حكاية ناي ♔
04-24-2024, 08:23 PM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد ختمنا سلسلة خطب حول زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة لما كان عمره خمسًا وعشرين سنةً، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامسة والثلاثين، اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه، في حادثة تجديد بناء الكعبة، فحكم بينهم؛ وهذا موضوع خطبتنا[1] اليوم في وقفتين اثنتين:
الوقفة الأولى: في بناء قريش للكعبة: كان ذلك قبل البعثة بـخمس سنوات، وكان عمره صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنةً، وأسباب ذلك كما ذكر أهل السير متعددة؛ فقيل: سيل جارف ضرب مكة، وقيل: حريق شبَّ في الكعبة لامرأة كانت تستجمرها، وقيل: إن ارتفاعها فوق القامة فرغبوا في زيادة ارتفاعها، وقيل: ليس لها سقف فرغبوا في تسقيفها، وقيل: تصدَّع الجدار بفعل الزمن، وقيل: أن أيدي اللصوص امتدت إلى كنزها، وأيًّا كان السبب فالمهم أن قريش عزمت على بناء الكعبة، ويسَّر الله لهم الأسباب لذلك؛ منها: أن البحر رمى لهم بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، وأخافتهم حية كانت تخرج من بئر الكعبة فتصوت عليهم، فبعث الله إليها طائرًا فاختطفها، ومع ذلك خافوا أن يلحق بهم ما لحق بأصحاب الفيل، فقال لهم الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم نُزِغْ – أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه - اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أُصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه.
وفي هذا الهدم والبناء من قريش نستفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: نستفيد - إخواني الكرام - أن النية على أساسها يتم الجزاء بالحسنى إذا صلحت، أو العقوبة إذا فسدت، واعتبروا بفساد نية أبرهة، وماذا حل به، وبفساد نية الجيش الذي يقصد الكعبة لهدمها في آخر الزمان؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يُخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يُخسف بأولهم وآخرهم، ثم يُبعثون على نياتهم))[2]، أما بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة، وقريش وعبدالله بن الزبير، والحجاج، والتجديد في عصرنا الحاضر، لما صلحت النية لم يلحق بهم أذًى؛ فالمدار في الثواب والعقاب على حسن النية أو فسادها.
الفائدة الثانية: صرامة قريش في الأموال التي يُتبرَّع بها لبناء الكعبة: فاشترطوا قبول المال الحلال ورفض المال الحرام، فرفضوا مال الربا، هم يتعاملون به، نعم، ولكن يعلمون أنه حرام لا يُقدَّم لبناء بيت الله، ورفضوا مهر بغي، البغاء منتشر عندهم، نعم، كما رأينا في أنكحة الجاهلية، ولكن لو تبرعت البغي لبناء البيت لا يُقبَل منها، ورفضوا مال المَيْسِر، هم يتعاملون بالقمار ولكن ربحه لا يدخل في بناء البيت، ورفضوا المال المتحصل من مظالم الناس، قد تظلم فتسرق أو تغش فلا يُقبل هذا المال؛ فنستفيد تعظيم قريش للبيت ورفض أي قربة لله بالمال الحرام، وهذا ما أكده الإسلام؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟))[3]؛ ولذلك لما قصرت بقريشٍ النفقة الحلال لم يتموا البيت؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلمعن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا، قال: فعل ذاك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه في الأرض))[4]، فأين نحن ممن يتاجر في المحرمات ويربح منها، ويريد أن يتصدق منها ويبني لنا مساجد؟ فالأولى بهؤلاء أن ينفعوا أنفسهم أولًا، ويزكوها، بترك ما حرم الله عليهم.
