حكاية ناي ♔
04-21-2024, 10:59 AM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهُمَّ لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الخطبة الماضية عن إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته الأقربين، تنفيذًا لقوله تعالى:﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾[الشعراء: 214]، واستفدنا ضرورة الاهتمام بدعوة الأقارب وإيصال الخير لهم وعدم إهمالهم، وأنه لا بُدَّ من وجود الأعداء في طريق الدعوة من الأقارب كما كان أبو لهب عدوًّا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أيضًا قد يكون مَن يُناصر الداعية وإن لم يؤمِن بالدعوة على شاكلة أبي طالب عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته الأقربين جهرًا، انتقل إلى الجهر بالدعوة أمام قريش عامةً، وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
عباد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾[الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش-)) حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغِيرَ عليكم؛ أكنتم مُصدِّقيَّ؟))، قالوا: نعم، ما جرَّبْنا عليك إلا صِدْقًا، قال: ((فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ))، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾[المسد: 1، 2][2].
عباد الله، من خلال هذا الحدث نستفيد فوائد جمَّة نقتصر منها على ما يلي:
الفائدة الأولى: أن آصرة العقيدة أقوى من آصرة القرابة:
لمَّا جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة عاداه قومه، ولقي منهم ما يكره، والنموذج الذي نراه اليوم هو عمُّه أبو لهب، الذي سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظلم منه، وقال: (تبًّا لك سائر اليوم)، فنزلت في حقِّه سورة المسد، فتبيَّن أنه لا شفاعة في القرابة والنسب، وأن الظلم ينكر ولو كان الظالم من عِلْية القوم، ويجب أن يطاله الجزاء، عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقالوا: مَن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حَدٍّ من حدود الله؟))، ثم قام فاختطب، فقال: ((أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ الله، لو أنَّ فاطمةَ بنت محمدٍ سرقَتْ لقطعْتُ يَدَها))[3].
الفائدة الثانية: جواز التشهير باسم مَن يحارب الدعوة والإسلام ويجهر بالمعاصي وعدم التستُّر عليه؛ حتى يحتاط الناس منه:
كما شهَّر القرآن بأبي لهب وزوجته، يجب علينا أن نُشهِّر بمن يرسم الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، والأصل هو أن تستر المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومَنْ سَتَر مسلمًا سَتَره اللهُ يومَ القيامة))[4]؛ لكن هذا محمول إذا كان غير مجاهر بعداوته وعصيانه، أما إذا وجد مثلًا من يسكر في العَلَن، ومن يبيع المخدِّرات في العَلَن، ومَنْ يُجاهر بالفاحشة، فوجب الاستعلام به إلى الجهات المسؤولة لقطع دابره.
الفائدة الثالثة: الإعجاز القرآني في مصير أبي لهب وزوجته وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم:
فالآيات الأولى في أبي لهب تضمَّنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسار، وبوقوع ذلك فعلًا.
وثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وبوقوع ذلك فعلًا.
وثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار مع زوجته، وقد كان كذلك؛ لأنهما ماتا على الكفر، وكان بإمكانهما تكذيب القرآن فيُعلنان إيمانهما ولكن هيهات.
الفائدة الرابعة: شقاء المرأة بزوجها وشقاء الزوج بزوجته:
مِنْ نِعَم الله عز وجلَّ أن يكون الزوجانِ متحابَّيْنِ متعاونَيْنِ على الخير، وهذا من السعادة، ومقابله أن يكونا كافرَينِ وهو من الشقاء، وقد يسعد أحدهما ويشقى الآخر- ولو عاشا في بيت واحد - إذا كان أحدهما صالحًا متدينًا والآخر فاسدًا، والصراع بينهما صراع بين الحق والباطل، وهو لما غلب منهما، وقد حكى لنا القرآن الكريم هذه الأصناف الأربعة؛ وهي:
♦ الزوج وامرأته مؤمنان؛ مثل: إبراهيم وامرأته، وزكرياء وامرأته، وعمران وامرأته.
♦ الزوج وامرأته كافران؛ مثل: أبي لهب وامرأته، والعزيز وامرأته.
♦ الزوج مؤمن وامرأته كافرة؛ مثل: نوح وامرأته، ولوط وامرأته.
♦ الزوج كافر وامرأته مؤمنة؛ مثل: فرعون وامرأته.
الفائدة الخامسة: أن الباطل يقوي بإعانة الظالمين للظالمين:
بل إن لكل منهم دورًا في إشعال نار الفتنة ضد المسلمين، فها هي زوجة أبي لهب تحمل الحطب، حتى يوقد زوجها هذه النار ضد المسلمين، وكانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل في قدمه إذا خرج إلى الصلاة هووأصحابه، وقيل: كانت تحطب الكلام، وتمشي بالنميمة، وتُعيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: لما نزلت:﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1]، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها لن تراني))، وقرأ قرآنًا فاعتصم به كما قال: وقرأ: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45]، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا وربِّ هذا البيت ما هجاك، فولَّت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها[5]، فمن أعان ظالمًا فقد شارك معه في الظلم وأعانه عليه كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].
