حكاية ناي ♔
04-29-2024, 06:31 PM
الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا، من يهْدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلِ الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، نحمدك ربنا على ما أنعمتَ به علينا من نِعَمِكَ العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيثُ أرسلتَ إلينا أفضلَ رُسُلِكَ، وأنزلتَ علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشرعتَ لنا أفضلَ شرائعِ دينك، فاللهم لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيتَ، ولك الحمدُ بعد الرضا، أما بعدُ:
فأيُّها الإخوة المؤمنون:
تذكير وتمهيد: تحدَّثْنا في الخطبة الماضية عن نسبِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اصطفاه الله من خير الأنساب؛ سدًّا لذريعة القَدْح فيه، واستفدنا جملةً من الفوائد منها:
• جواز التسمِّي والتكنِّي بكُنية النبي صلى الله عليه وسلم أبي القاسم.
• وعدم جواز الأسماء التي فيها التَّعبيد لِغير الله؛ كعبدالمطلب وعبدالنبي.
• ورأينا أن الانتساب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم يكون باتِّباع سُنَّته وهَدْيه، فهو وحدَه سببُ النجاةِ يوم القيامة.
ولا يزال حديثُنا مستمرًّا حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثةِ، وحديثنا اليومَ عن قصةِ أصحاب الفيلِ عام مولدِ الحبيب صلى الله عليه وسلم، فما قصة أصحاب الفيل؟ وما الدروس والعِبَر المستخلصة منها؟ موضوع خطبتنا باختصار.
عباد الله، دخل أهل نَجْرَان النصرانية بدعوة عَبْد اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، فسَار إليهم ذُو نُوَاسٍ بجنوده، فدعَاهم إلى اليهودية، وخيَّرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخَدَّ لهم الأُخْدُود (الحُفرة المستطيلة)، وحرَّق من حرَّق بالنَّار، حتى قَتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، وفيه أنزل الله على رسُوله سورة البُروج فقال تعالى: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 4 - 8].
ولنا وقفة: في بيان أنَّ الابتلاء سُنَّة إلهية: نستفيد هنا أنَّ تعرُّضَ المُؤمنين للاضطهاد والأذى سُنةٌ إلهيةٌ، حتى يُميِّزَ الله بين الصَّادق وغيره، قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3]، ونحثُّ إخواننا في فلسطين بالصَّبر، فإن النَّصرَ آتٍ، وهذه عِبرة نستفيدها من أصحاب الأخدود، فاللهم انصُرْهم على عدوِّك وعدوِّهم، وثبِّت أقدامَهم.
لكن أفلتَ منهم رجلٌ من سبأ، يُقال لَه دوسُ ذُو ثعلبان، على فرسٍ له، فسلك الرَّمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصَره على ذي نواس وجنودِه، وأخبرَه بما بلغ منهم، وأهل نجران على دين قيصر، لكن لبُعد المسافة كتب له رسالة إلى مَلك الحَبشة وهو أيضًا على دين النصرانية، فبعث معه النجاشي سبعين ألفًا من الحبشة، وأمَّر عليهم رجلًا منهم يقال له: أريَاط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فاستولت الحبشة على ملك اليمن، ثم تنازع أرياط مع أبرهة على مُلك اليمن، انتهت بقتل أبرهة لأرياط واستولى على ملك اليمن، وحتى يُرضي أبرهة النَّجاشي ويمتصَّ غضبَه لقتل أميره على اليمن أرياط، بنى لَه كنيسة يُقال لها الْقُلَّيْسَ وكتبَ إليه: "إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِك كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ"[1].
ولنا وقفة: في عاقبة النية الفاسدة: نيةُ أبرهة في بناء القُلَّيْس صرفُ حجِّ العَرب إليها، إلى أين يحجُّ العرب؟ بالطبع إلى الكعبة في مكة، فكانت نيته في الأصل فَاسدة، أراد أن يجعل من قلَّيْسِهِ كَعبةً تُضاهي بيتَ الله وحَرمه، لقد تولَّى كِبره، وسَيلقى نفس مَصير المتكبِّرين.
