حكاية ناي ♔
04-29-2024, 06:31 PM
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلِ الله فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدُك ربَّنا على ما أنعمتَ به علينا من نِعَمِكَ العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضلَ رُسُلِكَ، وأنزلتَ علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشرعتَ لنا أفضلَ شرائع دينِكَ، فاللهم لك الحمدُ حتى ترضى، ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ، ولك الحمدُ بعد الرضا، ثم أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون:
تمهيد:
بعد أن ختمنا كلامَنا عن حال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأدركنا جميعًا الحاجةَ إلى إنقاذ البشرية مما هي فيه من فسادٍ دينيٍّ، واجتماعي، وأخلاقي واقتصادي، فكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل الحديث عن البعثة النبوية سنُلقي خُطَبًا بإذن الله للتعرف على حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. وموضوع خُطْبتنا الأولى عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم.
1- نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
هو أبو القاسم محمد بنُ عبدالله بنِ عبدالمُطَّلب، بنِ هاشم، بنِ عبدِ مناف، بنِ قُصَي، بنِ كِلاب بنِ مُرة بنِ كَعب بنِ لُؤي بن غَالِب بنِ فِهر (قريش)، بن مَالك، بن النَّضِر، بنِ كِنانة، بنِ خُزيمة، بنِ مُدركة، بن إلياس، بنِ مُضر، بنِ نِزار، بنِ مَعد، بنِ عَدنان.
وهذا الذي ذكرتُ متفقٌ عليه في نسَب النبي صلى الله عليه وسلم ومختلفٌ فيما بين عدنان وإسماعيل، قالت عائشةُ رضي الله عنها: "استقام نسبُ الناسِ إلى معدِّ بنِ عدنان"[1]، وبعده مختلف فيه، وضعيف ولا يصح. ويلتقي نسبُ النبي صلى الله عليه وسلم وأمه في كلاب بن مرَّة؛ لأنها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة[2].
للمُصطفى خير أجدادٍ به شرُفوا
عَلى القَبائل في سِرٍّ وإعْلانِ[3]
ولنا وقفات مع هذا النسب:
الوقفة 1: تزكية النبي صلى الله عليه وسلم وتطهيره في نسبه:
الله عز وجل زكَّى نبيَّه في:
• عَقلِه، فقال: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 2].
• صِدْقه، فقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3].
• فُؤادِه، فقال: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
• بَصره، فقال: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17].
• صَدره، فقال: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1].
• طُهره من الذنوب، فقال: ﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾ [الشرح: 2].
• خُلقه فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
• ذِكره، فقال: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4].
قال حسان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم:
وضَمَّ الإلَهُ اسمَ النَّبي إلى اسْمهِ
إذَا قَال في الخَمسِ المُؤذن: أَشهَدُ
وشَقَّ لَه مِن إسْمهِ ليُجلَّه
فذُو العَرشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ[4]
وكما زكَّاه فيما سبق زكَّاه أيضًا في نسبه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ))[5].
الوقفة2: طهَّر نسبَه سدًّا لذريعة القدح في نسبه: وكذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من سِفاح أبدًا، ولو كان كذلك لوجدها المشركون ذريعةً للنيل منه.
لَم يلْتقِي أبوَاه فِي السِّفاح كَما
أوصَى ابنَه آدمٌ في بَدْء أزمانِ[6]
وهذا هرقل ملك الروم يسأل أبا سفيان عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب: "هو فينا ذو نسب"[7]. فلم يجد أبو سفيان ذريعةً للقدح فيه ولو وجدها لفعل لعزمه على القدح في النبي صلى الله عليه وسلم والكذب عليه كما صرح بنفسه. ثم قال هرقل: "وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها"، وقال أبو سفيان لمَّا خرج: وابن أبي كبشة هو جد أم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير معروف، فنسبه إلى جد غامضٍ تحقيرًا له. ولم يجد إلا هذا!
الوقفة3: أبو القاسم هي كنيته صلى الله عليه وسلم: والقاسم هو أكبر أولاده من خديجة رضي الله عنها، حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتنوا بكنيته، ذلك أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم كان في السُّوقِ، فَقالَ رَجُلٌ: يا أبَا القَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: إنَّما دَعَوْتُ هذا، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((سَمُّوا باسْمِي ولَا تَكَنَّوْا بكُنْيَتِي))[8]. وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد هذا الخوف فأجاز العلماء التكنِّي بكنية النبي صلى الله عليه وسلم فمثلًا: محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن علي بن أبي طالب وغيرهما كل واحد منهم يُكنَّى أبا القاسم، قال مالك رحمه الله: "وَمَا عَلِمْت بَأْسًا أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَيُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ"[9].
الوقفة4: لا يجوز التعبيد لغير الله: وجود عبدالمطلب في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ليس حجة في التعبيد لغير الله، وقد حكى ابن حزم الإجماع على تحريم كلِّ اسم معبَّد لغير الله فقال: "واتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله عز وجل كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب"[10]، واستثنوا عبدالمطلب؛ لما فيه من الخلاف لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب))[11]. والصحيح أن قول النبي صلى الله عليه وسلم من باب الإخبار وحكاية نَسَبٍ مَضَى، وليس من باب إنشاء الحكم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّرَ الكثير من الأسماء كعبد الرحمن بن سَمُرة وكان اسمه عبد كُلال، واسم حَزن إلى سهل، واسم شهاب إلى هشام، واسم جثَّامة المُزنيَّة إلى حسَّانة المُزنيَّة[12] وهكذا. ومن هذه الأسماء ما هو ما شَاع في زماننا بعبد النبي، فالأولى تغييره.
فاللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصَحْبه ومن اقتفى، ثم أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى أربع وقفات مع نسب النبي، فالله عز وجل طهَّرَه في نسبه، سدًّا لذريعة القدح فيه، وأنه يجوز التكنِّي بكنيته بعد موته، ولا يجوز التعبيد لغير الله كعبد النبي مثلًا.
2- فأين يَكمُن شرفُ الانتساب للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم شرفٌ بحكم انتسابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُنكره إلا مُعاند أو مكابرٌ لثبات النصوص بذلك، وليس يعنيني الآن إثبات فضل آل النبي بقدر ما أختم بالانتساب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم سواء كنت منتسبًا بالنسب له، أو غير منتسبٍ، ومَن هو أحقُّ به صلى الله عليه وسلم في الدنيا ويوم القيامة؟
إذا كنت تتحرَّى أن يكون وضوءك كوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت منتسبٌ له فأبْشِر.
إذا كنت تصلي، وتحافظ على صلاتك، وتصلي كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت منتسبٌ له فأبْشِر؛ لأنه قال: ((صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))[13].
إذا كنت تراعي أن يكون خلقك كما قالت عائشة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان خُلُقُه القرآنَ))[14]، فأبْشِر فأنت منتسبٌ في صدقك وأمانتك للنبي صلى الله عليه وسلم.
لمَّا تحلق شعر رأسك حلاقة عادية، ولا تتشبَّه بغير النبي صلى الله عليه وسلم، فأبْشِر فأنت منتسبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
لما تلبسين حجابك، وتلبسين لباس الحياء يا أمة الله، فأبشري فأنت منتسبةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
ما انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من حاول أن يتعالى بنسبه: ويفتخر على الناس، وعلو النسب لا يُعطي مبررًا أبدًا للتعالي؛ لأنه من شِيم الجاهلية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب))[15] ، والحديث وإن كان ضعيفًا من حيث السند فهو مما يصحُّ معناه، والمعيار الحقيقي للتفاضل هو المنصوص عليه في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
ما انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من أبطأ به عمله: لمَّا نزل قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عباس بن عبدِالمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ، لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا))[16] ، فالقرب من نسب النبي صلى الله عليه وسلم لن يفيد شيئًا إذا لم تكن لهَدْيِه مُتَّبِعًا، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وأنتم تعلمون طرد الملائكة مَنْ يريد الشرب من الحوض ممن ابتعد عن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبطأ به عمله لم يُسرِع به نسبُه.
فاللهم اجعَلنا من المنتسبين حقيقة لنبيِّك، وارزُقنا حبَّه وحبَّ من يُحبُّه، والعمل الذي يبلغنا حبَّه...(الدعاء)
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلِ الله فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدُك ربَّنا على ما أنعمتَ به علينا من نِعَمِكَ العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضلَ رُسُلِكَ، وأنزلتَ علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشرعتَ لنا أفضلَ شرائع دينِكَ، فاللهم لك الحمدُ حتى ترضى، ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ، ولك الحمدُ بعد الرضا، ثم أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون:
تمهيد:
بعد أن ختمنا كلامَنا عن حال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأدركنا جميعًا الحاجةَ إلى إنقاذ البشرية مما هي فيه من فسادٍ دينيٍّ، واجتماعي، وأخلاقي واقتصادي، فكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل الحديث عن البعثة النبوية سنُلقي خُطَبًا بإذن الله للتعرف على حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. وموضوع خُطْبتنا الأولى عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم.
1- نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
هو أبو القاسم محمد بنُ عبدالله بنِ عبدالمُطَّلب، بنِ هاشم، بنِ عبدِ مناف، بنِ قُصَي، بنِ كِلاب بنِ مُرة بنِ كَعب بنِ لُؤي بن غَالِب بنِ فِهر (قريش)، بن مَالك، بن النَّضِر، بنِ كِنانة، بنِ خُزيمة، بنِ مُدركة، بن إلياس، بنِ مُضر، بنِ نِزار، بنِ مَعد، بنِ عَدنان.
وهذا الذي ذكرتُ متفقٌ عليه في نسَب النبي صلى الله عليه وسلم ومختلفٌ فيما بين عدنان وإسماعيل، قالت عائشةُ رضي الله عنها: "استقام نسبُ الناسِ إلى معدِّ بنِ عدنان"[1]، وبعده مختلف فيه، وضعيف ولا يصح. ويلتقي نسبُ النبي صلى الله عليه وسلم وأمه في كلاب بن مرَّة؛ لأنها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة[2].
للمُصطفى خير أجدادٍ به شرُفوا
عَلى القَبائل في سِرٍّ وإعْلانِ[3]
ولنا وقفات مع هذا النسب:
الوقفة 1: تزكية النبي صلى الله عليه وسلم وتطهيره في نسبه:
الله عز وجل زكَّى نبيَّه في:
• عَقلِه، فقال: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 2].
• صِدْقه، فقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3].
• فُؤادِه، فقال: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
• بَصره، فقال: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17].
• صَدره، فقال: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1].
• طُهره من الذنوب، فقال: ﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾ [الشرح: 2].
• خُلقه فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
• ذِكره، فقال: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4].
قال حسان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم:
وضَمَّ الإلَهُ اسمَ النَّبي إلى اسْمهِ
إذَا قَال في الخَمسِ المُؤذن: أَشهَدُ
وشَقَّ لَه مِن إسْمهِ ليُجلَّه
فذُو العَرشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ[4]
وكما زكَّاه فيما سبق زكَّاه أيضًا في نسبه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ))[5].
الوقفة2: طهَّر نسبَه سدًّا لذريعة القدح في نسبه: وكذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من سِفاح أبدًا، ولو كان كذلك لوجدها المشركون ذريعةً للنيل منه.
لَم يلْتقِي أبوَاه فِي السِّفاح كَما
أوصَى ابنَه آدمٌ في بَدْء أزمانِ[6]
وهذا هرقل ملك الروم يسأل أبا سفيان عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب: "هو فينا ذو نسب"[7]. فلم يجد أبو سفيان ذريعةً للقدح فيه ولو وجدها لفعل لعزمه على القدح في النبي صلى الله عليه وسلم والكذب عليه كما صرح بنفسه. ثم قال هرقل: "وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها"، وقال أبو سفيان لمَّا خرج: وابن أبي كبشة هو جد أم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير معروف، فنسبه إلى جد غامضٍ تحقيرًا له. ولم يجد إلا هذا!
الوقفة3: أبو القاسم هي كنيته صلى الله عليه وسلم: والقاسم هو أكبر أولاده من خديجة رضي الله عنها، حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتنوا بكنيته، ذلك أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم كان في السُّوقِ، فَقالَ رَجُلٌ: يا أبَا القَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: إنَّما دَعَوْتُ هذا، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((سَمُّوا باسْمِي ولَا تَكَنَّوْا بكُنْيَتِي))[8]. وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد هذا الخوف فأجاز العلماء التكنِّي بكنية النبي صلى الله عليه وسلم فمثلًا: محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن علي بن أبي طالب وغيرهما كل واحد منهم يُكنَّى أبا القاسم، قال مالك رحمه الله: "وَمَا عَلِمْت بَأْسًا أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَيُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ"[9].
الوقفة4: لا يجوز التعبيد لغير الله: وجود عبدالمطلب في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ليس حجة في التعبيد لغير الله، وقد حكى ابن حزم الإجماع على تحريم كلِّ اسم معبَّد لغير الله فقال: "واتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله عز وجل كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب"[10]، واستثنوا عبدالمطلب؛ لما فيه من الخلاف لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب))[11]. والصحيح أن قول النبي صلى الله عليه وسلم من باب الإخبار وحكاية نَسَبٍ مَضَى، وليس من باب إنشاء الحكم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّرَ الكثير من الأسماء كعبد الرحمن بن سَمُرة وكان اسمه عبد كُلال، واسم حَزن إلى سهل، واسم شهاب إلى هشام، واسم جثَّامة المُزنيَّة إلى حسَّانة المُزنيَّة[12] وهكذا. ومن هذه الأسماء ما هو ما شَاع في زماننا بعبد النبي، فالأولى تغييره.
فاللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصَحْبه ومن اقتفى، ثم أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى أربع وقفات مع نسب النبي، فالله عز وجل طهَّرَه في نسبه، سدًّا لذريعة القدح فيه، وأنه يجوز التكنِّي بكنيته بعد موته، ولا يجوز التعبيد لغير الله كعبد النبي مثلًا.
2- فأين يَكمُن شرفُ الانتساب للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم شرفٌ بحكم انتسابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُنكره إلا مُعاند أو مكابرٌ لثبات النصوص بذلك، وليس يعنيني الآن إثبات فضل آل النبي بقدر ما أختم بالانتساب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم سواء كنت منتسبًا بالنسب له، أو غير منتسبٍ، ومَن هو أحقُّ به صلى الله عليه وسلم في الدنيا ويوم القيامة؟
إذا كنت تتحرَّى أن يكون وضوءك كوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت منتسبٌ له فأبْشِر.
إذا كنت تصلي، وتحافظ على صلاتك، وتصلي كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت منتسبٌ له فأبْشِر؛ لأنه قال: ((صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))[13].
إذا كنت تراعي أن يكون خلقك كما قالت عائشة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان خُلُقُه القرآنَ))[14]، فأبْشِر فأنت منتسبٌ في صدقك وأمانتك للنبي صلى الله عليه وسلم.
لمَّا تحلق شعر رأسك حلاقة عادية، ولا تتشبَّه بغير النبي صلى الله عليه وسلم، فأبْشِر فأنت منتسبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
لما تلبسين حجابك، وتلبسين لباس الحياء يا أمة الله، فأبشري فأنت منتسبةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
ما انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من حاول أن يتعالى بنسبه: ويفتخر على الناس، وعلو النسب لا يُعطي مبررًا أبدًا للتعالي؛ لأنه من شِيم الجاهلية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب))[15] ، والحديث وإن كان ضعيفًا من حيث السند فهو مما يصحُّ معناه، والمعيار الحقيقي للتفاضل هو المنصوص عليه في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
ما انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من أبطأ به عمله: لمَّا نزل قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عباس بن عبدِالمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ، لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا))[16] ، فالقرب من نسب النبي صلى الله عليه وسلم لن يفيد شيئًا إذا لم تكن لهَدْيِه مُتَّبِعًا، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وأنتم تعلمون طرد الملائكة مَنْ يريد الشرب من الحوض ممن ابتعد عن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبطأ به عمله لم يُسرِع به نسبُه.
فاللهم اجعَلنا من المنتسبين حقيقة لنبيِّك، وارزُقنا حبَّه وحبَّ من يُحبُّه، والعمل الذي يبلغنا حبَّه...(الدعاء)