حكاية ناي ♔
04-27-2024, 02:41 PM
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، نحمدُك ربَّنا على ما أنعمت به علينا من نِعمكَ العظيمة، وآلائكَ الجسيمة؛ حيثُ أرسلتُ إلينا أفضل رُسلك، وأنزلت عَلينا خير كُتبك، وشرعتَ لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لكَ الحمدُ حتى تَرضى، ولك الحمدُ إذا رَضِيت، ولَك الحمدُ بعد الرِّضَا؛ أما بَعدُ أيُّها الإخوة المُؤمنون:
تذكير وتمهيد: فقد تحدَّثنا في الخُطبة الماضية عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي بَادِيَةِ بَنِي سَعْد، حيث استرضع هناك لمدة عامين، ووقعت له حادثةُ شق الصدرِ، وعمره أربع سنوات، واستفدنا من الدروس والعِبر:
• أهميةُ الحِرص على رضَاع الطِّفل الرَّضاعة الطبيعية، ويُحرم من الرضَاع ما يُحرمُ من النَّسبِ، استفدنا هذا لَمَّا عُرضت ابنةُ حمزة على النبي صلى الله عليه وسلم للزواجِ.
• تطهيرُ النبي صلى الله عليه وسلم من حظ الشيطانِ، وتزكية الله لهُ، وأنه علينا نحن الالتجاء إلى الله ليحفظنا من كيدهِ، باتِّباعِ هدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله اللهُ لهذه المهمَّةِ؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
ولا يزالُ الحديثُ مستمرًّا حولَ حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثةِ، وحدِيثُنا اليَومَ عنِ يُتْمُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَفَالَةِ جَدِّهِ وَعَمِّهِ لَهُ؛ موضوع خطبتنَا باختصار.
عبادَ الله، ذهب عبدالله والِدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تِجارة إلى الشام، ورجَعَ وهو مريضٌ في الطريقِ فماتَ بالمدينةِ، ودُفنَ في دارِ النَّابِغةِ في يثربَ، ماتَ وعُمرهُ خمس وعشرون سنة، وترك بعده خمسة جِمالٍ وقطعة غَنم، وجاريةً حَبشيَّة اسمُها بَركة، وكُنيتُها أم أيمَن، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حَامل به لشهرين، وقد رَثته آمنة بأحسن المَراثِي؛ وممَّا قالته:
عَفا جانبَ البَطحاءِ من ابن هاشمِ
وجاورَ لحدًا خارجًا في الغَماغِمِ
دعتهُ المَنايا دَعوةً فأجابَها
وما تركت في النَّاس مثل ابنِ هاشمِ
عَشيَّة رَاحُوا يَحملونَ سَريرَه
تَعاورَه أصحابه في التزاحُمِ
فإن يكُ غَالتهُ المَنايَا وَريبِها
فقد كانَ مِعطَاءً كثيرَ التَّراحُمِ[1]
ولمَّا وُلِد وُلد يَتيم الأبِ؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، كيف آواه الله عز وجل؟
أولًا: بكفالَة أمِّه: كفلته أمُّه آمنةُ، ولمَّا بلغ سِتَّ سنين توفيت أمُّه بالأبَواء (بلدةٌ بين مكة والمدينة وتبعدُ عن رَابَغ - مكان إحرام المغاربة بالحج - 67 كيلو)، وكانت قد قَدِمت به على أَخْوَالِهِ من بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، تُزِيرُهُ إيَّاهُمْ، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكةَ، فأصبحَ رسول الله يتيمَ الأبوينِ.
ثانيًا: كفالةُ جدِّه: بعد موتِ أمِّه كفلهُ عبدالمطلب، ومن مظاهر اهتمامهِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يُوضعُ لعبدالمطلب فراشٌ في ظل الكعبةِ، فكان بنُوه يجلسونَ حول فراشهِ ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بنيهِ إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلامٌ جفرٌ، حتَّى يجلسَ عليهِ، فيأخذَه أعمامُه ليؤخروهُ عنه، فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم: دَعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا، ثم يُجلِسه معه على الفِراش، ويمسحُ ظهره بيده، ويسرُّه ما يراه يصنَع، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سَنوات مَات جدُّه، وأوصَى بِه عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ.
ثالثًا: كفالةُ عمِّه أبي طالب: وهو أخو أبيه الشقيق من أمِّهما فَاطِمَة بِنْت عَمْرِو، فكان يَحُوطه ويُدافع عنه - كما سَنرى إن شاء الله - إلى أن مَات أبو طالب، وإن كان هو الآخر مات على الشِّرك، ولنا مع هذا الملخص الذي سبق معنا وقفتَان:
الوقفة 1: الموت على الشرك وهدي النبي صلى الله عليه وسلم:
1- بالنسبة لأبيه: روى مسلمٌ عَنْ أَنَسٍ: ((أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى - ذهب موليًا - دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ))[2]، وقِيل: إنَّ هذا لا يُنافي أنَّه من أهل الفَترة الذين يُمتحَنون، وقيل: من الذين لا يُعذرون لأنه من البقايا الذين بلغهم دين إبراهيم، والله أعلم.
