مشاهدة النسخة كاملة : قيمة الوقت في حياة السلف


حكاية ناي ♔
05-04-2024, 12:34 PM
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله، لقد أغدقَ اللهُ علي عبادِة النِّعمَ بشتَّى صرُوفِها وأنواعِها، ومن أجلِّ هذه النِّعَمِ وأعظَمِها نعمةُ الوقتِ، ولقد نبَّه القرآن على قيمة الوقت في سياقاتٍ متعددة مِن خلال قَسَم العظيم سبحانه بمكونات الوقت؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [الليل: 1، 2]، وقال سبحانه: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2] وقال سبحانه: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1 - 4]، ثم أقسمَ الله بعد ذلك بالدهرِ أجمعَ، ليلِه ونهارِه، ظلامِه وضيائه، فأقسمَ بالعصرِ الذي هو اسمٌ من أسماءِ الدهرِ، ولا يقسمُ سبحانه إلا بأمرٍ عظيمٍ؛ لبيانِ شَرَفِه وأهميتِه، ولفتِ أنظارِ الناس إليه؛ فقال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].



• وجاء في القرآن التأنيب للكُفَّار والعصاة على تضييع الأوقات، قال تعالى: ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ [فاطر: 37]، وشعائرُ ديننِا تؤكدُ على أهميَّةِ الوقت: فالصلواتُ الخمسُ لها أوقاتٌ معينةٌ ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]، وصوم رمضان له وقتٌ محددٌ من كل عامٍ لا يصحُّ إلا فيه، ولو صامَ الإنسانُ السنةَ ولم يصُمْ في هذا الشهرِ المُبَارَك لم يقبلْ منه ذلك، ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وحجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ له موعدٌ مخصوصٌ، وزمنٌ معلومٌ، ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197]، والزكاة لها وقتٌ محدودٌ، فإذا كانتْ حصادًا فقال ربنا: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]، فإن لم يكنْ فلا بُدَّ أن يحولَ عليها عامٌ هجريٌّ.



• وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الوقت مِن نِعَمِ الله التي يجب المحافظة عليها، قال صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ))؛ (رواه البخاري).



• وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان مسئول عن هذا الوقت ومحاسب عليه، فوجب عليه الاستعداد لذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ))؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال للذي سأل عن الساعة: ((مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟))؛ (متفقٌ عليه).



وَفِي "صَحِيحِ الْحَاكِمِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)).



أيها المسلمون، وإضاعة الوقت هدرًا من أعظم المصائب على العبد، قال يحيى بن معاذ: "إضاعةُ الوقت أشدُّ منَ الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقت انقطاعٌ عن الحقِّ، والموتُ انقطاعٌ عن الخلق".



• وعن سري السقطي قال: "دخل عليَّ أبو جعفر بن السماك وكان شيخًا متعبدًا مترويًا, فرأى عندي جماعة, فوقف ولم يقعد, ثم نظر إليَّ وقال: يا سري، صرت مناخ البطالين, ورجع ولم يقعد، وكره اجتماعهم حولي"؛ (صفة الصفوة).



• وعن الأوزاعي رحمه الله أنه قال: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومًا وساعةً فساعةً، فلا تمُرُّ به ساعة لم يذكر الله فيها إلا تقطَّعت نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرَّت به ساعة مع ساعة ويوم مع يوم؛ [المنتظم].



• وقال الحسن: "يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكلُّ ساعة لم يحدث فيها خيرًا، تقطَّعت نفسه عليها حسرات".



• وعن عاصم الأحول قال: قال لي فضيل الرقاشي رحمه الله: ((يا هذا، لا يشغلك كثرةُ الناس عن نفسك، فإن الأمر يخلص إليك دونهم، وإياك أن تُذهب نهارك تقطعه ههنا وههنا فإنه محفوظ عليك؛ [الحلية (تهذيبه)].



وروى ابن أبي الدنيا عن بعض السلف أنه قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا نَادَى: ابْنَ آدَمَ، اغْتَنِمْنِي، لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلَا لَيْلَة إِلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ، اغْتَنِمْنِي، لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي".



• ولهذا كان السلف حريصين على كسب الوقت وشغله بالعمل النافع.



• قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ مِنْ حِرْصِكُمْ عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ".



• وكان ابن عياش يقول: "لو سقط من أحدكم درهم لظَلَّ يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي وهو يذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات".



تعالوا نتذكَّر ما كان عليه سلفنا، وننظر في حالنا، لعل الله يحيي في نفوسنا الرغبة في العمل الصالح، والمسارعة إلى الخيرات؛ فإن معرفة أخبار السلف ممَّا يُحمِّس النفوس للعمل، ويطرد عنها غبار الكسل ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، فكيف كانوا؟ وماذا فعلوا؟



وهذه باقة عطرة وطرف من أحوال السلف؛ تبين لنا مدى حرصهم على الوقت، فقد كانوا يغتنمون أيام دهرهم في عبادة الله، وكانت أوقاتهم عامرةً بطاعة الله؛ فهم خير مَن أدرك قيمة الوقت وأهمية العمر، وهم أروع الأمثلة في اغتنام دقائق العمر، واستغلال أنفاسه؛ إنهم عرفوا قيمة الوقت، فاغتنموا أعمارهم وشبابهم وأموالهم وصحتهم.



فهذا أبو بكر رضي الله عنه الرجل الذي ما وَجَد طريقًا عَلِمَ أنَّ فيها خيرًا وأجرًا إلَّا سلَكها ومَشَى فيها، كما في صحيح مسلم؛ حينما وجَّهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بعضَ الأسئلةِ عن أفعالِ الخيرِ اليومية، كان أبو بكر الصديق هو المجيب، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبحَ مِنكُم اليومَ صائمًا؟))، قال أبو بَكر: أنا، فقال النبي: ((فمَنْ تبِعَ مِنكم اليومَ جنازة؟))، قال أبو بكر: أنا، قال النبي: ((فمَن أطَعَم منكم اليومَ مِسكينًا؟))، قال أبو بكر: أنا، قال النبي: ((فمَنْ عادَ مِنكم اليومَ مريضًا؟))، قال أبو بكر: أنَا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجْتمَعْنَ في امرئ إلا دخَل الجَنةَ)).



وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم: ((الصلاة، الصلاة))؛ (البيهقي في الشُّعب).



وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه لما اجتمع عليه أولئك وأرادوا قتله، قالت امرأته: إن تقتلوه فإنه كان يحيي الليل كله في ركعة يَجمع فيها القرآن؛ (حلية الأولياء).



سبحان الله ختم القرآن خلف المقام في ركعة واحدة! نعم يختم القرآن في ليلة واحدة، إنه عثمان الذي قال ابن عباس في قول الله: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ﴾ [الزمر: 9]، قال: ذاك عثمان.



وهذا علي بن أبي طالب مع ما جرى في وقته من الفتن، والمصائب العِظام، والحروب بين المسلمين، دخل عليه رجل من أصحابه بعد هجعة الليل، وهو قائم يصلي، فقال: يا أمير المؤمنين، صوم بالنهار، وسهر بالليل، وتعب فيما بين ذلك، فلما فرغ عليٌّ من صلاته قال: سفر الآخرة طويل يحتاج إلى قطعه بسير الليل؛ (لطائف المعارف).



وهذا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه! الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما؛ (سير أعلام النبلاء).



وعن نافع، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُحيي الليل صلاةً، ثم يقول: يا نافع، أسْحَرْنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فأقول: نعم، فيقعد، ويستغفر، ويدعو حتى يصبح؛ (صفة الصفوة).



وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، فيقوم الثلث الأول، ثم يوقظ امرأته فتقوم الثلث الثاني، ثم توقظ امرأته ابنتهما الوحيدة فتقوم الثلث الأخير! فلما مات أنس حرصت ابنته على أن تقوم الليل كله لله.



وأما أبو هريرة رضي الله عنه فكان يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ديتي؛ يعني: يفتَكُّ رقبته من العذاب بذلك.



وفي صحيح البخاري عن أبي عثمانَ النَّهدي قال: تضيَّفتُ أبا هريرة سبعةَ أيام- أي: نزلت ضيفًا عليه- فكان هو وزوجُه وخادمُه يقتسمون الليل أثلاثًا، الزوجة ثلثًا، وخادمه ثلثًا، وأبو هريرة ثلثًا.



