حكاية ناي ♔
04-24-2024, 08:03 PM
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون، تناولنا في خطبة سابقة حديث القرآن عن صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذكرنا فيها: صبرهم ومصابرتهم، وهجرتهم، وجهادهم.
وفي هذه الخطبة- بعون الله- سنتكلم عن حديث القرآن عنهم بالذكر الحسن، والثناء الجميل على الخصال الحسنة التي تحلَّوا بها، والخلال العذبة التي كانوا عليها، فسنتحدث عن أمهات المؤمنين، وعن الأنصار والمهاجرين، ونتحدَّث عن صور من صفات الصحابة التي مدحهم بها كتابُ ربِّ العالمين.
أيها المؤمنون، لقد تحدَّث القرآن الكريم عن زوجات رسول الله عليه الصلاة والسلام فوصفهن بأمهات المؤمنين، وفي هذا مزية لهن تدعو إلى تعظيمهن وحسن القول فيهن، فقال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، فمن كان مؤمنًا فهن أمهاته: تبجيلًا وتعظيمًا، وتقديرًا وتكريمًا.
وتحدَّث عنهن بأنهن اخترن اللهَ ورسولَه، وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة من الجزاء الحسن، وذلك عندما طلبن زيادة النفقة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عادة النساء، فخيَّرهن بين البقاء معه صابرات على شظف العيش، وبين الطلاق، فاخترْنَ ما ذكرنا، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29].
وأمرهن الله تعالى ونهاهن عن بعض الأمور، وبيَّن أنَّ لهنَّ أجْرينِ بالامتثال، وذكر أنهن من آل بيت نبيِّه الذين يريد الله أن يزُكِّيهم بالإيمان والعمل الصالح، خاصة أن بيوتهن مهبط الوحي الذي هو مَعين الصلاح والتقوى.
فكانت زوجات رسول الله رضي الله عنهُنَّ على أرقى درجات الاستجابة والامتثال، قال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 30 - 34].
ولهذا لما كُنَّ طيِّباتٍ مطيَّبات، طاهراتٍ قانتات مؤمنات، كُنَّ زوجات نبيِّه في الآخرة، كما كُنَّ زوجاته في الدنيا.
ومن حديث القرآن عن زوجات نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم: حديثه عن براءة أم المؤمنين الحصان الرزان حبيبة قلب رسول الله: عائشة الصدِّيقة رضي الله عنها، فقد برَّأها القرآن من الفاحشة التي تولى كِبْر القول فيها المنافقون، فتحدَّث عن هذه القضية في ستَّ عشرةَ آية، ابتداء من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11] إلى قوله تعالى: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
قال حسان بن ثابت رضي الله عنها:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خِيمَها
وَطَهَّرَها مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
أيها الأحباب الكرام، اقرأوا القرآن وتأمَّلوا فيه ستجدون الثناء الكبير على المهاجرين والأنصار، الذين قام الإسلام على أكتافهم، وبسقَتْ شجرةُ الإسلام على طاهر دمائهم، وحرسوها طوال حياتهم، حتى طاب جناها، وثبت في المجد عُلاها، فامتدَتْ فروعُها بعد موتهم حتى شرَّقتْ وغرَّبتْ، وأنْجَدَتْ وأتْهَمَتْ، وأيمنتْ وأشأمَتْ، وأبْحَرت وأصْحَرَتْ.
فمن ثناء القرآن الكريم: ثناؤه على المهاجرين رضي الله عنهم بصلاح النية في الهجرة، وكمال الصدق فيها؛ فقال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].
ومن ثناء القرآن: ثناؤه على الأنصار رضي الله عنهم بمحبة المؤمنين، وإيثارهم ومواساتهم مع عظم فاقتهم وحاجتهم، وهذا من دلائل قوة إيمانهم التي نالوا بها الفلاح؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
ولما كان المهاجرون والأنصار من السابقين إلى الإيمان دعا الله تعالى مَن أتى بعدهم إلى الدعاء لهم؛ فقال عقب الآيتين السابقتين: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
ومن ثناء القرآن: ثناؤه على الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح، والذين أسلموا بعد الفتح بعلوِّ الدرجة عند الله؛ لإنفاقهم وقتالهم في سبيل الله، مع رجحان ميزان الذين أسلموا قبل الفتح في ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].