2- بالنسبة لأمه: أنَّه زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ، عام فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ، فَقالَ: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا القُبُورَ؛ فإنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْتَ))[3]، ونستفيد أمورًا:
• أن قصده صلى الله عليه وسلم في زيارة قبرها زيادةُ الموعظة والذكرى كما قال في آخر الحديث.
• وفيه جواز البكاء بدمعِ العين عند زيارة القبورِ، نتيجة تذكر المَصير.
• وفيه حقوق الوالدين بزيارة قبرهما، ولو كانَا كافرين.
• وفيه عدم جواز الاستغفار والترحم على الكفار والمشركين، وينبغي للمؤمن ألا تأخذَه العاطفة في ذلك؛ لأنهم ماتوا على الشِّرك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
ونفس ما قيل عن أمِّه يُقال عن عمِّه أبي طالب: لمَّا مات قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]))[4]، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأنبياء قبله التَّبرؤ مِن المشركين ولو كَانوا من الأقارب.
فهذا نوح عليه السلام: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 46، 47].
وهذا إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه عن وعد وعدَه إيَّاه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].
فاللهم فقِّهنا في سيرة نبيِّك، وارزقنا حبَّه، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، آمين، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أمَّا بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى موت أبِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأمه وكفالة الجد والعم، وأفضنا الحديث عن عدم جواز الاستغفار للمُشركين بِنصوص الكتاب والسُّنة، وعليه لا يصلَّى عليهم، ولا يُدعى لهم، ولا يُستغفر لهم.
عبادَ الله: نختم بوقفة أخيرة مع قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9].
من الدروس التي أمَرَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعلمها من يُتمه ألَّا يقهرَ اليتيم؛ أي: فلا تُسِئ معاملة مَن فقد أبَاه في الصِّغر، ولا تذلَّه، كما آواك الله أنتَ، فكان من هديِه صلى الله عليه وسلم في مُعاملة اليتيم أنَّه:
• أمرَ برعايته؛ فقال: ((وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا؛ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا))[5]، فأن تقومَ بأمرِ الذي مات أبوه ومصالحه ولم يَبلغ، وتحفظ أموالَه من الضَّياع، يجعلُك بالقربِ من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنَّة، أي بشارةِ هذه؟!
• ووصف علاج قسوة القلب بالإحسان لليتيمِ: جاء رجلٌ يشكو قسوة قلبهِ؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتُحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم، وامسح رأسَه، وأطعِمه من طَعامك، يَلِنْ قلبك وتدرك حاجتك))[6]؛ لأنَّ الرجل الذي يعيش في التَّرف، ينسى آلام الضُّعفاء، فنُبَّهَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم نسيانهم.
• ومدح نساءَ قريش لرعايتهنَّ لليتامى: فقال: ((خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ))[7]؛ أي: أشفَقُ النَّاسِ وأرفقُهنَّ بِالولدِ، وأكثرُ رِعايةً وصِيانةً لمالِ زوجِها في النَّفَقةِ وحُسنِ التَّدبيرِ وغيرِهما.
• وسعى في جَبرِ قلبِ اليَتيم: اختصمَ أبو لُبابَة ويتيم في نَخلة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَهُ بِها لأنَّ الحقَّ معه، لكنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الغلام اليتيم يبكي، قال لأبِي لُبابة: ((أعطه نخلتك، فقال: لا، فقال: أعطه إيَّاها ولك عِذق - نخلة أو عُرجونها - في الجنَّة، فقال: لا، فسمِع بذلك ابن الدَّحداحة، فقال لأبي لُبابة: أتبيع عذقك ذلك بحديقتي هذه؟ فقال: نعم، ثم جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: النخلة التي سألت لليتيم إن أعطيته، ألِي بها عذق في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم قُتِل ابن الدحداحة شهيدًا يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُب عذق مذلَّل لابن الدَّحداحة في الجنَّة))[8].
فاللَّهم اجعلنا من المحسنين لليتامى، وفقِّهنا في سِيرة نبيِّك، واجعلنا ممن يتبعون هَديه، واحشرنا في زُمرته، واسقنا شَربة من حوضه، لا نظمأ بعدها أبدًا، وارزقنا حبَّه وحبَّ من يُحبُّه، والعَمل الذي يبلِّغنا حبَّه، آمين (تتمة الدعاء).