واعلموا إخواني أن الكفر دائمًا يحشد قوَّته ثم لا تغنيه من الله شيئًا، فأبشروا إخواني بنصر الإسلام، ولا يحزنكم تكالُب قوى الكفر عليه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾[الأنفال: 36].
فاللهم اهدنا واهْدِ بنا، واجعلنا هُداةً مهتدين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى خمس فوائد، ونختم حديثنا بـفائدتين:
الفائدة السادسة: أبو لهب نموذج الإعلام الفاسد في الصَّدِّ عن الدعوة:
بالإضافة إلى ما سبق من جهر أبي لهب أمام الملأ والصد عن الدعوة، يروي ربيعة بن عباد الديلي -وكان جاهليًّا أسلم- فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، ويدخل في فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا وهو لا يسكت، يقول: ((أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، إلا أن وراءه رجلًا أحول وضيء الوجه ذا غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: محمد بن عبدالله، وهو يذكر النبوة، قلت: مَنْ هذا الذي يُكذِّبه؟ قالوا: عمُّه أبو لهب[6]، وما أكثر الإعلام الفاسد في زماننا! قد يكون قناةً أو صحيفةً أو مجلةً أو جريدةً؛ ورقيةً أو إلكترونيةً هَمُّها محاربةُ الإسلام والصَّدُّ عنه، ألا فليعتبر هؤلاء بمصير أبي لهب وزوجته ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[التوبة: 32].
الفائدة السابعة: أن الجزاء من جنس العمل:
فكما طوقت أم جميل الخناق على المسلمين، وأوقدت نار الفتنة والاضطهاد الديني، فإن جزاءها يكون يوم القيامة من جنس عملها، حبل مفتول بإحكام يمتد حول عنقها فيخنقها، ومن تبع الظالم سيلقى نفس مصيره، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾[هود: 113].
والقصد- إخواني- أنه يجب علينا توسيع دائرة الدعوة إلى الله في بلدك بكل السُّبُل المتاحة، وباللغة التي يفهمها الناس- لا يصدنك عن ذلك صاد- صابرًا محتسبًا فيما تُلاقيه من معارضة أصوات الباطل لصوت الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين. (تتمَّة الدعاء).
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهُمَّ لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الخطبة الماضية عن إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته الأقربين، تنفيذًا لقوله تعالى:﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾[الشعراء: 214]، واستفدنا ضرورة الاهتمام بدعوة الأقارب وإيصال الخير لهم وعدم إهمالهم، وأنه لا بُدَّ من وجود الأعداء في طريق الدعوة من الأقارب كما كان أبو لهب عدوًّا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أيضًا قد يكون مَن يُناصر الداعية وإن لم يؤمِن بالدعوة على شاكلة أبي طالب عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته الأقربين جهرًا، انتقل إلى الجهر بالدعوة أمام قريش عامةً، وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
عباد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾[الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش-)) حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغِيرَ عليكم؛ أكنتم مُصدِّقيَّ؟))، قالوا: نعم، ما جرَّبْنا عليك إلا صِدْقًا، قال: ((فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ))، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾[المسد: 1، 2][2].
عباد الله، من خلال هذا الحدث نستفيد فوائد جمَّة نقتصر منها على ما يلي:
الفائدة الأولى: أن آصرة العقيدة أقوى من آصرة القرابة:
لمَّا جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة عاداه قومه، ولقي منهم ما يكره، والنموذج الذي نراه اليوم هو عمُّه أبو لهب، الذي سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظلم منه، وقال: (تبًّا لك سائر اليوم)، فنزلت في حقِّه سورة المسد، فتبيَّن أنه لا شفاعة في القرابة والنسب، وأن الظلم ينكر ولو كان الظالم من عِلْية القوم، ويجب أن يطاله الجزاء، عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقالوا: مَن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حَدٍّ من حدود الله؟))، ثم قام فاختطب، فقال: ((أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ الله، لو أنَّ فاطمةَ بنت محمدٍ سرقَتْ لقطعْتُ يَدَها))[3].
الفائدة الثانية: جواز التشهير باسم مَن يحارب الدعوة والإسلام ويجهر بالمعاصي وعدم التستُّر عليه؛ حتى يحتاط الناس منه:
كما شهَّر القرآن بأبي لهب وزوجته، يجب علينا أن نُشهِّر بمن يرسم الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، والأصل هو أن تستر المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومَنْ سَتَر مسلمًا سَتَره اللهُ يومَ القيامة))[4]؛ لكن هذا محمول إذا كان غير مجاهر بعداوته وعصيانه، أما إذا وجد مثلًا من يسكر في العَلَن، ومن يبيع المخدِّرات في العَلَن، ومَنْ يُجاهر بالفاحشة، فوجب الاستعلام به إلى الجهات المسؤولة لقطع دابره.
الفائدة الثالثة: الإعجاز القرآني في مصير أبي لهب وزوجته وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم:
فالآيات الأولى في أبي لهب تضمَّنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسار، وبوقوع ذلك فعلًا.
وثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وبوقوع ذلك فعلًا.
وثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار مع زوجته، وقد كان كذلك؛ لأنهما ماتا على الكفر، وكان بإمكانهما تكذيب القرآن فيُعلنان إيمانهما ولكن هيهات.
الفائدة الرابعة: شقاء المرأة بزوجها وشقاء الزوج بزوجته:
مِنْ نِعَم الله عز وجلَّ أن يكون الزوجانِ متحابَّيْنِ متعاونَيْنِ على الخير، وهذا من السعادة، ومقابله أن يكونا كافرَينِ وهو من الشقاء، وقد يسعد أحدهما ويشقى الآخر- ولو عاشا في بيت واحد - إذا كان أحدهما صالحًا متدينًا والآخر فاسدًا، والصراع بينهما صراع بين الحق والباطل، وهو لما غلب منهما، وقد حكى لنا القرآن الكريم هذه الأصناف الأربعة؛ وهي:
♦ الزوج وامرأته مؤمنان؛ مثل: إبراهيم وامرأته، وزكرياء وامرأته، وعمران وامرأته.
♦ الزوج وامرأته كافران؛ مثل: أبي لهب وامرأته، والعزيز وامرأته.
♦ الزوج مؤمن وامرأته كافرة؛ مثل: نوح وامرأته، ولوط وامرأته.
♦ الزوج كافر وامرأته مؤمنة؛ مثل: فرعون وامرأته.
الفائدة الخامسة: أن الباطل يقوي بإعانة الظالمين للظالمين:
بل إن لكل منهم دورًا في إشعال نار الفتنة ضد المسلمين، فها هي زوجة أبي لهب تحمل الحطب، حتى يوقد زوجها هذه النار ضد المسلمين، وكانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل في قدمه إذا خرج إلى الصلاة هووأصحابه، وقيل: كانت تحطب الكلام، وتمشي بالنميمة، وتُعيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: لما نزلت:﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1]، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها لن تراني))، وقرأ قرآنًا فاعتصم به كما قال: وقرأ: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45]، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا وربِّ هذا البيت ما هجاك، فولَّت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها[5]، فمن أعان ظالمًا فقد شارك معه في الظلم وأعانه عليه كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].
واعلموا إخواني أن الكفر دائمًا يحشد قوَّته ثم لا تغنيه من الله شيئًا، فأبشروا إخواني بنصر الإسلام، ولا يحزنكم تكالُب قوى الكفر عليه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾[الأنفال: 36].
فاللهم اهدنا واهْدِ بنا، واجعلنا هُداةً مهتدين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى خمس فوائد، ونختم حديثنا بـفائدتين:
الفائدة السادسة: أبو لهب نموذج الإعلام الفاسد في الصَّدِّ عن الدعوة:
بالإضافة إلى ما سبق من جهر أبي لهب أمام الملأ والصد عن الدعوة، يروي ربيعة بن عباد الديلي -وكان جاهليًّا أسلم- فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، ويدخل في فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا وهو لا يسكت، يقول: ((أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، إلا أن وراءه رجلًا أحول وضيء الوجه ذا غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: محمد بن عبدالله، وهو يذكر النبوة، قلت: مَنْ هذا الذي يُكذِّبه؟ قالوا: عمُّه أبو لهب[6]، وما أكثر الإعلام الفاسد في زماننا! قد يكون قناةً أو صحيفةً أو مجلةً أو جريدةً؛ ورقيةً أو إلكترونيةً هَمُّها محاربةُ الإسلام والصَّدُّ عنه، ألا فليعتبر هؤلاء بمصير أبي لهب وزوجته ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[التوبة: 32].
الفائدة السابعة: أن الجزاء من جنس العمل:
فكما طوقت أم جميل الخناق على المسلمين، وأوقدت نار الفتنة والاضطهاد الديني، فإن جزاءها يكون يوم القيامة من جنس عملها، حبل مفتول بإحكام يمتد حول عنقها فيخنقها، ومن تبع الظالم سيلقى نفس مصيره، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾[هود: 113].
والقصد- إخواني- أنه يجب علينا توسيع دائرة الدعوة إلى الله في بلدك بكل السُّبُل المتاحة، وباللغة التي يفهمها الناس- لا يصدنك عن ذلك صاد- صابرًا محتسبًا فيما تُلاقيه من معارضة أصوات الباطل لصوت الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين. (تتمَّة الدعاء).