لكن رجلًا من العرب ممن يُعظِّم الكعبة سمِعَ بمقصدِ أبرهة فذهب إلى القُلَّيْس فقعد فيها (تغوَّط فيها، يقصد إهانتها)، فسمِعَ أبرهة بالخبر، فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمَه، ثم أمر الحبشة فتهيَّأت وتجهَّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل في ستين ألف مقاتل، واعترضت طريقه بعضُ القبائل العربية لكنه كان ينتصر عليهم لقوة جيشه؛ منهم:
• ذو نفر في قومه من أشراف اليمن فانهزم وَأُخِذَ لَهُ ذو نفر فأتي به أسيرًا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسَه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلًا حليمًا.
• نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبيلَتيْ خَثْعَم: فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرًا، فَأُتِيَ بِهِ، فلما هَمَّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك، لا تقتلني؛ فإني دَليلُك بأرْضِ العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعَم: شَهْران ونَاهِس بالسمع والطاعة، فخلَّى سبيله.
• ولمَّا وصل إلى الطائف لقيَه مُعَتِّب بْن مَالِكِ الثقفي في رجال من قومه فقالوا له: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ- إنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ"، فبعثوا مَعَه أبا رِغَال يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ.
ولنا وقفة: في تعظيم العرب للكعبة وخيانتها: لاحظوا كيف كانت العرب تُعظِّم الكعبة قبل الإسلام ومكانتها في نفوسهم، ويتجلَّى هذا في موقف الكِناني الذي قَعد في القُلَّيْس، وموقف "ذو نفر" مع قومه، وموقف نُفيل الخثعمي، ناهيكم عن الموقف المتخاذل لأهل ثقيف، وهكذا الناس اليوم في تعاملهم مع تكالُبِ الأعداء على هذا الدين، منهم المتخاذلون المستسلِمون الذين وضعوا أيديهم مع الأعداء لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذِمَّةً، هم من زُمرة المنافقين الذين يدلُّون العدوَّ على عَورة المُسلمين، ويُنفِّذون مؤامَراته نِيابة عنه في بِلاد المُسلمين، فلهم شَبه بأبي رِغَال، وسَيلقون نفس مَصيره، وآخرونَ رغم قلَّة عدَدِهم وعُدَّتهم يُدافعون بما أوتوا من قوة يُرهِبون عَدوَّ الله وعدوَّهم، ويَصدُق فيهم قوله تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23، 24]. فاللهم اجعلنا من المؤمنين الصَّادقين المُوفين بالعهدِ وما بدَّلوا تبديلًا، وآخر دعوانا الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى، ثم أمَّا بعد:
فرأينا في الخطبة الأولى استيلاء الحَبشة على مُلك اليمن، وبناء أبرهة لكنيسة؛ لصرف حجِّ العرب إليها ومجيئهِ إلى مكة قاصدًا هدمَ البيتِ.
عبادَ الله، لمَّا وصل أبرهة إلى الْمُغَمِّس (20 كيلو شرق مكة) مات أبو رِغال هنالك، فرجمَتْ قبرَه العربُ.
ولنا وقفة في بيان عاقبة الخيانة: هذا مصير كل خائنٍ لدينه وبلده ووطنه ومَبادئه في كل زمان ومكان، فإن لم يُرجَم في الدنيا، فله يوم القيامة الخزي والعَار والنَّدامة والعَذاب الأليم.
ولَمَّا كان أبرهة على مشارف مكة أرسل حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إلَى مَكَّةَ فقال له: سَلْ عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يردَّ حربي فأتني به، فلما دخل حُناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبدالمطلب بن هاشم، فجاءَه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبدالمطلب: والله ما نريد حربَه، فذهب به إليه، فقال أبرهة لترجمانه: سَلْهُ: ما حاجتك؟ فقال عبدالمطلب: حاجتي أن يرُدَّ عليَّ الملكُ مائتي بعير أصابها لي- وكان أبرهة قد أرسل الأسود بن مقصود على خيلٍ فجمعوا مائتي بعير لعبدالمطلب- فقال أبرهة: قل له: قد كُنْتَ أعجبتني حين رأيتُكَ، ثم قد زهدتُ فيكَ حين كلَّمتني، أتُكلِّمني في مِائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتًا هو دِينُكَ ودِينُ آبائِكَ قد جئتُ لهدمه، لا تكلِّمني فيه؟! قال له عبدالمطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا سيمنَعُه، قال: ما كان ليمتنع منِّي، قال: أنت وذاك.