ومن المهاجرين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، رفيق رسول الله عليه الصلاة والسلام في حضره وسفره، وحياته ومدفنه، وباذل كل ماله في إعانته ونصره، وحارسه الشخصي في هجرته، وأحب أصحابه إلى قلبه، الذي أثنى عليه نبيُّ الله في مشهده ومغيبه، فقد ذكر الله صحبته لرسوله في القرآن، وشمله ما أيَّد الله به نبيَّه في رحلة الهجرة من المعيَّة والسكينة؛ فقال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40].
وعن أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا))[1].
ومن الأنصار: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أُميَّة، رضي الله عنهم، الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، فندموا على ذلك، وصدقوا في الاعتذار، فأنزل الله تعالى توبته عليهم من السماء وذكرها في القرآن، ووصفهم بالصدق، ودعا إلى مصاحبة مثلهم من الصادقين؛ فقال تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 118، 119].
نسأل الله أن يرزقنا كمالَ حبِّ نبيِّه، وحب أصحاب نبيِّه، وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأوفياء، أما بعد:
أيها المسلمون، لقد أثنى الله تعالى على صحابة نبيِّه الكِرام في القرآن لصفات حسنة قامت فيهم، وأعمال طيبة جاءت منهم، فمن ذلك: أن الله تعالى أثنى عليهم بأنهم أشِدَّاء على الكافرين، رحماء بالمؤمنين، طالبون لفضل الله ورضوانه، تبدو آثار العبادة على وجوههم، وهذه صفتهم التي ذكرتها التوراة مدحًا لهم قبل خلقهم، وأما وصفهم الحسن في الإنجيل فهو كونهم نصروا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآزروه وأيَّدوه فهم معه كالشطء مع الزرع، وبأنهم بهذه النعوت البديعة إغاظة للكافرين، وأنهم موعودون بالمغفرة والأجر العظيم؛ فقال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: سرعة استجابتهم لدعوة رسوله لملاحقة المشركين عقب غزوة أُحُد إلى "حمراء الأسد"، رغم ما كانوا عليه من الجراح والآلام، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].
وكذلك سرعة استجابتهم للنفير إلى غزوة تبوك مع بُعْد الشُّقة، وعظمة المشقَّة، وضعف الحال، وسوء الأحوال؛ فلهذا وفَّقهم الله للإنابة إلى أمره وطاعته، وذكر ذلك بوصف التوبة، وبيَّن أنه رؤوف رحيم بهم، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: اتِّباعهم رضوان الله، واكتفاؤهم بالله في مواجهة عدوِّهم، وعدم نكوصهم عن لقائه، فقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾[آل عمران: 173-174].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: أن رسول الله أُمر بتصبير نفسه للبقاء مع صحابته الضعفاء تكريمًا لهم، وهم الذين وصفهم بقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: أنه أثنى عليهم بمحبة التطهر- الحسِّي والمعنوي-ووعدهم على ذلك بحبِّه لهم، فقال تعالى: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: ثناؤه عليهم بطلب ثوابه وحرصهم عليه؛ فلذلك أمرهم بملاحقة عدوِّه فاستجابوا لذلك، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 104].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: طاعتهم لرسوله؛ فهم إن كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمر جمعهم له في مصلحة المسلمين، لم ينصرف أحدٌ منهم حتى يستأذنه، وشهد لهم لذلك بالإيمان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 62]؛ ولكنهم لقوة إيمانهم لا يطلبون إذن رسوله في التخلُّف عن الجهاد؛ بل يسارعون إليه ويحرصون عليه؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 44].
فيا عباد الله، هذا شيء من الثناء في القرآن العظيم على صحابة نبيِّه الكريم؛ فوقِّروهم وبرُّوهم واعرفوا حقَّهم، واقتدوا بهم، وأحسنوا الثناء عليهم، واستغفروا لهم، واذكروهم بأوصافهم الجميلة، وانشروا عنهم كل فضيلة، فما ذكرهم الله تعالى بهذه الصفات الحسنة إلا لأنه راضٍ عنهم، محبٌّ لهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأعلى منازل سموِّهم وعلياهم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على النبيِّ المختار.