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، نحمدُك ربَّنا على ما أنعمت به علينا من نِعمكَ العظيمة، وآلائكَ الجسيمة؛ حيثُ أرسلتُ إلينا أفضل رُسلك، وأنزلت عَلينا خير كُتبك، وشرعتَ لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لكَ الحمدُ حتى تَرضى، ولك الحمدُ إذا رَضِيت، ولَك الحمدُ بعد الرِّضَا؛ أما بَعدُ أيُّها الإخوة المُؤمنون:
تذكير وتمهيد: فقد تحدَّثنا في الخُطبة الماضية عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي بَادِيَةِ بَنِي سَعْد، حيث استرضع هناك لمدة عامين، ووقعت له حادثةُ شق الصدرِ، وعمره أربع سنوات، واستفدنا من الدروس والعِبر:
• أهميةُ الحِرص على رضَاع الطِّفل الرَّضاعة الطبيعية، ويُحرم من الرضَاع ما يُحرمُ من النَّسبِ، استفدنا هذا لَمَّا عُرضت ابنةُ حمزة على النبي صلى الله عليه وسلم للزواجِ.
• تطهيرُ النبي صلى الله عليه وسلم من حظ الشيطانِ، وتزكية الله لهُ، وأنه علينا نحن الالتجاء إلى الله ليحفظنا من كيدهِ، باتِّباعِ هدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله اللهُ لهذه المهمَّةِ؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
ولا يزالُ الحديثُ مستمرًّا حولَ حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثةِ، وحدِيثُنا اليَومَ عنِ يُتْمُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَفَالَةِ جَدِّهِ وَعَمِّهِ لَهُ؛ موضوع خطبتنَا باختصار.
عبادَ الله، ذهب عبدالله والِدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تِجارة إلى الشام، ورجَعَ وهو مريضٌ في الطريقِ فماتَ بالمدينةِ، ودُفنَ في دارِ النَّابِغةِ في يثربَ، ماتَ وعُمرهُ خمس وعشرون سنة، وترك بعده خمسة جِمالٍ وقطعة غَنم، وجاريةً حَبشيَّة اسمُها بَركة، وكُنيتُها أم أيمَن، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حَامل به لشهرين، وقد رَثته آمنة بأحسن المَراثِي؛ وممَّا قالته:
عَفا جانبَ البَطحاءِ من ابن هاشمِ
وجاورَ لحدًا خارجًا في الغَماغِمِ
دعتهُ المَنايا دَعوةً فأجابَها
وما تركت في النَّاس مثل ابنِ هاشمِ
عَشيَّة رَاحُوا يَحملونَ سَريرَه
تَعاورَه أصحابه في التزاحُمِ
فإن يكُ غَالتهُ المَنايَا وَريبِها
فقد كانَ مِعطَاءً كثيرَ التَّراحُمِ[1]
ولمَّا وُلِد وُلد يَتيم الأبِ؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، كيف آواه الله عز وجل؟
أولًا: بكفالَة أمِّه: كفلته أمُّه آمنةُ، ولمَّا بلغ سِتَّ سنين توفيت أمُّه بالأبَواء (بلدةٌ بين مكة والمدينة وتبعدُ عن رَابَغ - مكان إحرام المغاربة بالحج - 67 كيلو)، وكانت قد قَدِمت به على أَخْوَالِهِ من بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، تُزِيرُهُ إيَّاهُمْ، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكةَ، فأصبحَ رسول الله يتيمَ الأبوينِ.
ثانيًا: كفالةُ جدِّه: بعد موتِ أمِّه كفلهُ عبدالمطلب، ومن مظاهر اهتمامهِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يُوضعُ لعبدالمطلب فراشٌ في ظل الكعبةِ، فكان بنُوه يجلسونَ حول فراشهِ ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بنيهِ إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلامٌ جفرٌ، حتَّى يجلسَ عليهِ، فيأخذَه أعمامُه ليؤخروهُ عنه، فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم: دَعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا، ثم يُجلِسه معه على الفِراش، ويمسحُ ظهره بيده، ويسرُّه ما يراه يصنَع، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سَنوات مَات جدُّه، وأوصَى بِه عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ.
ثالثًا: كفالةُ عمِّه أبي طالب: وهو أخو أبيه الشقيق من أمِّهما فَاطِمَة بِنْت عَمْرِو، فكان يَحُوطه ويُدافع عنه - كما سَنرى إن شاء الله - إلى أن مَات أبو طالب، وإن كان هو الآخر مات على الشِّرك، ولنا مع هذا الملخص الذي سبق معنا وقفتَان:
الوقفة 1: الموت على الشرك وهدي النبي صلى الله عليه وسلم:
1- بالنسبة لأبيه: روى مسلمٌ عَنْ أَنَسٍ: ((أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى - ذهب موليًا - دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ))[2]، وقِيل: إنَّ هذا لا يُنافي أنَّه من أهل الفَترة الذين يُمتحَنون، وقيل: من الذين لا يُعذرون لأنه من البقايا الذين بلغهم دين إبراهيم، والله أعلم.