لاحظوا لم يقل عبدالمطلب: إن الأصنام ستدافع رغم أنه يعبدها، وإنما اعترف بربوبية الله للبيت، وكذلك كانوا يستغيثون بالله في الأمور العِظام.
فلما أصبح أبرهة هيَّأ جيشه لدخول مكة، ووجَّه فِيْلَه نحوها، وكان اسم الفيل محمودًا، فلما وجَّهُوا الفِيْلَ إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب (الخثعمي) حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأُذُنه، فقال: ابرُك محمودُ، أو ارجع راشدًا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطَّبَرْزِينَ (آلة من حديد) ليقوم فأبى، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ (حديدة معقوفة) لهم في مَرَاقِّهِ (أسفل بطنه) فَبَزَغُوهُ بها (أدموه) ليقوم فأبى، فوجَّهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجَّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجَّهوه إلى مكة فَبَرَكَ، فبينما هم كذلك أرسل الله عليهم ﴿ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾ (جماعات) ﴿ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ (طين مُتَحَجِّر) ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ (كورق زرع أكلته الدوابُّ وداسته). فجعلوا يفرُّون من كل جانب، قال نفيل بن حبيب الخثعمي:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ
وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
ولنا وقفة: في امتنان الله على قريش وعدم اتِّباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم الذي وُلد في ذلك العام بضرورة ذكر نِعَمِه عليهم من دون الناس حيث ردَّ أصحاب الفيل ولا طاقة لهم به فقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾ [الفيل: 1، 2]، ثم امتنَّ عليهم بنعمة الرحلتينِ والأمن من الخوف والإطعام من الجوع، فقال لهم: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4] فلا يسعهم مقابلة النعمة بالجحود، وإنما وجب عليهم الشكر، ومن شكر النعمة اتِّباعُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي وُلِد في هذا العام، وشكرُ النِّعم مُبْقٍ لَها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
فاللَّهُمَّ اجعلنا من الشَّاكرين لِنِعَمِكَ، ونَعوذُ بك من تَحَوُّلِ عَافيتِكَ وفُجَاءةِ نِقمَتك، وجميع سَخطك. (تتمة الدعاء).
إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا، من يهْدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلِ الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، نحمدك ربنا على ما أنعمتَ به علينا من نِعَمِكَ العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيثُ أرسلتَ إلينا أفضلَ رُسُلِكَ، وأنزلتَ علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشرعتَ لنا أفضلَ شرائعِ دينك، فاللهم لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيتَ، ولك الحمدُ بعد الرضا، أما بعدُ:
فأيُّها الإخوة المؤمنون:
تذكير وتمهيد: تحدَّثْنا في الخطبة الماضية عن نسبِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اصطفاه الله من خير الأنساب؛ سدًّا لذريعة القَدْح فيه، واستفدنا جملةً من الفوائد منها:
• جواز التسمِّي والتكنِّي بكُنية النبي صلى الله عليه وسلم أبي القاسم.
• وعدم جواز الأسماء التي فيها التَّعبيد لِغير الله؛ كعبدالمطلب وعبدالنبي.
• ورأينا أن الانتساب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم يكون باتِّباع سُنَّته وهَدْيه، فهو وحدَه سببُ النجاةِ يوم القيامة.
ولا يزال حديثُنا مستمرًّا حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثةِ، وحديثنا اليومَ عن قصةِ أصحاب الفيلِ عام مولدِ الحبيب صلى الله عليه وسلم، فما قصة أصحاب الفيل؟ وما الدروس والعِبَر المستخلصة منها؟ موضوع خطبتنا باختصار.
عباد الله، دخل أهل نَجْرَان النصرانية بدعوة عَبْد اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، فسَار إليهم ذُو نُوَاسٍ بجنوده، فدعَاهم إلى اليهودية، وخيَّرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخَدَّ لهم الأُخْدُود (الحُفرة المستطيلة)، وحرَّق من حرَّق بالنَّار، حتى قَتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، وفيه أنزل الله على رسُوله سورة البُروج فقال تعالى: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 4 - 8].