أيها المسلمون، تناولنا في خطبة سابقة حديث القرآن عن صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذكرنا فيها: صبرهم ومصابرتهم، وهجرتهم، وجهادهم.
وفي هذه الخطبة- بعون الله- سنتكلم عن حديث القرآن عنهم بالذكر الحسن، والثناء الجميل على الخصال الحسنة التي تحلَّوا بها، والخلال العذبة التي كانوا عليها، فسنتحدث عن أمهات المؤمنين، وعن الأنصار والمهاجرين، ونتحدَّث عن صور من صفات الصحابة التي مدحهم بها كتابُ ربِّ العالمين.
أيها المؤمنون، لقد تحدَّث القرآن الكريم عن زوجات رسول الله عليه الصلاة والسلام فوصفهن بأمهات المؤمنين، وفي هذا مزية لهن تدعو إلى تعظيمهن وحسن القول فيهن، فقال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، فمن كان مؤمنًا فهن أمهاته: تبجيلًا وتعظيمًا، وتقديرًا وتكريمًا.
وتحدَّث عنهن بأنهن اخترن اللهَ ورسولَه، وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة من الجزاء الحسن، وذلك عندما طلبن زيادة النفقة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عادة النساء، فخيَّرهن بين البقاء معه صابرات على شظف العيش، وبين الطلاق، فاخترْنَ ما ذكرنا، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29].
وأمرهن الله تعالى ونهاهن عن بعض الأمور، وبيَّن أنَّ لهنَّ أجْرينِ بالامتثال، وذكر أنهن من آل بيت نبيِّه الذين يريد الله أن يزُكِّيهم بالإيمان والعمل الصالح، خاصة أن بيوتهن مهبط الوحي الذي هو مَعين الصلاح والتقوى.
فكانت زوجات رسول الله رضي الله عنهُنَّ على أرقى درجات الاستجابة والامتثال، قال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 30 - 34].
ولهذا لما كُنَّ طيِّباتٍ مطيَّبات، طاهراتٍ قانتات مؤمنات، كُنَّ زوجات نبيِّه في الآخرة، كما كُنَّ زوجاته في الدنيا.
ومن حديث القرآن عن زوجات نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم: حديثه عن براءة أم المؤمنين الحصان الرزان حبيبة قلب رسول الله: عائشة الصدِّيقة رضي الله عنها، فقد برَّأها القرآن من الفاحشة التي تولى كِبْر القول فيها المنافقون، فتحدَّث عن هذه القضية في ستَّ عشرةَ آية، ابتداء من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11] إلى قوله تعالى: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
قال حسان بن ثابت رضي الله عنها:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خِيمَها
وَطَهَّرَها مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
أيها الأحباب الكرام، اقرأوا القرآن وتأمَّلوا فيه ستجدون الثناء الكبير على المهاجرين والأنصار، الذين قام الإسلام على أكتافهم، وبسقَتْ شجرةُ الإسلام على طاهر دمائهم، وحرسوها طوال حياتهم، حتى طاب جناها، وثبت في المجد عُلاها، فامتدَتْ فروعُها بعد موتهم حتى شرَّقتْ وغرَّبتْ، وأنْجَدَتْ وأتْهَمَتْ، وأيمنتْ وأشأمَتْ، وأبْحَرت وأصْحَرَتْ.
فمن ثناء القرآن الكريم: ثناؤه على المهاجرين رضي الله عنهم بصلاح النية في الهجرة، وكمال الصدق فيها؛ فقال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].
ومن ثناء القرآن: ثناؤه على الأنصار رضي الله عنهم بمحبة المؤمنين، وإيثارهم ومواساتهم مع عظم فاقتهم وحاجتهم، وهذا من دلائل قوة إيمانهم التي نالوا بها الفلاح؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
ولما كان المهاجرون والأنصار من السابقين إلى الإيمان دعا الله تعالى مَن أتى بعدهم إلى الدعاء لهم؛ فقال عقب الآيتين السابقتين: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
ومن ثناء القرآن: ثناؤه على الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح، والذين أسلموا بعد الفتح بعلوِّ الدرجة عند الله؛ لإنفاقهم وقتالهم في سبيل الله، مع رجحان ميزان الذين أسلموا قبل الفتح في ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].
