت قريشٌ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه (حض بعضهم بعضًا عليه)، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلِك أحد الفريقين، أو كما قالوا له، ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فِراق قومه وعداوتهم، ولم يطِبْ نفسًا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
(فناداه) فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا- للذي كانوا قالوا له- فأبْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تُحمِّلني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمِّه فيه بداء أنه خاذِلُه ومُسلِمُه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عَمِّ، والله لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهِرَه الله، أو أهلِك فيه، ما تركتُه))، قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببتَ، فو الله، لا أُسلِمك لشيء أبدًا".
وقد سبق الحديث عن نصرة أبي طالب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحدث من أمثلته، فلما رأت قريشٌ أنَّ محمدًا ممتنعٌ بعمِّه أبي طالب أخذوا يفكرون في أساليب أخرى للصدِّ عن الدعوة، وهذا ما سنراه لاحقًا بإذن الله.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، آمين. (تتمة الدعاء).
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رُسُلِك، وأنزلت علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، تحدَّثنا في الخطبة الماضية عن إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، تنفيذًا لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فدعا بطونهم، وأنذرهم، واعترض عليه عمُّه أبو لهب، فنزل في حقِّه قرآنٌ يُتْلى إلى يوم القيامة ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1 - 3]، وهذا عاقبة مَنْ يصدُّ عن الدعوة ويحاربها، وجزاء من يعين الظالمين على ظلمهم؛ كزوجته التي فعلت ما فعلت، قال تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 4، 5]، كما استفدنا غير ذلك من الفوائد.
وبعد إنذار النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا جهرًا، انتقل إلى الجهر بالدعوة لعامة من يأتي مكة من غير قريش، وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
عباد الله، لما نزل قوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 94 - 97] أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم، وتبع الناس في أسواقهم ومواسمهم، فسَمِعَ القاصي والداني بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وتُرَّهاته، ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويُبيِّن بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلةً بينه وبين الله فهو في ضلال مبين.
انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وماجَتْ بالغرابة والاستنكار، حين سمعت صوتًا يجهر بتضليل المشركين وعُبَّاد الأصنام، كأنه صاعقةٌ قصفت السحاب، فرعدت وبرقت وزلزلت الجوَّ الهادئ، وقامت قريشٌ تستعدُّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتةً، ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها، ومن خلال هذا الحَدَث نستفيد فوائد جمَّة، نقتصر منها على فائدتين:
الفائدة الأولى: أن الدعوة الإسلامية دعوةٌ عالميةٌ:
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على دعوة الأقربين، ولا على دعوة قريش، وإنما اتجه بدعوته للناس كافةً، فالله أمره بالصدع بها، ولم يُحدِّد له جهة الصدع، فدَلَّ على عموميتها، وهذا هو المنطلق الصحيح للدعوة، وهناك أدلةٌ أخرى تدل على ذلك منها: قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمِ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبةً طهورًا ومسجدًا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة))[2]، وهكذا علينا معاشر الإخوة أن نكون سفراء للتعريف بهذا الدين، بأقوالنا وأفعالنا، فالكثير من الناس وخاصةً في الشرق والغرب من غير المسلمين لا يعرفون الإسلام إلا مشوهًا من خلال وسائل إعلامهم، والكثير منهم إذا سنحت له الفرصة ليعرف الإسلام من دُعاته الحقيقيين فإنهم يُعلِنون إسلامهم.
الآن في (مونديال) قطر الكثير ممن أسلموا، أسلموا بمجرد مناقشة بسيطة مع داعية من دُعاة الإسلام، باللغة التي يفهمون، أو من خلال سماعهم للآذان، أو من خلال رؤيتهم للمجتمع الإسلامي من خلال تماسُكه وتماسُك أسرته، والإحساس بالأمن والطُّمَأْنينة داخل المجتمع، كما يقول أحد السويديين (دولة السويد): قد تسمع بالأمن في السويد؛ لكن في قطر الأمر مختلفٌ، فقد تحجز الطاولة بوضع هاتفك عليها، وترجع لتجد هاتفك في مكانه، ويقول: وغالبية دعوات الشذوذ الجنسي قادمةٌ من أوروبا، إلا أن لهم قيمًا وتقاليدَ يعتزُّون بها ويحافظون عليها، وهذا كُلُّه محفِّزاتٌ للدخول في هذا الدين.
فهل قمنا بواجبنا لتقديم المشروع الإسلامي للعالم، والتعريف بعقائده وتشريعاته، وسمو أخلاقه؟ وهل مثلنا أخلاق الإسلام في تصرُّفاتنا وسلوكنا، فنصبح دعاةً بالقدوة؟
الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يقول ما قال، كان مضرب المَثَل لدى قريش قاطبةً بأخلاقه، فكانوا يُلقِّبُونه بالصادق الأمين؛ ولكن حملهم الكِبْر والغرور، فامتنعوا عن اتِّباع الحق الذي جاء به.
وأنا أتذكَّر قصةً لأحد الأشخاص في ديار المهجر، كان له صديقٌ نصرانيٌّ، فأعجب بصديقه المسلم حينما يدعوه يوم الجمعة إلى منزله فيكرمه، كما أعجب بلباسه يوم الجمعة، وبذلك الدفء الأسري؛ لكن للأسف هذا المسلم مسرفٌ على نفسه في المعاصي، فقد يعاقر خمرًا رفقة صديقه النصراني، وقد يفعل أشياء أخرى، ثم إنه عزم هذا النصراني على الدخول في الإسلام، فقال له صديقه المسلم: أذهب معك إلى بلدي في العطلة الصيفية، وأعلن إسلامك هناك، ولمَّا أتى به المسجد، لم يُحسِن الإمام عرض الإسلام عليه، فأعلمه بدايةً بجملة مُحرَّمات يجب عليه تركها، ومنها الخمر والزنا وغيرها؛ لكن النصراني لاحظ أن ما حذَّره منه الإمام فإن صديقه المسلم يقوم به! ليعتذر منه قائلًا: أريد مثل إسلام صديقي!
ومحل الشاهد من القصة أنه لو مثل المسلم الإسلام أحسن تمثيل فابتعد عما حرَّم الله، لما تفاجأ النصراني، ولَعَرَف الإسلام حقيقةً.
فاجتهدوا إخواني لتبليغ هذا الدين؛ فالعالم في حاجة إلى من ينقذه من الجاهلية الجديدة، ومن عبادة الهوى والمادة والشهوات إلى عبادة ربِّ الأرض والسموات.
فاللهم اهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا هُداةً مهتدين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه، ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة لكل الناس، وفهمنا من هذا عالمية الدعوة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا للناس كافةً، ونختم حديثنا بـ:
الفائدة الثانية: تحذير الدعاة بالانشغال بدعاة الباطل عن الدعوة:
فهمنا هذا من قوله تعالى: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 106] لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الوافدين على مكة جَنَّ جُنونُ قريش، وتحيَّروا في أمرهم، ماذا سيفعلون؟ كيف يقنعون الناس ببطلان دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مضرب المثل عندهم في الصدق والأمانة، فقرروا الذهاب إلى أبي طالب، قال ابن إسحاق - بعد أن ذهبوا إليه -: "فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإمَّا أن تكفَّه عنا، وإمَّا أن تُخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رفيقًا، وردهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه".
لاحظوا إخواني، لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وهو درس لنا جميعًا، ألا نشغل أنفسنا بكثرة الردود على دُعاة الباطل، فيشغلوننا عمَّا هو أهم؛ وهو الدعوة إلى الله، وكسب مسلمين جُدُد، ويكفي في الرد عليهم طائفةٌ من المتخصصين، لا أن تشتغل الأُمَّة بعمومها في إعطاء القيمة لمن يصنعون التفاهة ويحبُّون الشهرة من خلال القدح في ثوابت الدين الحنيف أو النيل من مقام الرسول الكريم.
قال ابن إسحاق:" (أي لما استمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ولم يلتفت إليهم)، قال: ثم شرى (كثر واشتد) الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا (تعادوا)، وأكثرت قريشٌ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه (حض بعضهم بعضًا عليه)، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلِك أحد الفريقين، أو كما قالوا له، ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فِراق قومه وعداوتهم، ولم يطِبْ نفسًا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
(فناداه) فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا- للذي كانوا قالوا له- فأبْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تُحمِّلني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمِّه فيه بداء أنه خاذِلُه ومُسلِمُه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عَمِّ، والله لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهِرَه الله، أو أهلِك فيه، ما تركتُه))، قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببتَ، فو الله، لا أُسلِمك لشيء أبدًا".
وقد سبق الحديث عن نصرة أبي طالب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحدث من أمثلته، فلما رأت قريشٌ أنَّ محمدًا ممتنعٌ بعمِّه أبي طالب أخذوا يفكرون في أساليب أخرى للصدِّ عن الدعوة، وهذا ما سنراه لاحقًا بإذن الله.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، آمين. (تتمة الدعاء).