ولنا وقفة: في بيان أنَّ الابتلاء سُنَّة إلهية: نستفيد هنا أنَّ تعرُّضَ المُؤمنين للاضطهاد والأذى سُنةٌ إلهيةٌ، حتى يُميِّزَ الله بين الصَّادق وغيره، قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3]، ونحثُّ إخواننا في فلسطين بالصَّبر، فإن النَّصرَ آتٍ، وهذه عِبرة نستفيدها من أصحاب الأخدود، فاللهم انصُرْهم على عدوِّك وعدوِّهم، وثبِّت أقدامَهم.
لكن أفلتَ منهم رجلٌ من سبأ، يُقال لَه دوسُ ذُو ثعلبان، على فرسٍ له، فسلك الرَّمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصَره على ذي نواس وجنودِه، وأخبرَه بما بلغ منهم، وأهل نجران على دين قيصر، لكن لبُعد المسافة كتب له رسالة إلى مَلك الحَبشة وهو أيضًا على دين النصرانية، فبعث معه النجاشي سبعين ألفًا من الحبشة، وأمَّر عليهم رجلًا منهم يقال له: أريَاط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فاستولت الحبشة على ملك اليمن، ثم تنازع أرياط مع أبرهة على مُلك اليمن، انتهت بقتل أبرهة لأرياط واستولى على ملك اليمن، وحتى يُرضي أبرهة النَّجاشي ويمتصَّ غضبَه لقتل أميره على اليمن أرياط، بنى لَه كنيسة يُقال لها الْقُلَّيْسَ وكتبَ إليه: "إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِك كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ"[1].
ولنا وقفة: في عاقبة النية الفاسدة: نيةُ أبرهة في بناء القُلَّيْس صرفُ حجِّ العَرب إليها، إلى أين يحجُّ العرب؟ بالطبع إلى الكعبة في مكة، فكانت نيته في الأصل فَاسدة، أراد أن يجعل من قلَّيْسِهِ كَعبةً تُضاهي بيتَ الله وحَرمه، لقد تولَّى كِبره، وسَيلقى نفس مَصير المتكبِّرين.
لكن رجلًا من العرب ممن يُعظِّم الكعبة سمِعَ بمقصدِ أبرهة فذهب إلى القُلَّيْس فقعد فيها (تغوَّط فيها، يقصد إهانتها)، فسمِعَ أبرهة بالخبر، فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمَه، ثم أمر الحبشة فتهيَّأت وتجهَّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل في ستين ألف مقاتل، واعترضت طريقه بعضُ القبائل العربية لكنه كان ينتصر عليهم لقوة جيشه؛ منهم:
• ذو نفر في قومه من أشراف اليمن فانهزم وَأُخِذَ لَهُ ذو نفر فأتي به أسيرًا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسَه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلًا حليمًا.
• نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبيلَتيْ خَثْعَم: فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرًا، فَأُتِيَ بِهِ، فلما هَمَّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك، لا تقتلني؛ فإني دَليلُك بأرْضِ العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعَم: شَهْران ونَاهِس بالسمع والطاعة، فخلَّى سبيله.
• ولمَّا وصل إلى الطائف لقيَه مُعَتِّب بْن مَالِكِ الثقفي في رجال من قومه فقالوا له: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ- إنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ"، فبعثوا مَعَه أبا رِغَال يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ.
ولنا وقفة: في تعظيم العرب للكعبة وخيانتها: لاحظوا كيف كانت العرب تُعظِّم الكعبة قبل الإسلام ومكانتها في نفوسهم، ويتجلَّى هذا في موقف الكِناني الذي قَعد في القُلَّيْس، وموقف "ذو نفر" مع قومه، وموقف نُفيل الخثعمي، ناهيكم عن الموقف المتخاذل لأهل ثقيف، وهكذا الناس اليوم في تعاملهم مع تكالُبِ الأعداء على هذا الدين، منهم المتخاذلون المستسلِمون الذين وضعوا أيديهم مع الأعداء لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذِمَّةً، هم من زُمرة المنافقين الذين يدلُّون العدوَّ على عَورة المُسلمين، ويُنفِّذون مؤامَراته نِيابة عنه في بِلاد المُسلمين، فلهم شَبه بأبي رِغَال، وسَيلقون نفس مَصيره، وآخرونَ رغم قلَّة عدَدِهم وعُدَّتهم يُدافعون بما أوتوا من قوة يُرهِبون عَدوَّ الله وعدوَّهم، ويَصدُق فيهم قوله تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23، 24]. فاللهم اجعلنا من المؤمنين الصَّادقين المُوفين بالعهدِ وما بدَّلوا تبديلًا، وآخر دعوانا الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى، ثم أمَّا بعد:
فرأينا في الخطبة الأولى استيلاء الحَبشة على مُلك اليمن، وبناء أبرهة لكنيسة؛ لصرف حجِّ العرب إليها ومجيئهِ إلى مكة قاصدًا هدمَ البيتِ.