ومن المهاجرين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، رفيق رسول الله عليه الصلاة والسلام في حضره وسفره، وحياته ومدفنه، وباذل كل ماله في إعانته ونصره، وحارسه الشخصي في هجرته، وأحب أصحابه إلى قلبه، الذي أثنى عليه نبيُّ الله في مشهده ومغيبه، فقد ذكر الله صحبته لرسوله في القرآن، وشمله ما أيَّد الله به نبيَّه في رحلة الهجرة من المعيَّة والسكينة؛ فقال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40].
وعن أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا))[1].
ومن الأنصار: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أُميَّة، رضي الله عنهم، الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، فندموا على ذلك، وصدقوا في الاعتذار، فأنزل الله تعالى توبته عليهم من السماء وذكرها في القرآن، ووصفهم بالصدق، ودعا إلى مصاحبة مثلهم من الصادقين؛ فقال تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 118، 119].
نسأل الله أن يرزقنا كمالَ حبِّ نبيِّه، وحب أصحاب نبيِّه، وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأوفياء، أما بعد:
أيها المسلمون، لقد أثنى الله تعالى على صحابة نبيِّه الكِرام في القرآن لصفات حسنة قامت فيهم، وأعمال طيبة جاءت منهم، فمن ذلك: أن الله تعالى أثنى عليهم بأنهم أشِدَّاء على الكافرين، رحماء بالمؤمنين، طالبون لفضل الله ورضوانه، تبدو آثار العبادة على وجوههم، وهذه صفتهم التي ذكرتها التوراة مدحًا لهم قبل خلقهم، وأما وصفهم الحسن في الإنجيل فهو كونهم نصروا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآزروه وأيَّدوه فهم معه كالشطء مع الزرع، وبأنهم بهذه النعوت البديعة إغاظة للكافرين، وأنهم موعودون بالمغفرة والأجر العظيم؛ فقال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: سرعة استجابتهم لدعوة رسوله لملاحقة المشركين عقب غزوة أُحُد إلى "حمراء الأسد"، رغم ما كانوا عليه من الجراح والآلام، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].
وكذلك سرعة استجابتهم للنفير إلى غزوة تبوك مع بُعْد الشُّقة، وعظمة المشقَّة، وضعف الحال، وسوء الأحوال؛ فلهذا وفَّقهم الله للإنابة إلى أمره وطاعته، وذكر ذلك بوصف التوبة، وبيَّن أنه رؤوف رحيم بهم، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: اتِّباعهم رضوان الله، واكتفاؤهم بالله في مواجهة عدوِّهم، وعدم نكوصهم عن لقائه، فقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾[آل عمران: 173-174].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: أن رسول الله أُمر بتصبير نفسه للبقاء مع صحابته الضعفاء تكريمًا لهم، وهم الذين وصفهم بقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: أنه أثنى عليهم بمحبة التطهر- الحسِّي والمعنوي-ووعدهم على ذلك بحبِّه لهم، فقال تعالى: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: ثناؤه عليهم بطلب ثوابه وحرصهم عليه؛ فلذلك أمرهم بملاحقة عدوِّه فاستجابوا لذلك، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 104].
ومن ثناء الله على صحابة رسوله في كتابه: طاعتهم لرسوله؛ فهم إن كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمر جمعهم له في مصلحة المسلمين، لم ينصرف أحدٌ منهم حتى يستأذنه، وشهد لهم لذلك بالإيمان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 62]؛ ولكنهم لقوة إيمانهم لا يطلبون إذن رسوله في التخلُّف عن الجهاد؛ بل يسارعون إليه ويحرصون عليه؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 44].
فيا عباد الله، هذا شيء من الثناء في القرآن العظيم على صحابة نبيِّه الكريم؛ فوقِّروهم وبرُّوهم واعرفوا حقَّهم، واقتدوا بهم، وأحسنوا الثناء عليهم، واستغفروا لهم، واذكروهم بأوصافهم الجميلة، وانشروا عنهم كل فضيلة، فما ذكرهم الله تعالى بهذه الصفات الحسنة إلا لأنه راضٍ عنهم، محبٌّ لهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأعلى منازل سموِّهم وعلياهم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على النبيِّ المختار.