فاللهم اجعلنا ممن يقفون عند حدودك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى واستفدنا من بناء قريش للكعبة ضرورة إصلاح النية، والحرص على الحلال في الإنفاق، ونختم بحادثة وقعت أثناء بنائهم للكعبة؛ وهي:
الوقفة الثانية: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء البيت وتحكيم قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود؛ مما يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم مشاركته بيده الشريفة في بناء البيت فكان ينقل الحجارة، وأمره العباس عمه أن يضع على عاتقه رداءه كي يقيه من الحجر، فسقط أرضًا واستفاق، وهو يقول: ((ردائي)) فما رُئيَتْ له عورة بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، ونستفيد من هذا:
أولًا: حفظ الله لنبيه في الجاهلية من أن يتلوث بلوثتها، ومن ذلك التعري، إلى درجة أن هناك من يطوف بالبيت عريانًا؛ لاعتقادهم بعدم الطواف بملابس عصوا الله بها، وثانيًا: أن التعري تخلُّف ولا يعبر عن حضارة ولا قيم ولا أخلاق، بل الخلق في اللباس المعبر عن الحشمة والحياء والوقار؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].
ثم إن قريشًا لما فرغت من البناء، وعزمت على وضع الحجر الأسود في مكانه، اختصمت فيمن يضعه؛ عن علي رضي الله عنه، قال: لما أن هُدِم البيت بعد جُرْهم، بَنَتْهُ قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، وهذا اقتراح أبي أمية بن المغيرة تحكيم أول داخل للحرم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من باب بني شيبة، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا حكمه، فأمر صلى الله عليه وسلم بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فيرفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه بيده الشريفة، فانتهى النزاع، بعدما كادوا أن يقتتلوا ويُفني بعضهم بعضًا، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم الصراع بحكمته، وحاز الشرف كله بوضع الحجر في مكانه، فما أحوج مجتمعنا لأناس شرفاء يسعون لفض النزاعات والإصلاح بين الناس، وجمع كلمة المسلمين، في زمن كثُرت فيه الغِيبة والنميمة، وإفساد ذات البين بين الأزواج وبين الأصدقاء والأحباب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة))[5]، هكذا إخواني نستفيد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فاللهم أصلح ذات بيننا، وهيئ لهذه الأمة من يجمع شملها، آمين.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد ختمنا سلسلة خطب حول زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة لما كان عمره خمسًا وعشرين سنةً، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامسة والثلاثين، اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه، في حادثة تجديد بناء الكعبة، فحكم بينهم؛ وهذا موضوع خطبتنا[1] اليوم في وقفتين اثنتين:
الوقفة الأولى: في بناء قريش للكعبة: كان ذلك قبل البعثة بـخمس سنوات، وكان عمره صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنةً، وأسباب ذلك كما ذكر أهل السير متعددة؛ فقيل: سيل جارف ضرب مكة، وقيل: حريق شبَّ في الكعبة لامرأة كانت تستجمرها، وقيل: إن ارتفاعها فوق القامة فرغبوا في زيادة ارتفاعها، وقيل: ليس لها سقف فرغبوا في تسقيفها، وقيل: تصدَّع الجدار بفعل الزمن، وقيل: أن أيدي اللصوص امتدت إلى كنزها، وأيًّا كان السبب فالمهم أن قريش عزمت على بناء الكعبة، ويسَّر الله لهم الأسباب لذلك؛ منها: أن البحر رمى لهم بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، وأخافتهم حية كانت تخرج من بئر الكعبة فتصوت عليهم، فبعث الله إليها طائرًا فاختطفها، ومع ذلك خافوا أن يلحق بهم ما لحق بأصحاب الفيل، فقال لهم الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم نُزِغْ – أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه - اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أُصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه.
وفي هذا الهدم والبناء من قريش نستفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: نستفيد - إخواني الكرام - أن النية على أساسها يتم الجزاء بالحسنى إذا صلحت، أو العقوبة إذا فسدت، واعتبروا بفساد نية أبرهة، وماذا حل به، وبفساد نية الجيش الذي يقصد الكعبة لهدمها في آخر الزمان؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يُخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يُخسف بأولهم وآخرهم، ثم يُبعثون على نياتهم))[2]، أما بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة، وقريش وعبدالله بن الزبير، والحجاج، والتجديد في عصرنا الحاضر، لما صلحت النية لم يلحق بهم أذًى؛ فالمدار في الثواب والعقاب على حسن النية أو فسادها.