2- بالنسبة لأمه: أنَّه زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ، عام فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ، فَقالَ: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا القُبُورَ؛ فإنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْتَ))[3]، ونستفيد أمورًا:
• أن قصده صلى الله عليه وسلم في زيارة قبرها زيادةُ الموعظة والذكرى كما قال في آخر الحديث.
• وفيه جواز البكاء بدمعِ العين عند زيارة القبورِ، نتيجة تذكر المَصير.
• وفيه حقوق الوالدين بزيارة قبرهما، ولو كانَا كافرين.
• وفيه عدم جواز الاستغفار والترحم على الكفار والمشركين، وينبغي للمؤمن ألا تأخذَه العاطفة في ذلك؛ لأنهم ماتوا على الشِّرك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
ونفس ما قيل عن أمِّه يُقال عن عمِّه أبي طالب: لمَّا مات قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]))[4]، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأنبياء قبله التَّبرؤ مِن المشركين ولو كَانوا من الأقارب.
فهذا نوح عليه السلام: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 46، 47].
وهذا إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه عن وعد وعدَه إيَّاه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].
فاللهم فقِّهنا في سيرة نبيِّك، وارزقنا حبَّه، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، آمين، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أمَّا بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى موت أبِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأمه وكفالة الجد والعم، وأفضنا الحديث عن عدم جواز الاستغفار للمُشركين بِنصوص الكتاب والسُّنة، وعليه لا يصلَّى عليهم، ولا يُدعى لهم، ولا يُستغفر لهم.
عبادَ الله: نختم بوقفة أخيرة مع قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9].
من الدروس التي أمَرَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعلمها من يُتمه ألَّا يقهرَ اليتيم؛ أي: فلا تُسِئ معاملة مَن فقد أبَاه في الصِّغر، ولا تذلَّه، كما آواك الله أنتَ، فكان من هديِه صلى الله عليه وسلم في مُعاملة اليتيم أنَّه:
• أمرَ برعايته؛ فقال: ((وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا؛ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا))[5]، فأن تقومَ بأمرِ الذي مات أبوه ومصالحه ولم يَبلغ، وتحفظ أموالَه من الضَّياع، يجعلُك بالقربِ من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنَّة، أي بشارةِ هذه؟!
• ووصف علاج قسوة القلب بالإحسان لليتيمِ: جاء رجلٌ يشكو قسوة قلبهِ؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتُحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم، وامسح رأسَه، وأطعِمه من طَعامك، يَلِنْ قلبك وتدرك حاجتك))[6]؛ لأنَّ الرجل الذي يعيش في التَّرف، ينسى آلام الضُّعفاء، فنُبَّهَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم نسيانهم.
• ومدح نساءَ قريش لرعايتهنَّ لليتامى: فقال: ((خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ))[7]؛ أي: أشفَقُ النَّاسِ وأرفقُهنَّ بِالولدِ، وأكثرُ رِعايةً وصِيانةً لمالِ زوجِها في النَّفَقةِ وحُسنِ التَّدبيرِ وغيرِهما.
• وسعى في جَبرِ قلبِ اليَتيم: اختصمَ أبو لُبابَة ويتيم في نَخلة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَهُ بِها لأنَّ الحقَّ معه، لكنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الغلام اليتيم يبكي، قال لأبِي لُبابة: ((أعطه نخلتك، فقال: لا، فقال: أعطه إيَّاها ولك عِذق - نخلة أو عُرجونها - في الجنَّة، فقال: لا، فسمِع بذلك ابن الدَّحداحة، فقال لأبي لُبابة: أتبيع عذقك ذلك بحديقتي هذه؟ فقال: نعم، ثم جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: النخلة التي سألت لليتيم إن أعطيته، ألِي بها عذق في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم قُتِل ابن الدحداحة شهيدًا يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُب عذق مذلَّل لابن الدَّحداحة في الجنَّة))[8].
فاللَّهم اجعلنا من المحسنين لليتامى، وفقِّهنا في سِيرة نبيِّك، واجعلنا ممن يتبعون هَديه، واحشرنا في زُمرته، واسقنا شَربة من حوضه، لا نظمأ بعدها أبدًا، وارزقنا حبَّه وحبَّ من يُحبُّه، والعَمل الذي يبلِّغنا حبَّه، آمين (تتمة الدعاء).