وهذا عروة بن الزبير، وهو من فقهاء المدينة كان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف في النهار، ثم يقوم به في الليل، لقد كان يقرأ بمعدل نصف القرآن في يومه، وليلته وما تركه إلا ليلة واحدة حينما قطعت رجله في سفرته المعروفة حينما ذهب إلى الشام؛ (سير أعلام النبلاء).



وهذا سفيان الثوري جلس مع أصحابه مرةً، فصار يسألهم رجـلًا رجلًا عن عملهم بالليل: ماذا تعملون؟ فأخبروه جميعًا، ثم سكت، فقالوا له: يا أبا عبد الله، أخبرناك، فأخبرنا كيف تصنع؟ فقال: لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله؛ أي: إنه ينام نومة فإذا استيقظ فلا يقيل نفسه، ولا يرجع إلى فراشه مرة ثانية.



وأما الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة، فكان كما وصفه ابنه عبدالله لا يفتر من الصلاة بين العشاءين، فيُصلِّي بين المغرب والعشاء، ويصلي بعد العشاء في ورده من صلاة الليل، وكان ساعة يصلي العشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يُصلِّي ويدعو؛ ورآه المروثي مرة يقوم لورده قريبًا من نصف الليل حتى يقارب السحر، قال: ورأيته يركع فيما بين المغرب والعشاء، وكان يقرأ في كل يوم سبع القرآن، قلت: حتى مع الشيخوخة كانوا لا يفرطون؛ (صفة الصفوة).



وهذا وكيع بن الجراح كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر.



وهذا طَلْقُ بن حبيب العَنزي: انظر ماذا كان يشتهي؟ قال ابن عيينة: سمعت عبد الكريم يقول: كان طلق لا يركع إذا افتتح سورة «البقرة» حتى يبلغ «العنكبوت» وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي؛ (سير أعلام النبلاء).



فتأمَّل أخي، عشرون جزءًا في ركعة واحدة، ثم يشتهي أن يقوم ليله حتى يشتكي صُلبه، وكأن صلبه لم يشتكِ بعد!



وهذا صِلةُ بن أشْيَم: أبو الصهباء قال جعفر بن سليمان: عن يزيد الرشك، عن مُعاذة، قالت: كان أبو الصهباء يُصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفًا؛ (أخرجه ابن سعد).



وهذه مُعاذة بنت عبدالله زوجة صِلة بن أشْيَم أم الصهباء العدوية البصرية العابدة، روى لها أصحاب الكتب الستة رحمها الله هي وزوجها رحمة واسعة، قال الذهبي: بلغنا أنها كانت تُحيي الليل عبادة، وتقول: عجبت لعين تنام، وقد علمت طول الرقاد في ظلم القبور؛ (سير أعلام النبلاء).



• وقال الضياء تلميذ الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي رحمهما الله: كان شيخنا الحافظ رحمه الله لا يكاد يُضيِّع شيئًا من زمانه بلا فائدة، وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيتُ أحَدًا أشدَّ محافظةً على وقته من أخي.



• وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي: "لو قلتُ لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا لصدقت، كان مشغولًا؛ إما أن يحدث، أو يقرأ، أو يسبح، أو يصلي، قد قسَّم النهار على ذلك"، فقل لي بالله عليك: ما تظن أن يموت عليه هذا الرجل؟ قالوا: "مَن عاش على شيء مات عليه".



• قال يونس المؤدب: "مات حماد بن سلمة في الصلاة في المسجد"؛ (قيمة الزمن).



وهذا أبو نعيم الأصفهاني كان حُفَّاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قبيل الظهر على الشيخ، فإذا قام إلى داره ربما يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ وهو لا يضجر.



وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الخطيب البغدادي: كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.



وكان ابن عساكر رحمه الله كما يقول عنه ابنه: لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتسمية حتى في نزهته وخلواته، يصطحب معه كتب العلم والمصحف يقرأ ويحفظ.