الفائدة الثانية: صرامة قريش في الأموال التي يُتبرَّع بها لبناء الكعبة: فاشترطوا قبول المال الحلال ورفض المال الحرام، فرفضوا مال الربا، هم يتعاملون به، نعم، ولكن يعلمون أنه حرام لا يُقدَّم لبناء بيت الله، ورفضوا مهر بغي، البغاء منتشر عندهم، نعم، كما رأينا في أنكحة الجاهلية، ولكن لو تبرعت البغي لبناء البيت لا يُقبَل منها، ورفضوا مال المَيْسِر، هم يتعاملون بالقمار ولكن ربحه لا يدخل في بناء البيت، ورفضوا المال المتحصل من مظالم الناس، قد تظلم فتسرق أو تغش فلا يُقبل هذا المال؛ فنستفيد تعظيم قريش للبيت ورفض أي قربة لله بالمال الحرام، وهذا ما أكده الإسلام؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟))[3]؛ ولذلك لما قصرت بقريشٍ النفقة الحلال لم يتموا البيت؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلمعن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا، قال: فعل ذاك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه في الأرض))[4]، فأين نحن ممن يتاجر في المحرمات ويربح منها، ويريد أن يتصدق منها ويبني لنا مساجد؟ فالأولى بهؤلاء أن ينفعوا أنفسهم أولًا، ويزكوها، بترك ما حرم الله عليهم.
فاللهم اجعلنا ممن يقفون عند حدودك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى واستفدنا من بناء قريش للكعبة ضرورة إصلاح النية، والحرص على الحلال في الإنفاق، ونختم بحادثة وقعت أثناء بنائهم للكعبة؛ وهي:
الوقفة الثانية: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء البيت وتحكيم قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود؛ مما يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم مشاركته بيده الشريفة في بناء البيت فكان ينقل الحجارة، وأمره العباس عمه أن يضع على عاتقه رداءه كي يقيه من الحجر، فسقط أرضًا واستفاق، وهو يقول: ((ردائي)) فما رُئيَتْ له عورة بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، ونستفيد من هذا:
أولًا: حفظ الله لنبيه في الجاهلية من أن يتلوث بلوثتها، ومن ذلك التعري، إلى درجة أن هناك من يطوف بالبيت عريانًا؛ لاعتقادهم بعدم الطواف بملابس عصوا الله بها، وثانيًا: أن التعري تخلُّف ولا يعبر عن حضارة ولا قيم ولا أخلاق، بل الخلق في اللباس المعبر عن الحشمة والحياء والوقار؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].
ثم إن قريشًا لما فرغت من البناء، وعزمت على وضع الحجر الأسود في مكانه، اختصمت فيمن يضعه؛ عن علي رضي الله عنه، قال: لما أن هُدِم البيت بعد جُرْهم، بَنَتْهُ قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، وهذا اقتراح أبي أمية بن المغيرة تحكيم أول داخل للحرم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من باب بني شيبة، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا حكمه، فأمر صلى الله عليه وسلم بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فيرفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه بيده الشريفة، فانتهى النزاع، بعدما كادوا أن يقتتلوا ويُفني بعضهم بعضًا، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم الصراع بحكمته، وحاز الشرف كله بوضع الحجر في مكانه، فما أحوج مجتمعنا لأناس شرفاء يسعون لفض النزاعات والإصلاح بين الناس، وجمع كلمة المسلمين، في زمن كثُرت فيه الغِيبة والنميمة، وإفساد ذات البين بين الأزواج وبين الأصدقاء والأحباب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة))[5]، هكذا إخواني نستفيد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فاللهم أصلح ذات بيننا، وهيئ لهذه الأمة من يجمع شملها، آمين.