حكاية ناي ♔
05-07-2024, 10:16 AM
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الإخوة الأحباب، أحباب النبي الأواب صلى الله عليه وسلم، نعيش في هذا اليوم الطيب المبارك مع صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي صفة من صفات الشريعة الغرَّاء، نعيش في زمان يُرمَى في الإسلام بالتشدد وبالإرهاب وبسفك الدماء، ولوقرأ هؤلاء سيرة سيد الأصفياء، لعلِموا أن الإسلام هودين الرحمة والرفق بالأتْباعِ وبالمخالفين، بل بالحيوانات والجمادات؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
ومعنى (العالمين): كل ما سوى الله عز وجل: عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم الحيوان، وعالم النبات، لكن كيف تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم جميعًا؟[1]
وهيا لنتعرف على ذلك، فأعيروني القلوب والأسماع:
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين:
أيها الإخوة الموحدين، لقد تجلَّت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع أتباعه وأحبابه الذين آمنوا به، وصدَّقوه، وظهرت رحمته في كل قول أوفعل أوتقرير؛ لأنه البشير النذير صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى واصفًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وها هومالك بن الحُويرث يصف لنا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمَّتِهِ؛ فعن مالك بن الحويرث، قال: ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، وكان رحيمًا رفيقًا، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلِّموهم، وصلُّوا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمَّكُم أكبرُكم))[2].
• وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تصف لنا رحمة النبي صلى الله عليه بالمؤمنين؛ فعن عائشة، قالت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ِالوصال؛ رحمةً لهم، فقالوا: إنك تُواصِل، قال: إني لستُ كهيئتكم؛ إني يطعمني ربي ويسقيني))[3].
• لقد كان صلى الله عليه وسلم يحمِل الصبيان ويقبِّلهم، ويتركهم يركبون على ظهره، ويضعهم في حِجْرِهِ، ويحملهم على عاتقه وهويصلي؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: مَن لا يرحم لا يُرحَم))[4].
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمخالفين:
وإن سألتم أيها الإخوة عن كمال رحمته صلى الله عليه وسلم، فقد ظهرت بوضوح كوضوح الشمس في وسط النهار مع أعدائه ومخالفيه، بل مع من حاربه وقاتله؛ فقد كان رحيمًا بهم صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ أمثلة من بحر رحمته، وزهرة من بستان رأفته صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8]، في هذه الآية الكريمة من الدستور الإسلامي - القرآن الكريم - يحثُّ الله تعالى عباده المؤمنين على الإحسان إلى أسْراهم وإطعامهم، ويَعِدُهم بذلك النعيم في الآخرة؛ قال ابن عباس: ((أمر رسول الله أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأُسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء))، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة[5].
ويعلق ابن جريج على نفس الآية فيقول: "لم يكن الأسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من المشركين، قال أبو عبيد: فأرى أن الله قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين"[6].
• وها هوأبو عزيز شقيق مصعب بن عمير يحكي ما حدث عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير، قال: ((كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالأُسارى خيرًا، وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم، أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ قال ابن هشام: "وكان أبوعزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث"[7].
رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال الأسرى:
ولقد كان من رحمته صلى الله عليه وسلم بهم أنه لا يفرق بين ابنٍ وأمه؛ لأن ذلك التفريق ليس من الإنسانية، فكيف يرضى به الإسلام؟ فقد نهى أصحابه عن ذلك؛ فعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، ((أن أبا أُسيد الأنصاري، قدِم بسبيٍ من البحرين، فإذا امرأة تبكي، وقالت: بِيعَ ابني في عبس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد: لتركبنَّ، فلتجيئنَّ به كما بعْتَ بالثمن، فركب أبوأسيد فجاء به))[8].
رحمته بالحيوان:
• وتخطَّت رحمته صلى الله عليه وسلم عالم البشرية إلى عالم الحيوان والطير، فشملتهم رحمته صلى الله عليه وسلم ونالهم من فيضها؛ ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ شيء فيه الروح غرضًا يُتعلَّم فيه الرمي؛ فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: ((خرجت مع ابن عمر من منزله، فمررنا بفتيان من قريش نصبوا طيرًا يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نَبْلِهم، قال: فلما رأَوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: مَن فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا))[9].
• ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يحول أحد بين حيوان أوطير وبين ولده؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرةً معها فَرْخَان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرِشُ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من فجع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بعذاب النار إلا ربُّ النار))[10].
• ومن صور رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان أنْ بيَّنَ لنا أن الإحسان إلى البهيمة من موجبات المغفرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خُفَّه ماءً، ثم أمسكه بفِيهِ حتى رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: في كل كَبِدٍ رطبة أجرٌ))[11].
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ أما بعد:
رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد:
أيها الإخوة الأحباب، وتخطَّت رحمته عالم الحيوان لينعم بها أيضًا عالم الجماد؛ فقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كما أخبرنا بذلك أرحم الراحمين، ومن مشاهد رحمته بالجماد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أُحُدٌ، فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني أحرِّم ما بين لابَتَيها))، ورواه عبدالله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم[12].
لا أحد يتصور أن الجماد يحمل في طياته معنى الحب، لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، وكم يحنُّ الإنسان إلى الأرض ويتعلق بالرِّباع، ويشتاق إلى الوطن ولا تثريب، لكن أن ينطلق ذلك من الجماد نفسه؟! إنها معادلة تُجسِّد وحدة هذا الكون في عبوديته لله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]، ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 2]، معانٍ لوأدركها الإنسان لَما استوحش في الفَلَوات.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أونخلة، فقالت امرأة من الأنصار - أورجل - يا رسول الله، ألا نجعل لك مِنبرًا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، فضمَّه إليه، تئنُّ أنينَ الصبي الذي يُسكَّن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها))[13].
وهكذا نالت رحمة الإسلام الحيوان والطير والإنسان والجماد، ففي الدين مبدأ ومنهج ينظم كل شيء، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الناس؛ لذلك فهورحمة للعالمين:
هورحمة للناس مهداة فمن *** قبِلَ الهداية فاز بالرضوانِ
أما بعد:
أيها الإخوة الأحباب، أحباب النبي الأواب صلى الله عليه وسلم، نعيش في هذا اليوم الطيب المبارك مع صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي صفة من صفات الشريعة الغرَّاء، نعيش في زمان يُرمَى في الإسلام بالتشدد وبالإرهاب وبسفك الدماء، ولوقرأ هؤلاء سيرة سيد الأصفياء، لعلِموا أن الإسلام هودين الرحمة والرفق بالأتْباعِ وبالمخالفين، بل بالحيوانات والجمادات؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
ومعنى (العالمين): كل ما سوى الله عز وجل: عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم الحيوان، وعالم النبات، لكن كيف تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم جميعًا؟[1]
وهيا لنتعرف على ذلك، فأعيروني القلوب والأسماع:
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين:
أيها الإخوة الموحدين، لقد تجلَّت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع أتباعه وأحبابه الذين آمنوا به، وصدَّقوه، وظهرت رحمته في كل قول أوفعل أوتقرير؛ لأنه البشير النذير صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى واصفًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وها هومالك بن الحُويرث يصف لنا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمَّتِهِ؛ فعن مالك بن الحويرث، قال: ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، وكان رحيمًا رفيقًا، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلِّموهم، وصلُّوا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمَّكُم أكبرُكم))[2].
• وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تصف لنا رحمة النبي صلى الله عليه بالمؤمنين؛ فعن عائشة، قالت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ِالوصال؛ رحمةً لهم، فقالوا: إنك تُواصِل، قال: إني لستُ كهيئتكم؛ إني يطعمني ربي ويسقيني))[3].
• لقد كان صلى الله عليه وسلم يحمِل الصبيان ويقبِّلهم، ويتركهم يركبون على ظهره، ويضعهم في حِجْرِهِ، ويحملهم على عاتقه وهويصلي؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: مَن لا يرحم لا يُرحَم))[4].
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمخالفين:
وإن سألتم أيها الإخوة عن كمال رحمته صلى الله عليه وسلم، فقد ظهرت بوضوح كوضوح الشمس في وسط النهار مع أعدائه ومخالفيه، بل مع من حاربه وقاتله؛ فقد كان رحيمًا بهم صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ أمثلة من بحر رحمته، وزهرة من بستان رأفته صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8]، في هذه الآية الكريمة من الدستور الإسلامي - القرآن الكريم - يحثُّ الله تعالى عباده المؤمنين على الإحسان إلى أسْراهم وإطعامهم، ويَعِدُهم بذلك النعيم في الآخرة؛ قال ابن عباس: ((أمر رسول الله أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأُسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء))، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة[5].
ويعلق ابن جريج على نفس الآية فيقول: "لم يكن الأسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من المشركين، قال أبو عبيد: فأرى أن الله قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين"[6].
• وها هوأبو عزيز شقيق مصعب بن عمير يحكي ما حدث عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير، قال: ((كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالأُسارى خيرًا، وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم، أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ قال ابن هشام: "وكان أبوعزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث"[7].
رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال الأسرى:
ولقد كان من رحمته صلى الله عليه وسلم بهم أنه لا يفرق بين ابنٍ وأمه؛ لأن ذلك التفريق ليس من الإنسانية، فكيف يرضى به الإسلام؟ فقد نهى أصحابه عن ذلك؛ فعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، ((أن أبا أُسيد الأنصاري، قدِم بسبيٍ من البحرين، فإذا امرأة تبكي، وقالت: بِيعَ ابني في عبس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد: لتركبنَّ، فلتجيئنَّ به كما بعْتَ بالثمن، فركب أبوأسيد فجاء به))[8].
رحمته بالحيوان:
• وتخطَّت رحمته صلى الله عليه وسلم عالم البشرية إلى عالم الحيوان والطير، فشملتهم رحمته صلى الله عليه وسلم ونالهم من فيضها؛ ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ شيء فيه الروح غرضًا يُتعلَّم فيه الرمي؛ فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: ((خرجت مع ابن عمر من منزله، فمررنا بفتيان من قريش نصبوا طيرًا يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نَبْلِهم، قال: فلما رأَوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: مَن فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا))[9].
• ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يحول أحد بين حيوان أوطير وبين ولده؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرةً معها فَرْخَان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرِشُ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من فجع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بعذاب النار إلا ربُّ النار))[10].
• ومن صور رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان أنْ بيَّنَ لنا أن الإحسان إلى البهيمة من موجبات المغفرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خُفَّه ماءً، ثم أمسكه بفِيهِ حتى رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: في كل كَبِدٍ رطبة أجرٌ))[11].
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ أما بعد:
رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد:
أيها الإخوة الأحباب، وتخطَّت رحمته عالم الحيوان لينعم بها أيضًا عالم الجماد؛ فقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كما أخبرنا بذلك أرحم الراحمين، ومن مشاهد رحمته بالجماد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أُحُدٌ، فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني أحرِّم ما بين لابَتَيها))، ورواه عبدالله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم[12].
لا أحد يتصور أن الجماد يحمل في طياته معنى الحب، لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، وكم يحنُّ الإنسان إلى الأرض ويتعلق بالرِّباع، ويشتاق إلى الوطن ولا تثريب، لكن أن ينطلق ذلك من الجماد نفسه؟! إنها معادلة تُجسِّد وحدة هذا الكون في عبوديته لله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]، ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 2]، معانٍ لوأدركها الإنسان لَما استوحش في الفَلَوات.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أونخلة، فقالت امرأة من الأنصار - أورجل - يا رسول الله، ألا نجعل لك مِنبرًا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، فضمَّه إليه، تئنُّ أنينَ الصبي الذي يُسكَّن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها))[13].
وهكذا نالت رحمة الإسلام الحيوان والطير والإنسان والجماد، ففي الدين مبدأ ومنهج ينظم كل شيء، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الناس؛ لذلك فهورحمة للعالمين:
هورحمة للناس مهداة فمن *** قبِلَ الهداية فاز بالرضوانِ