عباد الله، حفظ الوقت من أعظم ما يرى أثره في الدنيا قبل الآخرة؛ فالوقت أنفس ما تملك، وهو أغلى من الذهب والفضة والجواهر، فاحفظ أوقاتك، واغتنم زمانك، فرأس مالك في هذه الدنيا دقائق وأيام، هكذا فعل سلفنا، فما حالنا نحن؟ أين نحن من هؤلاء؟! وأين أوقاتنا من أوقاتهم؟! أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.



الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فإن السلف الصالح اغتنموا أوقاتهم في طاعة الله، وكانوا يحرصون على استغلال الوقت في عمل أكثر من شيء في نفس الوقت، فقد كان بعضهم إذا خفي عليه القلم واحتاج إلى بريه يُحرِّك شفتيه بذكر الله وهو يصلح القلم، أو يُردِّد مسائل يحفظها؛ لئلا يمضي عليه الزمان وهو فارغ ولا دقيقة.



• وكان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة، وتَعطَّل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أُسطِّره؛ وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين؛ أي: هو الآن لا يجد كلامًا ولا شيئًا يقرؤه، فيأخذ راحة وفي أثنائها يشغل فكره؛ وكان يقول أيضًا: وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سَفَّ الكعك، وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على المطالعة، أو تستطير فائدة لم أدركها؛ (المنتظم).



وابن عقيل يقول عنه الذهبي: إنه استطاع أن يُؤلِّف أكبر مصنف في الدنيا، وهو كتاب (الفُنُون)؛ أي: فنون اللغة، وفنون التفسير، وفنون المناظرات، وفنون الكلام، وفنون الفلسفة وغير ذلك، فكل العلوم التي تتخيلها في كتاب الفنون، فهو (800) مجلد.



قلت: رحم الله أبا الوفاء بن عقيل فلقد ألَّف كتابًا أسماه الفنون؛ ثمانمائة مجلد، فضلًا عن بقية كتبه الأخرى.

• وذكر الحافظ الذهبي رحمه الله؛ في ترجمة أبي حاتم الرازي أن أبا حاتم قال: ربما كان يأكل ويقرأ ولده عليه، ويمشي ويقرأ عليه، ويدخل الخلاء- أي: في طريقه إلى الخلاء- ويقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء ويقرأ عليه؛ فكانت ثمرة تلك المحافظة النادرة على الزمن في طلب العلم نِتاجًا علميًّا كبيرًا، منه كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات، وكتاب التفسير في عدة مجلدات، وكتاب المسند في خمس وعشرين ألف صفحة.



يقول ابن القيم رحمه الله: وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة؛ قرأ فيه، فإذا غلب؛ وضعه، انظر حتى حال المرض، إذا وجد خفة؛ فتح الكتاب وقرأ، وإذا اشتد عليه أرجع الكتاب عند الوسادة.



• والإمام النووي رحمه الله، كان لا يُضيِّع له وقتًا، في ليل ولا في نهار، إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذَهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرير محفوظه، أو مطالعة؛ قد صرف أوقاته كُلَّها في أنواع العلم والعمل، فبعضُها للتصنيف، وبعضُها للتعليم، وبعضُها للصلاة، وبعضُها للتلاوة، وبعضُها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان النووي يحضر اثني عشر درسًا كل يوم.



• وكان الشوكاني يدرس لطلابه ثلاثة عشر درسًا كل يوم في العلوم المختلفة الشرعية؛ من التفسير، والحديث، والأصول، والنحو، والمعاني، والبيان، وغير ذلك، سوى ما كان يأتيه من فتاوى تحتاج إلى تحرير الجواب، وكتاباته، بالإضافة إلى المؤلفات التي كان يُؤلِّفها.



وكان بعض السلف ملأ يومه كله بمجالس العلم، فلا ينتهي من مجلس حتى يذهب إلى آخر، حتى إذا لم يجد من الوقت ما يشوي به طعامه ربما أكله نيئًا.



