حكاية ناي ♔
04-22-2024, 06:44 PM
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضل رسلك، وأنزلتَ علينا خير كتبك، وشرعتَ لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد رأينا في الخطبة السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى خلواته في غار حراء جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربه، فأصبح النبي نبيًّا ورسولًا إلى العالمين، وشرفه ربه باختياره لأمانة التبليغ والرسالة لإنقاذ البشرية من ظلمات الجاهلية، وقبل الاسترسال في قصة المبعث لا بد من وقفة مع طرق الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
فما هي أنواع تنزيلات القرآن؟ وكيف يأتي الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وما أهمية هذا الوحي؟
عباد الله: للقرآن الكريم المنزل على محمدصلى الله عليه وسلم تنزيلات ثلاث:
النزول الأول: نزل القرآن أولًا من الله تعالى إلى اللوح المحفوظ بكيفية لا يعلمها إلا الله؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21، 22].
النزول الثاني: نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، في ليلة مباركة؛ هي ليلة القدر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
النزول الثالث: من بيت العزة نزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة هدًى للناس، وتبيانًا لكل شيء، ثلاثة عشر سنة بمكة، وعشر سنين بالمدينة؛ قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
وكان أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الخمس الآيات الأولى من سورة اقرأ – كما أسلفنا - ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الخمس الآيات الأولى من سورة المدثر، والسبب كما في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((ثم فتر عني الوحي فترةً، فبينا أنا أمشي، سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجَئِثْتُ منه - أي: رعبت، وفي رواية: فجثثت: أي: سقطت وهويت - حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، وفي رواية مسلم: دثروني، فدثروني، فصبوا عليَّ ماءً؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، إلى قوله: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]))، قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان[2]؛ ولذلك قال العلماء: النبي صلى الله عليه وسلم نُبِّئ باقرأ، وأُرسل بالمدثر.
وذكر الله عز وجل أنواع الوحي وكيفيته للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سَألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيُفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفصم عنه وإن جبينه لَيتفصَّدُ عرقًا))[3]، فتحصل لدينا من خلال النظر في الآية الكريمة والحديث الشريف أن الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم يتم بأربعة طرق:
أولًا: بدون واسطة جبريل؛ وفيه ثلاثة طرق:
الأولى: الرؤيا الصادقة، وقد سبق الحديث عنها في خطبة مستقلة.
الثانية: الإلهام: وهو شيء يلقيه الله لعبده أو نبيه بالإلهام؛ أي: أمر يبعثه على فعل الشيء، أو تركه؛ ويستدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته))[4].
الثالثة: من وراء حجاب: أي: يكلمه الله مباشرة من دون واسطة، لكن من وراء حجاب، وقد وقع ذلك لموسى عليه السلام: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلمفي حادثة المعراج.
ثانيًا: بواسطة جبريل عليه السلام؛ وبه نزل القرآن كله؛ وفيه طريقتان:
الأولى: مثل صلصلة الجرس؛ للنبي صلى الله عليه وسلم، وكدوي النحل للصحابة، وهذا النوع يكون شديدًا على النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة من الصلصلة: أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
الثانية: يتمثل الملك رجلًا: وغالبًا ما يأتي في صورة الصحابي دحية الكلبي، ويراه الصحابة كما في حديث جبريل؛ ولقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 192، 193]، وقوله: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10]؛ أي: أوحى جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه.
فاللهم اجعلنا ممن ينتفعون بالوحي، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى عدد تنزيلات القرآن، وأول ما نزل على النبيصلى الله عليه وسلم من القرآن، وأنواع وطرق الوحي للنبيصلى الله عليه وسلم، ونختم بالأهم من هذا كله؛ وهو الحديث عن أهمية الوحي وواجبنا نحوه:
حاجة الناس إلى الوحي أشد من حاجتهم للهواء والغذاء والماء؛ لأن بما سبق نحيا الحياة الدنيا، ولكن بالوحي نحيا الحياة الآخرة، والله خلق الإنسان من روح وجسد:
• الجسد: والله جعل قوامه الطعام والشراب... الخ.
• الروح: وغذاؤها الطاعة لله والتقرب إليه سبحانه ولا يُعرف ذلك إلا بالوحي، وإذا بحث الناس بأنفسهم عن غذاء لأرواحهم لضلوا.
ولا يمكن للإنسان أن يعيش بإشباع حاجات الجسد أو حاجات الروح على حساب الآخر، بل يجب أن يحقق التوازن بأن يغذي الجانب الروحي منه، وإذا طغا جانب على حساب آخر يقول عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، وقال: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
وكذلك سُمِّيَ القرآن الوحي روحًا: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52]؛ لأن الأرواح لا تقوم إلا به، والحضارة المادية التي وصلت إلى كثير من الترف لم تستطع الوصول إلى ذلك الغذاء الروحي؛ ولذلك نجد عندهم أعلى نسب الانتحار، ومن هنا نعرف أن حاجة الإنسان للوحي أشد من حاجته للهواء والماء والغذاء.
فليكن القرآن منهجًا لنا - معاشر الإخوة - أفرادًا ومجتمعات ودولًا؛ روى الإمام مالك في موطئه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه))[5]، والسنة كذلك وحي من الله؛ لأنه معصوم في جانب الوحي؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
فاللهم اجعلنا ممن ينتفعون بالقرآن الكريم، واجعلنا من أهله، واجعله حجةً لنا يا رب العالمين، آمين.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضل رسلك، وأنزلتَ علينا خير كتبك، وشرعتَ لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد رأينا في الخطبة السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى خلواته في غار حراء جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربه، فأصبح النبي نبيًّا ورسولًا إلى العالمين، وشرفه ربه باختياره لأمانة التبليغ والرسالة لإنقاذ البشرية من ظلمات الجاهلية، وقبل الاسترسال في قصة المبعث لا بد من وقفة مع طرق الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا موضوع خطبتنا اليوم[1].
فما هي أنواع تنزيلات القرآن؟ وكيف يأتي الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وما أهمية هذا الوحي؟
عباد الله: للقرآن الكريم المنزل على محمدصلى الله عليه وسلم تنزيلات ثلاث:
النزول الأول: نزل القرآن أولًا من الله تعالى إلى اللوح المحفوظ بكيفية لا يعلمها إلا الله؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21، 22].
النزول الثاني: نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، في ليلة مباركة؛ هي ليلة القدر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
النزول الثالث: من بيت العزة نزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة هدًى للناس، وتبيانًا لكل شيء، ثلاثة عشر سنة بمكة، وعشر سنين بالمدينة؛ قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
وكان أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الخمس الآيات الأولى من سورة اقرأ – كما أسلفنا - ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الخمس الآيات الأولى من سورة المدثر، والسبب كما في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((ثم فتر عني الوحي فترةً، فبينا أنا أمشي، سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجَئِثْتُ منه - أي: رعبت، وفي رواية: فجثثت: أي: سقطت وهويت - حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، وفي رواية مسلم: دثروني، فدثروني، فصبوا عليَّ ماءً؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، إلى قوله: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]))، قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان[2]؛ ولذلك قال العلماء: النبي صلى الله عليه وسلم نُبِّئ باقرأ، وأُرسل بالمدثر.
وذكر الله عز وجل أنواع الوحي وكيفيته للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سَألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيُفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفصم عنه وإن جبينه لَيتفصَّدُ عرقًا))[3]، فتحصل لدينا من خلال النظر في الآية الكريمة والحديث الشريف أن الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم يتم بأربعة طرق:
أولًا: بدون واسطة جبريل؛ وفيه ثلاثة طرق:
الأولى: الرؤيا الصادقة، وقد سبق الحديث عنها في خطبة مستقلة.
الثانية: الإلهام: وهو شيء يلقيه الله لعبده أو نبيه بالإلهام؛ أي: أمر يبعثه على فعل الشيء، أو تركه؛ ويستدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته))[4].
الثالثة: من وراء حجاب: أي: يكلمه الله مباشرة من دون واسطة، لكن من وراء حجاب، وقد وقع ذلك لموسى عليه السلام: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلمفي حادثة المعراج.
ثانيًا: بواسطة جبريل عليه السلام؛ وبه نزل القرآن كله؛ وفيه طريقتان:
الأولى: مثل صلصلة الجرس؛ للنبي صلى الله عليه وسلم، وكدوي النحل للصحابة، وهذا النوع يكون شديدًا على النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة من الصلصلة: أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
الثانية: يتمثل الملك رجلًا: وغالبًا ما يأتي في صورة الصحابي دحية الكلبي، ويراه الصحابة كما في حديث جبريل؛ ولقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 192، 193]، وقوله: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10]؛ أي: أوحى جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه.
فاللهم اجعلنا ممن ينتفعون بالوحي، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى عدد تنزيلات القرآن، وأول ما نزل على النبيصلى الله عليه وسلم من القرآن، وأنواع وطرق الوحي للنبيصلى الله عليه وسلم، ونختم بالأهم من هذا كله؛ وهو الحديث عن أهمية الوحي وواجبنا نحوه:
حاجة الناس إلى الوحي أشد من حاجتهم للهواء والغذاء والماء؛ لأن بما سبق نحيا الحياة الدنيا، ولكن بالوحي نحيا الحياة الآخرة، والله خلق الإنسان من روح وجسد:
• الجسد: والله جعل قوامه الطعام والشراب... الخ.
• الروح: وغذاؤها الطاعة لله والتقرب إليه سبحانه ولا يُعرف ذلك إلا بالوحي، وإذا بحث الناس بأنفسهم عن غذاء لأرواحهم لضلوا.
ولا يمكن للإنسان أن يعيش بإشباع حاجات الجسد أو حاجات الروح على حساب الآخر، بل يجب أن يحقق التوازن بأن يغذي الجانب الروحي منه، وإذا طغا جانب على حساب آخر يقول عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، وقال: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
وكذلك سُمِّيَ القرآن الوحي روحًا: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52]؛ لأن الأرواح لا تقوم إلا به، والحضارة المادية التي وصلت إلى كثير من الترف لم تستطع الوصول إلى ذلك الغذاء الروحي؛ ولذلك نجد عندهم أعلى نسب الانتحار، ومن هنا نعرف أن حاجة الإنسان للوحي أشد من حاجته للهواء والماء والغذاء.
فليكن القرآن منهجًا لنا - معاشر الإخوة - أفرادًا ومجتمعات ودولًا؛ روى الإمام مالك في موطئه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه))[5]، والسنة كذلك وحي من الله؛ لأنه معصوم في جانب الوحي؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
فاللهم اجعلنا ممن ينتفعون بالقرآن الكريم، واجعلنا من أهله، واجعله حجةً لنا يا رب العالمين، آمين.