عبادَ الله، لمَّا وصل أبرهة إلى الْمُغَمِّس (20 كيلو شرق مكة) مات أبو رِغال هنالك، فرجمَتْ قبرَه العربُ.
ولنا وقفة في بيان عاقبة الخيانة: هذا مصير كل خائنٍ لدينه وبلده ووطنه ومَبادئه في كل زمان ومكان، فإن لم يُرجَم في الدنيا، فله يوم القيامة الخزي والعَار والنَّدامة والعَذاب الأليم.
ولَمَّا كان أبرهة على مشارف مكة أرسل حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إلَى مَكَّةَ فقال له: سَلْ عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يردَّ حربي فأتني به، فلما دخل حُناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبدالمطلب بن هاشم، فجاءَه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبدالمطلب: والله ما نريد حربَه، فذهب به إليه، فقال أبرهة لترجمانه: سَلْهُ: ما حاجتك؟ فقال عبدالمطلب: حاجتي أن يرُدَّ عليَّ الملكُ مائتي بعير أصابها لي- وكان أبرهة قد أرسل الأسود بن مقصود على خيلٍ فجمعوا مائتي بعير لعبدالمطلب- فقال أبرهة: قل له: قد كُنْتَ أعجبتني حين رأيتُكَ، ثم قد زهدتُ فيكَ حين كلَّمتني، أتُكلِّمني في مِائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتًا هو دِينُكَ ودِينُ آبائِكَ قد جئتُ لهدمه، لا تكلِّمني فيه؟! قال له عبدالمطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا سيمنَعُه، قال: ما كان ليمتنع منِّي، قال: أنت وذاك.
لاحظوا لم يقل عبدالمطلب: إن الأصنام ستدافع رغم أنه يعبدها، وإنما اعترف بربوبية الله للبيت، وكذلك كانوا يستغيثون بالله في الأمور العِظام.
فلما أصبح أبرهة هيَّأ جيشه لدخول مكة، ووجَّه فِيْلَه نحوها، وكان اسم الفيل محمودًا، فلما وجَّهُوا الفِيْلَ إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب (الخثعمي) حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأُذُنه، فقال: ابرُك محمودُ، أو ارجع راشدًا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطَّبَرْزِينَ (آلة من حديد) ليقوم فأبى، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ (حديدة معقوفة) لهم في مَرَاقِّهِ (أسفل بطنه) فَبَزَغُوهُ بها (أدموه) ليقوم فأبى، فوجَّهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجَّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجَّهوه إلى مكة فَبَرَكَ، فبينما هم كذلك أرسل الله عليهم ﴿ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾ (جماعات) ﴿ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ (طين مُتَحَجِّر) ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ (كورق زرع أكلته الدوابُّ وداسته). فجعلوا يفرُّون من كل جانب، قال نفيل بن حبيب الخثعمي:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ
وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
ولنا وقفة: في امتنان الله على قريش وعدم اتِّباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم الذي وُلد في ذلك العام بضرورة ذكر نِعَمِه عليهم من دون الناس حيث ردَّ أصحاب الفيل ولا طاقة لهم به فقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾ [الفيل: 1، 2]، ثم امتنَّ عليهم بنعمة الرحلتينِ والأمن من الخوف والإطعام من الجوع، فقال لهم: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4] فلا يسعهم مقابلة النعمة بالجحود، وإنما وجب عليهم الشكر، ومن شكر النعمة اتِّباعُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي وُلِد في هذا العام، وشكرُ النِّعم مُبْقٍ لَها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
فاللَّهُمَّ اجعلنا من الشَّاكرين لِنِعَمِكَ، ونَعوذُ بك من تَحَوُّلِ عَافيتِكَ وفُجَاءةِ نِقمَتك، وجميع سَخطك. (تتمة الدعاء).