أيها المسلمون، هكذا الصالحون؛ لأنهم يعلمون أنهم عن أوقاتهم يُسألون؛ فماذا قدمت في هذه الأوقات؟ وماذا سجلت في تلك الصحائف؟ هل تسُرك إذا نظرت فيها يوم القيامة أم تسوءك؟ وأي إجابة أعددتها أنتَ للسؤال؟! وما تحب أن تكون الإجابة؟! أتحب أن تكون الإجابة: قضيتُ أكثر وقتي وعمري بيْن صفحات التواصل، أم أن تكون: قضيته في أسباب كيف أكون إلى الجنة واصلًا؟ أتحب أن تكون إجابتك: قضيتُ أكثر وقتي بيْن القنوات الفضائية والبرامج الحوارية، أم أن تكون: قضيته في معرفة ديني والأحكام الشرعية؟! وهل وهل...؟! فكم ضاع من الأوقات في الغيبة والنميمة؟ كم ضاع من الأوقات في اللهو واللعب؟ الشغل الشاغل حياة وشؤون الآخرين، كم يملك؟ ماذا يفعل؟ أين يذهب؟ قال الحسن: "من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانًا من الله عز وجل".



• كل ذلك تعريض كذلك بالذين ضيَّعوا أوقاتهم في المعاصي والمُحرَّمات؛ والناظر في حال كثير منَّا اليوم، وكيف يقضون أوقاتهم يعلم أنهم محرومون من نعمة استغلال العمر واغتنام الوقت؛ ولذا نراهم ينفقون أوقاتهم، ويهدرون أعمارهم فيما لا يعود عليهم بالنفع، والعجيب في ذلك فَرَحُ الكثير منهم بمرور هذه الأيام والسنين، وقد علموا أنها تُقرِّبهم إلى آجالهم، وتُبعِدهم عن دنياهم! تمُرُّ الساعات والأيام ولا يُحسب لها حساب، والسَّاعات أغْلَى من أن تُنفَق في أحاديثَ فارغة، أو مجالس غيبة لا يتحرَّى فيها المسلمُ الصِّدق، ولا يأمر فيها بالمعروف، فلا يكن حالك كمن أخبر الله تعالى عنهم: ﴿ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 56].



أخي المسلم، إنَّ للوقت أهمية عظيمة، فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته، كان أكثر حرصًا على حفظه واغتنامه فيما يُقَرِّبه مِن ربِّه سبحانه وتعالى والاستفادة من وقته استفادة تعودُ عليه بالنفع، فيُسَارِع إلى استغلال الفراغ قبلَ الشغل، والصحَّة قبل السقم؛ أنت اليومَ في دارِ العملِ، في صحةٍ وعافيةٍ، فسابقْ إلى الطاعاتِ، وتزوُّدْ من الخيراتِ، فسوف تجدُ عاقبةَ ذلك خيرًا بعد انقطاعِ أجلِك، وانقضاءِ عُمُرِك.



وكما قيل الأيَّامُ ثلاثةٌ: "الأمسُ قد مضى بما فيه، وغدًا لَعَلكَ تُدركه، وإنَّما هو يومكَ هذا، فاجتهد فيه".



• قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: كُلُّ ما شغلَكَ عن الله من أهْلٍ ومالٍ أو ولدٍ فهو عليك مَشْئوم؛ صفة الصفوة.



• وعن الحكم بن محمد قال: كتب محمد بن يوسف رحمه الله إلى أبي الحسن الأشهب: اغتنم ساعتك، لا تغفل عنها، فإنك إن اغتنمتها شغلت عن غيرها؛ [الحلية (تهذيبه)].



وقال الوزير يحيى بن هُبَيرة البغدادي رحمه الله:
والوقْتُ أَنْفَسُ ما عنِيت بِحِفْظِهِ
وَأَرَاهُ أسهَلَ ما عليك يَضِيعُ
إنَّا لَنَفْرَحُ بالأيَّامِ نقطَعُهَا
وكلُّ يومٍ مضَى جُزْءٌ من العُمْرِ



وقال أحمد شوقي رحمه الله:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قَائِلَةٌ لهُ
إنَّ الحَيَاةَ دَقَائقٌ وثَوَان
فارفعْ لِنَفْسِكَ بعدَ موتِكَ ذِكْرَهَا
فالذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثَانِي



فالحرصَ الحرصَ على الوقت، والبدارَ البدارَ كما جاء في الأخبار، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نقول وبما نسمع، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأقم الصلاة.

احساس
05-04-2024, 12:35 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته